موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ١٠٩

نظر الإسلام بعمق وشمول إلى القضاء والقضاة فأولاهما المزيد من الأهمّية ، وذلك لما لهما من الأثر الفعّال إيجابا وسلبا على النظام الاجتماعي الذي يسود البلاد ، ونعرض ـ بإيجاز لهما ـ مع ما يرتبط بذلك من بحوث.

أهمّية القضاء :

أمّا القضاء فهو من أهمّ المراكز الحسّاسة في الدولة الإسلامية ، وإقامته من الواجبات على رئيس الدولة ، فإنّه ملزم بتنفيذها ، وقد تحدّث الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مع شريح القاضي عن سموّ هذا المنصب ومدى أهمّيته قائلا :

« يا شريح ، قد جلست مجلسا لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، أو شقيّ » (١).

إنّ منصب القضاء والقيام بمسئولياته وواجباته على الوجه الصحيح إنّما هو من وظائف الأنبياء وأوصيائهم ليحكموا بين الناس بالحقّ والعدل ، أمّا إذا تولّى هذا المنصب غيرهما ممّن لا دراية له بشئون القضاء أو لا حريجة له في الدين فإنّه شقي قد حاد عن الطريق القويم ، وعرّض البلاد للخطوب والأزمات.

وكان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يحتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط في قضاء شريح قاضي الكوفة ، فكان يأمره بعدم تنفيذ ما يقضي به حتى يعرضه عليه (٢) ، خوفا من

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤. وسائل الشيعة ١٨ : ٧.

(٢) فروع الكافي ٧ : ٤٠٧. وسائل الشيعة ١٨ : ٦.

٢١

أن يكون قد جافى الواقع في ما قضى به.

مع القضاة :

واشترط الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في القضاة أن يكونوا أفضل أبناء الأمّة تقوى وورعا وكمالا ونزاهة ، ولنستمع إلى ما جاء في عهده لمالك الأشتر من البنود المشرقة التي تخصّ القضاة ، قال عليه‌السلام :

« ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ، ممّن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحّكه الخصوم ـ أي لا تغضبه ، ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ؛ وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشّف الأمور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ، ممّن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ، وأولئك قليل.

ثمّ أكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيل علّته ، وتقلّ معه حاجته إلى النّاس.

وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرّجال له عندك ، فانظر في ذلك نظرا بليغا فإنّ هذا الدّين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار ، يعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدّنيا » (١).

حفل هذا المقطع الشريف من عهد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر

__________________

(١) نهج البلاغة ٣ : ٦٣ ـ ٦٤.

٢٢

واليه على مصر بامور بالغة الأهمّية ، لم يحفل بمثلها أي نظام اجتماعي عرض لنظام الحكم والإدارة ... لقد نظر الإمام عليه‌السلام بعمق وشمول إلى أهمّ جهاز في الدولة وهو القضاء ، فألزم أن يكون القضاة أفضل من في الرعية علما وتقوى وورعا ، وعليهم أن يتحمّلوا المسئوليات التالية :

١ ـ أن يكون القاضي واسع الافق ، لا يضيق من الدعاوى التي ترفع إليه ، ولا ينزعج ويتبرّم أمام المتخاصمين.

٢ ـ أن لا يتمادى في الزلل ، وعليه أن يقف أمام الأحداث التي تعرض عليه بتبصّر وتروّ.

٣ ـ عليه أن يتبع الحقّ إذا تبيّن له.

٤ ـ أن يبتعد عن الطمع ، ولا تميل نفسه إلى حطام الدنيا.

٥ ـ عليه أن ينظر في الدعاوى التي ترفع إليه نظرة فاحصة ، ويبذل قصارى فهمه فيها حتى يكون حكمه مصيبا.

٦ ـ عليه أن يقف في الشبهات ، ولا يحكم حتى يتبيّن له الحقّ.

٧ ـ أن يأخذ بحكمه بالحجج القاطعة.

٨ ـ لا يملّ ولا يسأم من مراجعة المتخاصمين.

٩ ـ أن يكون شديدا في جانب الحقّ ، ولا يميل لأي طرف من المتنازعين.

١٠ ـ أن لا يزدهيه إطراء الناس ، ولا يستميله إغراؤهم.

مسئوليات رئيس الدولة :

وأدلى الإمام عليه‌السلام ـ في هذا المقطع ـ بعض المسئوليات التي تترتّب على رئيس الدولة تجاه القضاة وهي :

٢٣

أوّلا : أن يتعاهد الأحكام التي تصدر من القضاة ، ويشرف بنفسه عليها لئلا تكون مجافية للعدل ، ومنافية لأحكام الإسلام.

ثانيا : أن يجزل لهم الرواتب الضخمة ، ويوسّع عليهم ، ولا يدع أي ظلّ للحاجة عليهم حتى يبتعدوا عن الرشوة التي هي من أهمّ الأسباب في فساد جهاز الحكم.

ثالثا : أن يقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم ، ويظهر سموّ مكانتهم أمام المجتمع بحيث لا يدانيهم أي أحد من حاشيته وخاصّته في منزلتهم ، وبذلك يكسب القضاة الاستقلال وسموّ المكانة الاجتماعية.

أنواع القضاء :

أمّا القضاء فهو أنواع مختلفة بعضها حقّ ، وبعضها ضلال ، ومن أنواعها ما يلي :

١ ـ القضاء وفق الموازين الشرعية من قبل السلطان العادل ، وهو جائز بلا كلام.

٢ ـ القضاء بغير علم ، وهو محرّم بلا خلاف ، وقد مرّ الإمام على قاض فقال له : « أتعرف النّاسخ من المنسوخ؟ » ، قال : لا ، فقال : « هلكت وأهلكت ... الخ » (١).

٣ ـ القضاء من قبل السلطان الجائر إذا كانت أحكامه مخالفة للشريعة الإسلامية ، وقد تواترت الأخبار بحرمته.

ويشير الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديثه التالي إلى ذلك ، قال عليه‌السلام :

« إنّ النّاس آلوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ثلاثة : آلوا إلى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن غيره ، وجاهل مدّع للعلم لا علم له ، معجب بما عنده ، قد فتنته الدّنيا وفتن غيره ، ومتعلّم من عالم على سبيل هدى

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٣. وسائل الشيعة ١٨ : ٧.

٢٤

من الله ونجاة ، ثمّ هلك من ادّعى وخاب من افترى » (١).

شروط القضاة :

ولا يعيّن الشخص للقضاء إلاّ بعد أن تتوفّر فيه الصفات التالية وهي :

١ ـ الذكورة :

ويشترط في القاضي أن يكون رجلا ، ولا يجوز للسيّدات أن يتولّين القضاء ، فقد جاء في وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام النهي عن تولّي المرأة للقضاء (٢).

وليس ذلك طعنا في شخصية المرأة التي تحتلّ أسمى مكانة في الإسلام ، وإنّما القضاء مذهب حسّاس يستدعي الصرامة والشدّة ، وعدم الميول لأي جانب من المتخاصمين ، والمرأة بحسب تكوينها وذاتياتها ملهبة العواطف رقيقة القلب ، ولو لا رقّتها ورأفتها التي طبعت عليها لما تكوّن المجتمع الإنساني ، وهو مدين لعواطفها وتربيتها ، وهي لا تصلح للقضاء لا لنقصان في شخصيّتها واستهانة بها وإنّما لثقل هذا المنصب وحسّاسيّته كما ذكرنا.

٢ ـ البلوغ :

وقد استدلّ لهذا الشرط بقوله عليه‌السلام : « انظروا إلى رجل عرف حلالنا وحرامنا » ، وعنوان الرجل لا يشمل الصبي ، بالإضافة إلى رفع القلم عنه.

٣ ـ العدالة :

من الشروط التي يجب أن تتوفّر في القاضي العدالة ، وهي صفة نفسية تقتضي

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٦٣. وسائل الشيعة ١٨ : ٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦.

٢٥

أداء الواجبات الإلهية واجتناب المحرّمات ، فإذا لم يتمتّع القاضي بهذه الصفة فلا سبيل له لتولّي القضاء.

٤ ـ الإسلام :

ويجب أن يكون القاضي مسلما ، واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١) ، ومن الطبيعي أن تولّي الكافر للقضاء يكون له سبيل على المؤمنين.

٥ ـ الاجتهاد :

ولا بدّ أن يكون القاضي مجتهدا ومحيطا بالأحكام الشرعية لا عن تقليد وإنّما عن اجتهاد ، وهو استنباط الحكم الشرعي من أدلّته الأربعة ، وهي :

١ ـ الكتاب.

٢ ـ السنّة ، ونعني بها فعل المعصوم وقوله وتقريره عند الشيعة الإماميّة.

٣ ـ الإجماع.

٤ ـ العقل.

فإذا لم يتوفّر أحد هذه الأدلّة للفقيه في إحدى المسائل ، فإنّه يرجع إلى ما تقتضيه الاصول العملية ، وهي :

١ ـ البراءة ، بقسميها العقلية والنقلية.

٢ ـ الاستصحاب في الموضوعات والأحكام.

٣ ـ التخيير.

٤ ـ الاحتياط.

وتفصيل هذه الامور ، وما يعتبر فيها من الشروط قد تكفّلت بها كتب الاصول.

__________________

(١) النساء : ١٤١.

٢٦

هذه بعض الشروط التي ذكرت في كتب القضاء ، وهناك شروط اخرى كالحرية وطهارة المولد وغيرهما.

آداب القضاء :

أفاد الفقهاء في آداب القضاء امورا ترجع بعضها إلى صفات القاضي في حال حكمه وهي : أن لا يكون في حالة الحكم مشغول الفكر بامور الدنيا ، ولا بمرض يشغله عن الالتفات إلى الحكم وموازينه ، وأن لا يقضي وهو غضبان أو ضجر أو قلق ، وأن لا يكون بمدافع للأخبثين البول والغائط ، وأن يكون على سكينة ووقار ، وأن يساوي بين الخصمين.

في الرواية : أنّ يهوديا نازع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في درع زعم أنّها له فحاكمه عند عمر ، فقال للإمام : قم يا أبا الحسن! مع خصمك ، فتأثّر الإمام عليه‌السلام وبان الغضب على سحنات وجهه الشريف ، وبعد الفراغ من المحاكمة انبرى عمر فقال للإمام :

لقد بدى عليك الغضب لأنّي أمرتك بالمثول أمام القضاء مع خصمك اليهودي؟

فأجاب الإمام : « ليس الأمر كذلك ، ولكن لم تساو بيني وبين اليهوديّ ، فقد كنّيتني وقلت : يا أبا الحسن ولم تكنّ اليهوديّ » ، فانبهر عمر من ذلك ، لقد أظهر الإمام مدى تطوّر القضاء الإسلامي ، وضرب بذلك أمثلة في تحقيق القضاء للعدالة الاجتماعية وأصالته وأبعاده الفكرية وعمقه الحضاري.

وهناك شروط اخرى نصّ عليها السادة الفقهاء ، وبعضها قد ثبت بأدلّة التسامح في السنن (١).

__________________

(١) المحاكمة في القضاء : ٩٣.

٢٧

راتب القاضي :

ذهب بعض الفقهاء إلى حرمة أخذ القاضي الاجور ، مستدلّين على ذلك بأنّ القضاء واجب عيني إذا انحصر في شخص ، أو كفائي إذا لم ينحصر فيه ، ولا يجوز أخذ الاجرة على الواجب ، وتتضاعف الحرمة إذا أخذ الاجرة من أحد المتخاصمين بأنّ بذل للقاضي ليحكم له بالحقّ أو بغيره فإنّه يكون من الرشوة التي هي الكفر بالله تعالى أو الشرك به كما في بعض الأخبار.

وللقاضي أن يأخذ راتبه من بيت مال المسلمين الذي اعدّ لمصالحهم ، وتفصيل هذه البحوث قد عرضها الفقهاء في رسائلهم وموسوعاتهم ، وقد أجرى الإمام لشريح ٥٠٠ درهم في الشهر (١).

عزل القاضي :

يعزل القاضي من منصبه إذا جافت أحكامه النصوص الشرعية بأن كانت مخالفة لها ، وكذلك يعزل ويعاقب إذا ثبت أنّه قد ارتشى أو مال إلى بعض المتخاصمين فحكم له ، وإن كان حكمه موافقا للواقع.

__________________

(١) أخبار القضاة ٢ : ٢٢٧.

٢٨

قضاء الإمام

في عهد الرّسول والخلفاء

٢٩
٣٠

تقلّد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام منصب القضاء في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد رشّحه لهذا المنصب الحسّاس ، وقدّمه على بقيّة أصحابه وأبناء اسرته ، وذلك لعلمه بمواهبه وعبقرياته ، وإحاطته الكاملة بشئون الشريعة ، فهو باب مدينة علمه ، وأخوه ونفسه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى.

وكما كان الإمام عليه‌السلام المرجع الأعلى للقضاء في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك كان في عهد الخلفاء ، فكانوا يفزعون إليه إذا ألمّت بهم مسألة لا يهتدون لحلّها ، وكان رأيه الحاسم في ما يقضي ويفتي به .. ونعرض لبعض نوادر قضائه في أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء.

٣١
٣٢

في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما بعثه إلى اليمن ، فقال له الإمام :

« يا رسول الله ، إنّك تبعثني وأنا حديث السّنّ لا علم لي بالقضاء ».

فأجابه الرسول : « انطلق فإنّ الله سيهدي قلبك ، ويثبّت لسانك ».

قال الإمام : « فما شككت ـ أي بعد دعاء النبيّ ـ في قضاء بين اثنين » (١).

يقول وكيع : أجلّ القضاة هو الإمام ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استعمله على القضاء في حياته (٢) ، وقد اعجب النبيّ بقضائه ، فقال :

« الحمد لله الّذي جعل الحكمة فينا أهل البيت » (٣).

وهذه بعض القضايا التي قضى بها الإمام عليه‌السلام في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي :

١ ـ قصّة الغلام :

اشترك جماعة في شراء جارية وواقعوها في طهر واحد ، فحملت بغلام ، فلمّا وضعته ادّعى كلّ واحد أنّه ابنه ، فرفعوا أمرهم إلى الإمام عليه‌السلام فقرع على الغلام

__________________

(١) أخبار القضاة ١ : ٨٤.

(٢) المصدر السابق ١ : ٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٥.

٣٣

باسمهم ، فخرجت لأحدهم ، فالحق به الغلام ، وألزمه ثلثي الدية لصاحبيه ، وزجرهم عن مثل ذلك ، وعرض الحكم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال مشيدا بقضاء الإمام عليه‌السلام :

« الحمد لله الّذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود » (١).

٢ ـ زبية الأسد :

من القضايا التي حكم فيها الإمام عليه‌السلام حينما كان في اليمن قصّة « زبية الأسد » التي وقع فيها جماعة وهلكوا ، وقد رويت هذه الحادثة بروايتين وهما :

الاولى : روى محمّد بن قيس عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّ زبية حفرت لأسد فسقط فيها ، فازدحم الناس ينظرون إليه ، فوثب رجل على شفير الزبية فزلّت قدمه فتعلّق بآخر ، وتعلّق الآخر بثالث ، وتعلّق الثالث برابع ، فوقعوا جميعا في الزبية فافترسهم الأسد ، فهلكوا جميعا ، ورفع أمرهم ـ في شأن الدية ـ إلى الإمام عليه‌السلام ، فقضى بأنّ على الأوّل ثلث الدية للثاني ، وعلى الثاني ثلثي الدية للثالث ، وعلى الثالث الدية الكاملة للرابع ، ونقل قضاء الإمام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فأشاد به وقال :

« لقد قضى أبو الحسن فيهم بقضاء الله عزّ وجلّ ».

ولعلّ الوجه في هذا القضاء أنّ الرجل الأوّل سقط بنفسه وأسقط معه الثاني ، فلا دية له ؛ لأنّ هلاكه لم يستند إلى أحد ، وأمّا الثاني فكان هلاكه ـ احتمالا ـ مستندا إلى جذب الأوّل ، وسقوط الثالث والرابع عليه ، كما كان هو السبب في سقوط الآخرين ، فيكون ثلث قتله مستندا إلى الأوّل فله عليه الثلث ، وأمّا الثالث فإنّ هلاكه مستند إلى نفسه وإلى جذب الرابع ، فيكون له الثلثان على الثاني ، وأمّا الرابع فإنّ هلاكه مستند إلى الثالث فيكون عليه تمام الدية.

__________________

(١) عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٣٦. قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٣٢.

٣٤

الثانية : روى مسمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ قوما احتفروا زبية للأسد باليمن ، فوقع فيها الأسد ، فازدحم الناس عليها ينظرون للأسد ، فوقع رجل فيها ، فتعلّق بآخر ، وتعلّق الآخر بآخر ، والآخر بآخر ، فجرحهم الأسد ، منهم من مات من جراحة الأسد ، ومنهم من اخرج فمات ، فتشاجروا في ذلك حتى آل الأمر إلى القتال ، فقال لهم الإمام عليه‌السلام : « هلمّوا أقض بينكم ».

فقضى أنّ للأوّل ربع الدية ، وللثاني ثلث الدية ، وللثالث نصف الدية ، وللرابع الدية الكاملة ، وجعل ذلك على قبائلهم.

ولعلّ الوجه في ذلك أنّ للأوّل ربع الدية ؛ لأنّ موته يحتمل قد استند إلى أربعة أشياء :

أحدها : مزاحمة الناس له ، وثانيها : سقوط الثاني عليه ، وثالثها : سقوط الثالث عليه ، ورابعها : سقوط الرابع عليه.

وأمّا الثاني فله ثلث الدية ؛ لأنّه يحتمل استناد موته إلى ثلاثة امور : أحدها :

إسقاط الأوّل له ، والثاني : إسقاط الثالث عليه ، والثالثة إسقاط الرابع عليه.

وأمّا الثالث فله نصف الدية ؛ لأنّ موته يحتمل استناده إلى أمرين : الأوّل إسقاط الثاني له ، والثاني : سقوط الرابع عليه.

وأمّا الرابع فله تمام الدية ؛ لأنّ قتله كان مستندا إلى الثلاثة (١).

٣ ـ القارصة والقامصة والواقصة :

هذه حادثة قضى فيها الإمام عليه‌السلام في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أقرّ حكمه فيها ،

__________________

(١) هذا الجمع بين الخبرين ذكره القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام ، وذكر السيّد الأمين ما يقرب من ذلك.

٣٥

وقد رويت بروايتين وهما :

الاولى : رواها الشيخ المفيد وهي : أنّ جارية حملت على عاتقها جارية عبثا ولعبا ، فجاءت جارية اخرى فقرصت الحاملة فقمصت لقرصتها فوقعت الراكبة ، فاندقّت وهلكت.

ورفع أمرها إلى الإمام عليه‌السلام ، فقضى على القارصة بثلث الدية ، وعلى القامصة بثلثها ، وأسقط الثلث الباقي لركوب الواقصة عبثا ، وعرض هذا الحكم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقرّه وأمضاه (١).

الثانية : روى الصدوق عن الأصبغ قال : قضى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في جارية ركبت جارية فنخستها جارية اخرى فقمصت المركوبة فصرعت الراكبة فماتت ، فقضى بديتها نصفين بين الناخسة والمنخوسة (٢).

٤ ـ جماعة وقع عليهم حائط :

سقط جدار على جماعة فقتلهم ، وكان فيهم امرأة مملوكة واخرى حرّة ، وكان للحرّة طفل وأبوه حرّ ، وللجارية المملوكة طفل من مملوك ، ولم يعرف الطفل الحرّ من الطفل المملوك.

وعرضت المسألة على الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقرع بينهما ، وحكم بالحرية لمن خرج عليه سهم الحرية منهما ، وحكم بالرقّ لمن خرج عليه سهم الرقّ ، ثمّ أعتقه ، وحكم بالميراث للحرّ ، وعرض الحكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمضاه (٣) ، فإنّه لا حلّ لهذه المسألة إلاّ بالقرعة التي هي لكلّ أمر مشكل كما في الحديث ، هذه

__________________

(١) عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١٦.

(٢) قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٢٨ ، وقد ناقش المحقّق التستري في سند الرواية.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٥٤.

٣٦

الحديث ، هذه بعض القضايا التي حكم فيها الإمام عليه‌السلام في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الإمام عليه‌السلام يصف قضاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

تحدّث الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن قضاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيفيّة حكمه بقوله :

« كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي : ألك حجّة؟

فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه ، وإن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه بالله ما لهذا قبله ذلك الّذي ادّعاه ، ولا شيء منه ، وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ قال للشّهود :

أين قبائلكما؟ فيصفان.

أين سوقكما؟ فيصفان.

أين منزلكما؟ فيصفان.

ثمّ يقيم الخصوم والشّهود بين يديه.

ثمّ يأمر فيكتب أسامي المدّعي والمدّعي عليه والشّهود ويصف ما شهدوا به ، ثمّ يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار ، ثمّ مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه ، ثمّ يقول :

ليذهب كلّ واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما وأسواقهما ومحالّهما والرّبض (١) الّذي ينزلانه فيسأل عنها ، فيذهبان ويسألان فإن أتوا خيرا وذكروا فضلا رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبراه ، أحضر القوم الّذين أثنوا عليهما ، وأحضر الشّهود ، فقال للقوم المثنين

__________________

(١) الربض : البيت الذي يقيمان فيه.

٣٧

عليهما : هذا فلان ابن فلان ، وهذا فلان ابن فلان أتعرفونهما؟

فيقولون : نعم.

فيقول : إنّ فلانا وفلانا جاءني عنكما في ما بيننا بجميل وذكر صالح عنكما ، فإن قالوا : نعم قضى حينئذ بشهادتهما على المدّعى عليه ، فإن رجعا بخبر سيّئ وثناء قبيح دعا بهم.

فيقول : أتعرفون فلانا وفلانا؟

فيقولون : نعم.

فيقول : اقعدوا حتّى يحضرا ، فيقعدون فيحضرهما.

فيقول للقوم : أهما هما؟

فيقولون : نعم ، فإذا ثبت ذلك عنده لم يهتك سترا بشاهدين ، ولا عابهما ، ولا وبّخهما ، ولكن يدعو الخصوم إلى الصّلح ، فلا يزال بهم حتّى يصطلحوا لئلاّ يفتضح الشّهود ، ويستر عليهم ، وكان رءوفا رحيما عطوفا على امّته ، فإن كان الشّهود من أخلاط النّاس غرباء لا يعرفون ، ولا قبيلة لهما ولا سوق ولا دار أقبل على المدّعى عليه فقال : ما تقول فيهما؟ فإن قال ما عرفنا منهما إلاّ خيرا غير أنّهما قد غلطا في ما شهدا عليّ أنفذ شهادتهما وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصم وخصمه ، وأحلف المدّعى عليه ، وقطع الخصومة بينهما » (١).

وهذا منتهى العدل في القضاء ، وعليه سار الإمام في قضائه وحكمه بين الناس.

__________________

(١) تفسير الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ٣٠٢. وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٤.

٣٨

في عهد أبي بكر

وكما كان الإمام المرجع الأعلى للقضاء في أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك كان المرجع في عهد أبي بكر وغيره من الخلفاء ، وقد شجر خلاف بينه وبين أبي بكر في شأن فدك ، فعرض الإمام للحكم الشرعي فيها ، كما رفعت إليه بعض القضايا فحكم فيها ، وفي ما يلي ذلك :

١ ـ قصّة فدك :

قطع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فدكا لبضعته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وقد تصرّفت فيها في حياة أبيها ، وبعد وفاته أدّعى أبو بكر أنّها للمسلمين ، وطالب سيّدة النساء بالبيّنة ، فعرّفه الإمام عليه‌السلام أنّ البيّنة وظيفة المدّعي لا المدّعى عليه ، والمطالب بها أبو بكر دون الزهراء حسبما تقتضيه القواعد الشرعية ، وهذا نصّ حديث الإمام معه :

قال الإمام لأبي بكر :

« أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين ».

لا.

وانبرى الإمام يخاصمه بمنطقه الفيّاض قائلا :

« فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه وادّعيت أنا فيه ، من تسأل البيّنة على ما في يدي ...؟ ».

٣٩

وطفق أبو بكر قائلا :

إيّاك كنت أسأل على ما تدّعيه على المسلمين ...

وراح الإمام يقيم الحجّة عليه قائلا :

« فإذا كان في يدي شيء فأدّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة وقد ملكته في حياة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ ، كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟ ».

وختم الإمام حديثه بقوله :

« قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » (١).

ووجم أبو بكر ولم يطق الجواب أمام هذه الحجّة الدامغة التي لا مجال للشكّ فيها.

٢ ـ حكمه على شارب خمر لا يعلم بحرمته :

رفع إلى أبي بكر شخص قد شرب الخمر ، فأراد أن يقيم عليه الحدّ ، فقال له :

إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها ؛ لأنّي نشأت بين قوم يشربونها مستحلّين لها ، فارتج على أبي بكر ولم يهتد للحكم فيها ، فأشاروا عليه بسؤال الإمام عليه‌السلام ، فأرسل إليه من يسأله عنها فأجابهم :

« مروا رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التّحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله! فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم عليه الحدّ ، وإن لم يشهد عليه أحد بذلك فاستتبه وخلّ سبيله ».

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم : ٥٠١. وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٥.

٤٠