تذكرة الفقهاء - ج ١٥

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٥

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: ٥٣٧

يوم الإقرار من المدّة على ما سبق ، ويرجع في حمل البهيمة إلى أهل الخبرة.

وإن أطلق أو أسند إلى جهةٍ فاسدة ، خرج على ما تقدّم من الخلاف.

ولو أقرّ لرجلٍ بالحمل ، وبالأُم لآخَر ، صحّ الإقرار.

وللشافعيّة خلاف.

قالوا : إن جوّزنا الإقرار بالحمل ، صحّ الأمران ، وإلاّ فلا (١).

قال بعضهم : هُما جميعاً للأخير ؛ بناءً على أنّ الإقرار بالحامل إقرار بالحمل (٢).

مسألة ٨٦٩ : لو أقرّ لمسجدٍ أو مشهدٍ أو مقبرةٍ أو رباطٍ أو مدرسةٍ ونحوها من القناطر وغيرها ، فإن أسنده إلى جهةٍ صحيحة ، كغلّة وقف عليه أو نذر لمصالحه ، صحّ.

وإن أطلق ، فكذلك.

وللشافعيّة وجهان تخريجاً من القولين في مسألة الحمل (٣).

وعلى قياسه ما إذا أضاف إلى جهةٍ فاسدة (٤).

والأقوى عندي اللزوم ، ولا يلتفت إلى الإضافة الفاسدة على ما تقدّم.

المطلب الثاني : في اشتراط عدم التكذيب.

مسألة ٨٧٠ : يشترط في الإقرار والحكم بصحّته عدم تكذيب المُقرّ له للمُقرّ وعدم إنكاره لما أقرّ له به.

نعم ، لا يشترط قبوله لفظاً على رسم الإيجاب والقبول في الإنشاءات.

__________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٣.

(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ٢ : ٣٤٦ ، بحر المذهب ٨ : ٢٢٥ ، الوجيز ١ : ١٩٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٦١ ، البيان ١٣ : ٣٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

٢٨١

فإذا أقرّ لزيدٍ بألفٍ فكذّبه زيد ، لم يدفع إليه ، ولا شي‌ء عليه في ذمّته.

ولو أقرّ بعينٍ له ، فأنكر زيد أنّها له ، لم تُدفع العين إلى المُقرّ له.

ثمّ للقاضي الخيار إن شاء انتزعه (١) من يده وسلّمه إلى أمينه ليحفظه لمالكه إذا ظهر سلّمه إليه ، وإن شاء أبقاه في يد المُقرّ كما كان ؛ لأنّ يده أولى الناس بحفظه.

وبالجملة ، فالحاكم هو المتولّي لحفظ ما يضيع ، وهذا في حكم مالٍ ضائعٍ ، فيحتاط لمالكه ، فإذا رأى استحفاظ صاحب اليد ، فهو كما لو استحفظ عَدْلاً آخَر.

وقال بعض الشافعيّة : فيه وجهان :

أظهرهما : تركه في يد المُقرّ.

والثاني : يحفظه القاضي (٢).

وقال قوم منهم : إنّه يُجبر المُقرّ له على القبول والقبض (٣).

وهو بعيد عن الصواب.

وقال بعضهم : موضع الخلاف ما إذا قال صاحب اليد للقاضي : في يدي مال لا أعرف مالكه ، فالوجه : القطع بأنّ القاضي يتولّى حفظه (٤).

وأبعد بعضهم فقال : لا يجوز انتزاعه هنا أيضاً (٥).

مسألة ٨٧١ : لو رجع المُقرّ له عن الإنكار وصدّق المُقرّ في إقراره‌ ،

__________________

(١) تذكير الضمير هنا وفيما يأتي باعتبار المُقرّ به ، أو المال.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٢٤ ، الوجيز ١ : ١٩٦ ، البيان ١٣ : ٣٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

(٣ ـ ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

٢٨٢

فالأقرب : إنّ له الأخذ ؛ عملاً بإقرار المُقرّ ، السالم عن الإنكار ، لزوال حكمه بالتصديق الطارئ فتعارضا ، وبقي الإقرار سالماً عن المعارض ، وبه قال بعض الشافعيّة (١).

وقال آخَرون : هذا تفريع على الخلاف السابق ، إن قلنا : يُترك في يد المُقرّ ، فهذا حكمٌ منّا بإبطال ذلك الإقرار ، فلا يصرف إلى المُقرّ له إلاّ بإقرارٍ جديد. وإن قلنا : ينتزعه الحاكم ويحفظه ، فكذلك لا يُسلّم إليه ، بل لو أراد إقامة البيّنة على أنّه ملكه ، لم تُسمع. وإنّما يُسلّم له إذا فرّعنا على الوجه البعيد من أنّ المُقرّ له يُجبر على أخذه ، والظاهر من قول الشافعيّة أنّه لا يُسلّم إليه (٢).

مسألة ٨٧٢ : لو أقرّ لزيدٍ فأنكر زيدٌ ثمّ رجع المُقرّ حال إنكار زيد ، فقال : غلطت ، أو تعمّدت الكذب والمال ليس لزيدٍ ، لم يلتفت إلى رجوعه إن قلنا : ينتزعه الحاكم.

وإن قلنا : يُترك في يده ، احتُمل أنّه لا يُقبل إنكاره أيضاً ؛ بناءً على أنّه لو عاد المُقرّ له إلى التصديق قُبِل منه ، فإذا كان ذلك متوقَّعاً ، لم يلتفت إلى رجوعه.

واحتُمل القبول ؛ بناءً على أنّ الترك في يده إبطال للإقرار.

وللشافعيّة وجهان أظهرهما : الثاني (٣).

مسألة ٨٧٣ : لو أقرّ لزيدٍ بعبدٍ فأنكر زيد ملكيّته ، فالحكم كما لو أقرّ بغيره من ثوبٍ وشبهه‌ ؛ لأنّه محكوم له بالرقّ ، فلا يرفع إلاّ بيقينٍ.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٤ ـ ١٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥.

٢٨٣

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّه يُحكم بعتقه ـ وهو قول الشيخ (١) رحمه‌الله ـ لأنّ صاحب اليد لا يدّعيه ، والمُقرّ له ينفيه ، فيصير العبد في يد نفسه ، ويُعتق ، وهذا كما إذا أقرّ اللقيط بعد البلوغ بأنّه مملوك زيدٍ فأنكر زيد ، يُحكم له بالحُرّيّة ، كذا هنا.

والثاني : المنع ـ كما قلناه ـ ويبقى على الرقّيّة المجهولة المالك ، بخلاف صورة اللقيط ؛ فإنّه محكوم بحُرّيّته بالدار ، فإذا أقرّ ونفاه المُقرّ له ، بقي على أصل الحُرّيّة ، فإذاً لا فرق بين العبد وغيره من أعيان الأموال (٢).

ولو أقرّ العبد بأنّه ملكٌ لفلان غير مَنْ أقرّ له مولاه به ، كان لغواً ، وبقي على الرقّيّة المجهولة المالك.

ولو كان المُقرّ به قصاصاً أو حدَّ قذفٍ فكذّبه المُقرّ له ، سقط الإقرار. وكذا لو أقرّ بسرقةٍ توجب القطع ، وأنكر ربٌّ المال السرقةَ ، سقط القطع. وفي المال ما تقدّم (٣).

ولو أقرّت المرأة بنكاحٍ فأنكر الزوج ، سقط حكم الإقرار في حقّه.

مسألة ٨٧٤ : لو كان في يده عبدان ، فقال : أحد هذين العبدين لزيدٍ ، طُولب بالتعيين ، فإن عيّن واحداً منهما ، فقال زيد : ليس هذا عبدي ، بل الآخَر ، فهو مكذّب للمُقرّ في المعيَّن ، وحكمه ما تقدّم ، ومُدّعٍ في العبد الآخَر ، فإن أقام البيّنة به حُكم له ، وإلاّ حلف المُقرّ ، وسقطت دعواه فيه.

ولو ادّعى على آخَر ألفاً من ثمن مبيعٍ ، فقال المدّعى عليه : قد‌

__________________

(١) المبسوط ـ للطوسي ـ ٣ : ٢٣.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥.

(٣) في المسألة ٨٧٠.

٢٨٤

أقبضتُك ، فأقام البائع على المشتري بيّنةً بعد بيّنته بأنّه ما أقبضه الثمن بَعْدُ ، سُمعت ، وأُلزم المشتري الثمن ؛ لأنّه وإن قامت البيّنة على إقراره بالقبض فقد قامت على أنّ صاحبه كذّبه ، فيبطل حكم الإقرار ، ويبقى الثمن على المشتري.

مسألة ٨٧٥ : قد ذكرنا أنّ من شرط صحّة الإقرار تعيينَ المُقرّ له‌ ، فلو قال : لإنسانٍ عندي كذا ، أو لواحدٍ من بني آدم ، أو لواحدٍ من خلق الله تعالى ، أو لواحدٍ من أهل البلد ، احتُمل البطلان ؛ لعدم التعيين ، فلا يطالب به.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّه إذا أقرّ لمعيَّن بشي‌ء فكذّبه المُقرّ له ، هل يخرج من يده؟ إن قلنا : نعم ؛ لأنّه مال ضائع ، فكذا هنا ، ويصحّ الإقرار ، ويكون معتبراً ، ويخرجه الحاكم من يده ويحفظه من صاحبه. وإن قلنا : لا ، لم يصح هذا الإقرار (١).

والأقرب عندي القبول ، وصحّة هذا الإقرار ، ثمّ للحاكم انتزاعه من يده وإبقاؤه في يده.

فعلى قولنا بالصحّة لو جاء واحد وقال : أنا الذي أردتَني ولي عليك ألف ، فالقول قول المُقرّ مع يمينه في نفي الإرادة ونفي الألف.

ومَنْ أبطل هذا الإقرار فرّق بينه وبين قوله : غصبت هذا من أحد هذين الرجلين ، أو هؤلاء الثلاثة ، حيث يعتبر ؛ لأنّه إذا قال : هو لأحد هذين ، فله مُدّعٍ وطالب ، فلا يبقى في يده مع قيام الطالب واعترافه بأنّه ليس له ، وأمّا إذا قال : لواحدٍ من بني آدم ، فلا طالب له ، ويبقى في يده (٢).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٠.

٢٨٥

والوجه : ما قلناه من عدم اشتراط تعيينه.

والقائلون به لا يشترطون التعيين من كلّ وجهٍ ، بل أن يكون معيّناً ضرب تعيينٍ تتوقّع منه الدعوى والطلب (١).

البحث الرابع : في المُقرّ به.

مسألة ٨٧٦ : يشترط في المُقرّ به أن يكون مستحقّا إمّا بأن يكون مالاً مملوكاً ، أو بأن يكون حقّاً تصحّ المطالبة به ، كشفعةٍ وحدِّ قذفٍ وقصاصٍ وغير ذلك من الحقوق الشرعيّة ، كاستطراقٍ في دربٍ ، وإجراء ماءٍ في نهرٍ ، وإجراء ماء ميزابٍ إلى ملكٍ ، وحقّ طرح خشبٍ على حائطٍ ، أو بأن يكون نسباً.

ولو أقرّ بما لا يصحّ تملّكه مطلقاً ـ كالأبوال والعذرات وجميع الفضلات ـ لم يصح ، وكان الإقرار لاغياً لا يجب به شي‌ء.

ولو أقرّ بما يتموّله أهل الذمّة ـ كالخمر والخنزير ـ للمُسلم ، لم يصح ، ويصحّ للذمّي ؛ لأنّ المُسلم يضمنه بقيمته عند مستحلّيه لو أتلفه عليهم وكانوا مستترين به.

مسألة ٨٧٧ : يشترط في القضاء والحكم بالإقرار بالملكيّة لمن أُقرّ له كون المُقرّ به تحت يد المُقرّ وتصرّفه‌ ، فلو أقرّ بما ليس في يده بل في يد الغير ـ كعبدٍ في يد زيدٍ أقرّ به لغيره ـ لم يُحكم بثبوت الملكيّة في العبد للمُقرّ له بمجرّد الإقرار ، بل يكون ذلك دعوىً أو شهادةً.

ولا يلغو الإقرار من كلّ وجهٍ ، بل لو حصل المُقرّ به في يده بملكيّةٍ ظاهرة ساعةً من الزمان ، أُمر بتسليمه إلى المُقرّ له.

فلو قال : العبد الذي في يد زيدٍ مرهون عند عمرو بكذا ، ثمّ ملك

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٠.

٢٨٦

العبد ظاهراً ، أُمر ببيعه في دَيْن عمرو.

ولو أقرّ بحُرّيّة عبدٍ في يد زيدٍ ، لم يُقبل منه ، أو شهد [ بها ] (١) فردّت شهادته ، لم يُحكم بحُرّيّته في الحال.

فإذا أقدم على شرائه من زيدٍ صحّ ؛ تنزيلاً للعقد على قول مَنْ صدّقه الشرع ، وهو البائع صاحب اليد ، بخلاف ما إذا قال : فلانة أُختي من الرضاع ، ثمّ أراد أن ينكحها ، لم يُمكّن منه ؛ لأنّ في الشراء يحصل غرض استنقاذه من أسر الرقّ ، وهذا الغرض لا يوجد في النكاح ؛ للاستمتاع بفرجٍ اعترف بأنّه حرام عليه.

ثمّ إذا اشترى العبد ، حُكم بُحرّيّته ، وأُمر برفع يده عنه ؛ عملاً بإقراره.

مسألة ٨٧٨ : إذا كان صورة إقراره : إنّ عبد زيدٍ حُرّ الأصل ، أو أنّه أُعتق قبل أن أشتريه‌ ، فإذا اشتراه فهو فداء من جهته إجماعاً.

فإذا مات العبد وقد اكتسب مالاً ولا وارث له من الأنساب ، فالمال للإمام ، وليس للمشتري أن يأخذ منه شيئاً ؛ لأنّه بتقدير صدقه لا يكون المال للبائع حتى يأخذ منه عوض ما دفعه إليه من الثمن.

ولو مات العبد قبل أن يقبضه المشتري ، لم يكن للبائع أن يطالبه بالثمن ؛ لأنّه لا حُرّيّة في زعمه ، والمبيع قد تلف قبل قبضه ، فبطل البيع.

مسألة ٨٧٩ : لو كانت صيغة الإقرار : إنّك أعتقته والآن أنت تسترقّه ظلماً ، ثمّ عقد البيع معه ، فالوجه : إنّه بيع من جهة البائع ؛ لأنّه ملكه ، وهو يدّعي ملكيّته ، واليد تشهد له ، فلا يلتفت إلى إقرار الغير عليه ، فكان بمنزلة‌

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « به ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٨٧

ما لو باعه على غيره ، ويكون افتداءً من جهة المُقرّ ؛ لاعترافه بالحُرّيّة ، وأنّ هذا العقد ليس بصحيحٍ ، حيث لم يصادف محلاًّ قابلاً له ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني : إنّه بيع من الجانبين.

والثالث : إنّه افتداء من الجانبين (١).

وهذا الثالث خطأ ؛ لأنّه كيف يقال : إنّه استنقاذ في طرف البائع!؟ وكيف يأخذ المال لينقذ مَنْ يسترقّه ويعرفه حُرّاً فيفتديه به!؟ بل لو قيل فيه المعنيان معاً والخلاف في أنّ الأغلب منهما ما ذا؟ كان محتملاً على ضعفٍ.

وأكثر الشافعيّة على أنّه بيع من جهة البائع ، وأمّا من جهة المشتري فوجهان :

أحدهما : إنّه شراء ، كما في جانب البائع.

والثاني : إنّه افتداء ؛ لاعترافه بحُرّيّته وامتناع شراء الحُرّ (٢).

مسألة ٨٨٠ : إذا ثبت أنّه بيع من طرف البائع وافتداء من طرف المشتري ، لا يبطل خيار المجلس في طرف البائع ، بل يثبت له الخيار ما داما في المجلس. وكذا يثبت له خيار الشرط لو شرط وإن طال زمانه ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ؛ بناءً على ظاهر مذهبهم من أنّه بيع من جانبه (٣).

ولو كان البيع بثمنٍ معيّنٍ فخرج معيباً وردّه البائع ، كان له أن يستردّ العبد ، بخلاف ما لو باع عبداً وأعتقه المشتري ثمّ خرج الثمن المعيّن معيباً ورُدّ ، فإنّه لا يستردّ العبد ، بل يعدل إلى القيمة ؛ لاتّفاقهما على العتق هناك.

وأمّا المشتري فلا يثبت له خيار المجلس ولا خيار الحيوان ؛ لأنّه‌

__________________

(١ ـ ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨.

٢٨٨

ليس شراء في طرفه ، بل هو فداء.

ومَنْ قال من الشافعيّة : إنّه شراء في طرفه ، أثبت له الخيار (١).

وعلى الوجهين فلا ردّ له لو خرج العبد معيباً ؛ لاعترافه بحُرّيّته ، لكن يأخذ الأرش إن جعلناه شراءً ، وإلاّ فلا أرش له.

وبهذا الثاني نقول.

وقال الجويني : إذا لم يثبت خيار المجلس للمشتري ، ففي ثبوته للبائع وجهان ؛ لأنّ هذا الخيار لا يكاد يتبعّض (٢).

وليس بمعتمدٍ.

وقال بعض الشافعيّة : لا يثبت للبائع خيار أيضاً ، كما لو باع عبده من نفسه ، أو باع عبده على مَنْ يعتق عليه (٣).

وقال بعضهم بثبوت الخيار للبائع في هاتين الصورتين أيضاً (٤).

وليس بجيّدٍ.

مسألة ٨٨١ : إذا حكمنا بالعتق في هذا العبد ، لم يكن للمشتري ولاؤه‌ ؛ لاعترافه بأنّه لم يعتقه ، ولا للبائع ؛ لأنّه يزعم أنّه لم يعتقه ، فيكون موقوفاً.

ولو مات العبد وقد اكتسب مالاً ، فإن كان له وارث بالنسب ، فهو له ، وإلاّ فيُنظر إن صدّق البائع المشتري ، ردّ الثمن.

وإن كذّبه وأصرّ على كلامه الأوّل ، قال بعض (٥) فقهائنا : للمشتري أن‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

(٣) الوجيز ١ : ١٩٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

(٥) المحقّق في شرائع الإسلام ٣ : ١٥٥.

٢٨٩

يأخذ منه قدر ما دفعه ثمناً إلى البائع ؛ لأنّ المشتري إن كان كاذباً فجميع كسبه له ؛ لأنّه مملوكه ، وإن كان صادقاً فالكسب للبائع إرثاً بالولاء ، وهو قد ظلمه بأخذ الثمن وتعذّر استرداده ، فإذا ظفر بماله كان له أن يأخذ منه حقّه ، وهو قول المزني (١).

وظاهر مذهب الشافعي أنّه يوقف المال بأسره ، كما كان الولاء موقوفاً (٢).

واضطرب أصحابه.

فقال بعضهم : قول المزني خطأ ؛ لأنّ المشتري لو أخذ شيئاً فإمّا أن يأخذ بجهة أنّه كسب مملوكه ، وقد بانَ أنّه حُرٌّ بإقراره ، أو بجهة الظفر بمال ظالمه ، وهو ممتنع ؛ لأنّه إنّما بذله فداءً تقرّباً إلى الله تعالى باستنقاذ حُرٍّ ، فيكون سبيلُه سبيل الصدقات ، والصدقات لا يرجع فيها ، ولأنّه لا يدري أنّه يأخذ بجهة الملك ، أو بجهة الظفر بمال ظالمه ، فيمنع من الأخذ إلى ظهور جهته (٣).

وأكثر الشافعيّة على ما قال المزني (٤).

وقال جماعة منهم : إنّ الشافعي ذكر ما قاله المزني أيضاً ، وإنّما حَكَم بوقف الزائد على الثمن وقف الولاء ، وأمّا المستحقّ بكلّ حالٍ فلا معنى للوقف فيه ، ويجوز الرجوع في المبذول فيه على جهة الفدية والدية ، كما‌ لو فدى أسيراً في يد المشركين ثمّ استولى المسلمون على بلادهم ووجد الباذل عين ماله ، أخذه. واختلاف الجهة لا يمنع الأخذ بعد الاتّفاق على أصل الاستحقاق ، كما لو قال : لي عليك ألف ضمنته ، فقال : ما ضمنت

__________________

(١ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

٢٩٠

شيئاً ولكن لك علَيَّ ألف عن قيمة متلفٍ (١).

والأصحّ : الثبوت ، وقطع النظر عن الجهة.

مسألة ٨٨٢ : لو استأجر العبد الذي أقرّ بحُرّيّته بدلاً عن الشراء ، صحّ العقد بالنسبة إلى المؤجر ، وكان له المطالبة بالأُجرة ، ولا يحلّ للمستأجر استخدامه والانتفاع به ، فإن استخدمه وجب عليه دفع أُجرة المثل إليه ، ولم يكتف بما دفعه إلى المؤجر.

ولو أقرّ بحُرّيّة جارية الغير ثمّ قَبِل نكاحها منه ، لم يحل له وطؤها إلاّ برضاها بما عقد عليه مولاها ، وللمولى مطالبته بالمهر ، وعليه مهرٌ آخَر لها إن أجازت نكاحه.

ولو قال لزيدٍ : العبد الذي في يدك غصبتَه من فلان ، وأنكر زيد ، فالقول قوله.

فإن اشتراه ، فالأقرب : صحّة العقد ، كما لو أقرّ بحُرّيّته ثمّ اشتراه.

ويحتمل البطلان ؛ لأنّه مكذّب لإقراره ، وإنّما صحّحناه في طرف الحُرّيّة ؛ لأنّ الشراء هناك افتداء له من العبوديّة و [ إنقاذ ] (٢) من الرقّ ، وهذا غير آتٍ هنا.

وللشافعيّة وجهان (٣) كهذين.

ولو أقرّ بعبدٍ في يده لزيدٍ ، وقال العبد : بل أنا ملك عمرو ، سُلّم إلى زيدٍ دون عمرو ، ولم يعتبر قول العبد ؛ لأنّه في يد مَنْ يسترقّه ، لا في يد نفسه ، فلو أعتقه زيد لم يكن لعمرو أخذه.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الإنقاذ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠.

٢٩١

ولو مات العبد عن مالٍ ، لم يكن لعمرو التصرّفُ فيه ؛ لما فيه من إبطال الولاء على المعتق ، واستحقاق الكسب فرع الرقّ ، ولم يثبت له.

مسألة ٨٨٣ : لا يشترط في الإقرار أن يكون المُقرّ به ملكاً للمُقرّ حين يُقر ، بل الشرط في الإقرار بالأعيان أن لا تكون مملوكةً للمُقرّ حين إقراره ؛ لأنّ الإقرار لا يزيل الملك عن صاحبه ، وإنّما هو إخبار عن كونه مملوكاً للمُقرّ له ، والخبر حكاية عن المخبر به ، والحكاية متأخّرة ، وذو الحكاية متقدّم ، فلا بدّ وأن يكون الملك للمُقرّ له في نظر المُقرّ وعنده حتى تقع المطابقة بين إقراره وما هو في نفس الأمر عنده.

فلو قال : داري هذه أو ثوبي الذي أملكه لفلان ، بطل الإقرار ؛ لما فيه من التناقض ، والمفهوم منه الوعد بالهبة.

ولا يحتمل أن يقال : إنّه أضاف إلى نفسه ؛ لما بينهما من الملابسة ، وقد يضاف الشي‌ء إلى غيره بأدنى ملابسةٍ ، كما في قوله :

إذا كوكب الخرقاء ..... (١)

وقول الرجل لأحد حاملي الخشبة : خُذ طرفك.

ولا ريب في أنّ هذه الدار في يده ، أو قد كانت ملكه ، أو أنّها تُعرف بأنّها ملكه عند الغير ، فيُحكم بصريح إقراره للغير ؛ لأنّ الاحتمال ولو كان نادراً ينفي لزوم الإقرار ، عملاً بالاستصحاب.

ولو قال : مسكني هذا لفلان ، كان إقراراً ؛ لأنّه أضاف إلى نفسه السكنى ، وقد يسكن ملك غيره.

__________________

(١) البيت لشاعر مجهول ، وتمامه هكذا :

إذا كوكب الخرقاء لاح بسُحرةٍ

سهيلٌ أذاعت غزلها في الغرائب

راجع : لسان العرب ١ : ٦٣٩ « غرب ».

٢٩٢

ولو قال : هذه الدار التي في يدي ، أو تُنسب إلَيَّ ، أو تُعرف بي ، أو التي كانت ملكي ، كان إقراراً لازماً.

ولو شهدت البيّنة على أنّ فلاناً أقرّ بأنّ له دار كذا ، وكانت ملكه إلى أن أقرّ ، كانت الشهادة باطلةً.

ولو قال المُقرّ : هذه الدار لفلان وكانت ملكي إلى وقت الإقرار ، نفذ إقراره ، والذي قاله بعده مناقض لأوّله ، فيلغو ، كما لو قال : هذه الدار لفلان ، وليست له.

ولو قالت البيّنة : نشهد أنّه باع هذه الدار أو وقفها ، وكانت ملكه إلى حين البيع أو الوقف ، سُمعت الشهادة ، بل كانت مؤكّدةً للبيع والوقف.

مسألة ٨٨٤ : حكم الديون حكم الأعيان في ذلك ، فلو كان له دَيْنٌ على زيدٍ في الظاهر من قرضٍ أو أُجرةٍ أو ثمن مبيعٍ ، فقال : دَيْني الذي على زيد لعمرو ، فهو باطل.

ولو لم يُضف ، بل قال : الدَّيْن الذي على زيد لعمرو ، واسمي في الكتاب عاريّة ومعونة وإرفاق ، صحّ ؛ لإمكان أن يكون وكيلاً عنه في الإقراض والإجارة والبيع ، ثمّ عمرو يدّعي المال على زيدٍ لنفسه ، فإن أنكر زيد ، تخيّر عمرو بين أن يُقيم البيّنة على دَيْن المُقرّ على زيدٍ ثمّ على إقراره له بما على زيدٍ ، وبين أن يُقيم البيّنة أوّلاً على الإقرار ثمّ على الدَّيْن.

واستثنى بعض الشافعيّة ثلاثة ديون منع من الإقرار بها : أحدها :

الصداق في ذمّة الزوج ولا تقرّ المرأة به. والثاني : بدل الخُلْع في ذمّة المرأة ولا يُقرّ الزوج به. والثالث : أرش الجناية ولا يُقرّ به المجنيّ عليه ؛ لأنّ الصداق لا يكون إلاّ للمرأة ، وبدل الخُلْع لا يكون إلاّ للزوج ، وأرش الجناية لا يكون إلاّ للمجنيّ عليه.

٢٩٣

نعم ، لو كانت الجناية على عبدٍ أو مال آخَر ، جاز أن يُقرّ به للغير ؛ لاحتمال كونه له يوم الجناية (١).

وهذا خطأ فاحش ؛ فإنّ هذه الديون وإن امتنع ثبوتها للغير ابتداءً و [ تقديراً بوكالةٍ ] (٢) فلا امتناع من انتقالها من مُلاّكها إلى الغير إمّا بالحوالة أو بالبيع ، فيصحّ الإقرار بها عند احتمال جريان ناقلٍ.

نعم ، لو أقرّ بها عقيب ثبوتها بلا فصلٍ بحيث لا يحتمل جريان [ ناقلٍ ] (٣) لم يصح.

لكن سائر الديون كلّها كذلك ، بل الأعيان أيضاً كذلك ، حتى لو أعتق عبده ثمّ أقرّ له السيّد أو غيره عقيب العتق بلا فصلٍ بدَيْنٍ أو عينٍ ، لم يصح ؛ لأنّ أهليّة التملّك لم تثبت له إلاّ في الحال ، ولم يَجْر بينهما ما يوجب المال.

ولو فُرض ذلك ـ كما لو نذر الصدقة على عبده بعد عتقه بشي‌ءٍ ـ جاز له الإقرار به.

والضابط : إمكان التملّك ، فمتى فُرض ، صحّ الإقرار ، وإلاّ فلا.

قال بعض الشافعيّة : إن أسند الإقرار بالديون الثلاثة إلى جهة حوالةٍ أو بيعٍ ، فذاك ، وإلاّ فعلى قولين ؛ بناءً على ما لو أقرّ للحمل بمالٍ وأطلق (٤).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تقدير الوكالة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨.

٢٩٤

الفصل الثالث : في الأقارير المجهولة‌

وفيه مباحث :

الأوّل : الإقرار بالشي‌ء المطلق.

مسألة ٨٨٥ : لا يشترط كون المُقرّ به معلوماً ، بل يصحّ الإقرار بالمجهول ؛ لأنّ الإقرار إخبار عن حقٍّ سابق ، والخبر قد يقع عن الشي‌ء على جهة الإجمال ، كما قد يقع عنه على جهة التفصيل ، وربما كان في ذمّة الإنسان شي‌ء لا يعلم قدره ، فلا بدّ له من الإخبار عنه ليتواطأ هو وصاحبه على الصلح بما يتّفقان عليه ، فدعت الحاجة واقتضت الحكمة إلى سماع الإقرار بالمجمل ، كما يسمع بالمفصّل ، بخلاف الإنشاءات التي لا تحتمل الجهالة والإجمال في أغلبها ؛ احتياطاً لابتداء الثبوت ، وتحرّزاً عن الغرر ، وبخلاف الدعوى ؛ فإنّها لا تُسمع إلاّ محرّرة لكون الدعوى له والإقرار عليه ، فيلزم مع الجهالة ، دون ما له.

ولأنّ المدّعي إذا لم يُحرّر دعواه ، انتفى داعيه ، مع أنّ له داعياً إلى تحريرها ، وأمّا المُقرّ فلا داعي له إلى التحرير ، ولا يؤمن رجوعه مع إقراره ، فيضيع حقّ المُقرّ له ، فألزمناه إيّاه مع الجهالة.

ولا فرق في الأقارير المجملة بين أن يقع ابتداءً أو في جواب دعوى معلومة ، كما لو ادّعى عليه ألف درهم ، فقال : لك علَيَّ شي‌ء.

والألفاظ التي يقع فيها الإجمال لا تنحصر ، فلنقتصر على أكثرها دوراناً بين الناس وأظهرها في الألسنة ولنبدأ بأعمّها ، وهو : « الشي‌ء » ثمّ نعقّبه بما يتلوه من مشهورات الألفاظ إن شاء الله تعالى.

٢٩٥

مسألة ٨٨٦ : إذا قال : علَيَّ شي‌ء ، طُولب بالبيان والتفسير ، فإن امتنع ، فالأقرب : إنّه يُحبس حتى يبيّن ؛ لأنّ البيان واجب عليه ، فإذا امتنع منه حُبس عليه كما يُحبس على الامتناع من أداء الحقّ ، وهو أحد وجوه الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه لا يُحبس ، بل يُنظر إن وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى وامتنع من التفسير ، جُعل ذلك إنكاراً منه ، وتُعرض اليمين عليه ، فإن أصرّ جُعل ناكلاً عن اليمين ، وحلف المدّعي ، وإن أقرّ ابتداءً قلنا للمُقرّ له : ادّع عليه حقّك ، فإذا ادّعى فأقرّ بما ادّعاه أو أنكر ، أجرينا عليه حكمه ، وإن قال : لا أدري ، جعلناه منكراً ، فإن أصرّ جعلناه ناكلاً ؛ لأنّه إذا أمكن تحصيل الغرض من غير حبسٍ لا يُحبس.

والثالث : إنّه إن أقرّ بغصبٍ وامتنع من بيان المغصوب حُبس ، وإن أقرّ بدَيْنٍ مبهم فالحكم كما ذكرناه في الوجه الثاني (١).

وقال بعض الشافعيّة : إذا قال : علَيَّ شي‌ء ، وامتنع من التفسير ، لم يُحبس. وإن قال : علَيَّ ثوب أو فضّة أو طعام ، ولم يبيّن ، حُبس ؛ بناءً على ما لو فسّر الشي‌ء بالخمر أو الخنزير قُبِل ، فحينئذٍ لا يتوجّه بذلك مطالبة ولا حبس (٢).

مسألة ٨٨٧ : إذا أقرّ بالشي‌ء وطُولب بالبيان ، فإن فسّره بما يتموّل ، قُبِل ، سواء كان قليلاً أو كثيراً.

وإن فسّره بما لا يتموّل ، فإن كان من جنس ما يتموّل ـ كحبّةٍ من الحنطة أو الشعير أو السمسم ، وقمع باذنجانة ـ فالأقوى : القبول ـ وهو‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٧.

٢٩٦

أصحّ وجهي الشافعيّة (١) ـ لأنّه شي‌ء يحرم أخذه ، وعلى مَنْ أخذه ردّه.

والثاني لهم : إنّه لا يُقبل منه هذا التفسير ؛ لأنّه لا قيمة له ، فلا يصحّ التزامه بكلمة « علَيَّ » ولهذا لا تصحّ الدعوى به (٢).

ونمنع عدم سماع الدعوى به.

والتمرة الواحدة والزبيبة الواحدة حيث لا قيمة لها من هذا القبيل ، وهي أولى بالقبول ممّا لو فسّره بحبّة حنطةٍ.

وإن لم يكن من جنس ما يتموّل ، فإمّا أن يجوز اقتناؤه لمنفعةٍ ، أو لا.

فالأوّل كالكلب المعلَّم والسرجين.

وفي التفسير بهما إشكال ، أقربه : القبول ؛ لأنّهما أشياء يثبت فيها الحقّ والاختصاص ، ويحرم أخذها ، ويجب ردّها ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

والثاني : لا يُقبل ؛ لأنّها ليست بمالٍ ، وظاهر الإقرار للمال (٣).

ولو فسّر بجلد الميتة ، لم يُقبل عندنا ؛ لأنّه لا يطهر بالدباغ.

وللشافعيّة وجهان ؛ لقبوله (٤) الدباغ (٥).

ومن هذا القسم : الخمر المحترمة ، والكلب القابل للتعليم.

وكلب الماشية والزرع والحائط مُلحَق بالمعلَّم.

__________________

(١ و ٢) الوسيط ٣ : ٣٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٥.

(٣) بحر المذهب ٨ : ٢٢٧ ، الوسيط ٣ : ٣٣٠ ، البيان ١٣ : ٤٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لقبولها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) بحر المذهب ٨ : ٢٢٧ ، البيان ١٣ : ٤٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

٢٩٧

والثاني : كالخمر التي (١) لا حرمة لها ، والخنزير ، وجلد الكلب ، والكلب الذي لا منفعة فيه ، وهذا لا يُقبل تفسيره به عندنا.

وللشافعيّة وجهان ، هذا أصحّهما ، والثاني : أنّه يُقبل (٢).

والصحيح ما قلناه ؛ لأنّه ليس فيه حقّ واختصاص ، ولا يلزم ردّه ، وقوله : « علَيَّ » يقتضي ثبوت حقٍّ للمُقرّ له.

مسألة ٨٨٨ : لو قال : له علَيَّ شي‌ء ، وفسّره بالوديعة ، قُبِل ؛ لوجوب ردّها عليه عند الطلب ، وقد يتعدّى فيها فتكون مضمونةً عليه.

ونقل الجويني وجهاً للشافعيّة : إنّه لا يُقبل ؛ لأنّها في يده ، لا عليه (٣).

وهو غلط بما تقدّم.

ولو فسّره بحقّ الشفعة ، أو حدّ قذفٍ ، قُبِل. أمّا لو فسّره بالعيادة أو ردّ السلام أو جواب الكتاب ، لم يُقبل ؛ لبُعْده عن الفهم في معرض الإقرار ؛ إذ لا مطالبة بهما ، والإقرار في العادة بما يطلبه المُقرّ له ويدّعيه ، ولأنّهما يسقطان ؛ لفواتهما ، ولا يثبتان (٤) في الذمّة ، والإقرار يدلّ على ثبوت الحقّ في الذمّة.

وكذا لو فسّره بتسميت عطسةٍ.

ويحتمل القبول إذا أراد أنّ حقّاً علَيَّ ردّ السلام إذا سلّم وتسميته إذا‌

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الذي ». والمثبت يقتضيه السياق.

(٢) بحر المذهب ٨ : ٢٢٧ ، البيان ١٣ : ٤٠٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢.

(٤) كذا قوله : « بهما ... لأنّهما يسقطان ؛ لفواتهما ، ولا يثبتان » بتثنية الضمير والفعل في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، والظاهر هكذا : « بها .... لأنّها تسقط ؛ لفواتها ، ولا تثبت ».

٢٩٨

عطس ؛ لما روي في الخبر : « للمسلم على المسلم ثلاثون حقّاً : يردّ سلامه ، ويُسمّت عطسته ، ويُجيب دعوته ... » (١).

أمّا لو قال : له علَيَّ حقٌّ ، فإنّه يُقبل التفسير بالعيادة وردّ السلام.

وقال بعض الشافعيّة : لا فرق بين أن يقول : له علَيَّ شي‌ء ، أو حقٌّ ، كيف! والحقّ أخصّ من الشي‌ء ، فيبعد أن يُقبل تفسير الأخصّ بما لا يُقبل به تفسير الأعمّ (٢).

مسألة ٨٨٩ : لو قال : غصبته شيئاً ، طُولب بالتفسير والبيان ، فإن فسّر بما يُقبل به التفسير في الصورة السابقة ، قُبِل هنا بطريق الأولى إذا احتمله اللفظ ليخرج الوديعة وحقّ الشفعة ؛ إذ لا يحتملهما لفظ الغصب.

ولو فسّره بالخمر والخنزير وغيرهما ممّا لا يُعدّ مالاً ، قُبِل هنا ؛ لأنّ الغصب لا يقتضي إلاّ الأخذ قهراً ، وليس في لفظه ما يشعر بالتزامٍ وثبوت حقٍّ ، بخلاف قوله : « علَيَّ » وبه قال الشافعي (٣).

ويحتمل قبوله إن كان المُقرّ له ذمّيّاً ، وإن كان مسلماً فإشكال.

وما ليس بمالٍ يقع اسم الغصب عليه.

ولو قال : غصبته شيئاً ، ثمّ قال : أردت نفسه فحبستُه ساعةً ، لم يُقبل ؛ لأنّه جعل له مفعولين ، الثاني منهما : « شيئاً » فتجب مغايرته للأوّل.

أمّا لو قال : غصبتُه ، ثمّ قال : أردت نفسه ، قُبِل.

وقيل : لا يُقبل ؛ لأنّ الغصب لا يثبت عليه (٤).

__________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني ٥ : ٣١٥ ، والشرح الكبير ٥ : ٣٣٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢.

(٣) الوجيز ١ : ١٩٧ ، الوسيط ٣ : ٣٣٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٤) المغني ٥ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٨.

٢٩٩

وكذا لو قال : غبنته ؛ لأنّه قد يغصب ويغبن في غير المال.

قال الشافعي : إذا قال الرجل للرجل : غصبت منك شيئاً ، ثمّ قال : أردت به كلباً ، أُجبر على دفعه إليه. وكذا إن قال : جلد ميتة. فإن قال :

خمراً أو خنزيراً ، لم أُجبره على دفعه إليه ، وقتلتُ الخنزيرَ وأرقتُ الخمرَ (١).

وحكي عن أبي حنيفة أنّه قال : لو قال : لفلان علَيَّ شي‌ء أو كذا ، لم يُقبل تفسيره بغير المكيل والموزون ؛ لأنّ غير ذلك لا يثبت في الذمّة بنفسه (٢).

وهو خطأ ؛ لأنّ غير المكيل والموزون متموَّل يدخل تحت العقود ، فجاز أن يُفسَّر به الشي‌ء ، كالمكيل والموزون.

وتعليله باطل ؛ لأنّه يثبت في الذمّة ، ولا اعتبار بسبب ثبوته في الإخبار عنه والإقرار به.

مسألة ٨٩٠ : لو قال : له عندي شي‌ء ، قُبِل تفسيره بالخمر والخنزير على إشكال ـ وهو المشهور من مذهب الشافعيّة (٣) ـ لأنّه شي‌ء ممّا عنده.

ويحتمل عدم القبول ـ وهو قول الجويني (٤) ـ لأنّ لفظة « له » تُشعر بثبوت ملكٍ أو حقٍّ.

ويمكن منعه ؛ لتسويغ قول القائل : لفلان عندي خمر أو خنزير.

إذا عرفت هذا ، فلو شهد بالمجهول ، احتُمل السماع ، كما إذا كان له‌ عليه مائة فأقرّ صاحب الدَّيْن أنّه قبض منه شيئاً من الحقّ وقامت بذلك

__________________

(١) الأُم ٣ : ٢٤١ ، الوسيط ٣ : ٣٣٢.

(٢) حلية العلماء ٨ : ٣٣٩ ، المغني ٥ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٣٩.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٣٠ ، حلية العلماء ٨ : ٣٣٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٦.

٣٠٠