سورة الأنعام
سورة الأنعام اثنا عشر ألف حرف وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا ؛ وثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة ؛ ومائة وخمس وستّون آية. كلّها احتجاج على المشركين ، وكلّها مكّيّة غير ستّ آيات منها ؛ فإنّها مدنيّات : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(١) إلى آخر ثلاث آيات. وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢).
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكّة ونزلت هذه السّورة وشيّعها سبعون ألف ملك قائدهم جبريل عليهالسلام قد سدّوا ما بين الخافقين ؛ لهم زجل بالتّسبيح والتّحميد. فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الكتّاب فكتبوها في ليلتهم ، فقال جبريل : يا محمّد من قرأها من أمّتك إيمانا واحتسابا صلّى عليه السّبعون ألف ملك الّذين شيّعوها إليك ، يعود كلّ آية منها يوما وليلة ، فخرّ النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ساجدا شكرا لله تعالى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ؛ قال كعب الأحبار : وأوّل مفتاح التوراة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وخاتمتها خاتمة سورة هود (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قال مقاتل : (قال المشركون للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : من ربّك؟ قال : ([الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ]) فكذبوه ، فأنزل الله تعالى حامدا نفسه دالّا على توحيده : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي خلق السّموات بما فيها من الشّمس والقمر والنجوم ، والأرض بما فيها من البرّ والبحر ؛
__________________
(١) الآية / ٦٧.
(٢) الآيات / ١٥١ ـ ١٥٣.
والسّهل والجبل ؛ والنّبات والشجر ، خلق السموات وما فيها في يومين ؛ يوم الأحد ويوم الاثنين ؛ وخلق الأرض وما فيها في يومين ؛ يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء.
قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ؛ قال السديّ : (ظلمة اللّيل ونور النّهار). وقال الواقديّ : (كلّ ما في القرآن من الظّلمات والنّور فهو الكفر والإيمان ؛ إلّا في هذه الآية فإنّه يريد به اللّيل والنّهار). قال قتادة : (يعني الجنّة والنّار) (١). وقال الحسن : (يعني الكفر والإيمان) (٢).
وقيل : خلق الليل والنهار لمصالح العباد ؛ يستريحون باللّيل ويبصرون معايشهم بالنهار. وإنّما جمع (الظّلمات) ووحّد (النّور) لأن النور يتعدّى ، والظلمة لا تتعدّى.
وقال أهل المعاني : (جعل) ها هنا صلة ؛ والعرب تزيد (جعل) في الكلام كقول الشاعر :
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة |
|
والواحد اثنين لمّا هدّني الكبر |
وتقدير الآية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) والظّلمات والنّور. وقيل : معناه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ؛ لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض. وقال قتادة : (خلق الله السّموات قبل الأرض ، والظّلمة قبل النّور ، والجنّة قبل النّار).
وقال وهب : (أوّل ما خلق الله مكانا مظلما ، ثمّ خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان ، ثمّ نظر إلى الجوهرة نظر الهيبة ، فصارت ماء وارتفع بخارها ونبذ زبدها ، فخلق من البخار السّموات ؛ ومن الزّبد الأرضين).
قوله عزوجل : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) ؛ أي (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد هذا البيان (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) الأوثان ؛ أي يشركون. وقيل : معناه : (يَعْدِلُونَ) (يعدلون) أي يجعلون لله عديلا ويعبدون الحجارة والأموات ؛ وهم يقرّون بأنّ الله خالق هذه الأشياء ، فالأصنام لا تعقل شيئا من ذلك.
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٠١٥٧).
(٢) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٢٤٧ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس)).
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) ؛ معناه : خلقكم من آدم عليهالسلام ، فأخرج الخطاب له ؛ لأنّهم ولده ، قال السّديّ : (لمّا أراد الله خلق آدم ، بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها ، فاستعاذت الأرض بالله أن ينقص منّي ، فرجع ولم يأخذ. فبعث ميكائيل ؛ فاستعاذت ، فبعث ملك الموت ؛ فاستعاذت بالله منه ؛ فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، فخلط السّوداء والبيضاء والحمراء ؛ فلذلك اختلفت الألوان ؛ ألوان بني آدم ، ثمّ عجنها بالماء العذب والملح والمسك ؛ فلذلك اختلفت أخلاقهم ، فقال الله تعالى لملك الموت : رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها ؛ لا جرم أن أجعل أرواح من أخلق من هذا الطّين بيدك) (١).
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : [إنّ الله تعالى خلق آدم من تراب ، وجعله طينا ، ثمّ تركه حتّى كان حمأ مسنونا ، ثمّ خلقه وصوّره ، ثمّ تركه حتّى إذا كان صلصالا كالفخّار ؛ مرّ به إبليس لعنه الله ، فقال : خلقت لأمر عظيم. ثمّ نفخ الله فيه الرّوح](٢).
قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي خلقكم من آدم عليهالسلام (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي جعل لحياتكم وفاة تحيون فيه وهو مدّة كلّ واحد منّا من يوم يولد إلى يوم يموت. قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ؛ أي مدّة انقضاء الدّنيا إلى أن تقوم الساعة ؛ ولا يعلم وقت قيامها إلّا الله. وقال مجاهد وابن جبير : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) يعني أجل الدّنيا (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو الآخرة. قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢) أي ثمّ أنتم بعد هذا البيان تشكّون في موضع ليس هو موضع الشّكّ. والمرية هي الشّكّ المجلب بالشّبهة ؛ أصلها من : مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها لينزّ لبنها ، ويجلبه للحلب (٣).
__________________
(١) ذكره ابن عادل في اللباب في علوم الكتاب : ج ٨ ص ١٥.
(٢) في كنز العمال : الحديث (١٥٢٢٨).
(٣) ينظر : لسان العرب : ج ١٣ ص ٩٠ : مادة (مرا) ؛ قال ابن منظور : (فمن مريت النّاقة إذا مسحت ضرعها لتدرّ) وقال : (والمرية والمرية : الشكّ والجدل ، بالكسر والضم).
قوله عزوجل : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ؛ معناه : هو الله المعبود المنفرد بالتدبير في السّموات والأرض ، العالم بما يصلحهما وبما يعمل فيهما. يعلم جهركم وسرّ أعمالكم وعلانية أموركم ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣) ؛ أي ما تعملون من خير وشرّ. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ؛ عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أنه قال : [من قرأ من أوّل سورة الأنعام ثلاث آيات إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) وكّل الله به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة ، وينزل ملك من السّماء السّابعة معه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشّيطان أن يوسوس له ؛ ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا ، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى : امش في ظلّي ؛ وكل من ثمار جنّتي ؛ واشرب من ماء الكوثر ؛ واغتسل من ماء السّلسبيل ؛ وأنت عبدي وأنا ربّك](١).
قوله عزوجل : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤) ؛ أي ما تأتي كفّار مكة من دلائل التوحيد والنبوّة ؛ مثل كسوف الشمس والاستسقاء ، وكسوف القمر والدّخان ؛ إلا كانوا عن هذه الآيات والعلامات معرضين مكذّبين تاركين لها.
قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٥) ؛ أي فقد كذب أهل مكة بمحمّد صلىاللهعليهوسلم والقرآن ؛ وبما رأوه من انفلاق القمر بمكة ، كما روي عن ابن مسعود (أنّ القمر انفلق فلقتين حتّى رأوا اجرابي فلقتي القمر ، ثمّ ذهبت فلقة وبقيت فلقة).
وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا وعيد لهم ؛ أي سيعلمون ما يؤول إليه عاقبة استهزائهم بالرّسل والكتب والآيات التي كانت تأتيهم ، فقتلهم الله يوم بدر بالسّيف ، ويأتيهم خبر استهزائهم حين يرون العذاب معاينة. والنبأ عبارة عن خبر الّذي له عظم وشأن.
__________________
(١) في الدر المنثور : ج ٣ ص ٢٤٥ ـ ٢٤٨ ؛ قال السيوطي : ((أخرجه السلفي بسند واه عن ابن عباس)). ونقله أهل التفسير عن جابر رضى الله عنه ؛ ينظر : اللباب : ج ٨ ص ٥٤٠.
قوله عزوجل : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) ؛ أي ألم يعلم أهل مكّة كم أهلكنا من قبلهم من قرن بكفرهم ، مثل قوم نوح وعاد وثمود ، (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ؛) وأمهلناهم في العمر والولد ورفع الموانع ما لم نمهل لكم ، (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ؛) أي فأنزلنا عليهم المطر دارّا دائما يتبع بعضه بعضا ، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) ؛ ((أي من تحت)) (١) أشجارهم وبساتينهم ، فلم يشكروا وعصوا ربّهم وكذبوا رسلهم ، (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ؛ بكفرهم وتكذيبهم ، (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) ؛ أي من بعد هلاكهم ، (قَرْناً) ؛ قوما ، (آخَرِينَ) (٦) ؛ فسكنوا ديارهم ، ثم بعثت إليهم الرّسل ، فمن لم يأخذ بملّة الرّسل ومنهاجهم أهلكهم الله.
والقرن ـ في قول أكثر المفسّرين ـ : أهل عصر واحد ، سمّوا قرنا ؛ لاقترانهم في قرن واحد. ويقال : أهل كلّ عصر فيهم نبيّ أو عالم ، لاقترانهم بالنبوّة والعلم ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : [خير النّاس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم](٢). وأراد بالقرن الأوّل : الصّحابة ، وبالثاني : التابعين ، وبالثالث : تابعي التابعين. واختلفوا في مدّة القرن ؛ قال بعضهم : ثمانون سنة ، وقيل : مائة سنة ، وبين القرنين ثماني عشرة سنة.
قوله عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ؛ قال ابن عباس : (نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ ؛ قال : يا محمّد ؛ لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند الله وأنّك رسوله). وقال مقاتل والكلبيّ : (نزلت في النّضر بن الحارث ، وعبد الله ابن أبي أميّة ، ونوفل بن خويلد ؛ قالوا للنّبيّ صلىاللهعليهوسلم : لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنّه من عند الله وأنّك رسوله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية) (٣).
__________________
(١) ((أي من تحت)) ليست في المخطوطة.
(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط : الحديث (١١٤٤) عن النعمان بن بشير : ج ٢ ص ٧٤ ، والحديث (٥٤٧١) عن أبي هريرة رضى الله عنه : ج ٦ ص ٢٢٣. وفي مجمع الزوائد : ج ١٠ ص ١٩ ؛ قال الهيثمي :
((فيه عاصم بن بهدلة ، وهو حسن الحديث ، وبقية رجال الإمام أحمد رجال الصحيح)).
(٣) ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٢٩٣.
ومعناها : (ولو نزّلنا عليك كتابا في) صحيفة وعلّقناه بين السّماء والأرض ينظرون إليه ويعاينونه ويلمسونه بأيديهم ، (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ كفّار مكّة بعد معاينة ذلك : (إِنْ هذا) ؛ ما هذا ؛ (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) ؛ أي كما قالوا في انشقاق القمر : (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(١). وفي الآية بيان أنّهم كانوا معاينين مصرّين على التكذيب.
قوله عزوجل : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) ؛ أي قالوا : لولا نزّل على محمّد ملك نشاهده ونعاينه يخبرنا بأنه نبيّ ، يقول تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) كما سألوه فكذبوا لعذبناهم بعذاب الاستئصال (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يؤجّلون ولا يمهلون بعد نزول الآية المقترحة ، نحو ما ذكر الله تعالى في قصّة قوم صالح وغيرهم. قال الضحّاك : (معناه : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا) (٢).
قوله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) ؛ أي لو أرسلنا إليهم رسولا من الملائكة لأرسلناه في صورة الإنسان ؛ لأنّهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى هلاكهم ؛ وليكون الشكل إلى الشكل أميل ، وبه الذهن (٣) إلى الفهم عنه أقرب ، وإلى القبول منه أسرع ، ولو نظرنا إلى الملك على هيبته لصعقنا.
وقد كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنسان ؛ من ذلك أنّ جبريل عليهالسلام كان يأتي النبيّ صلىاللهعليهوسلم في صورة دحية الكلبيّ ، وجاءت الملائكة إلى إبراهيم عليهالسلام في صورة الضّيفين ، وجاءت الملائكة إلى داود عليهالسلام في صورة رجلين يختصمان إليه ، وذلك قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو أنزلنا إليهم ملكا لجعلنا ذلك في صورة الرّجل أيضا.
__________________
(١) القمر / ٢.
(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٣٩٣ ؛ نقله القرطبي عن ابن عباس والحسن وقتادة ، بلفظ :
(لو رأوا الملك).
(٣) في المخطوط : (وبه السن والى الفهم عنه أقرب) وهو غير مستقيم.
قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي اختلطنا وشبّهنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى شكّوا ؛ فلا يدرون أملك هو أم رجل؟ وهذا لأنّهم أنكروا نبوّة محمّد صلىاللهعليهوسلم بعدما عرفوه بالصدق والأمانة ، ثم لبسوا على أنفسهم وعلى ضعفتهم ؛ فقالوا : إنّما هو بشر ، فلو نزل الملك على صورة رجل للبسوا على أنفسهم أيضا فلم يقبلوا منه وقالوا : إنه في مثل صورتنا!
قوله عزوجل : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ؛ أي استهزأت الأمم الماضية بأنبيائهم كما استهزأ بك يا محمّد قومك ، (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠) ؛ أي نزل بهم وحلّ بالمستهزئين من الكفّار عقوبة استهزائهم بالكتاب والرسول عليه الصّلاة والسّلام.
وقال الضّحاك : (كان النّبيّ صلىاللهعليهوسلم جالسا في المسجد الحرام مع جماعة من المستضعفين : بلال وصهيب وعمّار وغيرهم ، فمرّ بهم أبو جهل في ملإ من قريش ؛ فقال : تزعم يا محمّد أنّ هؤلاء ملوك الجنّة. فأنزل الله تعالى هذه الآية ليثبت فؤاده ويصبر على أذى المشركين). أي إن سخر أهل مكّة من أصحابك ، فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم قبلك.
والحيق في اللّغة : ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ، ومنه قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(١). وأما الاستهزاء فهو إيهام التّفخيم بمعنى التّحقير.
قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١١) ؛ أي قل لهم يا محمّد سافروا في الأرض ، ثم انظروا بأبصاركم وتأمّلوا بقلوبكم كيف صار إجرام المكذّبين بالرّسل والكتب مثل عاد وثمود وغيرهم ، الذين عذبهم الله تعالى بعذاب الاستئصال ، وكانت آثار ديارهم باقية قريبة من مكّة. وقال الحسن : (معنى (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي اقرأوا القرآن وتفكّروا فيه ، فإنّ من قرأ القرآن وتفكّر فيه فكأنّه سار في الأرض).
__________________
(١) فاطر / ٤٣.
قوله عزوجل : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ؛ أي قل يا محمّد لكفار مكّة : لمن ملك ما في السّموات والأرض ، فإن أجابوك وقالوا : لله ، وإلا فقل لهم ((لله)) (١) إذ هم يعلمون ويقرّون أن الأصنام لا تملك خلق شيء ، وإنّما الله يملك ذلك.
وقوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب على نفسه الرّحمة فضلا وكرما. أو قيل : معناه : أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه ؛ وقيل : أوجب على نفسه الرحمة بإمهال من عصاه ؛ ليستدرك ذلك بالتوبة ولم يعاجله بالعقوبة ، وهذا استعطاف من الله عزوجل للمتولّين عنه إلى الإقبال ، وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجّل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [لمّا خلق الله تعالى الخلق ؛ كتب فوق العرش : إنّ رحمتي سبقت غضبي](٢). وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار : (ما أوّل شيء ابتدأ الله به؟ فقال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ؛ كتابه الزّبرجد واللّؤلؤ والياقوت : إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ، سبقت رحمتي غضبي) (٣).
وفي الخبر : أنّ لله تعالى مائة رحمة كلّها ملئ السّموات والأرض ، فأهبط الله تعالى منها رحمة واحدة لأهل الدّنيا ، فهم بها يتراحمون ؛ وبها يتعاطفون ؛ وبها يتراحم الإنس والجنّ وطير السّماء وحيتان الماء ؛ وما بين الهواء ودواب الأرض وهو امّها ، وأخّر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.
قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ؛ بدل من الرحمة وتفسير لها ، فكأنّه قال : ليجمعنّ بين المؤمنين والكفار ، بين المؤمن والكافر في الرّزق والنّعمة والدّولة إلى يوم القيامة ، لا شكّ فيه عند المؤمنين أنه حقّ كائن ، ثم تكون العاقبة بدل البعث للمؤمنين.
__________________
(١) ((لله)) سقطت من المخطوط.
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح : كتاب بدء الخلق : الحديث (٣١٩٤). ومسلم في الصحيح : كتاب التوبة : باب في سعة رحمة الله : الحديث (١٤ / ٢٧٥١) واللفظ له.
(٣) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (١٠٢١١).
قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ؛ ابتدأ كلامه ؛ وجوابه (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢) ؛ لأنّ (الّذين) في موضع شرط ؛ وتقدير الآية : الذين غبنوا (١) أنفسهم وأهليهم ومنازلهم وخدمهم في الجنّة في سابق علم الله لا يؤمنون ؛ أي لا يصدّقون بمحمّد صلىاللهعليهوسلم والقرآن.
وذهب بعضهم إلى أنّ قوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) كلام مبتدأ على وجه القسم ، و (الَّذِينَ) بدل من الكاف والميم في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ، كأنه قال : ليجمعنّ هؤلاء المشركين (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرونه. ويحتمل أن يكون قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) راجعا إلى المكذّبين ، كأنه قال : عاقبة المكذبين (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.)
قوله عزوجل : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ كفّار مكّة أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا محمّد ؛ قد علمنا ما يحملك على ما تدعونا إليه إلّا الحاجة ، فنحن نجعل لك من أموالنا حتّى تكون أغنانا رجلا ، وترجع عمّا أنت عليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية) (٢).
ومعناه : ولله ملك ما استقرّ (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من الخلائق كلّهم ، وهذا اللفظ يشتمل على جميع المخلوقات ؛ لأنّ من الحيوانات ما يتصرّف بالنهار ويسكن بالليل ، ومنها ما يتصرف بالليل ويسكن بالنّهار. وقال محمد بن جرير : (كلّ ما طلعت عليه الشّمس وغربت فهو من ساكن اللّيل والنّهار ، والمراد : جميع ما في الأرض ؛ لأنّه لا شيء من خلق الله تعالى إلّا وهو ساكن في اللّيل والنّهار) (٣).
وقال أهل المعاني : في الآية إضمار تقديره : وله ما سكن وتحرّك في الليل والنهار. فإن قيل : فلم قال : (وَلَهُ ما سَكَنَ) ولم يقل : وله ما تحرّك؟ قيل : لأنّ
__________________
(١) في المخطوط : (عبوا) وهو تصحيف ، والصحيح كما أثبتناه ؛ لأن أصل الخسار الغبن ، يقال : خسر الرجل في البيع : إذا غبن.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام : قريش وتفسير سورة الكهف : ج ١ ص ٣١٦ ، شطر من حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٣) ينظر : جامع البيان : تفسير الآية : مج ٥ ج ٧ ص ٢١٠.
الساكن في الأشياء أعمّ ؛ لأنه ما من متحرّك إلا وسكن ؛ وفي الأشياء الساكنة ما لا يتحرك البتّة. قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) معناه : السميع لمقالة الكفّار ، العليم بهم وبعقوبتهم. ويقال : هو السميع للأصوات والأقوال ، العليم بالأشياء والأرزاق.
وقوله عزوجل : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي قل لهم يا محمّد : أسوى الله أعبد ربّا وأتّخذ ناصرا ، وقوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ، قال ابن عبّاس : (ما كنت أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها ، يعني ابتدأت حفرها) (١).
قوله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) ؛ أي يرزق ولا يرزق ولا يعاون على الرّزق. وقرأ الأعمش : (ولا يطعم) بفتح الياء ؛ أي يرزق ولا يأكل ؛ أي لا يجوز عليه الحاجة. قوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ) انخفض لأنه نعت لا اسم لله تعالى ، ويجوز نصبه على معنى : أعني فاطر السّموات ، ويجوز رفعه على إضمار (هو).
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ؛ أي قل لهم يا محمّد : إنّي أمرت أن أكون أوّل من أخلص لله بالتوحيد والعبادة من أهل هذا الزّمان.
قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٤) ؛ لا يجوز أن يكون عطفا على قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأنه غير مأمور بأن يقول : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإنّما هو نهي معطوف على أمر من حيث المعنى دون اللّفظ ؛ لأنّ معنى الآية : قيل لي كذا : أوّل من أسلم ولا تكوننّ من المشركين.
قوله عزوجل : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) أي قل يا محمّد : إنّي أعلم أنّي إن عصيت ربي وعبدت غيره ، أن ينزل بي عذاب يوم عظيم شأنه وهو يوم القيامة.
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (١٠٢١٤).
قوله تعالى : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) ؛ أي من يصرف الله عنه العذاب العظيم يوم القيامة فقد رحمه ، (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (١٦) ؛ أي النجاة الوافرة الظّاهرة. قرأ أهل الكوفة إلا حفصا : (من تصرف) بفتح التّاء وكسر الراء ؛ وتفسيره ما ذكرناه. وقرأ الباقون (يصرف) على ما لم يسمّ فاعله ؛ أي من يصرف عنه العذاب بأمر الله ؛ فقد سبقت رحمة الله له بإيجاب الثّواب.
قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) ؛ إن يصبك الله بفقر أو مرض أو بلاء ، فلا يقدر أحد من الأصنام وغيرها على كشف ذلك الضّرّ إلا الله ، وإنّما أطلق هذا اللفظ وإن كان يتصوّر أن يكشف الإنسان عن صاحبه كربة من الكرب ؛ لأن كاشف الضّرّ في الحقيقة هو الله تعالى ، إمّا أن يكشفه بفضله أو نسبة له.
قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) ؛ أي بفضل وسعة في الرزق وصحّة في الجسم ، فلا مزيل لها إلا هو. إلا أنه لم يقل : فلا مزيل لها إلا هو ؛ لأنه لمّا أكّد هذا في الضّرّ دلّ على هذا في الخير فاستغنى عن إعادته. وإنّما قال (يَمْسَسْكَ) مع أن كون المسّ المعيّن من صفة الأجسام ؛ لأنّ المعنى يمسسك الله تعالى الضّرر. قوله تعالى : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) ؛ أي لا يقدر أحد أن يمنعه عن فعل ما أراد فعله من كشف ضرّ أو غيره.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : (أردفني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وراءه وهو راكب على بغلة ، فلمّا سار بي مليّا التفت إليّ وقال لي : [يا غلام]. قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : [احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشّدّة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، وقد مضى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك ؛ ما قدروا على ذلك ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله عليك ؛ لما قدروا عليه. واعلم : أنّ النّصر مع الصّبر ، وأنّ مع الكرب الفرج ،
وأنّ مع العسر يسرا](١).
قوله عزوجل : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ؛ أي هو الغالب على أمر عباده. والقهر : هو الاستعلاء بالاقتدار على الغلبة. وأراد بقوله : (فوق) أنّهم تحت التسخير والتذليل عمّا علاهم من الاقتدار عليهم ، لا ينهاك أحد منهم. قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨) ؛ أي المحكم لصنعه ؛ الخبير بأعمال الخلق.
قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ رؤساء مكّة أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فقالوا : يا محمّد ؛ أما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟! ما نرى أحدا يصدّقك بما تقول ؛ ولقد سألنا عنك اليهود والنّصارى ؛ فزعموا أنّه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ولا نعت ، فأرنا من شهد أنّك رسول الله كما تزعم. فأنزل الله هذه الآية) (٢).
ومعناها : قل لهم يا محمّد : أيّ أحد أعظم وأعدل برهانا وحجّة؟ فإن أجابوك وقالوا : الله ، وإلّا فقل : الله أكبر شهادة من خلقه ، وهو شهيد بيني وبينكم ، بأنّي رسول الله ، وأنّ هذا القرآن كلامه. والشاهد هو المبيّن للدعوى ، وقد بيّن الله تعالى دعوى رسوله بالبراهين والمعجزات والآيات الدالّة على توحيد الله ونبوّة محمّد صلىاللهعليهوسلم.
قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ؛ معناه : أنزل إليّ هذا القرآن لأخوّفكم به بما فيه من الدلائل ؛ وأخبار الأمم السّالفة ؛ والإنباء بما يكون ؛ والتأليف الذي عجز عنه العرب. قوله تعالى : (وَمَنْ بَلَغَ) أي وأنذر من بلغه القرآن سواكم من العجم ، وغيرهم من الجنّ والإنس إلى أن تقوم الساعة ؛ لأنه ليس من بعد القرآن كتاب ، ولا من بعد محمّد رسول.
__________________
(١) في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٣٩٨ ؛ قال القرطبي : ((أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب (الفصل والوصل) وهو حديث صحيح ، وقد خرجه الترمذي)). وأخرجه الترمذي في الجامع : كتاب صفة القيامة والرقائق والورع : الحديث (٢٥١٦) ؛ وقال : حسن صحيح. والحاكم في المستدرك : كتاب معرفة الصحابة : باب تعليم النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ابن عباس : الحديث (٦٣٥٧ و ٦٣٥٨).
(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٣١٥. وينظر : الروض الأنف : ج ٢ ص ٤٥ ـ ٤٦ : عتبة بن ربيعة يذهب الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : طبعة دار الكتب العلمية الأولى.
قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ ؛) استفهام بمعنى الإنكار ؛ أي إن كنتم تشهدون بإثبات شريك لله ؛ فأنا لا أشهد بما تشهدون به. وإنّما قال : (أُخْرى) ولم يقل أخر (١) ؛ لأن الجمع تذكّر بلفظ وحدان التأنيث (٢) ، كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ)(٣) ومثله كثير.
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ؛) لا شريك له ولا ولد ، (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (١٩) ؛ به من الأصنام والأوثان.
قوله عزوجل : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ؛ أي الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل يعرفون محمّدا صلىاللهعليهوسلم بما يجدونه مكتوبا عندهم من صفته ونعته ، كما يعرفون أبناءهم إذا رأوهم بين الغلمان. كما روي في الخبر : (أنّ عمر رضى الله عنه قال لعبد الله بن سلام : يا أبا حمزة ؛ أتعرف محمّدا صلىاللهعليهوسلم كما تعرف ابنك؟ قال : يا عمر ؛ إنّ معرفتي به أشدّ من معرفتي بابني ؛ لأنّ أمين السّماء ـ يعني جبريل قد جاء بنعته إلى أمين الأرض وهو موسى عليهالسلام. فقال عمر : وكيف ذلك؟ قال : أشهد أنّه رسول الله حقّ من الله تعالى ، وقد نعته الله تعالى في كتابنا فعرفته ، وأمّا ابني فلا أدري ما أحدث النّساء بعدي. فقال عمر رضى الله عنه : وفّقك الله يا ابن سلام) (٤).
قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) ؛ ابتداء كلام معناه : والّذين غبنوا أنفسهم بذهاب الدّنيا والآخرة عنهم ، وهم المعاندون الذين يعرفون ويجحدون من رؤساء اليهود والنصارى ، فهم لا يقرّون بمحمّد صلىاللهعليهوسلم والقرآن.
__________________
(١) في معاني القرآن : ج ١ ص ٣٢٩ ؛ قال الفراء : (وقوله : (آلِهَةً أُخْرى) ولم يقل : (أخر) ؛ لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع عليه التأنيث ؛ كما قال الله تبارك وتعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وقال الله تبارك وتعالى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ولم يقل : الأول والأولين ، وكل ذلك صواب).
(٢) أما قوله : (بلفظ وحدان التأنيث) قال ابن عادل : (و (أُخْرى) صفة ل (آلِهَةً)؛ لأن ما لا يعقل يعامل جمعه معاملة الواحدة المؤنثة ، كقوله تعالى : مَآرِبُ أُخْرى [طه / ١٨] و (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف / ١٨٠]. ينظر : اللباب في علوم الكتاب : ج ٨ ص ٦٧ : تفسير الآية (١٩) من سورة الأنعام.
(٣) الحجرات / ١٤.
(٤) في جامع البيان : الأثر (١٠٢٣٠) ؛ قال الطبري : ((عن ابن جريج قال : زعم أهل المدينة ... وذكره من غير ذكر الأسماء)).
قوله عزوجل : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ؛) معناه : أيّ أحد أظلم في فاحشة أتاها ممّن اختلق على الله كذبا بإضافته إلى الله ما لم يضفه إلى نفسه من صفة أو أمر وقول ، وهم الذين إذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ؛ قل : إنّ الله لا يأمر بالفحشاء. قوله تعالى : (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي بدلائله ؛ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢١) ؛ أي لا يؤمن من عذاب الله ولا يصل إلى مراده ؛ وبغيته القوم الكافرون.
قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) ؛ أي واذكروا يوم نبعث الكفّار وآلهتهم جميعا للحساب والجزاء. وقال بعضهم : الواو عاطفة على قوله : (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كأنّه قال : لا يفلحون في الدّنيا ويوم نحشرهم. والحشر : جمع النّاس إلى موضع معلوم.
قوله تعالى : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) ؛ معناه : ثمّ نقول للّذين أشركوا بالله غيره : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ ؛) آلهتكم ؛ (الَّذِينَ كُنْتُمْ) ؛ التي كنتم تعبدون من دون الله ؛ و؛ (تَزْعُمُونَ) (٢٢) ، أنّهم شركاء الله وشفعاؤكم.
قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) ؛ أي ثمّ لم تكن معذرتهم يوم القيامة إلا مقالتهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في دار الدّنيا. وإنّما سميت المعذرة فتنة ؛ لأنّها عين الفتنة.
ومن قرأ (فتنتهم) بالنصب فعلى خبر (لَمْ تَكُنْ) واسمها (أَنْ قالُوا). ومن قرأ (ربّنا) بالنصب فمعناه النداء. وقراءة حفص على البدل ، ويجوز الرفع على إضمار (هو). وقيل : المراد بالفتنة محبّتهم للأوثان التي كانوا مفتتنين بها في الدّنيا ، فأعلم الله تعالى أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه ، إلا أن تبرّأوا منه وانتهوا عنه ، فحلفوا أنّهم ما كانوا مشركين.
قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ؛) أي انظر يا محمّد كيف صار وبال الكذب عليهم؟ (وَضَلَّ عَنْهُمْ ؛) أي عزب عنهم افتراؤهم بما لحقهم من الدّهول والدّهش ، قال الضحّاك : (وذلك حين نطقت الجوارح ، وشهدت عليهم
أيديهم وأرجلهم بعد حلفهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يقول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٤).
قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ؛) قال ابن عبّاس : (وذلك أنّ أبا سفيان والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة والنّضر بن الحارث وأبيّ بن خلف وجماعة من أهل مكّة ؛ كانوا يسمعون إلى حديث النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قالوا للنّضر : ما يقول محمّد؟ قال : لا أدري ما يقول؟ إلّا أنّي أراه محرّكا شفتيه ويتكلّم بشيء ولا يقول إلّا أساطير الأوّلين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. وكان النّضر كثير الحديث عن القرون الأوّلين وأخبارهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية) (١).
ومعناها : ومن أهل مكة من يستمع إلى حديثك وقراءتك ، وجعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوه ؛ وفي آذانهم ثقلا وصمما ، فلا يسمعون الهدى. وموضع (أَنْ يَفْقَهُوهُ) نصب على أنه مفعول له ؛ أي جعلنا على قلوبهم أكنّة لكراهة أن يفقهوه. والوقر بفتح الواو : الثّقل في الأذن ، والوقر بكسر الواو : ما يحمل على الظّهر.
قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ؛) أي وإن يروا كلّ حجّة ودلالة لا يقرّوا ولا يصدّقوا بها.
قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ ؛) أي يخاصمونك بالباطل ؛ (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٥) ؛ أي يقول النّضر بن الحارث وأصحابه : ما هذا إلا أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.
قوله عزوجل : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ؛) قال مقاتل : (نزلت في أبي طالب ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعوه إلى الإسلام ، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم |
|
حتّى أوسّد في التّراب دفينا |
__________________
(١) ينظر : الروض الأنف : بين النبي صلىاللهعليهوسلم وبين قريش : ج ٢ ص ٤٧ مطولا. والسيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٦.
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة |
|
وأبشر بذاك وقرّ منك عيونا |
ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي |
|
فلقد صدقت وكنت ثمّ أمينا |
وعرضت دينا لا محالة أنّه |
|
من خير أديان البريّة دينا |
لولا الملامة أو حذار مسبّة |
|
لوجدتني سمحا بذاك يقينا (١) |
فأنزل الله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) وينهون الناس عن أذى رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي يتباعدون عمّا جاء به من الهدى ، فلا يصدّقونه.
وقال السّدّيّ والضحّاك : (نزلت الآية في جميع كفّار مكّة) يعني وهم ينهون الناس عن اتّباع محمّد صلىاللهعليهوسلم والإيمان ؛ ويبعدون أنفسهم عنه. (وَإِنْ يُهْلِكُونَ ؛) بذلك ؛ (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٢٦) ؛ وما يعلمون أنّهم يهلكون أنفسهم.
قوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ؛) أي ولو ترى يا محمّد كفار قريش إذ حبسوا على النّار ؛ إذ عاينوها ودخلوها وعرفوا عذابها ؛ فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ؛ تمنّوا الرجعة إلى الدّنيا.
وقرأ ابن السميقع : (وقفوا) فبفتح الواو والقاف من الوقوف. والقراءة الأولى من الوقف ، وجواب (لا) محذوف وتقديره : ولو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا ، وقيل : لعلمت ماذا ينزل بهم من الخزي والندامة ، ورأيت حسرة يا لها من حسرة.
قوله تعالى : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٧) ؛ قرأ حمزة ويعقوب وحفص : (ولا نكذّب) (ونكون) بالنصب على جواب التّمنّي ، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء ، كما قالوا : يا ليتك تصير إلينا ونكرمك ، أو فنكرمك فكلاهما بالنصب.
وقرأ ابن عامر (ولا نكذّب) بالرفع (ونكون) بالنصب ؛ لأنّهم تمنّوا الردّ وأن يكونوا مؤمنين وأخبروا أنّهم لا يكذبون بآيات ربهم وإن ردّوا إلى الدنيا. ومعناه : يا
__________________
(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول : ص ١٤٤ عن ابن عباس مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : ج ٦ ص ٤٠٦.