موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٧٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ )

آل عمران : ٧

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ )

هود : ١

( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً )

الكهف : ٥٤

٣
٤

تقديم

( ١ )

القرآن الكريم كنز من كنوز الله ، وذخر من ذخائر الإسلام ، وهبة من الله لعباده ، أرسله إلى عبده ورسوله خاتم النبيّين ليكون معجزة له ودليل صدق على رسالته ، يقيم الأود ، ويصلح ما اعوجّ من نظام الدنيا ، وينير الطريق ، ويوضح القصد ، ويسير بالإنسان في أرحب الطرق وأضمنها أمنا وسلاما.

القرآن الكريم رسالة الله الخالدة ، وجنّته الواقية ، بعث بها أفضل عباده ، وأكملهم فكرا ، وأصدقهم إيمانا ، وأرحمهم قلبا.

قال تعالى : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (١).

وصدع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتاب الله تعالى يشيع آياته ، ويذيع بياناته ، ويتلو أحكامه على الناس على اختلاف قومياتهم ، وتباين لغاتهم ، واختلاف أمصارهم.

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

٥

( ٢ )

وأوجد القرآن الكريم بما يحمل من طاقات علمية وفكرية انقلابا هائلا في ذلك المجتمع الغارق في مآثم هذه الحياة ، فقد دمّر جميع عاداتهم وتقاليدهم ، وصنع لهم منهجا متكاملا لجميع شئون الحياة اجتماعية وسياسية واقتصادية ، وأقام معالم العدالة الاجتماعية التي لا تدع ظلاّ للظلم والبغي والاعتداء على حرمات الناس.

إنّ تعاليم القرآن وأحكامه وآدابه جاءت لتسمو بالإنسان ، وترفع كيانه ، وتجعله خليفة لله في أرضه ، فما أعظم عائدته على جميع البشر! وما أجلّ نعمه وأياديه عليهم!

( ٣ )

وحفل القرآن الكريم بالمحكم والمتشابه ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، فتأويله والوقوف على حقيقته النازلة من ربّ العالمين لا يحيط به إلاّ الراسخون في العلم ، وهم مصابيح الإسلام ، وهداة الأنام ، والمرتقى العالي في الإسلام ، عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين عاشوا مع القرآن ، ووقفوا على دقائقه وأسراره وقيمه وآدابه ، فلا بدّ من الرجوع الى ما اثر عنهم في تفسير القرآن الكريم ، وليس الرجوع إليهم نافلة أو تطوعا وإنّما هو الحقّ الذي لا بديل له.

( ٤ )

والشيء المؤكد الذي لا ريب فيه أنّ سيّد العترة النبوية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

٦

هو أوّل من عرف القرآن ووقف على محتوياته ، ومنه أخذ تلميذه عبد الله بن عباس الذي هو ألمع مفسّر للقرآن ، وقد كانت نسبة علومه ومعارفه في القرآن بالنسبة إلى علوم الإمام عليه‌السلام كنسبة قطرة من المطر الى ماء البحر.

واستمدّ هذا الإمام الملهم العظيم تفسيره للقرآن من أخيه وابن عمّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أحاطه علما بتفسير كلّ آية نزلت عليه ، كما أعلن الإمام ذلك بقوله :

« فلم ينزل الله على نبيّه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها ، وليست منه آية إلاّ وقد قرأنيها وعلّمني تأويلها » (١).

وقال عليه‌السلام :

« ما نزلت في القرآن آية إلاّ وقد علمت أين نزلت ، وفيمن نزلت ، وفي أيّ شيء نزلت ، وفي سهل نزلت ، أو في جبل نزلت » (٢).

وبهذا كان الإمام عليه‌السلام أوّل من أحاط بالقرآن علما ، ووقف على مضامينه ومحتوياته.

( ٥ )

كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في أيام حكومة الخلفاء قد انصرف إلى تفسير القرآن الكريم ، وبيان مفرداته ، وما يتعلّق بآياته من شئون الكون ، وامور التوحيد ، وعجائب المخلوقات ، وغير ذلك مما يرتبط بتفسير القرآن.

وكان هذا التفسير موضع اعتزاز الأئمّة الطاهرين ، فكانوا يفخرون به ، وحمل

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٤٠.

(٢) أمالي الصدوق : ١٦٦.

٧

بعض الحاقدين على الشيعة أنّ عندهم مصحف الإمام وهو غير هذا المصحف ، واتّخذ ذلك وسيلة للطعن عليهم ، وهذا من قلّة التدبّر ، فإنّ الشيعة يؤمنون إيمانا لا يخامره شكّ أنّه ليس هناك مصحف آخر غير هذا المصحف ، وهو الذي نزل من ربّ العالمين على خاتم المرسلين.

أمّا مصحف الإمام فهو حافل بتفسيره وأسباب نزوله وغير ذلك ممّا ذكرناه.

( ٦ )

من المؤكد أنّه لو ثنيت الوسادة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسلّم قيادة الحكم لتطوّرت الحياة الإسلاميّة ، وسادت القيم الأصيلة والمثل العليا في الأرض ، فقد كان هذا الإمام الملهم العظيم يملك طاقات هائلة من العلم لا يملكها غيره ، فهو باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا حدود لمعارفه وعلومه.

وقد أعلن الإمام عليه‌السلام أنّه لو تسلّم القيادة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأفتى جميع الملل والأديان بما في كتبهم.

قال عليه‌السلام :

« أما والله! لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم حتّى تنطق التّوراة فتقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ. وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق الإنجيل فيقول : صدق عليّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ. وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول : صدق عليّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ. وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا ، فهل فيكم أحد يعلم بما انزل فيه؟ ولو لا آية في كتاب الله عزّ وجلّ لأخبرتكم بما كان ، وبما

٨

هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) » (١).

ودلّ حديث الإمام عليه‌السلام على مدى ثرواته العلميّة التي شملت جميع ما يقع في الدنيا من أحداث فيما هو كائن وما يكون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

( ٧ )

من المؤسف حقّا أنّ الامّة لم تستغلّ هذا العملاق العظيم ، ولم تحتضنه ليفيض عليها بعلومه ومعارفه وثقافته ، ويعرّفهم بما في كتاب الله العظيم من أسرار مذهلة ، فقد باعدوا بينه وبين الحياة السياسية العامة في البلاد ، وأعلنت بعض الشخصيات البارزة من قريش أنّه لا تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد ، وهو منطق مهزول باعثه الحسد للإمام ، والحقد على الاسرة النبوية ، فقد آلت الخلافة إلى بني أميّة وبني العباس ، وهم لا رصيد لهم من علم وتقوى وفكر ، وقد واجه المسلمون في عهودهم ألوانا مريرة من الاضطهاد والتنكيل.

( ٨ )

ونعود للحديث عن تفسير الإمام عليه‌السلام للقرآن الكريم ، فإنّا لم نعثر على تفسير كامل له لجميع آيات الكتاب العزيز ، وإنّما ذكر السادة المفسّرون لقطات من آرائه في تفسير بعض الآيات ، ونحن ننقلها عنهم للتدليل على مدى سعة علوم الإمام عليه‌السلام واحاطته

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٧٨ ، والآية ٣٩ من سورة الرعد.

٩

الكاملة بكتاب الله العظيم ، وهو جزء من حياته العلمية التي نلقي الأضواء على بعض معالمها.

( ٩ )

وقبل أن أطوي الصفحات الأخيرة من هذا التقديم أودّ أن أعرض إلى أنّ هذا الكتاب جزء من موسوعة عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام التي تناولت البحث عن شئون حياته ، ولا أدّعي ـ بصورة جازمة ـ أنّي ألممت أو أحطت بجميع شئون حياته فذلك أمر بعيد المنال وأستغفر الله تعالى من أن أدّعي ذلك ، فإنّ هذا الكتاب على ما فيه من سعة وشمول ، وما بذل في تأليفه من جهد شاق وعسير ، فإنّه إنّما يلقي الأضواء على بعض معالم حياة هذا الإمام الملهم العظيم الذي شغل أفكار العلماء بمواهبه وعبقرياته ، وتبنّيه بصورة إيجابية للعدل الخالص والحقّ المحض.

لقد ألّف العلماء من قدامى ومحدثين عشرات الكتب إن لم تكن مئات الكتب في فضائل الإمام ومناقبه ومآثره ، ومنها هذه الموسوعة ، وهي جميعا إنّما تحكي صفحة من حياته المشرقة بالكرامة والشرف والنبل ونكران الذات.

وفي الختام إنّي أتضرّع إلى الله تعالى أن يتقبّل هذا الجهد ، وأن يثيبني عليه يوم ألقاه ، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

النّجف الأشرف

باقر شريف القريشي ١٠

/ جمادى الثانية / ١٤١٩ هـ

١٠

انحناء وتقديس

امام القرآن الكريم

١١
١٢

وانحنى الإمام إجلالا وخضوعا أمام القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد أضفى عليه أجمل الأوصاف ، وأسمى النعوت.

لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في طليعة من قيّم القرآن ، وأشاد بفضله ، وعظيم منزلته ، وهذه كوكبة من الأخبار التي أدلى بها عن أهمية القرآن المجيد :

وصف القرآن :

ووصف الإمام عليه‌السلام القرآن الكريم بهذه الصفات الرفيعة ، قال عليه‌السلام :

« ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، ظاهره حكم ، وباطنه علم » (١).

حكت هذه الكلمات ما حفل به ظاهر القرآن وباطنه ، فظاهره حكم وآداب ، وباطنه علم وفضل وخير وهدى للناس.

القرآن نور :

خطب الإمام عليه‌السلام خطابا مهمّا تحدّث فيه عن نعمة الإسلام على النّاس ورحمته عليهم ، ثمّ تعرّض للقرآن الكريم ، فوصفه بالنور ، والسراج المنير.

قال عليه‌السلام : « ثمّ أنزل عليه ـ أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ،

__________________

(١) البصائر والذخائر : ٧ ، وفي ربيع الأبرار زيادة على ذلك : « ولا تنقضي غرائبه ».

١٣

وسراجا لا يخبو توقّده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضلّ نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوؤه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعزّا لا تهزم أنصاره ، وحقّا لا تخذل أعوانه.

فهو معدن الإيمان وبحبوحته (١) ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافيّ الإسلام وبنيانه ، وأودية الحقّ وغيطانه (٢) ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمى عنها السّائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون.

جعله الله ريّا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصّلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزّا لمن تولاّه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به ، وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم ، وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى » (٣).

أرأيتم كيف قيّم الإمام القرآن وثمّنه بهذه الكلمات الذهبيّة ، التي حفلت بما في القرآن من ذخائر العلم ، ومناجم الفكر ، وهي تنمّ عن إحاطة الإمام ووعيه لجميع

__________________

(١) البحبوحة : وسط المكان.

(٢) الغيطان : جمع غاط ، وهو المطمئن من الأرض.

(٣) نهج البلاغة ٢ : ١٧٧ ـ ١٧٨.

١٤

ما في القرآن من دقائق وأسرار؟

القرآن ناطق :

من كلمات الإمام الرائعة في وصف القرآن الكريم قوله :

« وكتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعزّ لا تهزم أعوانه » (١).

ما أجمل هذا الوصف! وما أروع هذا البيان! فقد حكى بما في القرآن الكريم من عظيم الصفات.

القرآن يتحدّث عن أنباء الماضي والمستقبل :

من أحاديث الإمام عليه‌السلام عن القرآن الكريم أنّه تحدّث عن أنباء الامم الماضية ، والامم التي ستأتي قال عليه‌السلام :

« القرآن فيه خبر من قبلكم ، ونبأ من بعدكم ، وحكم فيما بينكم ».

لقد قصّ القرآن الكريم أحوال الامم السابقة ، وما جرى على بعضها من الدمار والهلاك ، وذلك بسبب انحرافها عن الحقّ ، ومعاداتها لرسل الله.

القرآن حبل الله :

أوصى الإمام عليه‌السلام أصحابه بالتمسّك بالقرآن ، ووعي آياته لأنّه حبل الله المتين ، قال عليه‌السلام :

« عليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين ، والنّور المبين ، والشّفاء النّافع ، والرّيّ النّاقع ، والعصمة للمتمسّك ، والنّجاة للمتعلّق. لا يعوجّ فيقام ،

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٦. بحار الأنوار ٩٢ : ٣٣.

١٥

ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تخلقه كثرة الرّدّ وولوج السّمع ، من قال به صدق ، ومن عمل به سبق » (١).

إنّ كتاب الله العظيم حافل بكلّ مقومات الحياة ، فهو النور الذي يهدي الضّال ، وهو العصمة لمن تمسّك به ، والنجاة لمن التجأ إليه ، فما أعظم عائدته على الإنسان!

القرآن ناصح :

تحدّث الإمام عليه‌السلام عن فضل القرآن ومدى أهمّيته ،قال عليه‌السلام : « واعلموا أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذي لا يغشّ ، والهادي الّذي لا يضلّ ، والمحدّث الّذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى.

واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة (٢) ، ولا لأحد قبل القرآن من غنى ؛ فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على لأوائكم (٣) ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء : وهو ـ أي الداء ـ الكفر والنّفاق ، والغيّ والضّلال ، فاسألوا الله به ، وتوجّهوا إليه بحبّه ، ولا تسألوا به خلقه ، إنّه ما توجّه العباد إلى الله تعالى بمثله.

واعلموا أنّه شافع مشفّع ، وقائل مصدّق ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه ، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدّق عليه ، فإنّه

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٢٣.

(٢) الفاقة : الفقر والحاجة.

(٣) اللأواء : الشدّة.

١٦

ينادي مناد يوم القيامة : « ألا إنّ كلّ حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله ، غير حرثة القرآن ». فكونوا من حرثته وأتباعه ، واستدلّوه على ربّكم ، واستنصحوه على أنفسكم ، واتّهموا عليه آراءكم ، واستغشّوا فيه أهواءكم » (١).

وصف الإمام عليه‌السلام القرآن الكريم بأجمل الصفات وأبدع النعوت ، فقد وصفه بالناصح المشفق الذي يهدي الناس للتي هي أقوم ، كما وصفه بالمحدث الذي لا يكذب ، وإنّما يتلو الحقّ ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وهو الدواء الذي يعالج جميع أمراض الإنسان ويحسم مشاكله ، وهو الشافع يوم القيامة لمن قرأه بإمعان وسار على هديه. هذه بعض الصفات التي أضفاها الإمام على القرآن.

القرآن هدى ونور :

أوصى الإمام عليه‌السلام أصحابه برعاية القرآن والتمسّك به فإنّه نور وهدى ،قال عليه‌السلام : « اعلموا أنّ القرآن هدى النّهار ، ونور اللّيل المظلم على ما كان من جهد وفاقة ... » (٢).

القرآن هدى للناس ، يرشد الضالّ ، وينير الطريق ، ويوضح القصد ، ويهدي الحائر.

الحثّ على تعلّم القرآن :

حثّ الإمام عليه‌السلام أصحابه على تعلّم القرآن الكريم ، قال عليه‌السلام :

__________________

(١) ربيع الأبرار ٢ : ٨٢ ـ ٨٣. نهج البلاغة ٢ : ٩٢.

(٢) اصول الكافي ٢ : ٦٠٠.

١٧

« تعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصّدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص » (١).

وحفلت هذه الكلمات بآيات الثناء على كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

حفظ القرآن :

ندب الإمام أصحابه إلى حفظ القرآن ، وممن حثّه الإمام على ذلك الفرزدق الشاعر المعروف ، فقد وفد مع أبيه على الإمام عليه‌السلام فقال الإمام لأبي الفرزدق :

ـ « من أنت؟ ».

ـ غالب بن صعصعة المجاشعي.

ـ « أنت ذو الإبل الكثيرة؟ ».

ـ نعم.

ـ « ما فعلت إبلك؟ ».

ـ أذهبتها النوائب ، وذعذعتها الحقوق.

ـ ذاك ـ أي اذهاب الحقوق لها ـ خير سبيلها ».

ثمّ التفت الإمام إلى غالب فقال له :

ـ « من هذا الفتى الّذي معك؟ » ـ وأشار إلى الفرزدق.

ـ ابني وهو شاعر.

فأرشده الإمام إلى تعلّم ما هو خير من الشعر قائلا :

« علّمه القرآن فهو خير له من الشّعر ».

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢١٤.

١٨

واستجاب الفرزدق لنصيحة الإمام ، فعكف على حفظ القرآن ، وقد قيّد نفسه سنة حتى حفظه ، وفي ذلك يقول :

وما صبّ رجلي في حديد مجاشع

مع القدر إلاّ حاجة لي اريدها (١)

لقد كانت الحاجة التي يريدها الفرزدق هي حفظ القرآن الكريم والوقوف على معانيه.

دعاؤه عند ختم القرآن :

كان الإمام عليه‌السلام يدعو بهذا الدعاء عند ختمه للقرآن الكريم :

« اللهمّ إنّي أسألك إخبات المخبتين ، وإخلاص الموقنين ، ومرافقة الأبرار ، واستحقاق حقائق الإيمان ، والغنيمة من كلّ برّ ، والسّلامة من كلّ إثم ، ووجوب رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والفوز بالجنّة ، والنّجاة من النّار » (٢).

وأثر عنه دعاء آخر كان يدعو به عند ختمه للقرآن ، وهو :

« اللهمّ اشرح بالقرآن صدري ، واستعمل بالقرآن بدني ، ونوّر بالقرآن بصري ، وأطلق بالقرآن لساني ، وأعنّي عليه ما أبقيتني ، فإنّه لا حول ولا قوّة إلاّ بك » (٣).

القرآن ربيع القلوب :

أدلى الإمام عليه‌السلام في بعض خطبه عمّا في القرآن الكريم من الفوائد التي

__________________

(١) نور القبس المختصر من المقتبس ـ المرزباني : ٢٦٨.

(٢) الصحيفة العلوية الثانية : ٢٠٢.

(٣) الصحيفة العلوية الاولى : ٢٨٧.

١٩

لا يستغني عنها أحد ، والتي منها أنّه ربيع القلوب ، قال عليه‌السلام :

« فإنّ الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين ، وسببه الأمين ، وفيه ربيع القلب ، وينابيع العلم ، وما للقلب جلاء غيره » (١).

وكثير من أمثال هذه الأحاديث أدلى بها الإمام عليه‌السلام في فضل القرآن الكريم والاشادة به ، وهي تحكي بصورة واضحة عن وعيه الكامل لكتاب الله العزيز ، وتدبّره التامّ لجميع ما فيه من حقول العلم والمعرفة ، ولا شبهة أنّه ليس هناك أحد من الصحابة قد وقف على القرآن الكريم وفهم حقيقته غير الإمام عليه‌السلام الذي هو باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٠ : ٣١.

٢٠