موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٧٧

سورة المائدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة المباركة مدنيّة كلّها إلاّ آية :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فإنّها نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع ما بين مكّة والمدينة ، وعدد آياتها مائة وعشرون آية (١).

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) (١)

روى ابن عباس قال : ما نزلت آية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ وعليّ شريفها وأميرها (٢).

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّه ليس في القرآن ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ وقبالها في التّوراة : يا أيّها المساكين » (٣).

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ١٥٠.

(٢) و (٣) تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٩.

٦١

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٣)

نزلت الآية الكريمة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما نصب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خليفة من بعده على امّته ، وقائدا عاما لمسيرتها ، فبولايته وإمامته قد كمل الدين ، وتمّت رسالة سيّد المرسلين ، وقد

قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الله أكبر على إكمال الدّين ، وإتمام النّعمة ، ورضا الرّبّ برسالتي ، والولاية لعليّ ».

ثمّ قال : « اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ».

وانبرى حسّان بن ثابت فاستأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينشد أبياتا يسجل فيها هذه المناسبة فأذن له النبيّ ، فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأسمع بالنبيّ مناديا

فقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

لقد نزلت هذه الآية بعد قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... ) (١).

وقد تواترت الأخبار في حديث الغدير ، فقد قال أبو المعالي الجويني :

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

٦٢

شاهدت مجلّدا ببغداد في يدي صحّاف فيه روايات عيد الغدير مكتوبا عليه : المجلّد الثامن والعشرون من طرق : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ، ويتلوه المجلّد التاسع والعشرون.

وقد عرض بصورة مفصّلة إلى سند الرواية في حديث الغدير سماحة المحقّق الكبير المغفور الشيخ الأميني في كتابه الخالد « الغدير » ، كما عرض لذلك مير حامد في كتابه : « عبقات الأنوار ».

إنّ حادثة الغدير بما اشتملت عليه من نصب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خليفة على المسلمين إنّما هي جزء من رسالة الإسلام ، فمن أنكرها فقد أنكر الإسلام ، كما يقول المغفور له العلاّمة العلائلي :

وقد بايع الخليفة الثاني الإمام عليه‌السلام ، وقال له : بخّ بخّ أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، وبايعنه امّهات المؤمنين.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٦)

دلّت الآية الكريمة ـ بوضوح ـ على غسل الوجه والأيدي ومسح الرءوس والرّجل للوضوء ، وظاهر المسح والمتبادر منه هو المسح على البشرة ، فلا يجزي

٦٣

المسح على الخفّين في مسح الرّجل ، وقد أخذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بظاهر الآية فلم يجز المسح على الخفّ ، وقد شاع جواز ذلك في عهد عمر ، ويقول الرواة : إنّ الإمام مرّ على رجل توضّأ ومسح على خفّيه فدخل المسجد وصلّى فيه فأمسكه الإمام ، وقال له : « ويلك تصلّي على غير وضوء؟ ». فقال : أمرني عمر بن الخطّاب ، فأخذ بيده وأقبل على عمر وقال له : « انظر ما يروي هذا عنك؟ » ، فقال عمر : نعم أنا أمرته ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح ، فقال الإمام : « مسح قبل المائدة أو بعدها؟ ».

قال : لا أدري. فقال له : « فلم تفتي وأنت لا تدري ، سبق الكتاب الخفّين » (١).

( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (٣٣)

دلّت الآية على العقاب القاسي للمفسدين والذين يسعون في الأرض فسادا ، بان يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، وذلك لحسم مادة الفساد ، ونشر الأمن بين الناس ، وقد كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة قد سعى في الأرض فسادا ، ولكنه تاب ، وكلّم رجالا من قريش أن يأخذوا له أمانا من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فأبى القرشيون من إجابته ، واستجاب له سعيد بن قيس الهمداني ، وكان من خيار أصحاب الإمام عليه‌السلام ، فقصد الإمام ، وقال له :

يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا؟ ...

فأجابه الإمام بالعقاب الصارم لهم قائلا :

__________________

(١) تفسير البرهان ٦ : ٤٥٢ ، وقريب منه في تفسير العيّاشي. الميزان ٦ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٦٤

« ( أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) ».

ثمّ قال : « ( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ... ) » (١).

فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ، وقد جاء تائبا ...؟

قال الإمام : « نعم » ، فأقبل حارثة نحو الإمام فبايعه وأعلن التوبة ، فكتب له الأمان (٢).

( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (٤٢)

سئل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن السّحت في الآية؟ فقال الرشا ، فقيل له في الحكم؟ قال عليه‌السلام : « ذاك الكفر » (٣).

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (٥٤)

قيل : هذه الآية نزلت في الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه حين قاتل من

__________________

(١) المائدة : ٣٤.

(٢) الدرّ المنثور ٢ : ٢٧٩.

(٣) المصدر المتقدّم : ٢٨٤ ، وعرض لذلك الإمام الشيخ مرتضى الأنصاري في المكاسب.

٦٥

قاتله من الناكثين وهم أصحاب الجمل ، والقاسطين وهم أصحاب معاوية ، والمارقين وهم الخوارج ، روى ذلك عمّار وحذيفة وابن عباس ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (١).

وذكر السيّد الطباطبائي في الميزان مؤيّدات لهذا القول.

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٥٥)

هذه الآية المباركة التي قلّدت الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وسام الولاية ، وقرنتها بولاية الله تعالى ورسوله العظيم ، ونقف وقفة قصيرة في البحث عنها.

سبب نزولها :

أمّا سبب نزول الآية فقد رواه الصحابي الجليل أبو ذرّ الغفاري ، قال في حديث له :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلاّ فصمّتا ، ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا ، يقول : « عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ».

أما إنّي صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا ، وكان عليّ راكعا ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللهمّ ، موسى سألك

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢ : ٢٧٩.

٦٦

فقال : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١) ، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : ( قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا ... ) (٢).

اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك ، اللهمّ اشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا ، اشدد به ظهري » ، فما استتمّ كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله تعالى ، فقال :

يا محمّد ، اقرأ.

قال : وما أقرأ؟

قال : اقرأ : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٣).

وروى الإمام أبو جعفر عليه‌السلام أنّ رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام ، وأسد بن ثعلبة ، وابن يامين ، وابن صوريا ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له : يا نبيّ الله ، إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون ، فمن وصيّك يا رسول الله؟ ومن وليّنا بعدك؟

فنزلت هذه الآية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قوموا » ، فقاموا معه إلى المسجد فإذا سائل خارج ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا سائل ، هل أعطاك أحد شيئا؟ ». قال : نعم ، هذا الخاتم.

__________________

(١) طه : ٢٥ ـ ٣٢.

(٢) القصص : ٣٥.

(٣) الميزان ٦ : ٢٠.

٦٧

قال : « من أعطاكه؟ ». قال : أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلّي.

قال : « على أيّ حال أعطاك؟ ». قال : كان راكعا ، فكبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبّر أهل المسجد.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ وليّكم بعدي ».

قالوا : رضينا بالله ربّا ، وبمحمّد نبيّا ، وبعليّ بن أبي طالب وليّا ، فأنزل الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (١).

وروى عمّار بن ياسر قال :

وقف سائل لعليّ بن أبي طالب وهو راكع في صلاة تطوّع ، فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) ، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علينا ، ثمّ قال :

« من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ ووال من والاه ، وعاد من عاداه » (٢).

وانبرى حسّان بن ثابت فنظم هذه المنقبة والكرامة للإمام قائلا :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكلّ بطيء في الهدى ومسارع

أ يذهب مدحي والمحبّين ضائعا

وما المدح في ذات الإله بضائع

فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكع

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيّد

ويا خير شار ثمّ يا خير بائع

فأنزل فيك الله خير ولاية

وبيّنها في محكمات الشّرائع (٣)

__________________

(١) البرهان ٨ : ٤٨٠. غاية المرام : ١٠٣. تفسير القمّي ١ : ١٧٠.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ٣٢٧.

(٣) الميزان ٦ : ٢٣.

٦٨

دلالة الآية :

أمّا دلالة الآية الكريمة فهي صريحة وواضحة بإثبات الولاية المطلقة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على جميع العباد ، كولاية الله تعالى وولاية رسوله ، وقد أكّد القرآن الكريم هذه الولاية بأداة الحصر وهي « إنّما » واسمية الجملة ، وقد عبّرت الآية عن الإمام عليه‌السلام بصيغة الجمع ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) إلى آخر الآية ، ولم تعبّر عنه بصيغة المفرد تعظيما وتكريما وتبجيلا لهذا العملاق العظيم الذي قام الإسلام بجهوده وجهاده.

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ) (٦٦)

روى أبو الصهباء الكبرى قال : سمعت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال : « إنّي سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما ».

ثمّ دعا أسقف النصارى ، فقال :

« انشدك بالله الّذي أنزل الإنجيل على عيسى ، وجعل على رجله البركة ، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ، وأزال ألم العين ، وأحيى الميّت ، وصنع لكم من الطّين طيورا ، وأنبأكم بما تأكلون ، وما تدّخرون ».

فقال : دون هذا أصدق ...

فقال الإمام : « بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى؟ ».

فقال : لا والله ، ولا فرقة واحدة.

٦٩

فقال الإمام : « كذبت والله الّذي لا إله إلاّ هو لقد افترقت اثنتين وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ فرقة واحدة ، إنّ الله يقول : ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ) فهذه الّتي تنجو » (١).

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (٦٧)

نزلت الآية الكريمة على الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ أمر بالغ الأهمية كان مشفوعا بالإنذار والوعيد إذا لم يقم بإذاعته بين المسلمين ، وقد وعده تعالى بالعصمة من الناس ، والنجاة ممّا يخاف منه ما هو هذا الأمر الذي اهتمّت به السماء؟

ما هو هذا الأمر البالغ الخطورة؟

إنّه إقامة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام علما لهذه الامّة وقائدا لمسيرتها ، وخليفة عليها بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الفردوس الأعلى.

لقد تواترت الأخبار ، وبلغت درجة اليقين والقطع بيوم الغدير الذي هو جزء من رسالة الإسلام ، فقد رواه من الصحابة مائة وعشرة صحابيّين ، وثمانون من التابعين وقد ذكر المحقّق الأميني أسماءهم (٢) ، أمّا تفصيل الحادثة فقد ذكرها الرواة بالإجماع ، وهي : أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قضى مناسكه وقفل راجعا إلى المدينة ، فلمّا انتهى إلى غدير خم ، وذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة نزل عليه جبرئيل بهذه الآية : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ، فأمر رسول الله أن يقام

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٣٣١.

(٢) الغدير ١ : ١٤ ـ ٦١.

٧٠

له منبر فاقيم له من حدائج الإبل ، فصعد عليه ورفع عقيرته قائلا بعد حمد الله والثناء عليه :

« أيّها النّاس ، قد نبّأني اللّطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ مثل نصف عمر الّذي قبله ، وإنّي اوشك أن ادعى فأجيب ، وإنّي مسئول ، وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ ».

فانبروا جميعا بصوت واحد : نشهد أنّك قد بلّغت ، ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا ، واستمر النبيّ في خطابه قائلا :

« ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور ... ».

فهتفوا جميعا : بلى نشهد بذلك ...

ورفع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إلى السماء قائلا :

« اللهمّ اشهد ... ».

ووجّه النبي إليهم خطابه قائلا :

« أيّها النّاس ألا تسمعون؟ ».

نعم.

وأنبرى الرسول ليقيم عليهم الحجّة ، ويدلي بما أمره الله به قائلا :

« إنّي فرط على الحوض ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى (١) ، فيه أقداح عدد النّجوم من فضّة ، فانظروا كيف تخلّفوني في الثّقلين؟ ... ».

__________________

(١) صنعاء : عاصمة اليمن. بصرى : قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.

٧١

فناداه مناد : ما الثقلان؟

« الثّقل الأكبر كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ ، وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ... ».

ثمّ أخذ بيد الإمام أمير المؤمنين باب مدينة علمه ، ورفعه فبان بياض إبطيهما ، وقال :

« أيّها النّاس ، من أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟ ... ».

فأجابوه جميعا :

الله ورسوله أعلم ...

فرفع صوته عاليا :

« إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ». قال ذلك ثلاث أو أربع مرّات.

ثمّ ختم كلامه بالقول :

« اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب ... ».

وبذلك أقام النبي وصيّه خليفة من بعده ، وقلّده وسام الخلافة الإسلامية ، ونصبه علما ورائد خير لامّته ، وقد بايعه جميع من حضر الاحتفال بالإمرة والإمارة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا مجمل القول في بيعة الإمام في يوم الغدير (١).

__________________

(١) الغدير ١ : ٨ ـ ١٠.

٧٢

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٨٧)

نزلت هذه الآية الكريمة في الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبلال الحبشي ، وعثمان بن مظعون ، فأمّا أمير المؤمنين فقد حلف أن لا ينام اللّيل أبدا ـ وذلك ليصلّي فيه لله تعالى ـ ، وأمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنّهار أبدا ـ وذلك بأن يصوم طيلة حياته ـ ، وأمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا.

فدخلت امرأة عثمان على عائشة ، وكانت امرأة جميلة ، فقالت لها عائشة :

مالي أراك متعطلة؟ فقالت : ولمن أتزيّن ، فو الله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا فإنّه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا.

وأخبرت عائشة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأمر ، فأمر أن ينادي الصلاة جامعة ، فاجتمع النّاس ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :

« ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطّيّبات؟ ألا إنّي أنام باللّيل ، وأنكح وأفطر بالنّهار ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ... ».

فقام الجماعة ، وقالوا : يا رسول الله ، قد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه : ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) (١). (٢)

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٥.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٨٦. الميزان ٦ : ١١٢.

٧٣

صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) (٩٥)

سأل رجل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الهدي ممّا هو؟ قال الإمام :

« من الثمانية الأزواج » ، فكأنّ الرجل شكّ ، فقال له الإمام :

« أتقرأ القرآن؟ ».

قال الرجل : نعم.

قال الإمام : « أفسمعت الله يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ... ) » (١).

قال الرّجل : نعم.

قال الإمام : « وسمعته يقول : ( ... لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ... ) » (٢).

قال الرجل : نعم.

قال الإمام : « أفسمعته يقول : ( ... مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) ... * ... ( وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ... ) » (٣).

قال الرجل : نعم.

قال الإمام : « أفسمعته يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ... ) ».

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) الحجّ : ٣٤.

(٣) الأنعام : ١٤٣ و ١٤٤.

٧٤

قال الرجل : نعم.

فقال الإمام : « إن قتلت ظبيا فما عليّ؟ ».

قال الرجل : شاة.

قال الإمام : « ( هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) ».

قال الرجل : نعم.

فقال الإمام : « قد سمّاه الله ( هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) كما تسمع » (١).

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (١٠١)

نهى الله تعالى عن سؤال بعض الامور التي إن بدت وظهرت تسوء السائل ، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

« إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّد لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها ... » (٢).

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١٠٥)

أمرت الآية المؤمنين أن يهذّبوا نفوسهم ، ولا يضرهم ويوحشهم من ضلّ عن

__________________

(١) الدرّ المنثور ٣ : ١٩٣. الميزان ٦ : ١٤٦.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٨٧. تفسير الصافي ٧ : ٩٢.

٧٥

طريق الله تعالى ، وقد اثرت عن إمام المتّقين عليه‌السلام كوكبة من الكلمات الحكمية تدعو إلى تهذيب النفس وتزكيتها ومعرفتها كان منها ما يلي :

١ ـ قال عليه‌السلام « أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه ».

٢ ـ قال عليه‌السلام « أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه ».

٣ ـ قال عليه‌السلام « أكثر النّاس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه ».

٤ ـ قال عليه‌السلام « عجبت لمن ينشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها ».

٥ ـ قال عليه‌السلام « عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه؟ ».

٦ ـ قال عليه‌السلام « غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه ».

٧ ـ قال عليه‌السلام « كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه ، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه ».

٨ ـ قال عليه‌السلام « من عرف نفسه تجرّد » : أي تجرد عن شهوات الدنيا.

٩ ـ قال عليه‌السلام « من عرف نفسه جاهدها ، ومن جهل نفسه أهملها ».

١٠ ـ قال عليه‌السلام « من عرف نفسه جلّ أمره ».

١١ ـ قال عليه‌السلام « من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعلم ».

١٢ ـ قال عليه‌السلام « من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النّجاة وخبط في الضّلال والجهالات ».

١٣ ـ قال عليه‌السلام « معرفة النّفس أنفع المعارف ».

١٤ ـ قال عليه‌السلام « لا تجهل نفسك فإنّ الجاهل معرفة نفسه جاهل بكلّ شيء » (١).

وكثير من أمثال هذه الكلمات الذهبية اثرت عن عملاق الفكر الإسلامي أمير

__________________

(١) الغرر والدرر ـ الآمدي. الميزان ٦ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٧٦

المؤمنين عليه‌السلام وهي تحثّ المسلمين على معرفة نفوسهم وما فيها من الأجهزة العجيبة التي يحار الفكر فيها ، وممّا لا شبهة فيه أنّ معرفة الإنسان لنفسه توجب معرفته بربه تعالى خالق الكون وواهب الحياة.

٧٧

سورة الأنعام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة مكّية عدا ست آيات ،

وعدد آياتها مائة وخمس وستون آية

( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (١١٠)

دلّت الآية الكريمة أنّ الكافرين لا يؤمنون بالله وما أنزل على رسوله قبل نزول الآيات وبعدها على حدّ سواء ، ويرشد لهذا ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ ما تقبلون عليه من الجهاد ، الجهاد بأيديكم ، ثمّ الجهاد بقلوبكم ، فمن لم يعرف قلبه معروفا ، ولم ينكر منكرا ، نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه ، فلا يقبل خيرا أبدا » (١).

__________________

(١) تفسير القمّي ١ : ٢١٣.

٧٨

سورة الأعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة المباركة مكيّة ، وعدد آياتها مائتان وست آيات

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ) (٨) و (٩)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« من كان ظاهره أرجح من باطنه خفّف ميزانه يوم القيامة ، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة » (١).

وروي أنّ الإمام عليه‌السلام قال في تفسيره بما مضمونه :

« ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) و ( خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) إنّما يعني أنّ الحسنات توزن ، وهي توجب ثقل الميزان ، والسيّئات توجب خفّة في الميزان » (٢).

__________________

(١) الميزان ٨ : ١٥.

(٢) التّوحيد : ٢٦٨.

٧٩

( وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) (٤٦)

روى الأصبغ بن نباتة قال : كنت عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له رجل :

( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ).

فقال له الإمام :

« نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الّذين لا يعرف الله إلاّ بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف نقف يوم القيامة بين الجنّة والنّار فلا يدخل الجنّة إلاّ من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النّار إلاّ من أنكرنا وأنكرناه ، وذلك قول الله عزّ وجلّ » ، وتلا الآية الكريمة (١).

وروى الأصبغ بن نباتة قال : كنت جالسا عند عليّ عليه‌السلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله عن هذه الآية ، فقال :

« ويحك يا ابن الكواء ، نحن نقف يوم القيامة بين الجنّة والنّار ، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النّار » (٢).

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (٥٤)

__________________

(١) الميزان ٨ : ١٤٥.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٦٥٣.

٨٠