تذكرة الفقهاء - ج ١٥

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٥

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-436-1
الصفحات: ٥٣٧

١
٢

٣
٤

المقصد السادس : في الوكالة‌

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في حقيقتها ومشروعيّتها‌

الوكالة : عقد شُرِّع للاستنابة في التصرّف ، وهي جائزة بالكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ) (١) فجوّز العمل [ عليها ] (٢) وذلك بحكم النيابة عن المستحقّين.

وقوله تعالى : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (٣) وهذه وكالة.

وقوله تعالى : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ) (٤) وهذه وكالة.

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) الكهف : ١٩.

(٤) يوسف : ٩٣.

٥

وأمّا السنّة : فما روى العامّة عن جابر بن عبد الله قال : أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلت له : إنّي أردتُ الخروج إلى خيبر ، فقال : « إذا لقيتَ وكيلي فخُذْ منه خمسة عشر وسقاً ، فإن ابتغى منك آيةً فضَعْ يدك على ترقوته » (١).

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكّل عمرو بن أُميّة الضمري في قبول نكاح أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان (٢) ، ووكّل أبا رافع في نكاح ميمونة (٣).

وروى عروة بن الجعد البارقي قال : عُرض للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جَلَبٌ (٤) فأعطاني ديناراً ، فقال : « يا عروة ائت الجَلَب فاشتر لنا شاةً » قال : فأتيتُ الجَلَبَ فساوَمْتُ صاحبَه فاشتريتُ شاتين بدينار فجئتُ أسوقهما ، أو : أقودهما ، فلقيني رجل بالطريق فساومني ، فبعتُ منه شاةً بدينار وأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدينار والشاة ، فقلت : يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم ، قال : « وصنعتَ كيف؟ » قال : فحدّثته الحديث ، فقال : « اللهمّ بارك في صفقة يمينه » (٥).

__________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٣١٤ / ٣٦٣٢ ، سنن البيهقي ٦ : ٨٠.

(٢) المحبّر : ٧٦ و ٨٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٥ : ٤٢١ ، و ٦٩ : ١٣٨ و ١٤٥ ، الطبقات الكبرى ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، و ٨ : ٩٩ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٤ : ٢٢ ، دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ : ٤٦١ ، سنن البيهقي ٧ : ١٣٩ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٠١.

(٣) السيرة النبويّة ـ لابن هشام ـ ٤ : ١٤ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٥ ، المحبّر : ٩١ ـ ٩٢ ، الطبقات الكبرى ٢ : ١٢٢ ، و ٨ : ١٣٢ ـ ١٣٤ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ٢ : ٢٦ ، العلل ـ للدارقطني ـ ٧ : ١٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٠٠ / ٨٤١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٠١ ، التمهيد ٣ : ١٥٢.

(٤) الجَلَب : ما جُلب من خيلٍ وإبلٍ ومتاعٍ. لسان العرب ١ : ٢٦٨ « جلب ».

(٥) تاريخ مدينة دمشق ٥٠ : ٢٩٩ ، سنن الدارقطني ٣ : ١٠ / ٣٠ ، مسند أحمد ٥ : ٥٠٧ / ١٨٨٧٣ ، و ٥٠٨ / ١٨٨٧٧ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٢٠١.

٦

وروي أنّه وكّل حكيم بن حزام في شراء شاة (١).

ومن طريق الخاصّة : قول الصادق عليه‌السلام : « مَنْ وكّل رجلاً على إمضاء أمر من الأُمور فالوكالة ثابتة أبداً حتى يُعْلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها » (٢) وغير ذلك من الأحاديث.

وقد أجمعت الأُمّة في جميع الأعصار والأمصار على جواز الوكالة في الجملة.

ولأنّ اشتداد الحاجة الداعية إلى التوكيل ظاهرٌ ، فإنّه لا يمكن كلّ أحدٍ مباشرة جميع ما يحتاج إليه من الأفعال ، فدعت الضرورة إلى الاستنابة ، فكانت مشروعةً.

ولا بدّ في الوكالة من عقدٍ مشتملٍ على إيجابٍ وقبولٍ ، ومن موكّلٍ يصدر عنه الإيجاب ، ومن وكيلٍ يصدر عنه القبول ، ومن أمرٍ تقع الوكالة فيه. فأركان الوكالة أربعة نحن نذكرها في فصلٍ ثمّ نعقّب بأحكام الوكالة في فصلٍ آخَر إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٦ / ٣٣٨٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٥٨ / ١٢٥٧.

(٢) الفقيه ٣ : ٤٧ / ١٦٦ ، التهذيب ٦ : ٢١٣ / ٥٠٢.

٧
٨

الفصل الثاني : في أركان الوكالة‌

وفيه أربعة مباحث :

البحث الأوّل : في الصيغة.

الوكالة عقد يتعلّق به حقّ كلّ واحدٍ من المتعاقدين ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول ، كالبيع.

والأصل فيه عصمةُ مال المسلم ، ومنعُ غيره من التصرّف فيه إلاّ بإذنه ، فلا بدّ من جهة الموكّل من لفظٍ دالٍّ على الرضا بتصرّف الغير له ، وهو كلّ لفظٍ دالٍّ على الإذن ، مثل أن يقول : وكّلتك في كذا ، أو فوّضته إليك ، وأنَبْتُك فيه ، وما أشبهه.

ولو قال : وكِّلني في كذا ، فقال : نعم ، أو أشار بما يدلّ على التصديق ، كفى في الإيجاب.

ولو قال : بِعْ وأعتق ، ونحوهما ، حصل الإذن ، وهذا لا يكاد يُسمّى إيجاباً ، بل هو أمر وإذْنٌ ، وإنّما الإيجاب قوله : وكّلتك ، أو : استنبتك ، أو : فوّضت إليك ، وما أشبهه.

وقوله : « أذنتُ لك في فعله » ليس صريحاً في الإيجاب ، بل إذْنٌ في الفعل.

وقد وكّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عروة بن الجعد البارقي في شراء شاة بلفظ الشراء (١).

__________________

(١) راجع الهامش (٥) من ص ٦.

٩

وقال تعالى مُخبراً عن أهل الكهف : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (١).

ولأنّه لفظ دلّ على الإذن ، فجرى مجرى قوله : وكّلتك.

مسألة ٦٤٥ : لا بدّ من القبول إمّا لفظاً ـ وهو كلّ ما يدلّ على الرضا بالفعل ـ أو فعلاً.

ويجوز القبول بقوله : « قبلت » وما أشبهه من الألفاظ الدالّة عليه ، وبكلّ فعلٍ دلّ على القبول ، نحو أن يأمره بالبيع فيبيع ، أو بالشراء فيشتري ؛ لأنّ الذين وكّلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره ، ولأنّه إذنٌ في التصرّف ، فجاز القبول فيه بالفعل ، كأكل الطعام.

والقبول يُطلق على معنيين :

أحدهما : الرضا والرغبة فيما فوّضه إليه. ونقيضه الردّ.

والثاني : اللفظ الدالّ عليه على النحو المعتبر في البيع وسائر المعاملات.

ويعتبر في الوكالة القبولُ بالمعنى الأوّل حتى لو ردّ وقال : لا أقبل ، أو : لا أفعل ، بطلت الوكالة. ولو ندم وأراد أن يفعل أو يرجع [ لا ينفع ] (٢) بل لا بُدَّ من استئناف إذنٍ جديد مع علم الموكّل ؛ لأنّ الوكالة جائزة من الطرفين ترتفع في الالتزام بالفسخ ، فلأن تُرتدّ في الابتداء بالردّ كان أولى.

وأمّا بالمعنى الثاني ـ وهو القبول اللفظي ـ فالوجه عندنا : أنّه لا يشترط ؛ لأنّه إباحة ورفع حجر ، فأشبه إباحة الطعام لا يفتقر إلى القبول اللفظي ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

__________________

(١) الكهف : ١٩.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

١٠

والثاني : الاشتراط ؛ لأنّه إثبات حقّ التسليط والتصرّف للوكيل ، فليقبل لفظاً ، كما في سائر المملّكات (١).

ولهم طريقٌ آخَر : إنّ الوجهين فيما إذا أتى بصيغة عقدٍ بأن قال : وكّلتك ، أو : استنبتك ، أو : فوّضت إليك ، وأمّا في صِيَغ الأمر ـ نحو : بِعْ ، أو : اشتر ـ فلا يشترط القبول لفظاً جزماً ، بل يكفي الامتثال على المعتاد ، كما في إباحة الطعام (٢).

وقال بعض الشافعيّة : إنّ قوله : « أذنت لك في كذا » بمثابة قوله : « بِعْ واعتق » لا بمثابة قوله : « وكّلتك » وإن كان « أذنت » على صِيَغ العقود (٣).

إذا ثبت هذا ، فإنّ الوكيل إن شاء قَبِل بلفظه ، وإن شاء تصرّف ، وكان ذلك قبولاً منه ؛ لأنّ الوكالة أمر له ، فيصير بالتصرّف محصّلاً للأمر ، بخلاف سائر العقود من البيع والإجارة والهبة والوصيّة ، فإنّها تتضمّن التمليك ، فافتقرت إلى القبول بالقول ، والتوكيل جارٍ مجرى الوديعة والعارية لا يفتقر إلى القبول بالقول ؛ لأنّ ذلك أمر وإباحة.

مسألة ٦٤٦ : ويجوز عندنا القبول على الفور والتراخي ، نحو أن يبلغه أنّ رجلاً وكّله في بيع شي‌ء منذ سنة فيبيعه ، أو يقول : قبلت ، أو يأمره بفعل شي‌ء فيفعله بعد مدّة طويلة ؛ لأنّ قبول وكلاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوكالته كان بفعلهم ، وكان متراخياً عن توكيله إيّاهم ، ولأنّه أذن في التصرّف ، والإذن قائم ما لم يرجع عنه ، فأشبه الإباحة ، ولأنّ الوكالة عقد يحتمل فيه‌

__________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٥٦ ، الوسيط ٣ : ٢٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٤ ، منهاج الطالبين : ١٣٥.

(٢) الوسيط ٣ : ٢٨٣ ، الوجيز ١ : ١٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٤ ، منهاج الطالبين : ١٣٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠.

١١

ضروب من الجهالة ، ويصحّ في الموجود والمفقود ، فيحتمل فيه تأخير القبول ، كالوصيّة ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي (١).

وقال القاضي أبو حامد من أصحابه : إنّه يجب أن يكون على الفور ، كالبيع (٢).

وقال بعضهم : يكتفى بوقوعه في المجلس (٣).

هذا في القبول اللفظي ، فأمّا بالمعنى الأوّل الفعلي فلا يجب التعجيل ـ عندنا وعنده (٤) ـ بحال.

وإن [ لم نشرط ] (٥) القبول فلو وكّله والوكيل لا يشعر به ، ففي ثبوت وكالته إشكال.

وللشافعيّة وجهان يقربان من القولين في أنّ العزل هل ينفذ قبل بلوغ خبره إلى الوكيل؟ والوكالة أولى أن لا تثبت ؛ لأنّها تسليط على التصرّف (٦).

فإن لم نثبتها ، فهل نحكم بنفوذها حالة بلوغ الخبر كالعزل ، أم لا؟ للشافعيّة وجهان (٧).

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٧ ، التنبيه : ١٠٨ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٦ ، حلية العلماء ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٤ ، المغني ٥ : ٢٠٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٢.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٦ ، حلية العلماء ٥ : ١١٦ ، البيان ٦ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠.

(٣) البيان ٦ : ٣٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٤.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « شرط ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٤.

١٢

قال بعضهم : إن لم نحكم به ، فقد شرطنا اقتران علمه بالوكالة (١).

والأظهر : ثبوت الوكالة وإن لم يعلم.

فعلى هذا لو تصرّف الوكيل وهو غير عالمٍ بالتوكيل ثمّ ظهر الحال ، خرج على الخلاف فيما إذا باع مال أبيه على ظنّ أنّه حيّ وكان ميّتاً.

مسألة ٦٤٧ : إذا شرطنا القبول ، لم يكتف بالكتابة والرسالة ، كما لو كتب بالبيع.

وإن لم نشترط القبول ، كفت الكتابة والرسالة ، وكان مأذوناً في التصرّف. وهو الأقرب عندي.

وإذا شرطنا القبول ، لم يكف الاستدعاء بأن يقول : وكِّلني ، فيقول : وكّلتك ، بل يشترط القبول ، فيقول بعد ذلك : قبلت.

وللشافعيّة قولان ، كما في البيع ، بل الوكالة أحوج إلى الاشتراط ؛ لأنّها ضعيفة (٢).

وقيل : يجوز ؛ لأنّ الوكالة يحتمل فيها ما لا يحتمل في البيع ، فكانت أولى بعدم الاشتراط (٣). ولا بأس به.

مسألة ٦٤٨ : لا يصحّ عقد الوكالة معلّقاً بشرطٍ أو وصف ، فإن عُلّقت عليهما ، بطلت ـ مثل أن يقول : إن قدم زيد ، أو : إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك ـ عند علمائنا ـ وهو أظهر مذهب الشافعي (٤) ـ لأنّه عقد يملك به‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٤ ـ ٥٣٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٥.

(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ١١٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢١٢ ، البيان ٦ : ٣٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٥ ، المغني ٥ : ٢١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٣.

١٣

التصرّف حال الحياة لم يبن على التغليب والسراية ، فلم يجز تعليقه بشرطٍ ، كالبيع. ولأنّ الشركة والمضاربة وسائر العقود لا تقبل التعليق ، فكذا الوكالة.

وقال بعض الشافعيّة وأبو حنيفة وأحمد : يصحّ تعليقها على الشرط ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في جيش مُؤتة : « أميركم جعفر ، فإن قُتل فزيد بن حارثة ، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة » (١) ، والتأمير في معنى التوكيل.

ولأنّه لو قال : أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج ، أو : وكّلتك في شراء كذا في وقت كذا ، صحّ إجماعاً ، ومحلّ النزاع في معناه (٢).

والفرق ظاهرٌ بين تنجيز العقد وتعليق التصرّف ، وبين تعليق العقد.

إذا ثبت هذا ، فلا خلاف في جواز تنجيز الوكالة وتعليق العقد ، مثل أن يقول : وكّلتُك في بيع العبد ولا تبعه إلاّ بعد شهر ، فهذا صحيح ، وليس للوكيل أن يخالف.

واعلم أنّ بعض الشافعيّة خرّج الخلاف بينهم في وجوب التنجيز وصحّة التعليق على أنّ الوكالة هل تفتقر إلى القبول؟ إن قلنا : لا تفتقر جاز التعليق ، وإلاّ لم يجز ؛ لأنّ فرض القبول في الحال ، والوكالة لم تثبت بَعْدُ ، وتأخيرها إلى أن يحصل الشرط مع الفصل الطويل خارج عن قاعدة‌

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٨٢ ، سنن البيهقي ٨ : ١٥٤ ، مسند أحمد ١ : ٤٢٤ / ٢٣١٤ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٥ ، تاريخ الطبري ٣ : ٣٦ ، تاريخ الإسلام ـ للذهبي ـ ( المغازي ) : ٤٨٠ ، السيرة النبويّة ـ لابن هشام ـ ٤ : ١٥ ، السيرة النبويّة ـ لابن كثير ـ ٢ : ٤٥٥ ، المغازي ـ للواقدي ـ ٢ : ٥٧٦ ، المنتظم ٣ : ٣١٨ ، وفيها بتقديم « زيد ابن حارثة » على « جعفر ».

(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ١١٨ ـ ١١٩ ، البيان ٦ : ٣٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٥ ، فتاوى قاضيخان ـ بهامش الفتاوى الهنديّة ـ ٣ : ٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٦٤٣ / ٣٦٢٣ ، المغني ٥ : ٢١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

١٤

التخاطب (١).

تذنيب : يصحّ توقيت الوكالة ، فيقول : وكّلتك إلى شهرٍ ، مثلاً ، فليس للوكيل بعد مضيّ الشهر التصرّف.

مسألة ٦٤٩ : قد بيّنّا بطلان الوكالة المعلّقة على الشرط ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة (٢).

فلو تصرّف الوكيل بعد حصول الشرط ، فالأقرب : صحّة التصرّف ؛ لأنّ الإذن حاصل لم يزل بفساد العقد ، وصار كما لو شرط في الوكالة عوضاً مجهولاً ، فقال : بِعْ كذا على أنّ لك العُشْر من ثمنه ، تفسد الوكالة ، ولكن إن باع يصحّ ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : لا يصحّ ؛ لفساد العقد ، ولا اعتبار بالإذن الضمني في عقدٍ فاسد ، ألا ترى أنّه لو باع بيعاً فاسداً وسلّم إليه المبيع ، لا يجوز للمشتري التصرّف فيه وإن تضمّن البيعُ والتسليمُ الإذنَ في التصرّف والتسليط عليه (٣).

وليس بجيّد ؛ لأنّ الإذن في تصرّف المشتري باعتبار انتقال الثمن إليه والملك إلى المشتري ، وشي‌ءٌ منهما ليس بحاصل ، وإنّما أذن له في التصرّف لنفسه ليسلم له الثمن ، وهنا إنّما أذن له في التصرّف عن الآذن لا لنفسه.

قال بعض الشافعيّة : أصل المسألة ما إذا كان عنده رهن بدَيْنٍ مؤجَّل ، فأذن المرتهن في بيعه على أن يعجّل حقّه من الثمن ، وفيه‌

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢١.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ١٣.

(٣) البيان ٦ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٥.

١٥

اختلاف سبق.

وهذا البناء يقتضي ترجيح الوجه الثاني ؛ لأنّ ظاهر المذهب للشافعيّة هناك فساد الإذن والتصرّف.

فإن قلنا بالصحّة ـ وهي الذي اخترناه نحن ـ [ فأثر ] (١) بطلان الوكالة أنّه يسقط الجُعْل المسمّى إن كان قد سمّى له جُعْلاً ، ويرجع إلى أُجرة المثل ، وهذا كما أنّ الشرط الفاسد في النكاح يفسد الصداق ، ويوجب مهر المثل وإن لم يؤثّر في النكاح (٢).

مسألة ٦٥٠ : لو قال : وكّلتك بكذا ومهما عزلتك فأنت وكيلي ، صحّت الوكالة المنجّزة ، وبطل التعليق ، فله عزله ، فإذا عزله لم يصر وكيلاً بذلك العقد ، بل بتجدّد عقدٍ آخَر.

وللشافعيّة في صحّة الوكالة المنجّزة وجهان :

أصحّهما : صحّة الوكالة في الحال.

والثاني : البطلان ؛ لاشتمالها على الشرط الفاسد ، وهو إلزام العقد الجائز (٣).

فعلى قولنا وعلى الأصحّ من قولَي الشافعيّة أو كان قوله : « مهما عزلتك » مفصولاً عن الوكالة ، فإذا عزله نُظر إن لم يشعر به الوكيل واعتبرنا شعوره في نفوذ العزل ، فهو على وكالته. وإن لم نعتبره أو كان شاعراً به ، لم يَعُدْ وكيلاً بعد العزل عندنا.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة : « تأثير ». وفي الطبعة الحجريّة صُحّح بـ « فتأثير ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٥.

١٦

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الوكالة هل تقبل التعليق ؛ لأنّه علّق التوكيل ثانياً بالعزل؟

أظهرهما : المنع.

والثاني ـ وبه قال أبو حنيفة ـ أنّه يعود وكيلاً.

فعلى هذا يُنظر في اللفظة الموصولة بالعزل ، فإن قال : « إذا عزلتك » أو « مهما » أو « متى » لم يقتض ذلك عود الوكالة إلاّ مرّة واحدة.

وإن قال : « كلّما عزلتك » اقتضى التكرار والعود مرّة بعد أُخرى ؛ لأنّ « كلّما » تقتضي التكرار ، دون غيرها.

فلو أراد أن لا يعود وكيلاً ، فسبيله أن يوكّل غيره بعزله ، فينعزل ؛ لأنّ المعلّق عليه عزل نفسه.

فإن كان قد قال : « إن عزلتك » أو : « عزلك أحدٌ من قِبَلي » فالطريق أن يقول : « كلّما عُدْتَ وكيلي فأنت معزول » فإذا عزله ينعزل (١) ؛ لتقاوم التوكيل والعزل ، واعتضاد العزل بالأصل ، وهو الحجر في حقّ الغير ، وعصمة مال المسلم عن تصرّف الغير (٢).

قال الجويني : وفيه نظر على بُعْدٍ متلقّى من استصحاب الوكالة (٣).

وهذا كلّه عندنا باطل ؛ لأنّ الوكالة عندنا لا تقبل التعليق.

مسألة ٦٥١ : كما أنّ الوكالة لا تقبل التعليق ، فالعزل هل يقبل التعليق؟ الأقرب ذلك ؛ لأنّه لا يشترط فيه القبول ، واشتراطه في الوكالة مختلف فيه.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لم ينعزل ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٣.

١٧

والخلاف للشافعيّة في أنّ الوكالة هل تقبل التعليق أم لا؟ جارٍ في العزل هل يقبل التعليق أم لا؟ ولكن بالترتيب ، والعزل (١) أولى بقبوله ؛ لما تقدّم من عدم اشتراط القبول فيه. وتصحيح إرادة الوكالة والعزل جميعاً مبنيّ على قبولهما التعليق (٢).

قال الجويني : إذا أنفذنا العزل وقلنا : تعود الوكالة ، فلا شكّ أنّ العزل ينفذ في وقتٍ وإن لطف ، ثمّ تترتّب عليه الوكالة (٣).

فلو صادف تصرّف الوكيل ذلك الوقت اللطيف هل ينفذ؟ فيه وجهان للشافعيّة (٤).

وإنّما كان يتّضح هذا الفرض والتصوير أن لو وقع بينهما ترتّب [ زمانيّ ] (٥) حتى يتصوّر (٦) وقوع التصرّف بينهما ، لكنّ الترتّب في مثل هذا لا يكون إلاّ عقليّاً.

مسألة ٦٥٢ : تجوز الوكالة بجُعْلٍ وغير جُعْل ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكَّل أُنَيْساً (٧) في إقامة الحدود (٨) ، وعروةَ في شراء شاة (٩) من غير جُعْلٍ ، وكان يبعث عُمّاله ليقبضوا الصدقات ، ويجعل لهم عمالةً ، ولهذا قال له [ ابنا‌

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجرية : « فالعزل » بدل « والعزل » والظاهر ما أثبتناه كما في المصدر.

(٢ ـ ٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٦.

(٥) إضافة يقتضيها السياق.

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تصوّر ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أنساً ». والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٨) صحيح البخاري ٣ : ١٣٤ و ٢٤١ و ٢٥٠ ، و ٨ : ٢٠٨ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٢٤ ـ ١٣٢٥ / ١٦٩٧ و ١٦٩٨ ، سنن البيهقي ٨ : ٢١٣ و ٢١٩ و ٢٢٢.

(٩) تقدّم تخريجه في ص ٦ ، الهامش (٥).

١٨

عمّه ] (١) : لو بعثتنا على هذه الصدقات فنؤدّي إليك ما يؤدّي الناس ، ونصيب ما يصيبه الناس (٢).

البحث الثاني : في الموكّل.

مسألة ٦٥٣ : يشترط في الموكّل أن يملك مباشرة ذلك التصرّف ، ويتمكّن من المباشرة لما يُوكّل فيه إمّا بحقّ الملك لنفسه أو بحقّ الولاية عن غيره ، فلا يصحّ للصبي ولا المجنون ولا النائم ولا المغمى عليه ولا الساهي ولا الغافل أن يوكّلوا ، سواء كان الصبي مميّزاً أو لا ، وسواء كانت الوكالة في المعروف أو لا.

وعلى الرواية (٣) المقتضية لجواز تصرّف المميّز أو مَنْ بلغ خمسة أشبار في المعروف ووصيّته بالمعروف ينبغي القول بجواز توكيله.

وكذا لو وكّل مَنْ يعتوره الجنون حالَ جنونه.

ولو وكّل حالَ إفاقته ، صحّت الوكالة ، لكن إذا (٤) طرأ الجنون بطلت الوكالة.

مسألة ٦٥٤ : كلّ مَنْ صحّ تصرّفه في شي‌ء تدخله النيابة صحّ أن يوكّل فيه‌ ، سواء كان رجلاً أو امرأةً ، حُرّاً أو عبداً ، مسلماً أو كافراً ، فإنّ‌

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أتباعه ». والصحيح ما أثبتناه حسب ما يقتضيه سياق النصوص في المصادر.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٧٥٢ ـ ٧٥٣ / ١٠٧٢ ، سنن البيهقي ٧ : ٣١ ، التمهيد ـ لابن عبد البرّ ـ ٢٤ : ٣٥٩.

(٣) الكافي ٧ : ٢٨ ( باب وصيّة الغلام والجارية ... ) ح ١ ، الفقيه ٤ : ١٤٥ / ٥٠٢ ، التهذيب ٨ : ٢٤٨ / ٨٩٨ ، و ١٠ : ٢٣٣ / ٩٢٢ ، الاستبصار ٤ : ٢٨٧ / ١٠٨٥.

(٤) في « ج ، ر » : « لو » بدل « إذا ».

١٩

المكاتَب يتصرّف في بيعه وشرائه بنفسه ، فصحّ أن يوكّل فيه.

وأمّا المرأة فعندنا يصحّ أن توكّل في النكاح ، خلافاً للشافعيّة (١).

وكذا يصحّ عندنا توكيل الفاسق في تزويج ابنته ـ خلافاً للشافعيّة في أحد القولين (٢) ـ لأنّ الفاسق عندنا له ولاية النكاح.

ولا يصحّ توكيل السكران كسائر تصرّفاته ، عندنا.

مسألة ٦٥٥ : شرطنا في الموكّل أن يكون متمكّناً من المباشرة إمّا بحقّ الملك أو الولاية ليدخل فيه توكيل الأب أو الجدّ له في النكاح والمال. ويخرج عنه توكيل الوكيل ، فإنّه ليس بمالكٍ ولا وليّ ، وإنّما يتصرّف بالإذن.

نعم ، لو مكّنه الموكّل من التوكيل لفظاً أو دلّت عليه قرينة ، نفذ.

والعبد المأذون ليس له أن يوكّل فيما أذن له مولاه فيه ؛ لأنّه إنّما يتصرّف بالإذن.

وكذا العامل في المضاربة إنّما يتصرّف عن الإذن لا بحقّ الملك ولا الولاية.

وفي توكيل الأخ والعمّ ومَنْ لا يجبر في النكاح للشافعيّة وجهان يعودان في النكاح ؛ لأنّه من حيث إنّه لا يعزل كالوليّ ، ومن حيث إنّه لا يستقلّ كالوكيل (٣).

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٥٠٨ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٦ ، الوسيط ٣ : ٢٨١ ، الوجيز ١ : ١٨٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢١١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢ ، منهاج الطالبين : ١٣٤ ، المغني ٧ : ٣٣٧.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٥٠٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٦ ، و ٢ : ٣٧ ، بحر المذهب ٨ : ١٥٢ ، الوسيط ٣ : ٢٨١ ، حلية العلماء ٥ : ١١٦ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ٢١١ ، البيان ٦ : ٣٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٢.

(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٥٦ ، البيان ٦ : ٣٦٠ ، الوسيط ٣ : ٢٨١ ، حلية العلماء ٦ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣٠.

٢٠