موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )

النحل : ١٢٥

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ )

الحجّ : ٣

( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )

العنكبوت : ٤٦

( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )

غافر : ٥٦

٣
٤

تقديم

١

الاحتجاجات والمناظرات بين الأديان والمذاهب قديمة جدّا ، فقد تسلّح بها أرباب الأديان وزعماء المذاهب وأتباعهم ، واستخدموا في ذلك جميع الوسائل التي بأيديهم ، وذلك لإضفاء الأصالة والشرعية على ما يدينون ويعتقدون به ولجرّ الناس إلى اعتناق آرائهم ومعتقداتهم.

وهذه الظاهرة سائدة بين الناس منذ فجر التاريخ حتى يوم الناس هذا ... لقد اسست أندية وأمكنة لهذا الغرض في دول الغرب ، وقد جرت في الولايات المتّحدة ندوة حضرها حشد كبير من الأمريكا وغيرهم ، فتناظر عالم مسلم وعالم مسيحي ، واستمرّت المناظرة عدّة ساعات ، فانهار العالم المسيحي أمام الأدلة الحاسمة التي أدلى بها العالم المسلم ، واعترف بالعجز وزيف أدلّته أمام الحاضرين.

٢

إنّ الاحتجاجات والمناظرات من أوثق الأسباب ، وأكثرها عمقا ، وأجدرها في فصل الخصومات ، وحسم النزاعات أمام فتح باب الحرب وإراقة الدماء ، وإشاعة الثكل والحزن ، والحداد لفرض الرأي والمعتقدات ، فإنّ ذلك سلاح العاجزين الذين

٥

يعوزهم الدليل والبرهان ، وسرعان ما تفشل معتقداتهم ، وتتلاشى آراؤهم كما يتلاشى الدخان في الفضاء.

٣

وكان الاحتجاج هو السّمت البارز في دعوة الأنبياء إلى الله تعالى وإبطال مذاهب خصومهم الوثنيّين ، فقد أفلجوا بالأدلة الحسّية آراء الملحدين ، فهذا شيخ الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام حينما حاججه أحد فراعنة عصره في الله تعالى أجابه إبراهيم بأروع الأدلة ، وقد حكى القرآن الكريم هذه المحاججة ولننظر إليها ، قال تعالى :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١).

فوجم الذي كفر ولم يطق جوابا ، وانهار أمام هذه الحجّة الدامغة.

٤

أمّا سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين فقد اعتمد في تبليغ رسالة ربّه على الحوار والمحاججة مشفوعة بالخلق الكامل ، فقد أمره الله تعالى بذلك ، قال تعالى :

( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (٢).

__________________

(١) البقرة : ٢٥٨.

(٢) النحل : ١٢٥.

٦

وبقي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مستمرا في تبليغ دعوته الخلاّقة يحتجّ ويناظر ويدافع عن قيمها ومبادئها ، ووقف كالطود الشامخ أمام طغيان القرشيّين وعتاتهم ، حتى فتح الله له الفتح المبين ، واندحرت العصابات القرشية التي لا تحمل أي طابع من الفكر والوعي.

٥

ونؤكد أنّ الإسلام بصورة إيجابية ومتميّزة قد تبنّى المحاورة والمناظرة في تبليغ رسالته ، ولم يلجأ إلى القوّة العسكرية ولا لأي وسيلة من وسائل العنف والقهر ، فقد أعلن القرآن الكريم بصراحة ووضوح أن ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) (١) ، وإنّما فتح باب الحرب مع خصومه وأعدائه للدفاع عن قيمه ومبادئه وأهدافه التي جهدت العصابات القرشية على محوها وحجبها عن المجتمع الإنساني.

إنّ رسالة الإسلام الخالدة قد رفعت مشاعل النور ، وأسّست معالم الحضارة في المشرق العربي ، وقد سعت لتأسيس أهدافها بالاحتجاج والمناظرة لا بالسيف والنطع.

٦

كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من ألصق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقربهم إليه ، فهو باب مدينة علمه ، وأبو سبطيه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى. فقد تطبّع بأخلاقه ، والتزم بحرفية منهجه ، وسار على أضواء رسالته لم يخالف أي سنّة منها ، فاعتمد عليه‌السلام

__________________

(١) البقرة : ٢٥٦.

٧

بصورة موضوعية على الاحتجاج والمناظرة مع خصومه ، ولم يفتح معهم باب الحرب إلاّ بعد أن انسدّت معهم نوافذ السلم ، وأعلنوا العصيان المسلّح عليه ، وكان ذلك مكشوفا في حربه مع أهل الجمل وصفّين والنهروان ، فقد بغوا عليه ، وتمرّدوا على حكومته ، ولم تجد معهم أي وسيلة من وسائل الصلح وحقن الدماء.

٧

أمّا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فهو من أوسع الناس افقا وأكثرهم استيعابا لجميع مباحث العلوم ، كما كان أخبرهم في المسائل الكلامية ، فقد ناظر الخلفاء وأفحمهم ، وناظر علماء الأديان السماوية وألحق بهم هزيمة ساحقة ، فقد علم مناطق الضعف والزيف في أناجيلهم وتوراتهم فوضعها بين أيديهم ، فلم يستطيعوا الدفاع عن أديانهم ووقفوا واجمين أمام منطقه الفيّاض ، معترفين بعجزهم خاضعين لملكاته وقدراته العلمية.

ومن المؤكد أنّه لم يملك أي أحد من الصحابة وغيرهم ما يملك الإمام من المواهب والعبقريات التي فاق بها على غيره.

٨

ويحفل هذا الجزء من موسوعة حياة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام باحتجاجاته ومناظراته ، وهي تحمل طابعا فكريا وعلميا وتعدّ في طليعة البحوث الكلامية خصوصا في مناظراته مع علماء النصارى واليهود ، فقد تجلّى فيها الإبداع والأصالة وعمق المناهج العلمية التي استدلّ بها الإمام عليه‌السلام ، والتي اقتبس منها بعض علماء المسلمين الذين قصدوا للردّ على علماء النصارى واليهود وبيان فساد معتقداتهم.

٨

٩

وقبل أن أطوي هذا التقديم ، أودّ أن أعرض إلى أني لم استوعب ـ بصورة قاطعة ـ جميع احتجاجات الإمام عليه‌السلام ومناظراته وإنما سجّلت ما عثرت عليه منها ، فإنّه من المؤكد أنّ الباحث المتتبّع يجد أضعاف ما دوّنته منها ...

إنّ هذا الإمام الملهم العظيم له من التراث الهائل الذي هو من مناجم الفكر الإسلامي ومن ذخائر الأدب الإنساني ، ما يفوق حدّ الوصف والإحصاء.

إنّه وليّ التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القرشى

٢ / جمادى الاولى / ١٤٢٠ هـ

٩
١٠

احتجاجات الإمام

على الخلفاء

١١
١٢

الشيء البارز في حياة الإمام السياسية احتجاجاته الصارمة على الخلفاء ومناظراته معهم ، فإنّها تلقي الأضواء على ما يكنّه الإمام من أسى بالغ بسبب إبعاده عن المسرح السياسي ، وحجبه عن الخلافة التي هي ظلّ الله في الأرض يحتمي بظلالها المظلومون والمضطهدون ، ويفزع إليها البائسون والمحرومون.

وعلى أي حال فقد نجم عن إقصاء الإمام عن قيادة الامّة أن خسرت الإنسانية الطاقات الهائلة التي يملكها الإمام في ميادين الحكم والإدارات وحقول التربية والسياسة ، وغيرها من الوسائل التي تتطوّر بها الحياة العامّة.

والشيء المؤكد أنّ المهاجرين في يثرب كانوا امتدادا للاسر القرشية في مكّة ، وكانوا يمثّلون رغباتهم ، ويحكون انطباعاتهم وميولهم ، وكانت معظم نفوس القرشيّين مترعة بالكراهية للإمام ؛ لأنه أشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد في سبيل الدعوة الإسلامية التي ناهضوها بجميع قدراتهم ، وبالإضافة لذلك فإنّ نفوس القرشيّين قد طبعت على الأنانية والحسد ، وهي من عناصرهم ومقوّماتهم ، وقد بدت هذه الظاهرة بصورة واضحة للبيت الهاشمي الذي لمع نجمه بسيّد الكائنات الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد ورمت منه انوفهم وتميّزوا غيظا منهم.

لقد ظهر حقد القرشيين على أهل بيت النبوة عليهم‌السلام بصورة واضحة بعد انتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حظيرة القدس فقد رفعوا عقيرتهم بصورة محمومة بهذا الشعار المزيف :

١٣

لا يجتمع سيفان بغمد واحد.

لا تجتمع النّبوّة والخلافة في بيت واحد.

وحقّقوا ما أرادوه بالقوة والحيلة والقهر ، فأقصوا أهل البيت عن الخلافة ، وقبضوا على الحكم بيد من حديد ، وقد منيت الامّة من جراء ذلك بالأزمات الخطيرة والنكبات السود ، وكان من أقسى الكوارث التي عاناها المسلمون استيلاء الأمويّين على الحكم ، إمعانهم في الظلم والاستبداد ، وإرغام الناس على ما يكرهون ، ومن مساوئ حكمهم كارثة كربلاء التي انتهكت فيها حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التي هي أولى بالرعاية والتكريم من كل شيء ، فلم تمض على انتقاله إلى حظيرة القدس خمسون عاما وإذا برءوس أبنائه على الرماح يطاف بها الأقطار والأمصار ، وبنات الوحي ومخدّرات الرسالة سبايا من بلد إلى بلد يتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ... هذا ما أرادته قريش لأهل بيت النبوة فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وعلى أي حال فلنعد إلى ما نحن بصدده ، وهو عرض احتجاجات الإمام عليه‌السلام على الخلفاء ، وهذه بعضها :

١٤

احتجاجه على أبي بكر

تقلّد أبو بكر الخلافة واستولى على أزمة الحكم وذلك بجهود حزبه ، وفي طليعتهم مستشاره ووزيره عمر بن الخطّاب ، فقد دفع الناس دفعا لمبايعته ، وقد لعبت درّته في الميدان ، ولولاه لما تمّت البيعة لأبي بكر ، وقد تخلّف عن بيعة أبي بكر بنو هاشم ، وأعلام الإسلام كعمّار بن ياسر وأبي ذرّ والزبير والمقداد وغيرهم ، كما تخلّف عن البيعة معظم أبناء الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون العمود الفقري للقوّات الإسلامية ، فكانوا يرون أنّ الإمام عليه‌السلام أحقّ وأولى بمركز الخلافة من غيره وذلك لنص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، بالإضافة إلى مواهبه وعبقرياته وسائر ملكاته التي ترشّحه لقيادة الامّة.

وقد سارع أبو بكر إلى الإمام ليكسب رضاه ، ويضفي الشرعية على حكومته قائلا :

يا أبا الحسن ، والله ما كان الأمر منّي ولا رغبة فيما وقعت عليه ، ولا حرص عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامّة ، ولا قوّة لي بمال ، ولا كثرة بعشيرة ، ولا استئثار به دون غيري ، فما لك تضمر عليّ ما لم أستحقه منك ، وتظهر لي الكراهة لما صرت فيه ، وتنظر إليّ بعين الشنآن؟

واستخدم أبو بكر في حديثه الأساليب السياسية ، فأظهر زهده في الخلافة وعدم رغبته فيها ، وانّه لم تتوفّر في شخصيّته المؤهّلات التي ترشّحه لقيادة الامّة ...

١٥

وردّ الإمام عليه بمنطقه الفيّاض قائلا :

« فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ، ولا حرصت عليه ، ولا وثقت بنفسك في القيام به ... »؟

وحفل كلام الإمام بالرأي الأصيل ، فإنّ أبا بكر إذا لم يكن راغبا في الخلافة ولا حريصا عليها فلما ذا تقلّدها؟

أجابه أبو بكر قائلا :

حديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال » ، ولمّا رأيت إجماعهم اتّبعت قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخفت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى ، فأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أنّ أحدا يتخلّف لامتنعت ...

ومعنى كلام أبي بكر أنّ الذي دعاه وحفّزه لأن يتقلّد الخلافة هو حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أجمعت الامّة على انتخابه واختياره ، فلم يجد سبيلا للتخلّف عن إجماعها.

ووجّه الإمام إليه السؤال الثاني قائلا :

« أمّا ما ذكرت من قول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال ، فكنت ـ ويعني نفسه الشريفة ـ من الامّة أم لم أكن؟ ».

فأجاب أبو بكر : بلى.

واندفع الإمام قائلا :

« وكذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان وعمّار وأبي ذرّ والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار ... ».

عرض الإمام إلى الكوكبة من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي امتنعت من بيعة أبي بكر،

١٦

وأنّهم من الامّة ، وقد اعترف أبو بكر بذلك.

ثمّ وجّه الإمام له السؤال الثالث :

« كيف تحتجّ بحديث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك؟ وليس للامّة فيهم طعن ولا في صحبة الرّسول لصحبته منهم تقصير ... »؟

وفنّد الإمام كلام أبي بكر ، وأقام الحجّة على مدّعاه.

وانبرى أبو بكر قائلا :

ما علمت بتخلّفهم إلاّ بعد إبرام الأمر ، وخفت إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين ، وكان ممارستهم إليّ إن أجبتهم أهون مئونة على الدين ، وإبقاء له من ضرب الناس بعضهم ببعض فيرجعون كفارا ، وعلمت أنّك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم ...

والتفت الإمام إلى أبي بكر قائلا :

« أجل ، ولكن اخبرني عن الّذي يستحقّ هذا الأمر ـ يعني الخلافة ـ بما يستحقّه؟ ».

جواب أبي بكر عمّن يستحق الخلافة : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة ، وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعمل بالكتاب والسنّة ، وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدّنيا وقلّة الرغبة فيها ، وانتصاف المظلوم من ظالمه للقريب والبعيد ...

لقد أدلى أبو بكر بالصفات التي يجب أن تتوفّر فيمن يتصدّى للخلافة.

وأضاف الإمام إلى تلك الصفات صفات اخرى يجب أن يتّصف بها القائد العام للامّة قائلا :

« والسّابقة والقرابة ».

١٧

وأراد الإمام من السابقة : السبق للإسلام ، ومن القرابة : القرابة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذان الشرطان متوفّران في الإمام دون غيره ، فهو أوّل من آمن بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّه أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وأقرّه أبو بكر على ذلك.

وأخذ الإمام يدلي على أبي بكر ببعض صفاته التي لم تتوفّر عند غيره قائلا :

« أنشدك بالله يا أبا بكر ، أفي نفسك تجد هذه الخصال؟ ».

أبو بكر : بل فيك يا أبا الحسن.

« فأنشدك بالله ، أنا المجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ذكران المسلمين أم أنت؟ ».

أبو بكر : بل أنت ...

« فأنشدك بالله ، أنا صاحب الأذان لأهل الموسم والجمع الأعظم للامّة بسورة براءة أم أنت؟ ».

عرض الإمام عليه‌السلام إلى تبليغ سورة براءة لأهل مكّة التي عهد بها الرسول إلى أبي بكر ، ثمّ نزل عليه الوحي بعزله ، وإسناد هذه المهمّة إلى الإمام ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بعض بحوث هذه الموسوعة.

أبو بكر : بل أنت.

« فأنشدك بالله ، أنا وقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسي يوم الغار أم أنت؟ ».

حكت هذه الكلمات ما قام به الإمام عليه‌السلام في مبيته على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما أحاطت قريش بدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقتله ، وقد فداه الإمام بنفسه ، وليس لأحد من الاسرة النبوية أو الصحابة مثل هذه الكرامة التي اختصّ بها الإمام.

أبو بكر : بل أنت.

١٨

« فأنشدك بالله ، ألي الولاية من الله مع رسوله في آية الزّكاة بالخاتم أم لك؟ ».

ذكر الإمام عليه‌السلام ما نزل في القرآن في حقّه حينما تصدّق بخاتمه على المسكين في صلاته وهي : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (١).

فقد حصرت الآية الولاية العامّة على المسلمين في الله والرسول والذين آمنوا وهو الإمام ، وعبّرت الآية عنه بصيغة الجمع تعظيما وتكريما له.

أبو بكر : بل لك.

« فأنشدك بالله ، أبي برز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأهلي وولديّ في مباهلة المشركين أم بك؟ ».

وثمّة منقبة اخرى أدلى بها الإمام شاركته فيها سيّدة النساء والسبطان ، وذلك في مباهلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أهالي نجران ، فإنّه لم يصحب معه للمباهلة صنو أبيه عمّه العباس ، ولا المخدّرات من بني هاشم ، ولا السيّدات من نسائه ، وإنمّا اصطحب الإمام وزوجته وابنيه ، وقد ذكرنا تفصيل هذه الحادثة في بعض أجزاء هذه الموسوعة ، واعترف أبو بكر بذلك فقال :

بل فيكم.

« فأنشدك بالله ، ألي الوزارة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمثل من هارون من موسى أم لك؟ ».

عرض الإمام عليه‌السلام لفضيلتين أضفاهما عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهما :

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

١٩

الاولى : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخذه وزيرا له ، وقد صرّح بذلك في عدّة مناسبات ذكرنا مصادرها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

الثانية : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الإمام منه بمنزلة هارون من موسى ، فقد قال له : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ... ».

أبو بكر اعترف بذلك قائلا :

بل لك.

« فأنشدك بالله ، ألي ولأهلي وولدي آية التّطهير من الرّجس أم لك ولأهل بيتك؟ ».

أشار الإمام عليه‌السلام إلى آية التطهير وهي : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) ، فقد نزلت فيه وفي سيّدة النساء وسبطي الرحمة وإمامي الهدى عليهم‌السلام ، وقد ذكرنا في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة المصادر التي دلّت على ذلك.

أبو بكر : بل لك ولأهل بيتك ـ يعني آية التطهير ـ.

« فأنشدك بالله ، أنا صاحب دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهلي وولديّ يوم الكساء : اللهمّ هؤلاء أهلي إليك لا إلى النّار ، أم أنت؟ ».

عرض الإمام عليه‌السلام إلى حديث الكساء الذي ضمّ الإمام وسيّدة نساء العالمين والسبطين الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام ، والحديث يدلّ على عظم منزلة أهل البيت عليهم‌السلام وسموّ مكانتهم عند الله ورسوله.

أبو بكر : بل أنت وأهلك وولدك.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

٢٠