المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

المناهج التفسيريّة في علوم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-357-485-7
الصفحات: ٢٦٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

١. انّ الله تعالى ليس في جهة ولا في مكان بدليل انّ ما كان في الجهة والمكان ، مفتقر إليهما وهو محال عليه ، والله تعالى ليس بمرئي بدليل أنّ كلّ مرئي لا بدّ أن يكون في جهة. (١)

وبعبارة أُخرى : انّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل ، والمقابلة إنّما تكون في حقّ الأجسام ذوات الجهة ، والله تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.

٢. انّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها. فعلى الأوّل يلزم أن يكون محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي وخلوّ النواحي الأُخرى منه تعالى وذلك مستحيل ، وإمّا أن تقع على بعض الذات فيلزم أيضاً أن يكون مركباً متحيزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة الباطلة المرفوضة في حقّه تعالى.

٣. انّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة بها إلى المرئي وهو سبحانه منزّه عن الإشارة.

٤. انّ الرؤية لا تتحقّق إلّا بانبعاث أشعة من المرئي إلى أجهزة العين وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذات أبعاد ومعرضاً لعوارض وأحكام جسمانية وهو المنزّه عن كلّ ذلك. (٢)

٤. هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن

يصف سبحانه نفسه بأنّه الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، ويقول : ( هُوَ

______________________

١. مجموعة الرسائل العشر ، المسألة ١٦ ـ ١٧.

٢. لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٨٢ ـ ٨٣ واللوامع الإلهية : ٨١ ـ ٨٢ ؛ وكشف المراد : ١٨٢.

٨١
 &

الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ). (١)

وهذه الصفات صفات متناقضة لا تجتمع في شيء واحد مع أنّه سبحانه يصف نفسه بها ، فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً ؟ ولو كان ظاهراً كيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن.

ولكن يمكن تفسير ذلك من خلال كونه محيطاً بالموجودات الامكانية أوّلاً ، وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ثانياً.

فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّ شيء فكلّما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً ، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً ، وكلّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّ جهة ، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليس أوّليته تعالى ولا آخريته زمانية ولا مكانية ، بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرضت وكيفما تصوّرت.

فإذا كان العالم قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فكيف يمكن خلو العالم عن وجود الواجب ؟ فالعالم بما فيه من الصغير والكبير ، ومن الذرة إلى المجرّة ، ومن المادي إلى المجرد ، قائم به سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فيكون سبحانه ظاهر العالم وباطنه.

وبالجملة إحاطته له وقيمومته للوجود الإمكاني يجعله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً ويترتب عليه قوله سبحانه ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ) (٢) ، ومن الخطأ الواضح تفسير هذه المعية بالمعية العلمية ، بل هي معية وجودية لكن حسب ما ذكره الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته : « لم يحل في الأشياء فيقال هو كائن ، ولم ينأ

______________________

١. الحديد : ٣.

٢. الحديد : ٥٧.

٨٢
 &

عنها فيقال انّه منها بائن ». (١)

إلى هنا تبيّن كيفية تفسير الآية بالعقل الصريح ، وقد أتينا بنماذج أربعة من هذه المقولة ، أعني :

أ. واحد لا ثاني له.

ب. ليس للعالم مدبّر سواء.

ج. انّه سبحانه فوق الرؤية.

د. انّه سبحانه هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن.

كلّ ذلك من قبيل تفسير الآية بالعقل الصريح النظري في مقابل التفسير بالعقل الصريح العملي الذي سنوضحه تالياً.

القرآن والعقل العملي

قسّم الحكماء العقل إلى عقل نظري وعقل عملي ، والمراد هو تقسيم المدرك إلى هذين القسمين ، وإلّا فالعقل المدرِك واحد بجوهره ووجوده ، فما يدركه لو كان من قبيل ما يجب أن يُعلم ويُدرك فهو عقل نظري كما عرفت من الأمثلة السابقة حيث أدركنا انّ الله سبحانه واحد لا نظير له ، وانّه مدبّر لا مدبّر سواه ، وانّه فوق أن يُرى وانّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن.

وأمّا ما يدركه العقل ممّا يجب أن يعمل ويطبق على الحياة فيعبر عنه بالعقل العملي أي المدرَك الذي يجب أن يعمل به في نظر العقل وهذا ما يعبر عنه بالتحسين والتقبيح العقليّين الذي له فروع وشؤون في نظر العقل.

فهناك من يفسر القرآن الكريم بالعقل الصريح العملي ، وإليك نموذجين من هذه المقولة.

______________________

١. نهج البلاغة : الخطبة : ٦٥ ، ولاحظ الخطبة ١٧٩.

٨٣
 &

تنزيهه سبحانه عن العبث

إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين وانّ العقل يدرك لزوم ما يحسنه العقل والاجتناب على ما يقبحه يفسر بذلك لفيف من الآيات :

أ. انّه سبحانه يصف فعله بالنزاهة عن العبث واللغو ، ويقول :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ). (١)

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ). (٢)

( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ). (٣)

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ). (٤)

وعلى ضوء ذلك فأفعاله سبحانه لا تنفك عن الأغراض ، لكن الغرض غاية للفعل لا للفاعل ، وبذلك يعلم جواب السؤال التالي :

لو كان فعله تعالى نابعاً عن الغرض لكان ناقصاً بذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الاكتمال.

والجواب : انّ السائل خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بأنّ أفعاله سبحانه ليست منفكّة عن الغايات والدواعي إنّما يعني بها الثاني ، أي كونه غرضاً للفعل دون الأوّل ، فانّ الغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً بالذات ، والغرض بالمعنى

______________________

١. المؤمنون : ١١٥.

٢. الدخان : ٣٨.

٣. ص : ٢٧.

٤. الذاريات : ٥٦.

٨٤
 &

الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنياً غير محتاج إليه وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللغو يحصل باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد والنظام لا إلى وجوده وذاته.

نعم ربما يمكن أن يقال : انّ هذا النوع من التفسير يرجع إلى تفسير الآية في ضوء المدارس الكلامية مع أنّ البحث في غيره.

والجواب : انّ المقصود من المدارس الكلامية هو الأحكام العقلية غير الواضحة على أكثر العقول ، وأمّا الظاهر عليه فهو تفسير بالعقل الصريح ، والتحسين والتقبيح من هذا النوع من الإدراكات العقلية وان استخدمته العدلية في مدارسهم الكلامية.

ب. الله عادل لا يجور

إنّه سبحانه يصف نفسه بكونه قائماً بالقسط ، يقول : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ). (١)

وكما شهد على ذاته بالقيام بالقسط ، عرف الغاية من بعثة الأنبياء بإقامة القسط بين الناس.

قال سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ). (٢)

كما صرح بأنّ القسط هو الركن الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ). (٣)

وما في هذه الآيات وغيرها إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته ،

______________________

١. آل عمران : ١٨.

٢. الحديد : ٢٥.

٣. الأنبياء : ٤٧.

٨٥
 &

بأنّ العدل كمال لكلّ موجود حي مدرك مختار ، وانّه يجب أن يوصف الله تعالى به في أفعاله في الدنيا والآخرة ، ويجب أن يقوم سفراؤه به.

وبعبارة أُخرى : الله سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح ، ولا يصدر القبيح من الحكيم ، فلا يصدر الظلم من الله سبحانه.

هذا نموذج ثان لتفسير الآيات بالعقل العملي الصريح ، وعليك الإمعان في الآيات التي ترجع إلى العقائد ، كي تستخرج منها ما يرجع إلى العقل النظري وما يرجع إلى العقل العملي وتفسيرها بأحدهما في نهاية الأمر.

بقيت هنا أُمور :

الأوّل : انّه سبحانه يصف نفسه في سورة الحشر بصفات لا يمكن تفسيرها إلّا في ضوء العقل الصريح ، فمن رفض العقل في تفسير القرآن الكريم يعرقل خطاه في تفسير هذا القسم من الآيات.

يقول سبحانه : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ). (١)

( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (٢)

( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). (٣)

وفي هذا القسم من التفسير لا يهتم المفسر في إخضاع الآيات لمنهج عقلي كلامي خاص ، وإنّما هو من قبيل الاستضاءة بهذه الأُصول الثابتة عند العقل في تحصيل الآيات.

______________________

١ ، ٢ ، ٣. الحشر : ٢٢ ـ ٢٤.

٨٦
 &

الثاني : انّ من اتّخذ العقل أداة وحيدة للتفسير يجب عليه الاقتصار على تفسير الآيات الراجعة إلى العقائد والمعارف وشيئاً مما يرجع إلى الأخلاق والمسائل الاجتماعية ولا يتمكن من تفسير آيات الأحكام والقصص والمغازي وما أشببهما.

الثالث : قد وقفت على كتاب أسماه مؤلّفه السيد نور الدين الحسين العراقي ( المتوفّـى عام ١٣٤١ هـ ق ) « القرآن والعقل » وقد طبع في أجزاء ثلاثة ، فقد قام بتفسير القرآن بما يوحي إليه عقله الشخصي ويدركه بوجدانه ، وإنّما أسمى كتابه بهذا لأنّه لم يكن حين تأليف التفسير كتاب سوى تفسير الجلالين ، وقد ألّفه وهو في ساحات الحروب ينتقل من نقطة إلى أُخرى.

وعلى كلّ تقدير فليس ما ألّفه على غرار ما ذكرنا من التفسير بالعقل السليم ، وإليك نماذج من بعض تفسيراته :

١. قال في تفسير قوله سبحانه جواباً لطلب موسى الرؤية : قال : ( وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ). (١)

١. قال : وقد يقال : انّ كلمة الشرط « فإن استقر » تدلّ على سببية الشرط للجزاء ، وأي سببية بين بقاء جبل ورؤية موسى عليه‌السلام مع كون الجبل من الجمادات ، وموسى عليه‌السلام إنساناً كاملاً ؟!

فأجاب بقوله : لو كان المراد بالرؤية الرؤية ، البصرية الجسمية ، فالربط بين الشرط والجزاء يكون حاصلاً ، فانّ الجسم الصلب العظيم غير الشاعر بالتجلّي ، إذا لم يبق وصار مندكاً ، فالعين الباصرة التي هي مركبة من العناصر وفي منتهى اللطافة تتلاشى بمشاهدة التجلّـي مع كونها ذي حس بالأولوية القطعية. (٢)

______________________

١. الأعراف : ١٤٣.

٢. القرآن والعقل : ٢ / ٨٣.

٨٧
 &

٢. يقول في تفسير قوله سبحانه : ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ). (١)

كان إبراهيم يجادل رسل الله تبارك وتعالى في إهلاك قوم لوط حيث استدعى إمهالهم لعلّهم يرجعون لكن إبراهيم خوطب بترك الجدال وقال : ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هـٰذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ). (٢)

أمر سبحانه إبراهيم بالإعراض عن الشفاعة ، وذلك لأنّ الشفاعة فرع وجود الاستعداد في المشفوع له لابعد شهود زوال الاستعداد للكمال ، وصيرورة أخلاقهم الفاسدة ملكات راسخة غير زائلة. (٣)

٣. يقول في تفسير قوله سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ). (٤)

قال في وجه رجوع العالي إلى السافل ، والسافل إلى العالي : إنّ المورد كبعض الزلازل العظيمة التي تنشق الأرض بسببها ، فإذا انهدمَت تقع العوالي وتصل إلى المنشقات وتصير السفلى ، والأسفل يقع في البعد ويصير أعلا. (٥)

٤. يقول في تفسير قوله سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ). (٦)

ومن تلك الآيات الكذب البيّن حيث أتوا بالقميص صحيحاً وفي الوقت نفسه قالوا افترسه الذئب مع أنّهما متناقضان.

______________________

١. هود : ٧٤ ـ ٧٥.

٢. هود : ٧٦.

٣. القرآن والعقل : ٢ / ٣٢٩.

٤. هود : ٨٢.

٥. القرآن والعقل : ٢ / ٣٣٣.

٦. يوسف : ٧.

٨٨
 &

ثمّ يقول : ونظير ذلك انّ قريشاً يتّهمون النبي بأنّه مسحور أو مجنون مع ما يرون في النبي من العقل والذكاء ، والبرهنة والاستدلال ، ومع ذلك يخفونه ويظهرون جنونه. (١)

هذه نماذج ممّا التقطناها من الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو يقع في ثلاثة أجزاء وهو بعد لم يكمل تفسير عامة السور على النهج الذي سار عليه.

إلى هنا تمّ تفسير القرآن بالعقل الصريح ، وإليك الكلام في سائر الصور من تفسير القرآن بالعقل أي بغير النقل.

______________________

١. القرآن والعقل : ٢ / ٣٦٧.

٨٩
 &

المنهج الأوّل

٢

تفسير القرآن على ضوء المدارس الكلامية

هذا هو القسم الثاني من تفسير القرآن بالعقل أي بغير الأثر المروي ، والمراد من هذا القسم هو إخضاع الآيات للعقائد التي اعتنقها المفسر في مدرسته الكلامية ، ونجد هذا اللون من التفسير بالعقل غالباً في تفاسير أصحاب المقالات : المعتزلة والأشاعرة ، فإنّ لهؤلاء عقائد خاصة في مجالات مختلفة ، زعموها حقائق راهنة على ضوء الاستدلال ، وفي مجال التفسير حملوا الآيات على معتقدهم ، وإن كان ظاهر الآية يأباه ولا يتحمّله غير انّ هذا النمط من التفسير بالرأي والعقل ، يختلف حسب بُعد المعتقد عن مدلول الآية ، فربما يكون التفسير بعيداً عن الآية ، ولكن تتحمّلها الآية بتصرف يسير ، وربما يكون الأصل الكلامي بعيداً عن الآية غاية البعد بحيث لا تتحمّله الآية حتى بالتصرف الكثير فضلاً عن اليسير.

ولا يمكننا التوسع في هذا المضمار بل نقتصر على تفسير الآيات على ضوء المدرستين الكلاميتين المعتزلة والأشاعرة ، فلنقدم البحث في الأُولى.

٩٠
 &

تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال

أ. الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة

إنّ الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين جميع أُمم العالم من قبلُ وخاصةً بين الوثنيّين واليهود. نعم إنّ الإسلام قد طرحها مهذَّبة من الخرافات ، وممّا نُسِج حولها من الأوهام ، ومن وقف على آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشفاعة يقف على أنّ الشفاعة الدارجة بينهم كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم في حط الذنوب وغفران آثامهم ، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب ، تعويلاً على ذلك الرجاء ، فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها تحت شرائط خاصة كلها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نُفِيَت فالمنفي هو هذا المعنى ، ولو قُبِلت والمقبول هو هذا المعنى ، وقد أوضحنا في محله (١) أنّ الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لا يصح تفسيرها إلّا بتفسير بعضها ببعض ، وتمييز القسم المردود منها عن المقبول.

ومع ذلك نرى أنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها ، وما هذا إلّا للموقف الذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب ، في أبحاثهم الكلامية ، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.

قال القاضي عبد الجبار : إنّ شفاعة الفسّاق الذين ماتوا على الفسوق ولم

______________________

١. مفاهيم القرآن : ٤ / ١٧٧ ـ ١٩٩.

٩١
 &

يتوبوا ، يتنزل منزلة الشفاعة لِمن قتلَ ولدَ الغير ، وترصّد للآخر حتى يقتله ، فكما أنّ ذلك يقبح ، فكذلك هاهنا. (١)

والذي دفع القاضي إلى تصوير الشفاعة في حقّ المذنب بما جاء في المثال ، هو اعتقاده الراسخ بالأصل الكلامي الذي يعدّ أصلاً من أُصول منهج الاعتزال ( خلود العاصي ـ إذا مات بلا توبة في النار ) وفي الوقت نفسه يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة ، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه كما تقطع الأواصر الروحية بالشفيع ، فأمثال هؤلاء ـ العصاة ـ محرومون من الشفاعة ، وقد وردت في الروايات الإسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.

ولو افترضنا صحة ما ذكره من التمثيل فحكمه بحرمان العصاة من الشفاعة اجتهاد في مقابل نصوص الآيات وإخضاع لها لمدرسته الفكرية.

يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه : ( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ) (٢) : ( وَلَا خُلَّةٌ ) حتى يسامحكم أخلّاؤكم به ، وإن أردتم أن يحطّ عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل لا غير. (٣)

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد نفي الشفاعة بالمعنى الدارج بين اليهود والوثنيين لأجل أنّـهم كفّار ، وانقطاع صلتهم عن الله سبحانه ، وبالتالي إثباتها في حقّ غيرهم بإذنه سبحانه ويقول في الآية التالية : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) ، وأمّا أنّ حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حطّ الذنوب فهو تحميل

______________________

١. شرح الأُصول الخمسة : ٦٨٨.

٢. البقرة : ٢٥٤.

٣. الكشاف : ١ / ٢٩١ في تفسير الآية رقم ٢٥٤ من سورة البقرة.

٩٢
 &

للعقيدة على الآية ، فلو استدلّ القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة للكفّار ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حطُّ الذنوب ، وهو لا يتصور في حقّ الكفّار لأنّهم لا يستحقون الثواب فضلاً عن زيادته.

ب. هل مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة أو لا ؟

اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة (١) وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين :

الأُولىٰ : يقول سبحانه ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ). (٢)

فالآية ظاهرة في أنّ مغفرة الربّ تشمل الناس في حال كونهم ظالمين ، ومن المعلوم أنّ الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلّا لا يصح وصفهم بكونهم ظالمين ، فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدلّ على عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة ، لرجاء شمول مغفرة الربّ له ، ولمّا كان ظاهر الآية مخالفاً للأصل الكلامي عند صاحب الكشاف ، حاول تأويل الآية بقوله : « فيه أوجه :

١. أن يريد ـ قوله ( عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ) السيئات المكفَّرة ، لمجتنب الكبائر.

٢. أو الكبائر بشرط التوبة.

٣. أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. (٣)

وأنت خبير بأنّ كل واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.

______________________

١. لاحظ أوائل المقالات : ١٤ ، وشرح الأُصول الخمسة : ٦٥٩.

٢. الرعد : ٦.

٣. الكشاف : ٢ / ١٥٨.

٩٣
 &

الثانية : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ). (١)

والآية واردة في حقّ غير التائب ، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، فيعود معنى الآية أنّ الله سبحانه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن مات بلا توبة ، فتكون نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار ، ولمّا كان مفاد الآية مخالفاً لما هو المحرّر في المدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشاف تأويل الآية فقال :

الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى : ( لِمَنْ يَشَاءُ ) كأنّه قيل : « إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك » على أنّ المراد بالأوّل من لم يتب وبالثاني من تاب ، نظير قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء ، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله.(٢)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية وقد ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الأوّل مورد عدم التوبة ، والثاني موردها ، حتى تتفق الآية ومعتقده.

كما أنّه لا دلالة في الآية على تقييد الثاني بالتوبة ، لأنّه تفكيك بين الجملتين بلا دليل ، بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعظم الذنب ويغفر ما دونه.

ومن هذا القبيل أيضاً ، تفسيره لقوله سبحانه : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ). (٣)

فقد فسره الزمخشري على ضوء مذهب الاعتزال من خلود أصحاب الكبائر

______________________

١. النساء : ٤٨.

٢. الكشاف : ١ / ٤٠١ في تفسير الآية المذكورة.

٣. النساء : ٩٣.

٩٤
 &

ـ إذا ماتوا بلا توبة ـ في النار ، وجعل هذه الآية من أدلة عقيدته ، فقال : هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد ، والإبراق والإرعاد ، أمر عظيم وخطب غليظ ، ـ إلى أن قال ـ والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة ، ثمّ لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتّباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم ، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ).

فإن قلت : هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر ؟ قلت : ما أبين الدليل ، وهو تناول قوله ( وَمَنْ يَقْتُلْ ) أي قاتل كان ما من مسلم أو كافر ، تائب أو غير تائب ، إلّا انّ التائب أخرجه الدليل ، فمن ادّعى اخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله. (١)

إنّ ما ذكره الزمخشري بطوله قد ذكره القاضي عبد الجبار على وجه الإيجاز ، وقال : وجه الاستدلال انّه تعالى بين أن من قتل مؤمناً عمداً جازاه ، وعاقبه ، وغضب عليه ، ولعنه وأخلده في جهنم. (٢)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالإطلاق ، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم ، والمسلم القاتل إذا تاب ، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفضل عليه بالعفو ، فليس التخصيص أمراً مشكلاً.

وثانياً : انّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحل لقتل المؤمن ، أو قتله لإيمانه وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات. ومثل هذا يكون كافراً خالداً في النار.

______________________

١. الكشاف : ١ / ٤١٦.

٢. الأُصول الخمسة : ٦٥٩.

٩٥
 &

التفسير على ضوء منهج الأشعري

إنّ فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ( ٥٤٣ ـ ٦٠٦ هـ ) ممّن فسر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الذي يتبعه وهو مذهب الإمام الأشعري ، وهو أشعري في العقيدة ، شافعي في الفقه ، فلنذكر نماذج من تفاسيره.

١. جواز التكليف بما لا يطاق

إنّ جواز التكليف بما لا يطاق من مذاهب الأشاعرة ولقد احتج الرازي على مذهبهم بالآيات التالية :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ). (١)

وقوله سبحانه : ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ). (٢)

وقوله : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ـ إلى قوله : ـ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ). (٣)

( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ). (٤)

ثمّ أخذ بتقرير دلالة هذه الآيات على جواز التكليف بما لا يطاق بوجوه أربعة :

أوّلاً : أنّه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين انّهم لا يؤمنون قط ، فلو صدر منهم الإيمان ، لزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً.

وثانياً : انّه تعالى لمّا علم منهم الكفر ، فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً

______________________

١. البقرة : ٦.

٢. يس : ٧.

٣. المدثر : ١١ ـ ١٧.

٤. المسد : ١.

٩٦
 &

لانقلاب علمه تعالى جهلاً.

وثالثاً : انّه تعالى كلّف هؤلاء ـ الذين أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون ـ بالإيمان ألبتة ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه انّهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكلّف بالجمع بين النفي والإثبات. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق ، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفس الآمر وضمير روحه إذا علم انّ المأمور غير قادر على العمل ، ولذلك قلنا في محله إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً ، ولذلك يقول سبحانه : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ). (٢)

وأمّا الوجوه التي اعتمد عليها الرازي فموهون جداً ، وذلك انّ علمه الأزلي الذي اعتمد عليه في الوجهين الأوّلين لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية كان

______________________

١. تفسير الرازي : ٢ / ٤٢.

٢. البقرة : ٢٨٦.

٩٧
 &

علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تحليل ما ذكره الرازي بلفظه ، فقال :

فلو صدر منهم الإيمان لزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً ، فنقول :

إنّ هؤلاء لا يصدر منهم الإيمان إلى يوم القيامة قطعاً لكن لا من جهة إخباره سبحانه عنه بل لأجل اختيارهم وانتخابهم عدم الإيمان إلى يوم القيامة ، فالإخبار عن عدم تديّنهم شيء ، وكون الإيمان خارجاً عن الاختيار شيء آخر ، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.

ومنه يظهر ضعف كلامه الثاني حيث قال : « فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً » ، وذلك لأنّه سبحانه أخبر عن عدم صدور الإيمان وبما انّه مخبر صادق لا يصدر منهم الإيمان لكن لا لأجل انّ الله أخبر عنه ، بل لأجل مبادئ كامنة في أنفسهم تجرّهم إلى عدم الإيمان ، فالإخبار عن عدم الإيمان شيء وكون الإيمان خارجاً عن اختيارهم شيء آخر ، والآية تخبر عن الأوّل دون الثاني.

وبما ذكرنا من التحليل تقدر على تحليل الوجه الثالث إذ نمنع انّهم كانوا مكلّفين بعدم الإيمان بل كان أبو لهب مكلفاً بالتوحيد والرسالة فقط.

٢. امتناع رؤية الله أو إمكانها

ذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته سبحانه يوم القيامة ، وهذا هو الأصل البارز في مدرستهم الكلامية ، ثم إنّ هناك آيات تدلّ بصراحتها على امتناع رؤيته

٩٨
 &

سبحانه فحاولوا إخضاع الآيات لنظريتهم ، وإليك نموذجاً واحداً ، يقول سبحانه :

( ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١).

ومن المعلوم أنّ الإدراك مفهوم عام لا يتعيّن في البصري أو السمعي أو العقلي إلّا بالإضافة إلى الحاسّة التي يراد الإدراك بها ، فالإدراك بالبصر يراد منه الرؤية بالعين ، والإدراك بالسمع يراد منه السماع ، هذا هو ظاهر الآية ، وهي تنفي إمكان الإدراك بالبصر على الإطلاق.

ولمّا وقف الرازي على أنّ ظاهر الآية أو صريحها لا يوافق أصله الكلامي ، لأنّها ظاهرة في نفي الإدراك بالبصر ، قال : إنّ أصحابنا ( الأشاعرة ) احتجّوا بهذه الآية على أنّه يجوز رؤيته والمؤمنون يرونه في الآخرة ، وذلك لوجوه :

١. أنّ الآية في مقام المدح فلو لم يكن جائز الرؤية لما حصل التمدّح بقوله : ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) ألا ترى أنّ المعدوم لا تصح رؤيته ، والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا تصح رؤية شيء منها ولا يمدح شيء منها في كونها « لا تدركه الأبصار » فثبت أنّ قوله : ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) يفيد المدح ، إلّا إذا صحت الرؤية.

والعجب غفلة الرازي عن أنّ المدح ليس بالجزء الأوّل فقط ، أعني : ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) ، بل المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية كأنّه سبحانه يقول : والله جلّت عظمته يدرك أبصاركم ، ولكن لا تدركه أبصاركم ، فالمدح بمجموع القضيتين لا بالقضية الأُولى.

______________________

١. الأنعام : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٩٩
 &

٢. أنّ لفظ « الأبصار » صيغة جمـع دخل عليها الألـف واللام فهي تفيد الاستغراق بمعنى أنّه لا يدركه جميع الأبصار ، وهذا لا ينافي أن يدركه بعض الأبصار. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الآية تفيد عموم السلب لا سلب العموم ، بقرينة كونه في مقام بيان رفعة ذاته ، وشموخ مقامه.

كأنّه سبحانه يقول :

« لا يدركه أحد من جميع ذوي الأبصار من مخلوقاته ولكنّه تعالى يدركهم ، وهذا نظير قوله سبحانه : ( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (٢). وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (٣).

إلى غير ذلك من الوجوه الواهية التي ما ساقه إلى ذكرها إلّا ليُخضِعَ الآيةَ ، لمعتقده.

______________________

١. تفسير الرازي : ١٣ / ١٢٥.

٢. غافر : ٣٥.

٣. لقمان : ١٨.

١٠٠