جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

أسباب ونتائج

يحسُن أيضاً بطالب البلاغة أن يعرف شيئاً عن الأسلوب الذي هو المعنى المَصُوغُ في الفاظ مؤلَّفة على صورة تكون أقربَ لنيل الغرض المقصود من الكلام ، وأفعلَ في نفوس سامعيه.

وأنواع الأساليب ثلاثة :

(١) وأنواع الأساليب العلمي :

وهو أهدَأُ الأساليب ، وأكثرها احتياجاً إلى المنطق السَّليم ، والفكر المُستقيم ، وأبعدُها على الخيال الشَّعري ، لأنه يخاطب العقل ، ويُناجي الفكر ، ويَشرَحُ الحقائق العلمية التي ، لا تخلو من غموض وخفاء ، وأظهَرُ ميزات هذا الأسلوب «الوُضُوح» ، ولا بدَّ أن يبدوَ فيه أثر القوة والجمال ، وقوَّته في سطوع بيانه ، ورصانةِ حُججه؛ وجَماَله في سُهُولةِ عباراتهن وسلامة الذّوق في اختيار كلماته ، وحسن تقريره المعنى في الأفهام ، من أقرب وجوه الكلام.

فيجب أن يُعنَى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك ، وأن تُؤَلَّف هذه الألفاظ في سُهولة وجلاء ، حتى تكون ثَوباً شفَّافاً للمعنى المقصود ، وحتى لا تصبح مَثاراً للظّنون ، ومجالا للتوجيه والتأويل.

ويحسًن التَّنحي عن المجاز ، ومُحَسنِّنات البديع في هذا الأسلوب ، إلاّ ما يجيء من ذلك عفواً ، من غير أن يمس أصلا من أصوله ، أو ميزة من ميزاته.

أمّا التَّشبيه الذي يُقصد به تقريب الحقائق إلى الأفهام ، وتوضيحها بذكر مماثلها ، فهو في هذا الاسلوب حسن مقبول.

(٢) الأسلوب الأدبي :

والجمال أبرزُ صفاته ، وأظهر مُمَيزاته ، ومنشَأ جماله ، لما فيه من خيال رائع ، وتصوير دقيق ، وتلَمُّس لوجوه الشّبه البعيدة بين الاشياء ، وإلباس المعنوي ثوبَ المحسوس ، وإظهار المحسوس في صورة المعنويِّ.

٤١

هَذَا ومن السهَّل عليك : أن تَعرِف أنَّ الشعر والنثر الفَنِّي هما مَوطِنا هذا الأسلوب ، ففيهما يَزدهر ، وفيهما يبلغ قنَّة الفنّ والجمال.

(٣) الأسلوب الخطابي :

هنا تبرُزُ قوَّة المعاني والألفاظ ، وقوة الحجّة والبرهان ، وقوة العقل الخصيب ، وهنا يتحدِّث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم ، واستنهاض هممهم ، ولجمال هذا الاسلوب ووضوحه ، شأنٌ كبير في تأثيره ، ووصوله إلى قرارة النفوس ، ومَّما يزيد في تأثير هذا الأسلوب ، منزلة الخطيب في نفوس سامعيه ، وقوةُ عارضته ، وسطوعُ حُجِّته ، ونبَراتُ صوته ، وحسنُ إلقائه ، ومُحكَمُ إشاراته. ومن أظهر مُميزات هذا الأسلوب إ التَّكرارُ واستعمال المُترادفات وضربُ الأمثال ، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرَّنين.

وَيحسن فيه أن تتعاقب ضروب التَّعبير ، من إخبار ، إلى استفهام ، إلى تعجب ، إلى استنكار ، وأن تكون مواطن الوقف كافية شافية ، ثم واضحاً قَويَّا ويظنّ النّاشئون في صناعة الأدب : أنه كلّما كثُر المجاز ، وكثُرت التَّشبيهات ، والأخيلة ، في هذا الأسلوب ـ زاد حُسنه.

وهذا خطأ بيِّن ، فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التَّكلُّف ، ولا يفسده شَرٌ من تَعمَُّدِ الصنّاعة.

٤٢

علم المعاني

إنَّ الكلام البليغ : هو الذي يُصورِّه المتكلِّم بصورة تناسب أحوال المخاطبين ، وإذاً لابُدّ لطالب البلاغة أن يدرس هذه الأحوال ، ويَعرف ما يجب أن يُصَوَّر به كلامه في كل حالة ، فيجعل لكل مقام مقَالا.

وقد اتفق رجال البيان على تسمية العلم الذي تُعرف به أحوال اللّفظ العربي التي بها يُطابقُ اقتضاء الحال : باسم علم المعاني (١).

__________________

(١) قال بعض العلماء : المعاني المتصورة في عقول الناس المتصلة بخواطرهم خفية بعيدة ، لا يعرف الانسان ضمير صاحبه ، ولا حاجة أخيه ، ولا مراد شريكه ، ولا المعاون له على أمره ، الا بالتعابير التي تقر بها من الفهم ، وتجعل الخفي منها ظاهراً والبعيد قريباً ، فهي تخلص الملتبس ، وتحل المنعقد ، وتجعل المهمل مقيداً ، والمقيد مطلقا والمجهول معروفا ، والوحشي مألوفا ، وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الاشارة يكون ظهور المعنى ، والعاقل يكسو المعاني في قلبه ، ثم يبديها بألفاظ عرائس في أحسن زينة ، فينال المجد والفخار ، ويلحظ بعين العظمة والاعتبار ، والجاهل يستعجل في اظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها ، واستكمال محاسنها ، فيكون بالذم موصوفا ، وبالنقص معروفاً ويسقط من أعين السامعين ، ولا يدرج في سلك العارفين.

واعلم أن الأصل في اللفظ أن يحمل على ظاهر معناه ، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كما جاء في القرآن ، «وثيابك فطهر» فان الظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس ، وهذا لابد له من دليل ، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ.

واعلم أيضاً أنه يجب صناعة على معاني المعاني أن يرجح المعاني بحيث يرجح بين حقيقة ومجاز أو بين حقيقتين ، أو مجازين.

٤٣

تعريف علم المعاني ، وموضوع ، وواضعه

(١) علم المعاني أصولٌ وقوَاعِد يُعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مُطابقاً لِمقتضى الحال (١). بحيث يكون وفق الغَرَضِ الذيِ سيقَ له.

فذكاء المُخاطب : حال تَقتضي إيجاز القول ، فاذا أوَجزتَ في خطابه كان كلامك مطابقاً لمقتضى الحال ، وغباوته حال تقتضي الإطناب والإطالة فاذا جاء كلامك في مخاطبته مطنباً : فهو مطابق لمُقتضَى الحال ، ويكون كلامك في الحالين بليغان وَلو أنك عكست لانتفت من كلامك صفة البلاغة.

(٢) وَموضوعه : اللَّفظُ العربي ، من حيثُ إفادتُه المعاني الثَّواني (٢). التي هي الأغراض المقصودةُ للمتكلّم ، من جعل الكلام مشتملا على تلك اللَّطائف والخصوصيّات ، التي بها يُطابقُ مُقتضى الحال.

__________________

(١) الحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى إيراد خصوصية في الكلام ، وتلك الخصوصية هي مقتضى الحال ، مثلا إن كان بينك وبين مخاطبك عهد بشيء فالعهد حال يقتضي إيراد الكلام مصرفاً ، والتعريف هو مقتضى الحال ، فالحال هو ما بعد لام التعليل المذكورة بعد كل خصوصية كقولك في الذكر : لكون ذكره الأصل وفي الحذف : حذف للاستغناء عنه ، وهلم جرا.

(٢) أي والمعاني الأول : ما يفهم من اللفظ بحسب التركيب ، وهو أصل المعنى مع زيادة الخصوصيات من التعريف والتنكير : قال بعض أهل المعاني الكلام الذي يوصف بالبلاغة ، هو الذي يدل بلفظه على معناه اللغوي. أو العرفي ، أو الشرعي ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية على المعنى المقصود الذي يريد المتكلم إثباته أو نفيه فهناك الفاظ ومعان أول ـ ومعان ثوان فالمعاني الأول هي مدلولات التركيب ، والالفاظ التي تسمى في علم النحو أصل المعنى والمعاني الثواني الاغراض التي يساق لها الكلام ولذا قيل (مقتضى الحال) هو المعنى الثاني ، كرد الانكار ودفع الشك ، مثلا إذا قلنا ان زيداً قائم ، فالمعنى الأول هو القيام لزيد ، والمعنى الثاني هو رد الانكار. ودفع الشك بالتوكيد وهلم جرا ، والذي يدل على المعاني خمسة أشياء : اللفظ ، والاشارة والكتابة ، والعقد ، والحال.

٤٤

(٣) وفائدته :

أ ـ معرفة إعجاز القرآن الكريم ، من جهة ماخصِّة الله به من جودة السبَّك ، وحُسن الوصف ، وبَراعة التَّراكيب ن ولُطف الإيجاز وما اشتمل عليه من سُهولة الترَّكيب ، وجزالة كلماتهن وعُذوبِة ألفاظه وسلامتها ، إلى غير ذلك من محاسنه التي اقعدت العرب عن مناهضته ، وحارتَ عقولهُم أمام فصاحته وبلاغته.

ب ـ والوقوف على أسرار البلاغة والفصاحة : في مَنثور كلام العرب ومنظومه كي تحتذىَ حذوه ، وتَنسُجَ على منواله ، وتَفرقَ بين جَيِّد الكلام وَردِيئه.

(٤) وواضعه : الشيخ عبد القاهر الجُرجاني المُتوفي سنة ٤٧١ ه (١).

__________________

(١) اعلم أنه لما احتدم الجدل صدر الدولة العباسية ، إبان زهو اللغة وعزها في بيان وجوه اعجاز القرآن ، وتعددت نزعات العلماء في ذلك ولما قامت سوق نافقة للمناظرة بين أئمة اللغة والنحو ، أنصار الشعر القديم الذين جنحوا إلى المحافظة على أساليب العرب ، ورأوا الخير كله في الوقوف عند أوضاعهم وبين الأدباء. والشعراء أنصار الشعر الحديث الذين لم يحفلوا بما درج عليه اسلافهم وآمنوا بأن للحضارة التي غذوا بلبانها آثاراً ، غدوا معها في حل من كل قديم ولما شجر الخلاف بين أساطين الأدب في بيان جيد الكلام ورديئه دعت هذه البواعث ولفتت أنظار العلماء إلى وضع قواعد وضوابط يتحاكم اليها الباحثون ، وتكون دستوراً للناظرين في آداب العرب المنثور منها والمنظوم.

ولا نعلم أحداً سبق أبا عبيدة بن المثنى المتوفى سنة ٢١١ ه تلميذ الخليل بن احمد في تدوين كتاب في علم البيان يسمى مجاز القرأن كما لا نعرف بالضبط أول من ألف في علم المعاني ، وإنما اثر فيه نبذ عن بعض البلغاء كالجاحظ في كتابه «اعجاز القرآن «وابن قتيبة في كتابه «الشعر والشعراء» والمبرد في كتابه «الكامل».

ولكن نعلم أن أول من ألف في البديع (الخليفة عبد الله بن المعتز بن المتوكل العباسي) المتوفى سنة ٢٩٦ ه وما زالت هذه العلوم تسير في طريق النمو ، حتى نزل في الميدان الامام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة ٤٧١ ه فشمر عن ساعد الجد ، ودون كتابية أسرار البلاغة ودلائل الاعجاز وقرن فيهما بين العلم والعمل ، ثم جاء إثر عبد القاهر جار الله الزمخشري ، فكشف في تفسسيره «الكشاف» عن وجوه إعجاز القرآن ، وأسرار بلاغته ، وأوضح ما فيه من الخصائص والمزايا ، وقد ابان خلالها كثيرا من

٤٥

(٥) واستمداده : من الكتاب الشَّريف ، والحديث النَّبوي وكلام العرب.

واعلم : أنَّ المعاني جمعُ معنىً؛ وهو في اللغة : المقصود.

وفي اصطلاح البيانيين : هو التِّعبير باللفظ عمَّا يتَصوَّره الذَهن أو هو الصورة الذهنية ، من حيثُ تقصدُ من اللفظ.

واعلم انَّ لكل جملة رُكنينِ.

مسنداً : ويسمى محكوماً به أو مُخبراً به.

ومُسنداً إليه ، ويسمى محكوماً عليه ، أو مُخبرا عنه.

وامّا النسية التي بينهما فتُدعى «إسناداً».

وما زاد على المسند والمسند إليه من مفعول وحال ، وتمييز ، ونحوها فهو قيد زائد على تكوينها إلاّ صِلَة الموصول ، والمضاف إليه (١).

والإسناد انضمامَ كلمةِ (٢) المُسند إلى أخرى (٣) المسند» إليه على وَجهٍ يُفيد الحكم

__________________

قواعد هذه الفنون ، ثم نهض بعده (أبو يعقوب يوسف السكاكي) المتوفى سنة ٦٢٦ ه فجمع في القسم الثالث من كتابه «المفتاح» ما لا مزيد عليه ، وجاء بعده علماء القرن السابع فما بعده يختصرون ويضعون مؤلفاتهم حسب ما يسمح به مناهج التعليم للمتعلمين في كل قطر من الأقطار حتى غدت أشبه بالمعميات والالغاز.

(١) اعلم أن الجمل ليست في مستوى واحد عند أهل المعاني ، بل منها جمل رئيسية وجمل غير رئيسية ، والأولى هي المستقلة التي لم تكن قيداً في غيرها ، والثانية ما كانت قيدا إعرابيا في غيرها ، وليست مستقلة بنفسها.

والقيود هي : أدوات الشرط ، والنفي ، والتوابع ، والمفاعيل ، والحال ، والتمييز وكان وأخواتها ، وان واخواتها ، وظن أخواتها كما سيأتي :

(١) أي : وما يجري مجراها.

(٢) أي : وما يجري مجراها ، كما سيأتي.

٤٦

باحداهما على الأخرى : ثُبوتاً أو نفياً نحو : الله واحدٌ لا شريك له.

__________________

(تنبيه) الاسناد : مطلقاً قسمان حقيقة عقلية ، ومجاز عقلي فالحقيقة العقلية هي اسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما في معناه إلى ما وضع له عند المتكلم في الظاهر من حاله نحو : تجري الأمور بما لا يشتهي البشر ، وأنبت الله النبات ، والمجاز العقلي (ويسمى اسنادا مجازيا ، ومجازاً حكمياً ، ومجازا في الاسناد) هو اسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من ارادة الاسناد إلى ما هو له نحو ـ تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وله علاقات شتى فيلائم الفاعل لوقوعه منه نحو سيل مفعم بفتح العين أي مملوء فاسناد مفعم وهو مبني للمفعول إلى ضمير السيل وهو فاعل مجاز عقلي ملابسته الفاعلية ويلائم المفعول به لوقوعه عليه نحو عيشة راضية : فاسناد راضية وهو مبني للفاعل إلى ضمير العيشة وهي مفعول به (مجاز عقلي) ملابسته المفعولية ويلائم الزمان والمكان لوقوعه فيهما نحو صام نهاره ، وسال الميزاب ، ونهار صائم ، ونهر جار ، ويلائم المصدر نحو جد جده ، ويلائم السبب نحو بني الأمير المدينة ـ وكما يقع المجاز العقلي في الاسناد يقع في النسبة الاضافية : كمكر الليل. وجرى الانهار ، وشقاق بينهما. وغراب البين (على زعم العرب) وفي النسبة الايقاعية : نحو : (وأطيعوا أمري ولا تطيعوا أمر المسرفين) ، واجريت النهر وكما يكون في الاثبات يكون في النفي نحو قوله تعالى : (فما ربحت تجارتهم) ، وما نام ليلى على معنى خسرت تجارتهم ، وسهر ليلى قصدا إلى اثبات النفي ، لا نفى الاثبات ويكون أيضاً في الانشاء كما سبقت الاشارة إليه نحو قوله تعالى : (أصلاتك تأمرك) ونحو (ياهامان ابن لي صرحا) ، وليصم نهارك ، وليجد جدك ، وليت النهر جار وما أشبه ذلك.

وأقسامه باعتبار حقيقة طرفيه ومجازيتهما أربعة لأنهما أما حقيقتان لغويتان نحو أنبت الربيع البقل أو مجازان لغويان نحو أحيا الارض شباب الزمان ، إذ المراد باحياء الارض تهييج القوى النامية فيها ، وإحداث نضارتها بأنواع الرياحين ، والاحياء في الحقيقة اعطاء الحياة ، وهي صفة تقتضي الحس والحركة ، وكذا المراد بشباب الزمان زمان ازدياد قواها النامية ، وهو في الحقيقة عبارة عن كون الحيوان في زمان تكون حرارته الغريزية مشبوبة أي قوية مشتعلة أو المسند حقيقة لغوية والمسند إليه مجازى لغوي : نحو أنبت البقل شباب الزمان أو المسند إليه حقيقة غويى والمسند اليه مجازي لغويي : ووقوع المجاز العفلي في القران كثير : نحو ما تقدم ، نحو (وإذا تليت علهم اياته زاجتهم ايماناً) ، (وينزع عنهما لباسهما) ، (وأخرجت الأرض أثقالها) ، (فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً).

ولابد له من قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلى لأن الفهم القرية يتباجر إلىى الحقيقة ، والقرية إما

٤٧

ومواضع المسند ثمانية :

(١) خبر المبتدأ : نحو قادرٌ من قولك : الله قادرٌ.

(٢) والفعل التام : نحو حضر من قولك : حضر الأمير.

(٣) واسم الفعل : نحو هيهات وَوَى وآمينَ.

__________________

لفظية وإما معنوية فاللفظية كقولك هزم الأمير الجند وهو في قصره ، والمعنوية كاستحالة قيام المسند بالمسند إليه المذكور معه عقلا بمعنى أنه لو خلى العقل ونفسه عد ذلك القيام محالا كقولك محبتك جاءت بي اليك ، لاستحالة قيام المجىء بالمحبة عقلا ، وكاستحالة ما ذكر عادة نحو هزم الأمير الجند لاستحالة قيام هزيمة الجند بالأمير وحده عادة ، وان أمكن عقلا ، وكأن يصدر من الموحد : نحو

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كر الغداة ومن العشي

فأن صدور ذلك من الموحد قرينة معنوية على أن إسناد أشاب وافنى إلى كر الغداة ومر العشي مجاز ، ثم هذا غير داخل في الاستحالة إذ قد ذهب إليه كثير من المبطلين ولا يجب أن يكون في المجاز العقلي لللفعل فاعل يعرف الاسناد إليه حقيقة ، بل تارة يكون له فاعل ، يعرف إسناده إليه حقيقة كما تقدم ، وتارة لا نحو قوله.

يزيدك وجهه حسنا

إذا ما زدته نظراً

فان اسناد الزيادة للوجه مجاز عقلي وليس لها أي الزيادة فاعل يكون الاسناد إليه معروفا حقيقة ، ومثله سرتني رؤيتك وأقدمني بلدك حق لي عليك ، فهذه الأمثلة ونحوها من المجاز العقلي الذي لا فاعل له يعرف الاسناد إليه حقيقة : كما قال الشيخ (عبد القاهر) ، وقيل لابد له من فاعل يعرف الاسناد إليه حقيقة ، ومعرفته إما ظاهرة نحو (فما ربحت تجارتهم) أي فما ربحوا في تجارتهم وإما خفية كهذه الأمثلة والفاعل الله تعالى ، هذا ـ وقد أنكر (السكاكي) المجاز العقلي ذاهبا إلى أن أمثلته السابقة ونحوها منتظمة في سلك الاستعارة بالكناية فنحو أنبت الربيع البقل يجعل الربيع استعارة عن الفاعل الحقيقي ، بواسطة المبالغة في التشبيه ، ويجعل نسبة الانبات إليه قرينة الاستعارة وسيأتي مذهبه ان شاء الله تعالى في فن البيان عند الكلام على الاستعارة بالكناية.

تنبيه : ذكر بعض المؤلفين (مبحث المجاز العقلي والحقيقة العقلية) في أحوال الاسناد من علم المعاني وبعضهم ذكرهما في فن البيان عند تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز ولكل وجهة.

٤٨

(٤) والمبتدأ الوصفُ المُستغنى عن الخبر بمرفوعه : نحو عارف من قولك : أعارفٌ أخوك قدرَ الإنصاف.

(٥) وَأخبار النَّواسخ كان ونَظَائرُها ، وإنَّ ونظائرُها.

(٦) والمفعول الثاني لظنّ وأخواتها.

(٧) والمفعول الثالث لأرَى وأخواتها. نحو : (يريهم الله اعمالهم حسراتٍ عليهم).

(٨) والمصدر النّائب عن فعل الأمر نحو سعياً في الخير.

وَمواضع المسند إليه ستة :

(١) الفاعلُ للفعل التّام أو شبهه : نحو فؤاد وأبوه من قولك حضر فؤادٌ العالم ابوه.

(٢) واسماء النَّواسخ : كان وأخواتها ، وإنّ وَأخواتها نحو المطرُ من قولك كان المطر غزيراً ، ونحو : إنّ المطرَ غزير

(٣) والمبتدأ الذي له خبر : نحو العلم من قولك : العلم نافع.

(٤) والمفعول الأول لظنّ وأخواتها.

(٥) والمفعول الثاني لأرَى واخواتها.

(٦) ونائب الفاعل كقوله تعالى (ووضع الكتاب).

ثم إن المسند والمسند إليه يتنوعان إلى أربعة أقسام :

(١) إما ان يكونا كلمتين حقيقة : كما ترى في الأمثلة السالفة.

(٢) وإما ان يكونا كلمتين حُكما ، نحو لا إله إلا الله ينجو قائلها من النار ، أي توحيدُ الاله نجاة من النار.

(٣) وإما أن يكون المسند إليه كلمة حكما ، والمسند كلمة حقيقة نحو تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه أي سماعك بالمعيدي خير من رؤيته.

٤٩

(٤) وإمّا بالعكس. نحو : الأمير قرُب قدومه أي الأمير قريب قدومه (١)

ويُسمى المسند والمسند إليه : ركنى الجملة.

وكل ما عداهما يعتبر قيداً زائداً عليها كما سبق الكلام عليه.

وينحصر علم المعاني في ثمانية أبواب وخاتمة.

__________________

(١) ففي الأول يؤول ، سماعك بالمعيدي خير ، وفي الثاني ، الأمير قريب قدومه ، وفي نحو : لا إله إلا الله ينجو قائلها من النار ، عدم شريك للمولى نجاة من النار.

٥٠

الباب الأول

في تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء

المبحث الأول في حقيقة الخبر

ألخبرُ : كلامٌ يحتملُ الصدق والكذب لذاته (١).

وإن شئت فقل «الخبرُ هو ما يتحقّق مدلولهُ في الخارج بدون النطق به» نحو : العلم نافعٌ ، فقد أثبتنا صفة النَّفع للعلم ، وتلك الصَّفة ثابتة له (سواء تلفظت بالجملة السابقة أم لم تتلفّظ) لأن نفع العلم أمرٌ حاصل في الحقيقة والواقع ، وإنما أنت تحكى ما اتَّفق عليه الناس قاطبة ، وقضت به الشرائع ، وهدت إليه العقولُ ، بدون نظر إلى إثبات جديد.

والمراد : بصدق الخبر مُطابقته للواقع ونفس الأمر والمراد بكذبه عدم مطابقته له.

فجملة : العلم نافع ، ان كانت نسبتُه الكلاميَّة وهي ثبوت النفع المفهومة من تلك الجملة مطابقةً للنسبة الخارجيّة ، أي موافقة لما في الخارج والواقع «فصدقٌ» وإلا «فكذب»

__________________

(١) أي بقطع النظر عن خصوص المخبر ، أو خصوص الخبر وإنما ينظر في احتمال الصدق والكذب إلى الكلام نفسه لا إلى قائل : وذلك لتدخل الاخبار الواجبة الصدق كأخبار الله تعالى ، وأخبار رسله ، والبديهيات المألوفة ، نحو السماء فوقنا والنظريات المتعين صدقها ، لا تحتمل شكا كاثبات العلم والقدرة للمولى سبحانه وتعالى ، ولتدخل الأخبار لواجبة الكذب كأخبار المنبئين في دعوى النبوة.

٥١

نحو «الجهل نافع» فنسبته الكلامية ليست مطابقة وموافقة للنسبة الخارجية (١)

المقاصد والأغراض التي من أجلها يُلقى الخبر

ألأصلُ في الخبر أن يلقى لأحد غرضين

أ ـ إما إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنته الجملة ، إذا كان جاهلا له ، ويسمى هذا النوع فائدة الخبر نحو الدين المعاملة.

ب ـ وإما إفادة المخاطب أن المتكلم عالم أيضا بأنه يعلم الخبر كما تقولُ : لتلميذ أخفى عليك نجاحه في الامتحان وعلمته من طريق آخر : أنت نجحت في الامتحان ، ويسمى هذا النوع لازمَ الفائدة لأن يلزم في كل خبر أن يكون المخبر به عنده علمٌ أو ظَن به.

وقد يخرج الخبر عن الغرضين السابقين إلى أغراض أخرى تستفاد بالقرائن ، ومن سياق الكلام : أهمها :

(١) الاسترحام والاستعطاف ، نحو إني فقير إلى عفو ربي (٢).

(٢) وتحريكُ الهمة إلى ما يلزم تحصيله ، نحو : ليس سواء عالم وجهول.

(٣) وإظهار الضعف والخشوع ، نحو : (ربّْ إني وَهنَ العظم منيّْ).

(٤) وإظهار التحسر على شيء محبوب نحو : (رب إني وضعتها أنثى).

__________________

(١) فمطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ثبوتا ونفيا صدق وعدم المطابقة كذب فالنسبة التي دل عليها الخبر وفهمت منه تسمى كلامية ، والنسبة التي تعرف من الخارج بقطع النظر عن الخبر تسمى خارجيةفحينئذ هناك نسبتان نسبة تفهم من الخبر ، ويدل عليها الكلام وتسمى النسبة الكلامية ونسبة أخرى تعرف من الخارج بقطع النظر عن الخبر وتسمى النسبة الخارجية فما وافق الواقع فهو صدق ، وما خالف الواقع فهو كذب.

(٢) فليس الغرض هنا إفادة الحكم ، ولالازم الفائدة ، لأن الله تعالى عليم ولكنه طلب عفو ربه ، ولهذا ترى في الكلام العربي أخبارا كثيرة لا يقصد بها افادة المخاطب الحكم ، ولا أن المتكلم عالم به ، فتكون قد خرجت عن معناها الأصلي السالف ذكره إلى أغراض أخرى.

٥٢

(٥) وإظهار الفرح بمقبل ، والشماتة بمدبر ، نحو (جاء الحق وزهق الباطل).

(٦) والتوبيخ كقولِ : للعاثر : الشمس طالعةٌ.

(٧) التَّذكير بما بين المراتب من التَّفاوت نحو : لا يستوي كسلان ونشيط.

(٨) التحذير نحو أبغضُ الحلال إلى الله الطلاق.

(٩) الفخر نحو : إن الله اصطفاني من قريش

(١٠) المدح كقوله :

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكب

وقد يجيء لأغراض أخرى ، والمرجع في معرفة ذلك إلى الذوق والعقل السليم.

تمرين

عين الأغراض المستفادة من الخبر في الأمثلة الآتية :

(١) قال تعال : (لله ما في السموات وما في الأرض ، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله؛ فيغفر لمن يشاء ، ويعذبُ من يشاء ، والله على كل شيء قدير).

(٢) وقال تعالى : (عبس وتولى أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكَّى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى فأنت له تصدى ، وما عليك ألاَّ يزَّكى! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى).

(٣) وقال صلى الله عليه وسلم : «عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة».

(٤) وقال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه ، فأدخل عليه الجور في عدله.

(٥) ومن خطبة له عليه السلام بمكة حين دعا قومه إلى الاسلام : إن الرائد لا يكذب أهله ، والله لو كذبت الناس ما كذبتكم ولو غررت الناس ما غررتكم ، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم حقاً ، وإلى الناس كافة.

٥٣

(٦) وقال الشريف الرضي :

جار الزمان فلا جوادٌ يرتجى

للنائبات ولا صديق يُشققُ

وإذا الحليم رمى بسر صديقه

عمداً فأولى بالوداد الأحمق

(٧) وقال المعري :

عرفت سجايا الدهر ، أما شروره

فنقدٌ ، وأما خيره فوعود

(٨) وقال :

رأيت سكوتي متجراً فلزمته

إذا لم يفد ربحا فلستُ بخاسر

(٩) وقال أيضاً :

أرى ولد الفتى عبئاً عليه

أرى ولد الفتى عبئاً عليه

فإما أن يربيهُ عدوا

وإما أن يُخلفه يتيما

(١٠) قال ابن حيوس مادحاً :

بني صالح أفسدتم من رميتم

وأحييتم من أم معروفكم قصدا

وذللتم صعب الزمان لأهله

فذلَ وقد كان الجماح له وكدا

مناقب لو أن الليالي توشَحت

بأذيالها لابيضَّ منهن ما أسودا

(١١) وقال أبو فراس :

صبرت على اللاواه صبر ابن حُرَّة

كثير العدا فيها قليل المُساعد

منعت حمى قومي وسدت عشيرتي

وقلَّدت أهلي غر هذي القلائد

٥٤

المبحث الثاني

في كيفية إلقاء المتكلم الخبر للمخاطب

حيث كان الغرض من الكلام الإفصاح والإظهار ، يجب أن يكون المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض ، يشخص حالته ، ويعطيه ما يناسبها. فحق الكلام : أن يكون بقدر الحاجة ، لا زائداً عنها ، لئلا يكون عبثاً ، ولا ناقصاً عنها ، لئلا يخل بالغرض ، وهو الإفصاح والبيان.

لهذا تختلف صور الخبر في اساليب اللغة باختلاف أحوال المخاطب الذي يعتريه ثلاث أحوال :

أولا : أن يكون المخاطب خالي الذهن من الخبر ، غير متردد فيه. ولا منكر له ، وفي هذه الحال لا يؤكد له الكلام ، لعدم الحاجة إلى التوكيد نحو قوله تعالى : (المال والبنون زينة الحياة الدنيا). ويسمى هذا الضرب من الخبر (ابتدائياً) ويستعمل هذا الضرب حين يكون المخاطب خالي الذهن من مدلول الخبر فيتمكن فيه لمصادفته اياه خاليا (٢).

ثانياً : أن يكون المخاطب متردداً في الخبر ، طالباً الوصول لمعرفته ، والوقوف على حقيقته فيستحسن تأكيد (٣) الكلام المُلقى إليه تقوية للحكم ، ليتمكن من نفسه ، ويطرح الخلاف وراء ظهره ، نحو إن الأمير منتصرٌ.

__________________

(١) عرفت هواها قبل أن اعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكنا

(٢) المراد بالتأكيد في هذا الباب تأكيد الحكم ، لا تأكيد المسند إليه ولا تأكيد المسند.

واعلم أن الخطاب بالجملة الاسمية وحدها : آكد من الخطاب بالجملة الفعلية فاذا أريد مجرد الأخبار أتى بالفعلية وأما أن أريد التأكيد فبالاسمية وحدها أو بها مع إن أو بهما وباللام ، أو بالثلاثة واقسم ، واعلم أن لام الابتداء هي الداخلة على المبتدأ ، أو اللاحقة لخبر ـ كما أن السين وسوف لا تفيدان التوكيد إلا إذا كانت للوعد أو الوعيد.

٥٥

ويسمى هذا الضرب من الخبر : طلبياً ويؤتى بالخبر من هذا الضرب حين يكون المخاطب شاكَّا في مدلول الخبر ، طالباً التثبت من صدقه.

ثالثاً : أن يكون المخاطب منكراً للخبر الذي يراد إلقاؤه إليه ، معتقداً خلافه فيجب تأكيد الكلام له بمؤكد أو مؤكدين أو أكثرَ ، على حسب حاله من الانكار ، قوة وضعفاً نحو : إن أخاك قادمٌ أو إنه لقادم ، أو والله إنه لقادم أو لعمري : إن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. ويسمى هذا الضرب من الخبر (إنكارياً) ويؤتى بالخبر من هذا الضرب حين يكون المخاطب مُنكرا.

واعلم أنه كما يكون التأكيد في الاثبات ، يكون في النفي أيضاً ، نحو : ما المقتصد بمفتقر ، ونحو : والله ما المُستشير بنادم.

تنبيهات

الأول : لتوكيد الخبر أدوات كثيرة ، وأشهرها إن ، وأن ، ولام الابتداء ، وأحرف التنبيه ، والقسم ، ونونا التوكيد ، والحروف الزائدة (كتفعل واستفعل) والتكرار ، وقد ، وأما الشرطية ، وإنما وإسمية الجملة ، وضمير الفصل ، وتقديم الفاعل المعنوي.

الثاني : يسمى إخراج الكلام على الأضرب الثلاثة السابقة إخراجاً على مقتضى ظاهر الحال (١) ، وقد تقتضى الأحوال العدول عن مقتضى الظاهر ، ويورد الكلام على خلافه لاعتبارات يلحظها المتكلم وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة.

(١) منها : تنزيل العالم بفائدة الخبر ، أو لازمها ، وبهما معاً ، منزلة الجاهلِ بذلك ، لعدم جريه على موجب علمه ، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل به ، كقولك : لمن يعلم وجوب

__________________

(١) اعلم أن (الحال) هو الأمر الداعي إلى إيراد الكلام مكيفا بكيفية ما سواء أكان ذلك الأمر الداعي ثابتا في الواقع ، أو كان ثبوته بالنظر لما عند المتكلم كتنزيل المخاطب غير السائل منزلة السائل.

(وظاهر الحال) هو الأمر الداعي إلى ايراد الكلام مكيفا بكيفية مخصوصة بشرط أن يكون ذلك الأمر الداعي ثابتاً في الواقع فكل كيفية اقتضاها ظاهر الحال اقتضاها الحال ، وليس كل كيفية اقتضاها لاحال اقتضاها ظاهره.

٥٦

الصلاة ، وهو لا يصلي «الصلاة واجبة» توبيخاً له على عدم عمله بمقتضى علمه وكقولك لمن يؤذي أباه : هذا أبوك.

(٢) ومنها : تنزيل خالي الذهن منزلة السائل المتردد ، إذا تقدم في الكلام ما يشير إلى حكم الخبر كقوله تعالى : (وما ابرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) فمدخول إن مؤكد لمضمون ما تقدمه ، لإشعاره بالتردد ، فيما تضمنه مدخولها ـ وكقوله تعالى ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون لما أمر المولى «نوحاً» أوّلا بصنع الفلك ، ونهاه ثانيا عن مخاطبته بالشفاعة فيهم ، صار مع كونه غير َ سائل في مقام السائل المتردد (١). هل حكم الله عليهم بالاغراق فأجيب بقوله (إنهم مغرقون).

(٣) ومنها : تنزيل غير المنُكر منزلة المنكر : إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار ، كقول حَجَل بن نضلَة القيسي من أولاد عَمّ شقيق.

جاء شَقيقٌ عارضاً رُمَحهُ

إنَّ بني عَمك فيهم رماحُ

فشقيقٌ رَجلٌ لا يُنكر رماحَ بني عمّه ، ولكن مجيئه على صورة المعجب بشجاعته ، واضعاً رُمحَه على فخذيه بالعرض وهو راكب أو حَاملا له عرضاً على كتفه في جهة العدُو بدون اكتراثه به ، بمنزلة انكاره أنَّ لبني عمّه رماحا ، ولن يجد منهم مُقاوماً له كأنهم كلهم في نظره

__________________

(١) أي فصار المقام مظنة للتردد والطلب ، وان لم يتردد المخاطب ، ولم يطلب بالفعل ، وذلك لأنه تكاد نفس الذكي إذا قدم لها ما يشير إلى جنس الخبر أن تتردد في شخص الخبر ، وتطلبه من حيث أنها تعلم أن الجنس لا يوجد إلا في فرد من أفراده فيكون ناظراً إليه بخصوصه كأنه متردد فيه كنظر السائل فقوله ولا تخاطبني يشير إلى جنس الخبر وانه عذاب وقوله إنهم مغرقون يشير إلى خصوص الخبر الذي أشير إليه ضمنا في قوله ولا تخاطبني ، وكقول الشاعر.

ترفق أيها المولى عليهم

فأن الرفق بالجاني عتاب

فالأصل : أن يورد الخبر هنا خاليا من التوكيد ، لأن المخاطب خالي الذهن من الحكم ، ولكن لما تقدم في الكلام ما يشعر بنوع الحكم أصبح المخاطب متشوقا لمعرفته فنزل منزلة السائل المتردد الطالب ، واستحسن القاء الكلام إليه مؤكدا ، جريا على خلاف مقتضى الظاهر.

٥٧

عُزلٌ ، ليس مع أحد منهم رمحٌ. فأكَد له الكلامُ استهزاء به ، وخُوطبَ خطاب التفات بعد غيبةٍ تهكما به ، ورمياً له بالنزق وخرق الرَّأي.

(٤) ومنها تنزيل المتردد منزلة الخالي ، كقولك للمُتردد في قدوم مسافر مع شهرته قدم الأمير.

(٥) ومنها تنزيل المتُردد (١) منزلة المنكر ، كقولك للسائل المستبعد لحصول الفرج إنَّ الفرج لقريب.

(٦) ومنها تنزيل المنكر منزلة الخالي ، إذا كان لديه دلائل وشواهد لو تأملها لارتدع وزال إنكاره ، كقوله تعالى : (وإلهكم إله واحد) وكقولك لمن ينكر منفعة الطب الطب نافع.

(٧) ومنها تنزيل المنكر منزلة المُتردد ، كقولك لمن ينكر شرف الأدب إنكاراً ضعيفا إن الجاه بالمال : انما يصحبك ما صحبك المال وامَّا الجاه بالأدب فأنه غير زائل عنك.

الثالث : قد يؤكد الخبر لشرف الحكم وتقويته ، مع أنه ليس فيه تردد ولا إنكار ، كقولك في افتتاح كلام إنّ أفضل ما نطق به اللسان كذا (٢).

__________________

(١) وفائدة التنزيل وجوب زيادة التأكيد قوة وضعفا ، لأنه نزل المتردد منزلة المنكر ، فيعطي حكمه حينئذ ، وهكذا تفهم في عكسه وهو تنزيل المنكر منزلة المتردد في استحسان التوكيد له ، واعلم أنه إذا التبس اخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر باخراجه على مقتضى الظاهر يحتاج إلى قرينة تعين المقصود أو ترجحه فإن لم توجد قرينة صح حمل الكلام على كل من الأمرين وذلك كجعل السائل كالخالي ، وجعل المتردد كالمنكر ، فإن وجدت قرينة عمل بها ، والا صح الحكم بأحدهما.

(٢) من مزايا اللغة العربية دقة التصرف في التعبير ، واختلاف الأساليب باختلاف المقاصد والأغراض ، فمن العيب الفاضح عند ذوي المعرفة بها (الأطناب) إذا لم تكن هناك حاجة إليه ، «والايجاز والاختصار» حيث تطلب الزيادة ، وقد تخفى دقائق تراكيبها على الخاصة بل العامة ، فقد أشكل أمرها على بعض ذوي الفطنة من نابتة القرن الثالث : إبان زهو اللغة ونضرة شبابها ، يرشدك إلى ذلك ما رواه الثقاة من أن المتفلسف الكندي : ركب إلى أبي العباس المبرد وقال له ، إني لأجد في كلام العرب حشوا ، فقال أبو العباس في أي موضع وجدت.

٥٨

تدريب

بين أغراض الخبر والمقاصد منه فيما يأتي :

(١) قومي هُمُو قتلوا أميمَ أخي

فإذا رميتُ يُصيبني سهمي (١)

(٢) قد كنت عدَّتي التي أسطوبها

ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي (٢)

(٣) أباالمسك أرجومنك نصراًعلى العدى

وآمل عزاً يخضب البيض بالدِّم (٣)

(٤) كفى بجسمي نُحولا أنني رجل

لولا مُخاطبتي إياكَ لم ترني (٤)

__________________

ذلك ، فقال أجد العرب يقولون عبد الله قائم ، ثم يقولون : إن عبد الله قائم ، ثم يقولون ، إن عبد الله لقائم ، فالالفاظ متكررة ، والمعنى واحد ، فقال أبو عباس بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ ، فالأول اخبار عن قيامه ، والثاني جواب عن سؤال سائل ، والثالث جواب عن انكار منكر قيامه ، فقد تنكررت الألفاظ لتكرر المعاني ، فما أحار المتفلسف جوابا.

ومن هذا : نعلم أن العرب لاحظت أن يكون الكلام بمقدار الحاجة ، لا أزيد وإلا كان عبثاً ، ولا انقص والا أخل بالغرض ، وهو الأفصاح والبيان.

(١) اظهار الحسرة على موت أخيه بيد من قرابته.

(٢) اظهار الضعف لكونه أصبح بلا معين.

(٣) الاسترحام بطلب المساعدة وشد الأزر.

(٤) اظهار الضعف بأن نحوله صيره إلى ما وصف.

٥٩

تطبيق

أحص المؤكدات في العبارات التالية ، وبيّن ضروب الخبر الثلاثة :

(١) ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل

عفافٌ وإقدامُ وحزمٌ ونائل

(٢) وأنّ امرءا قد سار خمسين حجة

إلى منهلٍ من ورده لقريب

(٣) ليس الصديق بمن يعيرك ظاهراً

متبسِّماً عن باطن مُتجهم

(٤) قال تعال : (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين).

(٥) قال تعالى : (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا).

(٦) أمّا الفراق فانه ما أعهدُ

هو توءمي ، لو أنَّ بيتاً يُولد

(٧) إنَّ الذي بيني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

__________________

الرقم

المؤكدات

ضرب الخبر

١

ألا (أداة استفتاح وتنبيه)

طلبي

٢

إن ، قد ، اللام في (لقريب)

إنكاري لزيادة المؤكدات على واحا

٣

الباء الزائدة في (بمن)

طلبي

٤

لام القسم ، لام التوكيد ، نون التوكيد

إنكاري

٥

تكرار جعلنا

طلبي

٦

أما ، إن ، أن

طلبي لأن كل مؤكدة في جملة

٧

أن ، لام الابتداء

إنكاري لزيادة المؤكدات على واحد

٦٠