تذكرة الفقهاء - ج ١٧

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٧

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-530-4
الصفحات: ٤٨٥

اشتراه وفيه ربح ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني : إنّه لا يُقوَّم عليه ؛ لأنّ العتق ـ والحال هذه ـ يحصل في الدوام بسببٍ قهريّ هو غير مختارٍ فيه ، ومثل ذلك لا يتعلّق به السراية ، كما لو ورث بعضَ قريبه ، عتق عليه ، ولم يَسْر (١).

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه في صورة الإرث غير مختارٍ البتّة ، وأمّا هنا فإنّ الشراء أوّلاً والإمساك له إلى حين ارتفاع الأسواق اختياريّان.

وإن لم يكن موسراً ، استقرّ الرقّ في الباقي.

وهل يستسعى العبد حينئذٍ؟ مذهبنا ذلك ـ وبه قال أبو حنيفة (٢) ـ لما رواه محمّد بن قيس ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت : رجل دفع إلى رجلٍ ألف درهم مضاربةً ، فاشترى أباه وهو لا يعلم ، قال : « يقوّم فإن زاد درهماً واحداً أُعتق واستُسعي في مال الرجل » (٣).

وقال أحمد : لا يستسعى ، بل يبقى الباقي رقيقاً (٤).

وإن كان في المال ربح قبل الشراء أو حصل بنفس الشراء بأن كان رأس المال مائةً فاشترى بها أباه وهو يساوي مائتين ، فإن قلنا : إنّ العامل يملك بالقسمة دون الظهور ، لم يعتق من العبد شي‌ء ، وصحّ الشراء.

وإن قلنا : يملك بالظهور ، صحّ الشراء أيضاً ـ وهو أظهر وجهي‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٠.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٣٢ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٠٥ ، المغني ٥ : ١٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٩٠ / ٨٤١.

(٤) المغني ٥ : ١٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٠.

٨١

الشافعيّة (١) ـ لأنّه مطلق التصرّف في ملكه ، ولأنّهما شريكان في المال ، وأحد الشريكين إذا اشترى مَنْ يعتق عليه صحّ شراؤه.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه لو صحّ فإمّا أن يُحكم بعتقه ، وهو مخالف لغرض الاسترباح الذي هو مقصود التجارة ، ولأنّ صحّة الشراء تؤدّي إلى تنجيز حقّ العامل قبل ربّ المال ، فكان تصرّفه يُضرّ بربّ المال ، فلم يصح ، أو لا يُحكم فيتخلّف العتق عن ملك القريب (٢).

فإن قلنا بالمنع ، ففي الصحّة في نصيب المالك قولا تفريق الصفقة.

وإن قلنا بالصحّة ـ كما هو مذهبنا وأظهر وجهي الشافعيّة ـ ففي عتقه عليه الوجهان السابقان ، إن قلنا : يعتق ، فإن كان موسراً سرى العتق إلى الباقي ، ولزمه الغُرْم ؛ لأنّه مَلَكه باختياره ، وإلاّ بقي رقيقاً ، أو استُسعي على ما تقدّم.

هذا كلّه إذا اشترى العامل قريبَ نفسه بعين مال القراض ، وأمّا إذا اشتراه في الذمّة للقراض ، فكلّ موضعٍ صحّحنا الشراء بعين مال القراض أوقعناه هنا عن القراض ، وكلّ موضعٍ أبطلناه هناك أوقعناه هنا عن العامل إن لم يذكر النسبة إلى القراض ، وإن ذكر فكالعين.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه لو أطلق الشراء ولم ينسبه إلى القراض لفظاً ثمّ قال : كنتُ نويتُه ، وقلنا : إنّه إذا وقع عن القراض لم يعتق منه شي‌ء ، لا يُقبل قوله ؛ لأنّ الذي جرى عقد عتاقة ، فلا يمكن رفعها (٣).

ولا بأس به.

__________________

(١ و ٢) بحر المذهب ٩ : ٢٠٧ ، البيان ٧ : ١٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٠.

٨٢

مسألة ٢٤٥ : ليس لعامل القراض أن يكاتب عبد القراض بغير إذن المالك ؛ لما فيه من تضرّر المالك بإخراج ملكه عنه بثمنٍ هو ملكه ؛ لأنّ الكتابة في الحقيقة بيع ماله بماله ، فإن أذن المولى جاز.

فإن كاتباه معاً صحّ ، وعتق بالأداء.

ثمّ إن لم يكن في المال ربح وقلنا بثبوت الولاء في الكتابة ، كان الولاء بأسره للمالك ، ولا ينفسخ القراض بالكتابة في أظهر وجهي الشافعيّة (١) ، بل ينسحب على النجوم.

وإن كان هناك ربح ، فالولاء بينهما على النسبة في الحصص فيه ، والزائد من النجوم على القيمة ربح.

البحث الثاني : في قراض العامل.

مسألة ٢٤٦ : قد بيّنّا فيما تقدّم (٢) أنّه ليس للعامل في القراض أن يقارض غيره ـ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة (٣) ـ لأنّ المالك لم يأذن فيه ، وإنّما ائتمن على المال العاملَ دون غيره ، فليس له التغرير بمال صاحبه ، فإن أذن له المالك فيه صحّ ، وإلاّ فلا.

وخرّج بعض الحنابلة وجهاً في الجواز ؛ بناءً على توكيل الوكيل من غير إذن الموكّل (٤).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٠.

(٢) في ص ١٧ ، المسألة ٢٠١.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٣٣٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٩٣ ، بحر المذهب ٩ : ٢١٢ ، الوجيز ١ : ٢٢٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٩٢ ، البيان ٧ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٠.

(٤) المغني ٥ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٢.

٨٣

وهو غلط.

أمّا أوّلاً : فللمنع من حكم الأصل.

وأمّا ثانياً : فللفرق ؛ لأنّ المالك إنّما دفع المال إلى العامل ليضارب به ، وإذا دفعه إلى غيره خرج عن كونه مضارباً به ، بخلاف الوكيل ، ولأنّ هذا يوجب في المال حقّاً لغيره ، ولا يجوز إيجاب حقٍّ في مال إنسانٍ بغير إذنه.

إذا عرفت هذا ، فلا يخلو إمّا أن يكون المالك قد أذن للعامل في أن يقارض غيره ، أو لا ، فإن أذن صحّ ؛ لأنّ العامل الأوّل وكيل ، وهذا العقد يقبل الوكالة.

واعلم أنّ العامل يتصوّر أن يقارض غيره بإذن المالك في موضعين :

أحدهما : أن يخرج نفسه من القراض ، ويجعل نفسه وكيلاً في القراض مع الثاني كأنّ المالك سلّم المال إليه وأذن له في أن يقارض غيره إن بدا له.

وهو قراض صحيح ، كما لو قارضه المالك بنفسه ؛ لأنّ العامل الأوّل في الحقيقة وكيل في عقد القراض مع الثاني ، سواء كان العامل الأوّل قد عمل أو لا.

والثاني : أن يأذن له في أن يعامل غيره ليكون ذلك الغير شريكاً له في العمل والربح المشروط له على ما يراه.

وهو جائز ، كما لو قارض المالك في الابتداء شخصين فكذا الانتهاء ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني ـ وهو الأظهر عندهم ـ : إنّه لا يصحّ ؛ لأنّه لو جاز ذلك لكان الثاني فرعاً للأوّل منصوباً من جهته ، والقراض معاملة يضيق مجال القياس‌

٨٤

فيها ، فلا يعدل بها عن موضعها ، وهو أن يكون أحد المتعاملين مالكاً لا عمل له ، والثاني عاملاً لا ملك له (١).

وهو ضعيف ؛ لأنّ العاملين كالواحد.

مسألة ٢٤٧ : إذا أذن المالك للعامل في أن يقارض غيره ، جاز.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يجعل الربح الذي جعله المالك بأسره للعامل الثاني ، أو يجعل له قسطاً منه وللثاني الباقي ، فإن جعل الربح بين العامل الثاني والمالك نصفين أو ما قدّره ولم يشرط لنفسه شيئاً من الربح ، صحّ ، وكان الربح بين المالك والعامل الثاني على ما شرط.

وإن جعل العامل الأوّل لنفسه شيئاً كأنّه قال : النصف لربّ المال والباقي بيني وبينك نصفين ، لم يصح القراض ؛ لأنّه شرط لنفسه نصيباً من الربح ، وليس من جهته مال ولا عمل ، فلم يصح ، ويكون الربح لربّ المال ، وللعامل الثاني أُجرة مثل عمله على المالك.

مسألة ٢٤٨ : لو دفع العامل الأوّل قراضاً إلى الثاني بغير إذن المالك ، فسد ؛ لأنّ المالك لم يأذن فيه ، ولا ائتمن على المال غيره ، ولأنّه لا يجوز أن يتصرّف العامل في مال ربّ المال بما لا يتناوله إذنه ، فإذا عمل العامل الثاني ، فإن حصل ربح فالأقرب : إنّه للمالك.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون العامل الثاني عالماً بالحال ، أو لا.

فإن كان عالماً ، لم يكن له شي‌ء ؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه مع علمه بأنّه ممنوع منه ، ولا يستعقب ذلك استحقاق شي‌ءٍ.

وإن لم يكن عالماً ، رجع على العامل الأوّل بأُجرة المثل.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٠ ـ ٢١١.

٨٥

ونقل المزني من الشافعيّة : [ إنّه ] إذا عمل العامل الثاني بغير إذن المالك وحصل في المال ربحٌ ، كان لربّ المال النصف الذي شرطه لنفسه ، وما بقي بين العامل الأوّل والثاني.

ثمّ قال المزني : هذا قولٌ للشافعي قديم ، وأصله الجديد المعروف : إنّ كلّ فاسدٍ لا يصحّ حتى يبتدأ بما يصحّ ، فإن اشترى بعين المال فالشراء فاسد ، وإن اشترى في الذمّة فالشراء صحيح ، والربح للعامل الأوّل ، وللعامل الثاني أُجرة مثله (١).

وبنوا هذه المسألة على أصلٍ هي مسألة البضاعة ، وهي : إنّه إذا غصب رجل مالاً ثمّ اتّجر به وربح فيه ، ففيه قولان مبنيّان على أنّ تصرّفات الفضولي تنعقد موقوفةً على الإجازة ، أم لا؟ فإن قلنا : إنّ تصرّفه باطل ، فلو أنّ الثاني تصرّف في المال وربح ، لمَنْ يكون الربح؟ وهذا يبتني على أنّ الغاصب إذا اتّجر في المال المغصوب ما حكم تصرّفه؟ ولمن الربح الحاصل؟

أمّا إذا تصرّف في عين المغصوب فهو تصرّف الفضولي.

وأمّا إذا باع سَلَماً أو اشترى في الذمّة وسلّم المغصوب فيما التزمه وربح ، فعلى الجديد للشافعي : الربح للغاصب ؛ لأنّ التصرّف صحيح ، والتسليم فاسد ، فيضمن المال الذي سلّمه ، ويسلم له الربح ، وهذا قياس ظاهر.

وعلى القول القديم : هو للمالك ؛ لحديث عروة البارقي ؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ رأس المال والربح (٢) ، ولأنّا لو جعلناه للغاصب لاتّخذه‌

__________________

(١) مختصر المزني : ١٢٢.

(٢) سنن الترمذي ٣ : ٥٥٩ / ١٢٥٨ ، سنن الدارقطني ٣ : ١٠ / ٢٩ و ٣٠ ، سنن البيهقي ٦ : ١١٢ ، مسند أحمد ٥ : ٥٠٧ / ١٨٨٧٣ ، و ٥٠٨ / ١٨٨٧٧.

٨٦

الناس ذريعةً إلى غصب الأموال ، والخيانة في الودائع والبضاعات ، ولأنّ تصرّفات الغاصب قد تكثر فيعسر تتبّع الأمتعة التي تداولتها الأيدي المختلفة ، أو يتعذّر (١).

وفي هذا القول مباحث :

الأوّل : هل يجزم على هذا القول بأنّ الربح للمالك ، أو نوقفه على إجازته واختياره؟ قيل بالوقف على الإجازة (٢).

وبناء هذا القول على قول الوقف في بيع الفضولي.

ولم يتعرّض الشافعي للفسخ والإجازة ؛ لأنّ الغالب أنّه يجيز إذا رأى الربح ، فعلى هذا إذا ردّه يرتدّ ، سواء اشترى في الذمّة أو بعين المغصوب.

وقال الأكثرون : إنّه مجزوم به ومبنيٌّ (٣) على المصلحة ، وكيف يستقيم توقيف شراء الغاصب لنفسه على إجازة غيره! وإنّما يجري قول الوقف إذا تصرّف في عين مال الغير أو له (٤).

الثاني : إذا كان في المال ربح وكثرت التصرّفات وعسر تتبّعها ، فهو موضع القول القديم (٥) ، أمّا إذا قلّت وسهل التتبّع ولا ربح ، فلا مجال له.

وحكى الجويني وجهين فيما إذا سهل التتبّع وهناك ربح أو عسر ولا ربح (٦).

الثالث : لو اشترى في ذمّته ولم يخطر له أن يؤدّي الثمن من الدراهم المغصوبة ثمّ عنّ له ذلك ، قال الجويني : ينبغي أن لا يجي‌ء فيه القول‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١١.

(٢ و ٤) كما في العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٨ ، وروضة الطالبين ٤ : ٢١١.

(٣) في « ث ، ر » والطبعة الحجريّة : « يبنى ».

(٥) كما في العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٨.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٩.

٨٧

القديم إن صدّقه صاحب الدراهم (١).

وهذه المسألة تُلقّب بمسألة البضاعة.

إذا عرفت هذا ، فعلى الجديد ـ وهو وقوع عقد الفضولي لاغياً ـ إن اشترى بعين مال القراض ، فهو باطل.

وإن اشترى في الذمّة ، فأحد الوجهين : إنّ كلّ الربح للعامل الثاني ؛ لأنّه المتصرّف ، كالغاصب في صورة الغصب.

وأصحّهما عندهم : إنّ كلّه للأوّل ؛ لأنّ الثاني تصرّف للأوّل بإذنه ، فكان كالوكيل من [ جهته ] (٢) ، وعليه للثاني أُجرة عمله ، وبه قال أبو حنيفة والمزني (٣).

وإن قلنا بالقديم ـ وهو توقّف عقد الفضولي على الإجازة ـ ففيما يستحقّه المالك من الربح وجهان :

أحدهما : إنّ جميعه للمالك ، كما في الغصب ، طرداً لقياس (٤) هذا القول ، وعلى هذا فللعامل الثاني أُجرة مثله.

وعلى مَنْ تجب؟ وجهان :

أحدهما : إنّها على العامل الأوّل ؛ لأنّه استعمله وغرَّه.

والثاني : على المالك ؛ لأنّ نفع عمله عاد إليه.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٢.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز » وبدله في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « حصته ». وهي تصحيف.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٩.

(٤) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « للقياس ». والمثبت هو الصحيح كما في العزيز شرح الوجيز.

٨٨

وأصحّهما ـ وبه قال المزني (١) ـ : إنّ له نصفَ الربح ؛ لأنّه رضي به ، بخلاف الغصب ، فإنّه لم يوجد منه رضا ، فصرفنا الجميع إلى المالك ؛ قطعاً لطمع مَنْ يغصب ويخون ، وعلى هذا ففي النصف الثاني وجوه :

أ : إنّ الجميع للعامل الأوّل ؛ لأنّ المالك إنّما شرط له ، وعقده مع الثاني فاسد ، فلا يتبع شرطه ؛ لأنّ المضاربة فاسدة ، والشرط لا يثبت في الفاسدة ، وعلى هذا فللثاني أُجرة مثل عمله على الأوّل ؛ لأنّه غرَّه.

ب : إنّ كلّه للثاني ؛ لأنّه العامل ، أمّا الأوّل فليس له عمل ولا ملك ، فلا يُصرف إليه شي‌ء من الربح.

وأصحّها (٢) عندهم : إنّه يكون بين العاملين بالسويّة ؛ لأنّ تتبّع التصرّفات عسير ، والمصلحة اتّباع الشرط إلاّ أنّه قد تعذّر الوفاء به في النصف الذي أخذه المالك ، فكأنّه تلف وانحصر الربح في الباقي ، وعلى هذا ففي رجوع العامل الثاني بنصف أُجرة المثل وجهان :

أحدهما : نعم ؛ لأنّه كان طمعه في نصف الربح بتمامه ، ولم يسلم له إلاّ نصف النصف.

وأشبههما : لا ؛ لأنّ الشرط محمول على ما يحصل لهما من الربح ، والذي حصل هو النصف.

والوجهان فيما إذا كان العامل الأوّل قد قال للعامل الثاني : على أنّ ربح هذا المال بيننا ، أو على أنّ لك نصفه ، أمّا إذا كانت الصيغة : على أنّ ما رزقنا الله تعالى من الربح بيننا ، قطع أكثر الشافعيّة بأنّه لا رجوع ؛ لأنّ النصف هو الذي حصل.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٩.

(٢) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « أصحّهما ». والمثبت هو الصحيح.

٨٩

وعن بعضهم إجراء الوجهين ؛ لأنّ المفهوم تشطّر جميع الربح.

هذا كلّه إذا جرى القراضان على المناصفة ، وإن كانا أو أحدهما على نسبةٍ أُخرى فعلى ما تشارطا (١).

مسألة ٢٤٩ : لو تلف المال في يد الثاني ، فإن كان عالماً بالحال فهو غاصب أيضا ؛ حيث تصرّف في مال الغير بغير إذنه مع علمه.

وإن كان جاهلاً وظنّ أنّ المالك هو العامل الأوّل فترتّب يده على يد الأوّل كترتّب يد المودع على يد الغاصب ؛ لأنّه يد أمانةٍ.

وفي طريقٍ للشافعيّة : إنّه كالمتّهب من الغاصب ؛ لعود النفع إليه (٢).

والتحقيق أنّ العامل الثاني بمنزلة الغاصب في الإثم والضمان والتصرّف إن كان عالماً بأنّ هذا العامل الأوّل قارضه بغير إذن صاحب المال.

وإن كان غيرَ عالمٍ ، سقط عنه الإثم ، وبقي حكم التصرّف والضمان.

أمّا التصرّف : فقد تقدّم.

وأمّا الضمان : فإنّ المال مضمون على كلّ واحدٍ منهما.

أمّا على الأوّل : فبتعدّيه بتسليمه إلى الثاني.

وأمّا على الثاني : فلأنّه تسلّم مال غيره بغير إذنه.

فإن كان باقياً ، طالَب أيّهما شاء بردّه وأخذه.

وإن كان تالفاً ، كان له مطالبة أيّهما شاء ببدله ، فإن طالَب العامل الأوّل ، لم يرجع على الثاني ؛ لأنّه دفعه إليه على وجه الأمانة.

وإن طالَب الثاني ، فهل يرجع على الأوّل؟ للشافعيّة قولان :

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٢٩ ـ ٣٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٢.

٩٠

أحدهما : يرجع ؛ لأنّ الأوّل غرَّه ، فأشبه ما لو غرّه بحُرّيّة أمته.

والثاني : لا يرجع ؛ لأنّ التلف حصل في يده ، فاستقرّ الضمان عليه (١).

إذا تقرّر هذا ، فلو شرط العامل الأوّل على العامل الثاني أنّ نصف الربح للمالك وأنّ النصف الآخَر بينهما نصفين ، قال بعض الحنابلة : يكون على ما اتّفقا عليه ؛ لأنّ ربّ المال رضي بالنصف ، فلا يدفع إليه أكثر منه ، والعاملان على ما اتّفقا عليه (٢).

وليس بشي‌ءٍ ، مع أنّ أحمد قال : لا يطيب الربح للمضارب الأوّل ؛ لأنّه ليس له عمل ولا مال ، ولا للمضارب الثاني ؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير إذنه ولا شرطه ، فلا يستحقّ ما شرط له غير المالك ، كما لو دفعه إليه الغاصب مضاربةً ، ولأنّه إذا لم يستحق ما شرطه له ربّ المال في المضاربة الفاسدة فما شرطه له غيره بغير إذنه أولى (٣).

مسألة ٢٥٠ : لو أذن ربُّ المال للعامل في دفع المال مضاربةً ، جاز ذلك ، ولا نعلم فيه خلافاً ، ويكون العامل الأوّل وكيلاً لربّ المال في ذلك.

فإن كان بعد العمل ، جاز أيضاً ؛ لما بيّنّا من أنّ المضاربة من العقود الجائزة.

فإن كان قد ظهر ربح في عمل العامل وقلنا : يملك بالظهور ، استحقّ نصيبه من الربح.

وإن قلنا بالقسمة أو لم يظهر ربح ، فله أُجرة المثل.

__________________

(١) بحر المذهب ٩ : ٢١٤ ، البيان ٧ : ١٧٩.

(٢) المغني ٥ : ١٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٣.

(٣) المغني ٥ : ١٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

٩١

وإذا دفعه العامل الأوّل ، لم يجز له أن يشترط لنفسه جزءاً من الربح ، فإن شرط شيئاً من الربح لم يجز ؛ إذ ليس من جهته مال ولا عمل ، والربح إنّما يستحقّ بأحدهما.

ولو قال له المالك : اعمل في هذا المال برأيك ، أو بما أراك الله تعالى ، فالأقرب : إنّه يجوز له دفعه مضاربةً ؛ لأنّه قد يرى أنّه يدفعه إلى مَنْ هو أبصر منه في التجارة وأقوى منه جلداً ، وبه قال أحمد (١).

ويحتمل أن لا يجوز ذلك ؛ لأنّ قوله : « اعمل برأيك » يعني في كيفيّة المضاربة والبيع والشراء وأنواع التجارة ، وهذا يخرج [ به ] عن المضاربة ، فلا يتناوله إذنه.

مسألة ٢٥١ : لا يجوز لعامل القراض أن يمزج مال المضاربة بماله بحيث لا يتميّز ، فإن فَعَل أثم وضمن ؛ لأنّه أمانة ، فهو كالوديعة.

ولو قال له : اعمل برأيك ، جاز ذلك ـ وبه قال الثوري ومالك وأصحاب الرأي (٢) ـ لأنّه قد جعل النظر في المصلحة وفعلها موكولاً إلى نظره ، وربما رأى الحظّ للمضاربة في المزج ، فإنّه أصلح له ، فيدخل تحت قوله : اعمل برأيك.

وقال الشافعي : ليس له ذلك ؛ لأنّ ذلك ليس من التجارة (٣).

__________________

(١) المغني ٥ : ١٦٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٤.

(٢) المغني ٥ : ١٦٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٤ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٣٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ٩٥ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤٢ / ١٧١١ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٢ : ٣٩ ـ ٤٠ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢١٠.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٤ ، البيان ٧ : ١٩٢ ، العزيز شرح الوجيز

٩٢

وهو غير مسلَّمٍ ؛ لأنّه قد يكون من مصلحتها.

وكذا ليس له المشاركة مع مال القراض ، إلاّ أن يقول : اعمل برأيك ، وتكون المشاركة مصلحةً.

مسألة ٢٥٢ : إذا أخذ العامل من غيره مضاربةً ، جاز له أن يأخذ من غيره مضاربةً أُخرى ، سواء أذن له الأوّل أو لا إذا لم يتضرّر الأوّل بمعاملة الثاني.

فإن تضرّر الأوّل بمعاملة الثاني بأن يكون المال الثاني كثيراً يحتاج أن يقطع زمانه في التجارة به ويشغله عن السعي في الأوّل ، أو يكون المال الأوّل كثيراً متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرّفاته فيه ، وفات باشتغاله في الثاني بعض مصالحه ، فأكثر الفقهاء على جوازه أيضاً ؛ لأنّه عقد لا يملك به منافعه بأسرها ، فلم يمنع من المضاربة ، كما لو لم يكن فيه ضرر ، وكالأجير المشترك (١).

وقالت الحنابلة : لا يجوز له ذلك ؛ لأنّ المضاربة مبنيّة على الحظّ والنماء ، فإذا فَعَل ما يمنعه لم يكن له ، كما لو أراد التصرّف بالغبن.

قالوا : فعلى هذا إذا فَعَل وربح ردّ الربح في شركة الأوّل ويقتسمانه ، فينظر ما ربح في المضاربة الثانية ، فيدفع إلى ربّ المال نصيبه ، ويأخذ المضارب نصيبه من الربح ، فيضمّه إلى ربح المضاربة الأُولى ، ويقاسمه ربّ (٢) المضاربة الأُولى ؛ لأنّه استحقّ حصّته من الربح بالمنفعة التي‌

__________________

٦ : ٤٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٢٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤٣ / ١٧١١ ، المغني ٥ : ١٦٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٤.

(١) المغني ٥ : ١٦٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٦.

(٢) في المصدر : « لربّ » بدل « ربّ ».

٩٣

استُحقّت بالعقد ، فكان بينهما ، كربح المنفعة المستحقّة بالعقد الأوّل.

فأمّا حصّة ربّ المال الثاني من الربح فيدفع إليه ؛ لأنّ العدوان من المضارب لا يُسقط حقَّ ربّ المال الثاني ، ولأنّا لو رددنا ربح الثاني كلّه في الشركة الأُولى ، لاختصّ الضرر بربّ المال الثاني ، ولم يلحق المضارب شي‌ء من الضرر والعدوان منه ، بل ربما انتفع إذا كان قد شرط الأوّل النصفَ والثاني الثلثَ (١).

وهذا ليس بشي‌ءٍ.

والحقّ أنّه لا شي‌ء لربّ المضاربة الأُولى من ربح الثانية ؛ لأنّه إنّما يستحقّ بمالٍ أو عملٍ ، وليس له في المضاربة الثانية مالٌ ولا عمل ، وتعدّي المضارب إنّما كان بترك العمل واشتغاله عن المال الأوّل ، وهذا لا يوجب عوضاً ، كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه ، أو آجر نفسه ، أو ترك التجارة للتعب أو لاشتغالٍ بعلمٍ ، أو غير ذلك ، ولأنّه لو أوجب عوضاً لأوجب شيئاً مقدّراً لا يختلف ولا ينحصر بقدر ربحه في الثانية.

البحث الثالث : في السفر.

مسألة ٢٥٣ : لمّا كان مبنى القراض على التكسّب المستلزم لحفظ رأس المال وحراسته ، وكان في السفر تغريرٌ به وتعريض لإتلافه ، وجب في الحكمة مشروعيّة منع العامل من السفر.

ولا خلاف في أنّه لو نهاه المالك عن السفر بالمال فسافر به ، ضمن ، وكذا لو أمره بالسفر إلى جهةٍ معيّنة أو بلدٍ معيّن فسافر إلى غير ذلك البلد‌

__________________

(١) المغني ٥ : ١٦٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٩٤

وغير تلك الجهة ؛ لأنّ المال لصاحبه له التصرّف فيه كيف شاء ، والاختيار في ذلك إليه ، فلا يجوز العدول عنه.

ولما رواه أبو بصير عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يعطي [ الرجل ] مالاً مضاربةً وينهاه أن يخرج به إلى أرضٍ أُخرى فعصاه ، فقال : « هو له ضامن ، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه » (١).

وعن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : عن الرجل يعطي الرجل المال فيقول له : ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها ، اشتر منها ، قال : « إن جاوزها فهلك المال فهو له ضامن ، وإن اشترى شيئاً فوضع فهو عليه ، وإن ربح فهو بينهما » (٢).

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يعطي المال مضاربةً وينهى أن يخرج به ، فيخرج ، قال : « يضمن المال ، والربح بينهما » (٣).

مسألة ٢٥٤ : ولو لم ينهه عن السفر ولا أذن له فيه ، لم يجز له السفر ، عند علمائنا إلاّ بإذن صاحب المال ، سواء كان الطريق مخوفاً أو آمناً ؛ لما تقدّم من التغرير المنافي للاكتساب ، وبه قال الشافعي ؛ لما فيه من الخطر والتغرير بالمال (٤) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ المسافر وماله لعلى قَلَتٍ إلاّ ما‌

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٧ / ٨٢٧ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) الكافي ٥ : ٢٤٠ / ١ ، التهذيب ٧ : ١٨٩ / ٨٣٥.

(٣) الكافي ٥ : ٢٤٠ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٩ / ٨٣٦.

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٩٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٩ ، الوجيز ١ : ٢٢٤ ، الوسيط ٤ : ١٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٨٦ ، البيان ٧ : ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٢ ، المغني ٥ : ١٥١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٦.

٩٥

وقى الله » (١) أي لعلى هلاكٍ ، ولا يجوز له التغرير بالمال إلاّ بإذن مالكه.

وقال مالك : يجوز له السفر مع الإطلاق أو التنصيص على السفر ـ وهو محكيٌّ عن أبي حنيفة ، وقياس مذهب أحمد يقتضيه ـ لأنّ الإذن المطلق ينصرف إلى ما جرت العادة به ، والعادة جارية بالتجارة سفراً وحضراً ، ولأنّها مشتقّة من الضرب في الأرض ، فمَلَك ذلك مطلقاً (٢).

وهو ممنوع ؛ لأنّ العادة إنّما قضت بالسفر مع الإذن صريحاً أو قرينة حاليّة أو مقاليّة تدلّ عليه ، لا بدون ذلك.

وأبو حنيفة بناه على أصله من أنّه يجوز للمستودع أن يسافر بالوديعة إذا كان الطريق آمناً ؛ لأنّه بمنزلة المصر (٣).

وهو ممنوع ؛ إذ لا تغرير في المصر كما في السفر.

__________________

(١) غريب الحديث ـ لابن قتيبة ـ ٢ : ٥٦٤.

(٢) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٤ / ١١٢٢ ، التلقين : ٤٠٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٣٨٦ ، المعونة ٢ : ١١٢٤ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٩ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٨٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٩١ / ٣٤٧١ ، الفقه النافع ٣ : ١٢٨٧ / ١٠٤١ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٢ : ٣٩ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤١ / ١٧٠٩ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٠٣ ، المغني ٥ : ١٥١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٤٦ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣١٧ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٩ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٨٦ ، البيان ٧ : ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣١.

(٣) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٣٩ ، تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢٠٩ ، روضة القُضاة ٢ : ٦١٧ / ٣٦٠٠ ، الفقه النافع ٣ : ٩٤١ / ٦٦٦ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ١١ : ١٢٢ ، و ٢٢ : ٣٩ ، المحيط البرهاني ٥ : ٥٣١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٠٣ و ٢١٧ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٥٧ ، الوسيط ٤ : ٥٠٢ ، حلية العلماء ٥ : ١٧١ ، البيان ٦ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، المغني ٧ : ٢٨٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٣٠٢ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٢٠.

٩٦

وللشافعي قولٌ في البويطي (١) كقول أبي حنيفة أيضاً.

لكنّ المشهور الأوّل.

وهذا البحث مع الإطلاق ، فأمّا إن أذن في السفر أو نهى عنه أو وُجدت قرينة دالّة على أحد الأمرين ، تعيّن ذلك ، وثبت ما أمر به وحرم ما نهى عنه.

ولا خلاف في أنّه لا يجوز له السفر في موضعٍ مخوف على القولين معاً ، وكذا لو أذن له في السفر مطلقاً ، لم يكن له السفر في طريقٍ مخوف ، فإن فَعَل فهو ضامن لما يتلف ؛ لأنّه متعدٍّ بفعل ما ليس له فعله.

مسألة ٢٥٥ : لو سافر مع انتفاء الإذن أو مع النهي عن السفر أو أمره بالسفر في جهةٍ بعينها فسافر في غيرها ، أو إلى بلدٍ فسافر إلى غيره ، فقد ضمن المال ؛ لمخالفته.

ثمّ يُنظر فإن كان المتاع بالبلدة التي سافر إليها أكثر قيمةً من الحضر أو من البلدة التي أمره بالسفر إليها أو تساوت القيمتان ، صحّ البيع ، واستحقّ الربح بالشرط.

ولما (٢) رواه الكناني : قال : سألتُ الصادقَ عليه‌السلام : عن المضاربة يعطى الرجل المال يخرج به إلى الأرض ونهي أن يخرج به إلى أرض غيرها فعصى فخرج به إلى أرض أُخرى فعطب المال ، فقال : « هو ضامن ، فإن سلم فربح فالربح بينهما » (٣).

وإن كان المتاع أقلّ قيمةً ، لم يصح البيع بتلك القيمة ، إلاّ أن يكون‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٢.

(٢) الظاهر : « لما » بدون الواو.

(٣) الفقيه ٣ : ١٤٣ ـ ١٤٤ / ٦٣١ ، التهذيب ٧ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ٨٣٧.

٩٧

النقصان بقدر ما يتغابن به.

وإذا قلنا بصحّة البيع فإنّ الثمن الذي يقبضه يكون مضموناً عليه أيضاً.

ولو اشترى به متاعاً ، ضمن المتاع ، بخلاف ما إذا تعدّى الوكيل بالبيع في المال ثمّ باعه وقبض الثمن ، لا يكون الثمن مضموناً عليه وإن كان ضامناً للأصل ؛ لأنّ العدوان هنا لم يوجد في الثمن ، وسبب العدوان في المضاربة موجود في الثمن والمتاع الذي يشتريه به ؛ لأنّ سبب العدوان هو السفر ، وهو شامل للمال والثمن ، ولا تعود الأمانة بالعود من السفر ، وبه قال الشافعي (١).

مسألة ٢٥٦ : لو سافر بالإذن ، فلا عدوان ولا ضمان ، وله بيع المتاع في البلد المنقول إليه مثل ما كان يبيعه في المنقول عنه وبأكثر منه.

وأمّا بدونه فالأقرب : إنّ له ذلك ؛ لأنه غير متعدٍّ بالسفر ، ولا حكم له على زيادة الأسواق ونقصانها ، بل الواجب عليه الاستظهار في طلب الربح إن حصل.

وقال بعض الشافعيّة : إذا باع بدونه فإن ظهر فيه غرض بأن كانت مئونة الردّ أكثر من قدر النقصان أو أمكن صرف الثمن إلى متاعٍ يتوقّع فيه ربحاً ، فله البيع أيضاً ، وإلاّ لم يجز ؛ لأنّه محض تخسيرٍ (٢).

مسألة ٢٥٧ : العامل إن اتّجر في الحضر كان عليه أن يلي من التصرّف فيه ما يليه ربّ المال في العادة ، كنشر الثوب وتقليبه على مَنْ يشتريه وطيّه عند البيع وقبض الثمن وحفظه ، وذرع الثوب وإدراجه في السَّفَط‌

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٣.

٩٨

وإخراجه ، ووزن ما يخفّ ، كالذهب والفضّة والمسك والعود ، وحفظ المتاع على باب الحانوت ، وفي السفر بالنوم عليه ونحوه في العادة ، كالإشراف عليه وجمعه والاحتياط عليه.

وليس عليه رفع الأحمال ولا حطّها ، وليس عليه ما لا يليه ربّ المال ، فلا يجب عليه وزن الأمتعة الثقيلة وحملها ونقل المتاع من الخان إلى الحانوت والنداء عليه ، بل يستأجر العامل له مَنْ يعمله من مال المضاربة ، فإن تولّى العامل ذلك بنفسه ، لم يستحق له أُجرة ؛ لأنّه تبرّع به.

وأمّا ما يجب عليه فعله لو استأجر العامل من مال المضاربة مَنْ يعمل ما عليه أن يعمله بنفسه ، ضمن ما دفع إليه ؛ لأنّ ذلك العمل يجب عليه ، دون ربّ المال.

مسألة ٢٥٨ : ليس للعامل أن يُنفق من مال القراض في الحضر على نفسه ، عند علمائنا ، ولا أن يواسي منه بشي‌ءٍ ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّ الأصل حراسة مال الغير وحفظه ، وعدم تعلّق وجوب الإنفاق منه.

وقال مالك : له أن يُنفق منه على العادة ، كالغذاء ودفع الكسرة إلى السقّاء وأُجرة الكيّال والوزّان والحمّال في مال القراض (٢).

وليس بمعتمدٍ.

وأمّا في السفر فالمشهور أنّه يُنفق فيه كمال النفقة من أصل مال القراض إذا شخص عن البلد من المأكول والمشروب والملبوس ـ وبه قال علماؤنا والحسن والنخعي والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٨ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٨٦ ، البيان ٧ : ١٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٢) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢.

٩٩

والشافعي في أحد أقواله (١) ـ لأنّ سفره لأجل المال ، فكانت نفقته منه ، كأجر الحمّال ، ولأنّه في السفر قد سلّم نفسه وجرّدها لهذا الشغل ، فأشبه الزوجة تستحقّ النفقة إذا سلّمت نفسها ، ولا تستحقّ إذا لم تُسلّمْ.

ولما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى الكاظم عليه‌السلام قال في المضاربة : « ما أنفق في سفره فهو من جميع المال ، وإذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه » (٢).

وظاهر مذهب الشافعي أنّه لا نفقة للعامل بحالٍ ـ وبه قال ابن سيرين وحمّاد بن أبي سليمان وأحمد ـ كما في الحضر ؛ لأنّ نفقته تخصّه ، فكانت عليه ، كما في الحضر وأجر الطبيب وثمن الطيب ، ولأنّه دخل على أنّه يستحقّ من الربح الجزء المسمّى ، فلا يكون له غيره ، ولأنّه لو استحقّ النفقة أفضى إلى أن يختصّ بالربح إذا لم يربح سوى ما أنفقه ، فيخلّ بمقصود العقد (٣).

__________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٧ ، المغني ٥ : ١٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٤ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٩٧ ، الاستذكار ٢١ : ١٧٠ / ٣٠٩٢٤ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٦ / ١١٢٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٤٠ ، التفريع ٢ : ١٩٤ ، التلقين : ٤٠٨ ، الذخيرة ٦ : ٥٩ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٨٦ / ١٢٥١ ، المعونة ٢ : ١١٢٣ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٣٤ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٢ : ٦٢ ـ ٦٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤٣ / ١٧١٢ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢١١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣١٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٩٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٩ و ٢٠٠ ، الوجيز ١ : ٢٢٤ ، الوسيط ٤ : ١٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٣٨٦ ، البيان ٧ : ١٨٤ و ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٦.

(٢) الكافي ٥ : ٢٤١ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٩١ / ٨٤٧.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٧ ، المغني ٥ : ١٥٢ ، الشرح الكبير ٥ :

١٠٠