جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

وقال بعض أمراء العرب ، وقد اعتلت أمّه ، فكتب رقاعاً وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام : صين امرؤ وَرَعَا ، دعا لامراة انقحلة (١) مقسئنة (٢) قد منيت بأكل الطرموق (٣) فأصابها من أجله الاستمصال (٤) بأن يمن الله عليها بالاطرعشاش (٥) والابرغشاش أسمع جعجعة (٦) ولا أرى طحنا الاسفنط (٧)حرام وهذا الخنشليل (٨) صقيل ، والفدوكس مفترس (٩).

يوم عصبصب وهلوف ، ملأ السجسج طلا (١٠).

أمنَّا أن تصرّع عن سماحٍ

وللآمال في يدك اصطراع (١١)

وقال الفرزدق :

واذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم

خُضعَ الرَّقاب نواكس الأبصار (١٢)

يا نفسُ صبراً كل حيّ لاقي

وكل اُثنين إلى افتراق

__________________

(١) يابسة.

(٢) مسنة عجوز.

(٣) ابتليت باكل الطين.

(٤) الإسهال.

(٥) البرء وكذا معنى ما بعده.

(٦) جعجعة غير فصيحة لتنافر حروفها ، وهو مثل يضرب لمن يقول ولا يفعل.

(٧) الاسفنط الخمر.

(٨) الخنشليل السيف.

(٩) الفدوكس الأسد ، فكل من هذه الألفاظ الثلاثة وحشية غير مألوفة.

(١٠) شديد البرد فيهما والسجسج الارض التي ليست بسهلة ولا صلبة.

(١١) أراد : أنهم امنوا أن يغلبه غالب يصرعه عن السماع ويمنعه منه وأما قوله (وللآمال في يدك اصطراع) فمعناه تنافس وتغالب وازدحام في يده يريد كثرة نواله وكرمه. واستعماله للفظة الاصطراع بهذا المعنى بعيد.

(١٢) فقد جمع (ناكس) على (فواعل) شذوذا وهذا لا يطرد إلا في وصف لمؤنث عاقل لا لمذكر كما هنا إلا في موضعين (فوارس وهوالك) والناكس : مطأطئ الرأس.

٢١

تشكو الوَجى من أظلَلٍ وأظلّل

غداتئذٍ أو هالك في الهوالك (١)

تمرين

(١) أيّ أجزاء هذين البيتين غير فصيح :

أصبحتُ كالثوب اللّبيس قد أخلقت

جدَّاتُه منه فعاد مذالا

رمتني ميّ بالهوى رمىَ مَمضغ

من الوحش أو لوطٍ لم تعقهُ الأوالس

__________________

(١) الوجى الجفا : والأظلل باطن خف البعير وخالف القياس بفك الادغام ..

تنبيهات : الأول من عيوب فصاحة اللفظة المفردة كونها مبتذلة أي عامية ساقطة للقالق والشنطار ونحوهما والابتذال ضربان :

أ ـ ما استعمله العامة ولم تغيره عن وضعه ، فسخف وانحطت رتبته ، واصبح استعماله لدى الخاصة معيباً ، كلفظة البرسام في قول المتنبي.

إن بعضاً من القريض هراء

جدَّاتُه منه فعاد مذالا

فيه ما يجلب البراعة والفهم

وفيه ما يجلب البرسام

ب ـ ما استعملته العامة دالا على غير ما وضع له ، وليس بمستقبح ولا مكروه كقول المتلمس :

وقد أتناسى الهم عند احتضاره

بناج عليه الصيعرية مكدم

الثاني : لا تستعمل الألفاظ المبهمة إذا كان غرضك التعيين واحضار صورة الشيء ، أو المعنى المراد في الذهن.

الثالث : لا تستعمل اللفظ المشترك الامع قرينة تبين المراد من معانيه المشتركة.

(١) لابن الرومي : واللبيس : الملوس والاخلاق : البلى ، والجدة : صفة الثوب الجديد : والمذال : الممتهن.

(٢) اللوط : الخفيف السريع ، والأوالس : النوق السريعة.

٢٢

فصاحة الكلام

فصاحة الكلام : سلامته بعد فصاحة مفُرداته ممَّا يُبهم معناه ويحول دون المراد منه (١) وتتحقَّق فصاحته بخلُوه من ستة عيوب.

١ ـ تنافر الكلمات مجتمعة ، ٢ ـ ضعف التأليف ، ٣ ـ التعقيد اللفظي ، ٤ ـ التعقيد المعنوي ، ٥ ـ كثرة التكرار (٢) ، ٦ ـ تتابُع الإضافات.

الأول : «تنافُر الكلمات مُجتمعة» أن تكون الكلمات ثقيلة على السمع من تركيبها مع بعضها ، عَسرة النّطق بها مُجتمعةً على اللّسان (وإن كان كل جزء منه على انفراده فصيحاً) والتنافر يَحصُل : إمِّا بتجاوُز كلمات متقاربة الحروف وإمّا بتكرير كلمة واحدة.

___________________

(١) المراد بفصاحة الكلام تكونه من كلمات فصيحة يسهل على اللسان النطق بها لتآلفها ، ، ويسهل على العقل فهمها لترتيب ألفاظها وفق ترتيب المعاني.

ومرجع ذلك الذوق السليم والالمام بقواعد النحو ، بحيث يكون واضح المعنى ، سهل اللفظ ، حسن السبك ولذلك يجب أن تكون كل لفظة من ألفاظه واضحة الدلالة على المقصود منها ، جارية على القياس الصرفي ، عذبة سلسلة ، كما يكون تركيب الكلمات جار يا على القواعد النحوية خاليا من تنافر الكلمات مع بعضها ، ومن التعقيد فمرجع الفصاحة سواء في اللفظة المفردة ، أو في الجمل المركبة إلى أمرين (مراعات القواعد ـ والذوق السليم) وتختلف فصاحة الكلام أحيانا باختلاف التعبير عما يدور بالنفس من المعاني اختلافا ظاهرا ، فتجد في عبارات الأدباء من الحسن والجودة ما لا تجد في تعبير غيرهم ، مع اتحاد المعنى الذي يعبر عنه ، ويختلف الأدباء أنفسهم في أساليبهم : فقد يعلو بعضهم في أسلوبه ، فتراه يسيل رقة وعذوبة ، ويصل إلى القلوب فيبلغ منها ما يشاء أن يبلغ ، وذلك نوع من البيان يكاد يكون سحرا ، وقد يكون دون هذه المنزلة قليلا أو كثيرا ـ وهو مع ذلك من فصيح القول وحسن البيان.

(٢) (كثرة التكرار : وتتابع الاضافات) أقول الحق ـ أن هذين العيبين قد احترز عنهما بالتنافر. على أن بعضهم أجازهما لوقوعهما في القرآن كما في قوله تعالى (ونفس وما سواها) الآيات ـ وفي قوله تعالى (ذكر رحمت ربك عبده زكريا).

٢٣

أ ـ ومنه شديد الثِّقل : كالشطر الثاني في قوله :

وَقبرُ حرب بمكان قفرٌ

وَليس قَرب قبر حربٍ قبرُ (١)

ب ـ ومنه خفيف الثِّقل كالشطر الأول في قلو أبي تمَّام :

كريمُ متى أمدَحهُ والورى

معي ، وإذا ما لمته لمته وحدي (٢)

الثاني : ضعف التأليف أن يكون الكلام جارياً على خلاف ما اشُتهر من قوانين النحو المعتبرة عند جُمهور العلماء كوصل الضميرين ، وتقديم غير الأعراف منهما على الأعرف ـ مع أنه يجب الفصل في تلك الحالة ـ كقول المتنبي :

خَلتِ البلادُ من الغزالةِ ليلَهَا

فأعاضهَاكَ اللهُ كي لا تحزنا

وكالإضمار قبل ذكر مرجعه لفظا وَرتُبة وحكما في غير أبوابه (٣) نحو :

__________________

(١) حرب بن أمية : قتله قائل هذا البيت ، وهو هاتف من الجن صاح عليه (وقفر) خال من الماء والكلأ ، وقبر اسم ليس مؤخر ، وقرب خبرها مقدم ـ قبل إن هذا البيت لا يمكن إنشاده ثلاث مرات متوالية ألا ويغلط المنشد فيه ، لأن نفس اجتماع كلماته وقرب مخارج حروفها ، يحدثان ثقلا ظاهراً ، مع أن كل كلمة منه لو أخذت وحدها ما كانت مستكرهة ولا ثقيلة.

(٢) أي هو كريم ، وإذا مدحته وافقني الناس على مدحه ، ويمدحونه معي ، لإسداء إحسانه إليهم كاسدائه إلى ، وإذا لمته لا يوافقني أحد على لومه ، لعدم وجود المقتضى للوم فيه ـ وآثر لمته على هجوته مع أنه مقابل المدح إشارة إلى أنه لا يستحق الهجو ولو فرط منه شيء فإنما يلام عليه فقط ، والثقل في قوله «أمدحه» لما بين الحاء والهاء من التنافر ، للجمع بينهما : وهما من حروف الحلق ـ كما ذكره الصاحب اسماعيل بن عباد ..

(٣) المجموعة في قول بعضهم :

ومرجع الضمير قد تأخرا

لفظاً ورتبة وهذا حصرا

في باب نعم وتنازع العمل

ومضمر الشأن ورب والبدل

ومبتدأ مفسر بالخبر

وباب فاعل يخلف فاخبر

واعلم أن ضعف التأليف ناشى ، من العدول عن المشهور إلى قول له صحة عند بعض أولى النظر ، أما إذا خالف المجمع عليه كجر الفاعل ورفع المفعول ففاسد غير معتبر ، والكلام في (تركيب له صحة واعتبار).

٢٤

ولو أن مَجداً أخلدَ الدهرَ واحداً

من الناس أبقى مجده الدهر (مطعما) (١)

الثالث : التعقيد اللفظي : هو كون الكلام خفيّ الدّلالة على المعنى المراد به بحيث تكون الألفاظ غير مُرتبة على وفق ترتيب المعاني. وينشأ ذلك التّعقيد من تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض) (٢) وهو مذموم : لأنه يُوجب اختلال المعنى واضطرابه ، من وضع ألفاظه في غير المواضع اللّائقة بها ـ كقول المتنبي

جفخت وهم لا يجفخونَ بهابهم

شيمٌ على الحسَب الأغر دلائل (٢)

أصله : جفخت (افتخرت) بهم شيمَ دلائل على الحسب الأغر هم لا يجفخون بها.

الرابع : التعقيد المعنوي كون التركيب خفىّ الدَّلالة على المعنى المراد (٣) ، بحيث لا يفهم معناه إلاّ بعد عناء وتفكير طويل.

وذلك لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المقصود بسبب إيراد اللوازم البعيدة ، المفتقرة إلى وسائط كثيرة ، مع عدم ظهور القرائن الدّالة على المقصود : بأن يكون

__________________

(١) فان الضمير في من (مجده) راجع إلى (مطعما) وهو متأخر في اللفظ كما يرى ، وفي الرتبة لأنه مفعول به ، فالبيت غير فصيح لمخالفته قواعد النحو.

ومطعم أحد رؤساء المشركين وكان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعنى البيت أنه لو كان مجد الانسان سببا لخلوده في هذه الدنيا لكان (مطعم ابن عدي) أولى الناس بالخلود لأنه حاز من المجد ما لم يحزه غيره على يد صاحب الشريعة.

(٢) وذلك كالفصل بأجنبي بين الموصوف والصفة ، وبين البدل والمبدل منه وبين المبتدأ والخبر ، وبين المستثنى والمستثنى منه ، مما يسبب ارتباكا واضطراباً شديداً.

(٣) فلفظة جفخت مرة الطعم ، وإذا مرت على السمع اقشعر منها : ولو استعمل (المتنبي) عوضا عن جفخت (فخرت) لاستقام البيت ، وحظى في استعماله بالأحسن.

(٤) بحيث يعمد المتكلم إلى التعبير عن معنى فيستعمل فيه كلمات في غير معناها الحقيقي ، فيسىء اختيار الكلمات للمعنى الذي يريده ، فيضطرب التعبير ويلتبس الأمر على السامع نحو : نشر الملك السنته في المدينة ، يريد جواسيسه والصوان نشر عيونه.

٢٥

فهمُ المعنى الثاني من الأول بعيداً عن الفهم عُرفا (١). كما في قول عبّاس بن الأحنَف.

سأصلبُ بُعد الدار عنكم لتقرُبوا

وتسكبُ عيناي الدُّموع لتجمُدا (٢)

جعلَ سكبَ الدُموع كناية عمّا يلزم في فراق الأحبَّة من الحزن والكمد : فأحسن وأصابَ في ذلك ، ولكنَّه أخطأ في جعل جمود العين كنايةً عمَّا يوجبه التَّلاقى من الفرح والسُرُور بقُرب أحبتّه ، وهو خفىّ وبعيدٌ (٣) إذ لم يعرف في كلام العرب عند الدُّعاء لشخص بالسرور (أن يقال له جُمدت عينك) أو لا زالت عينك جامدةً ، بل المعروف عندهم أنّ جمود العين إنّما يكنى به عن عدم البكاء حالة الحزن ، كما في قول الخنساء.

أعيني جودا ولا تجمُدا

ألا تبكيانِ لصَخر النَّدى

وكما في قول أبي عطاء يرثى ابن هُبيرة :

__________________

(١) فالمناط في الصعوبة عدم الجريان على ما يتعاطاه أهل الذوق السليم ، لا كثرة الوسائط الحسية ، فانها قد تكثر من غير صعوبة ، كما في قولهم : فلان كثير الرماد كناية عن المضياف فان الوسائط كثيرة فيه ولكن لا تعقيد ..

(٢) تسكب بالرفع عطف على أطلب ، وبالنصب عطف على بعد : من قبيل عطف الفعل على اسم خالص من التأويل بالفعل ، والمراد طلب استمرار السكب : لا أصله لئلا يلزم تحصيل الحاصل.

(٣) ووجه الخفاء والبعد : أن أصل معنى جمود العين جفافها من الدموع عند إرادتها منها ، والانتقال منه إلى حصول السرور بعيد ، لأنه يحتاج إلى وسائط بأن ينتقل من جمود العين إلى انتفاء الدمع منها ، حال إرادة البكاء ، ومنه إلى انتفاء الدمع مطلقاً ، ومنه إلى انتفاء الحزن ونحوه «فان ذلك هو السبب غالبا في الدمع» ومن انتفاء الحزن ونحوه إلى السرور ولا يخفى أن الشاعر قد طوى وحذف جميع هذه الوسائط فأورث بطء الانتقال من المعنى الأصلي الحقيقي إلى المعنى المراد وخالف حينئذ أسلوب البلغاء ، فنشأ من ذلك التعقيد المعنوي واعلم أن الشاعر أراد أن يرضى بالبعد والفراق ، ويعود نفسه على مقاساة الأحزان والأشواق ، ويتحمل من أجلها حزنا يفيض من عينيه الدموع ، ليتوصل بذلك إلى وصل يدوم ، ومسرة لا تزول على حد قول الشاعر :

ولطالما اخترت الفراق مغالطا

واحتلت في استثمار غرس ودادي

ورغبت عن ذكر الوصال لأنها

تبنى الأمور على خلاف مرادي

٢٦

ألا إنَّ عيناً لم تجدُ يومَ واسط

عليك : بحارى دمعها لجمود (١)

وهكذا كل الكنايات التي تستعملها العرب لأَغراض ويُغَيرها المتكلمُ ، ويريد بها أغراضاً أخرى تعتبر خروجاً عن سُنن العرب في استعمالاتهم ـ ويُعدّ ذلك تعقيداً في المعنى : حيث لا يكون المراد بها واضحاً.

الخامس : كثرة التكرار (٢) : كون اللفظ الواحد : اسماً كان أو فعلاً أو حرفاً.

وسواء أكان الاسم : ظاهراً أو ضميراً ، تعدّد مرَّة بعد أخرى بغير فائدة كقوله :

إنّي وأسطارٍ سُطرنَ سَطراً

لَقائلٌ يا نصرُّ نصرُ نصراَ

وكقول المتنبي :

أقِل أنل اقطع اجمل علَّ سل أعد

زد هشَّ بش تفضَّلُ أدِنِ سُرَّصل

وكقول أبي تمَّام في المديح :

كأنَّه في اجتماع الرُّوح فيه لَهُ

في كلِّ جارحةٍ من جسمِهِ رُوحُ

السادس : تتابعُ الإضَافات كون الاسم مضافا إضافةً مُتداخلة غالباً ، كقول ابن بابك :

حمامَةَ جَرعا حَومةِ الجَندَلِ لسجَعِي

فأنتِ بمراى من سُعادَ ومَسمع (٣)

وملخص القول : إنَّ فصاحة الكلام تكون بخُلوَّه من تنافر كلماته ومن ضعف تأليفه ، وتعقيد معناه ، ومن وضع ألفاظه في غير المواضع اللائقة بها.

__________________

(١) أي لبخيلة بالدموع.

(٢) المراد بالكثرة ههنا ما فوق الوحدة فذكر الشيء ثانيا تكرار ، وذكره ثاالثاً كثرة ، وانما شرطت الكثرة لأن التكرار بلا كثرة لا يخل بالفصاحة وإلا لقبح التوكيد اللفظي.

(٣) ففيه إضافة حمامة إلى جرعا وهو تأنيث الأجرع وهو المكان ذو الحجارة السود ، أو مكان الرمل الذي لا ينبت شيئا «وجرعا» مضاف إلى «حومة» وهي معظم الشيء «وحومة» مضاف إلى «الجندل» بسكون النون وهو الحجر ، والمراد به هنا مكان الحجارة ، فهو بمعنى الجندل بفتح النون وكسر الدال وقوله «فأنت بمرأى من سعاد ومسمع ، أي أنت بحيث تراك سعاد وتسمع كلامك يقول : اسجعي يا حمامة أرض قفرة سبخة ، فان سعاد تراك وتسمعك.

٢٧

تطبيق

بين العيوب التي أخلَّت بفصاحة الكلام فيما يأتي :

لك الخيرُ غيري رَامَ من غيرك الغنى

وغيري بغير اللازقيَّة لاحق

وازورَّ مَن كانَ له زائراً

وعافَ عافى العُرف عِرفانُه (١)

أنَّى يكونُ أبا البرايا آدمٌ

وأبوكَ والثَّقَلاَنِ أنتَ محمدُ (٢)

ومن جاهل بي وهُوَ يجهَلُ جهلة

ويَجهل عِلمي أنه بيَ جاهل

وقَلقلت بالهمَّ الذي قَلقَلَ الحَشا

قَلاَقلَ همّ كلَّهنَّ قَلاَقلُ

وما مِثلهُ في النَّاس إلا مُمَلَّكاً

أبو أمّهِ حتى أبوه يقاربُه (٣)

__________________

(١) العيب في تنافر الكلمات والمعنى انحرف عنه من كان يزوره ، وكره طالب الاحسان معرفته.

(٢) يريد كيف يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد وأنت الثقلان أي الأنس والجن يعني أنه قد جمع ما في الخليقة من الفضل والكمال وقد فصل بين المبتدأ والخبر وهما أبوك محمد ، وقدم الخبر على المبتدأ تقديما قد يدعو إلى اللبس في قوله «والثقلان وأنت» على أنه بعد هذا التعسف لم يسلم كلامه من سخف وهذر.

(٣) يريد الفرزدق مدح إبراهيم بن اسماعيل خال هشام بن عبد الملك وما مثله في الناس حي «أحد» يقاربه «يشابهه» إلا مملكا ، أبو أمه أبوه فقدم المستثنى على المستثنى منه وفصل بين مثل وحي وهما بدل ومبدل منه وبين أبو أمه وأبوه وهما مبتدأ وخبروبين حي ويقاربه وهما نعت ومنعوت ، ولا يفصل بين كل منهما بأجنبي. والمعنى : وليس مثل إبراهيم في الناس أحد يشبهه في الفضائل إلا ابن اخته هشام ـ فضمير أمه عائد على المملك ، وضمير أبوه عائد على إبراهيم الخال.

٢٨

إلى مَلك ما أمُّه من مُحَارب

أبوه ولا كانت كُلَيبٌ تُصاهره (١)

ليسَ إلاكَ يا عليُّ هُمامٌ

سيَفهُ دُونَ عَرضِه مسلولُ (٢)

كَسا حلمهُ ذا الحلم أثوابُ سُؤدُد

ورقَّى نداهُ ذا النَّدَى في ذُرا المجد (٣)

من يهتدي في الفعل ما لا يهتدى

في القول حتَّى يَفعل الشعراءُ (٤)

__________________

(١) يريد إلى ملك ابوه ليست أمه من محارب أي ما أمه منهم.

(٢) فيه ضعف تأليف حيث وضع الضمير المتصل بعد إلا ، وحقه وضع المنفصل (إياك).

(٣) أي من كان ديدنه الحلم والكرم حاز السيادة والرفعة ، فالضمير في حله لذا الحلم المذكور بعد ، فهو المتأخر لفظا ومعنى وحكما ، وكذا الضمير في نداه لذا الندى.

(٤) أي يهتدى في الفعل ما لا يهتديه الشعراء في القول حتى يفعل.

٢٩

فصاحة المتكلم

فصاحة المتُكلِّم : عبارةٌ عن المَلكة (٨) التي يقتدر بها صاحبها التعبير عن المقصود بكلام فصيح في أيِّ غرضٍ كان.

فيكون قادراً بصفة الفصاحة الثابتة في نفسه على صياغة الكلام مُتمكّناً من التّصرف في ضُروبه بصيراً بالخوض في جهاته ومَنَاحِيه.

__________________

(٨) أي كيفية وصفة من العلم راسخة وثابتة في نفس صاحبها يكون قادراً بها على أن يعبر عن كل ما قصده من أي نوع من المعاني كالمدح والذم والرثاء وغير ذلك بكلام فصيح ، فاذاً المدار على الاقتدار المذكور سواء وجد التعبير أو لم يوجد ، وأن من قدر على تأليف كلام فصيح في نوع واحد من تلك المعاني لم يكن فصيحاً ، وانه لا يكون فصيحاً إلا إذا كان ذا صفة من العلم راسخة فيه وهي المسماة «بالملكة» يقتدر بها على أن يعبر عن أي معنى قصده بكلام فصيح أي خال عن الخلل في مادته «وذلك بعدم تنافر كلماته» وعن الخلل في تأليفه «وذلك بعدم ضعف تأليفه» وعن الخلل في دلالته على المعنى التركيبي «وذلك بعدم التعقيد اللفظي والمعنوي» فان كان شاعراً اتسع أمامه ميدان القول في جميع فنون الشعر من نسيب وتشبيب ومديح وهجاء ووصف ورثاء وعتاب واعتذار وأشباه ذلك ، وإن كان ناثراً حاك الرسائل المحلاة ، والخطب الممتعة الموشاة ، في الوعظ ، والارشاد ، والحفل والأعياد.

٣٠

البلاغة

البلاغة في اللغة (الوُصول والأنتِهاء) يقال بلغ فلان مراده ـ إذا وصل إليه ، وبلغ الركب المدينة ، إذا انتهى اليها (١) وَمبلغ الشيء منتهاه وبلغ الرجل بلاغة : فهو بليغ : إذا أحسَن التّعبير عمَّا في نفسه.

__________________

(١) البلاغة هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة : لها في النفس أثر خلاب ، مع ملاءمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه ، والاشخاص الذين يخاطبون والبلاغة مأخوذة من قولهم ، بلغت الغاية إذا انتهيت اليها ، وبلغتها غيري والمبالغة في الشيء الانتهاء إلى غايته فسميت البلاغة بلاغة لأنها تنهى عن المعنى إلى قلب السامع فيفهمه ، وسميت البلغة بلغة لأنك تتبلغ بها ، فتنتهي بك إلى ما فوقها وهي البلاغ أيضاً ويقال : الدنيا بلاغ ، لأنها تؤديك إلى الآخرة ، والبلاغ أيضاً التبليغ ومنه : هذا بلاغ للناس أي تبليغ ويقال بلغ الرجل بلاغة إذا صار بليغاً ، كما يقال نبل الرجل نبالة إذا صار نبيلا قال أعرابي : البلاغة التقرب من البعيد ، والتباعد من الكلفة ، والدلالة بقليل على كثير وقال عبد الحميد بن يحيى البلاغة تقرير المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام وقال ابن المعتز البلاغة البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام وقال العتابي : البلاغة مد الكلام بمعانيه إذا قصر ، وحسن التأليف إذا طال وقال عبد الله ابن المقفع : البلاغة لمعان تجري في وجوه كثيرة فمنها ما يكون في الاشارة ، ومنها ما يكون في الحديث ، ومنها ما يكون في الاستماع ، ومنها ما يكون في الاحتجاج ، ومنها ما يكون شعراً ، ومنها ما يكون ابتداء ، ومنها ما يكون جواباً ومنها ما يكون خطباً ، ومنها ما يكون رسائل ، فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والاشارة إلى المعنى ابلغ ـ والايجاز هو البلاغة ، فالسكوت يسمى بلاغاً مجازاً ـ وهي في حالة لا ينجع فيها القول ، ولا ينفع فيها إقامة الحجج ـ إما عند جاهل لا يفهم الخطاب أو عند وضيع لا يرهب الجواب ، او ظالم سليط يحكم بالهوى ، ولا يرتدع بكلمة التقوى وإذا كان الكلام يعرى من الخير ، أو يجلب الشر فالسكوت أولى ، وقال الرشيد : البلاغة التباعد من الاطالة ، والتقرب من البغية ، والدلالة بالقليل من اللفظ ، على الكثير من المعنى قال أحد الأدباء : ابلغ الكلام ما حسن إيجازه ، وقل مجازه ، وكثر إعجازه ، وتناسبت صدوره وأعجازه.

٣١

وتقع البلاغة في الاصطلاح : وصفا للكلام ، والمتكلّم فقط.

ولا توصف «الكلمة» بالبلاغة ، لقصورها عن الرسول بالمُتكلَّم إلى غرضه ، ولعدم السّماع بذلك.

بلاغة الكلام

البلاغة في الكلام : مطابقته لما يقتضيه حال الخطاب (١) ، مع فصاحة ألفاظه مفردها ومركبها.

والكلام البليغ : هو الذي يُصورَّه المتُكلِّم بصورة تناسبُ أحوال المخاطبين.

وحال الخطاب ويسمى بالمقام هو الأمر الحامل للمتكلم على أن يُوردَ عبارته على صورة مخصوصة دون أخرى.

والمُقتضَى : ويسمى الاعتبار المُناسب هو الصورة المخصوصة التي تُورَدُ عليها العبارة.

مثلاً : المدح حال يدعو لا يراد العبارة على صورة الإطناب وذكاء حال يدعو لإيرادها على صورة الإيجاز فكلٌ من المدح والذكاء «حال ومقام» وكلٌّ من الإطناب والإيجاز مُقتضَى.

__________________

(١) مقتضى الحال ، هو ما يدعو إليه الأمر الواقع ، أي ما يستلزمه مقام الكلام واحوال المخاطب من التكلم على وجه مخصوص ، ولن يطابق الحال إلا إذا كان وفق عقول المخاطبين ، واعتبار طبقاتهم في البلاغة ، وقوتهم في البيان والمنطق فللسوقة كلام لا يصلح غيره في موضعه ، والغرض الذي يبنى له ، ولسراة القوم والأمراء فن آخر لايسد مسده سواه من أجل ذلك كانت مراتب البلاغة متفاوتة ، بقدر تفاوت الاعتبارات والمقتضيات ، وبقدر رعايتها يرتفع شأن الكلام في الحسن والقبح ، ويرتقي صعداً إلى حيث تنقطع الاطماع ، وتخور القوى ، ويعجز الانس والجن أن يأتو بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وتلك مرتبة الأعجاز التي تخرس عندها ألسن الفصحاء لو تاقت إلى العبارة : وقد عرف بالخبر المتواتر أن القرآن الكريم نزل في أرقى العصور فصاحة ، وأجملها بلاغة ولكنه سد السبل أمام العرب عند ما صاح عليهم صيحة الحق ، فوجفت قلوبهم ، وخرست شقاشقهم ، مع طول التحدي وشد النكير (وحقت للكتاب العزيز الكلمة العليا).

٣٢

وإيراد الكلام على صورة الاطناب (١) أو لايجاز مُطابقة للمقُتضَى وليست البلاغة (٢) إذاً مُنحصرة في إيجاد معان جليلة ، ولا في اختيار ألفاظ واضحة جزيلة ، بل هي تتناول مع هذين الأمرين أمراً ثالثاً (هو إيجاد أساليب مُناسبة للتأليف بين تلك المعاني والألفاظ) مما يُكسبها قوَّة وجمالا.

وملخص القول : إنَّ الأمر الذي يَحملُ المُتكلّم على إيراد كلامه في صورة دون أخرى : يُسمى حالا وإلقاء الكلام على هذه الصُّورة التي اقتضاها الحال يُسمى مُقتضَى والبلاغة هي مُطابقة الكلام الفصيح لما يقتضيه الحال.

__________________

(١) فان اختلاف هذه الظروف يقتضي هيئة خصوصية من التعبير ولكل مقام مقال ، فعلى المتكلم ملاحظة المقام أو الحال : وهو الأمر الذي يدعوه إلى أن يورد كلامه على صورة خاصة تشاكل غرضه ، وتلك الصورة الخاصة التي يورد عليها تسمى المقتضى او الاعتبار المناسب ، فمثلاً الوعيد والزجر والتهديد مقام يقتضي كون الكلام المورد فيه فخما جزلا والبشارة بالوعد ، واستجلاب المودة ، مقام يتطلبه رقيق الكلام ولطيفه ، والوعظ مقام يوجب البسط والاطناب ، وكون المخاطب عاميا سوقيا ، أو أميراً شريفاً ، يوجب الاتيان بما يناسب بيانه عقله.

(٢) لأن البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع ، فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك ، مع صورة مقبولة ، ومعرض حسن وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطا في البلاغة ، لأن الكلام إذا كانت عبارته رثة ، ومعرضه خلقا ، لم يسم بليغاً وإن كان مفهوم المعنى ، مكشوف المغزى. فعناصر البلاغة إذاً (لفظ ومعنى ، وتأليف للألفاظ) ، يمنحها قوة وتأثيراً وحسنا ، ثم دقة في اختيار الكلمات والأساليب ، على حسب مواطن الكلام ومواقعه ، موضوعاته وحال السامعين ، والنزعة النفسية التي تتملكهم وتسيطر على نفوسهم فرب كلمة حسنت في موطن ، ثم كانت مستكرهة في غيره ـ ورب كلام كان في نفسه حسنا خلايا ، حتى إذا جاء في غير مكانه ، وسقط في غير مسقطه ، خرج عن حد البلاغة ، وكان غرضا لسهام الناقدين.

٣٣

بلاغة المتكلم

بلاغة المتكلم : هي مَلَكة في النَّفس (١) يقتَدرُ بِهَا صاحبها علىتأليف كلام بليغ : مُطابق لمقتَضَى الحال ، مع فصاحته في أيّ معنى قَصَده.

وتلك غاية لن يَصِل إليها إلاَّ من أحاط بأساليب العرب خُبرا وعرف سُنن تخاطُبهم في مُنافراتهم ، ومفاخراتهم ، ومديحهم ، وَهجائهم وَشكرهم ، واعتذارهم ، لِيلَبس لكل حالة لبُوسها ولكلِّ مقام مَقال.

__________________

(١) أي أن الهيئة والصفة الراسخة الثابتة في نفس المتكلم يمكنه بواسطتها أن يعبر عن المعاني التي يريد إفادتها لغيره بعبارات بليغة؛ أي مطابقة لحال الخطاب ، فلو لم يكن ذا ملكة يقتدر بها على التصرف في اغراض الكلام وفنونه بقول رائع ، وبيان بديع بالغاً من مخاطبه كل ما يريد ، لم يكن بليغاً وإذاً لابد للبليغ : أولا ، من التفكير في المعاني التي تجيش في نفسه ، وهذه يجب أن تكون صادقة ذات قيمة ، وقوة يظهر فيها أثر الابتكار وسلامة النظر وذوق تنسيق المعاني وحسن ترتيبها ، فاذا تم له ذلك عمد إلى الالفاظ الواضحة المؤثرة الملائمة ، فألف بينها تأليفاً يكسبها جمالا وقوة.

فالبلاغة ليست في اللفظ وحده ، وليست في المعنى وحده ، ولكنها أثر لازم لسلامة تألبف هذين وحسن انسجامهما ، وقد علم أن البلاغة أخص والفصاحة أعم لانها مأخوذة في تعريف البلاغة ، وان البلاغة يتوقف حصولها على أمرين ، الأول : الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المقصود ، والثاني : تمييز الكلام الفصيح من غيره لهذا كان للبلاغة درجات متفاوتة تعلو وتسفل في الكلام بنسبة ما تراعى فيه مقتضيات الحال ، وعلى مقدار جودة ما يستعمل فيه من الأساليب في التعبير والصور البيانية والمحسنات البديعية ، وأعلى تلك الدرجات ما يقرب من حد الاعجاز ، واسفلها ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وان كان صحيح الاعراب : وبين هذين الطريفين مراتب عديدة.

٣٤

أقوال ذوي النبوغ والعبقرية في البلاغة

(١) قال قُدامَة : البلاغة ثلاثة مذاهبَ :

المُساواة : وهي مُطابقة اللَّفظ المعني : لا زائداً ولا ناقصاً.

والإشارة : وهي أن يكون اللفظ كاللَّمحة الدَّالة.

والتَّذييلُ : وهو إعادة الألفاظ المُترادفة على المعنى الواحد ، ليظهر لمن لم يفهمه ، ويتأكد عند من فهمه (١).

(٢) وقيل لجعفر بن يحيى : ما البيان؟ فقال : أن يكون اللفظ محيطاً بمعناك ، كاشفاً عن مغزاك ، وتخرجه من الشركةِ ، ولا تستعين عليه بطول الفكرة ويكون سالماً من التكلّف ، بعيداً من سوء الصِّنعة ، بريئاً من التعقيد ، غنياً عن التأمل (٢).

(٣) ومما قيل في وصف البلاغة : لا يكون الكلام يستحقّ اسم البلاغة حتى يُسابِقَ معناهُ لَفظَهُ معناه ، فلا يكون لَفظه إلى سمعك أسبقَ من معناه إلى قلبك (٣).

(٤) وسأل معاوية صُحَاراً العَبديَّ : ما البلاغة؟ قال : أن تُجيب فلا تُبطىء ، وتُصيبَ فلا تُخطىء (٤).

(٥) وقال الفضل : قلت لأعرابي ما البلاغة؟ قال : الايجازُ في غير عَجز ، والاطناب في غير خَطَلٍ (٥).

(٦) وسُئل ابن المُقفع : ما البلاغة؟ فقال : البلاغة اسمٌ جَامِعٌ لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة : فمنها ما يكون في السكوت ، ومنها ما يكون في الاستماع ، ومنها ما يكون في الاشارة ، ومنها ما يكون في الحديث ، ومنها ما يكون في الاحتجاج ، ومنها ما يكون سَجعاً وخُطباً ، ومنها ما يكون رَسَائلَ ، فعامَّةُ ما يكون من هذه الأبواب ـ الوحيُ فيها ، والاشارة إلى المعنى ، والإيجاز ، هو البلاغة.

__________________

(١) نهاية الارب جزء ٧ ، ص ٨.

(٢) نهاية الأرب جزء ٧ ، ص ٦.

(٣) من كتاب البيان والتبيين للجاحظ جزء ١ ، صحيفة ٩١.

(٤) نهاية الأرب جزء ، ٧ ص ٨.

(٥) البيان والتبين للجاحظ جزء ١ ، ص ٩١.

٣٥

فأمَّا الخُطبُ بين السِّماطينِ ، وفي إصلاح ذاتِ البَينِ ، فالإكثار في غير خَطلٍ ، والاطَالَةَ في غير إملالٍ ، وليَكن في صَدرِ كلامك دليلٌ على حاجتك ، فقيل له : فإن مَلَّ المُستمعُ الاطالَة التي ذَكرتَ أنَّها حَقٌّ ذلك الموقف؟ قال : إذا أعطيتَ كل َّ مقام حَقَّهُ ، وقَمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام ، وأرضيتَ مَن يَعرفَ حقوقَ الكلام ، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدوّ ، فإنه لا يُرضيهمَا شيء ، وأما الجاهلُ فَلَستَ منه ، وليس منك ، وقد كان يقال : (رِضاء الناس شيء لا يُنال (١)).

(٧) ولابنِ المُعتّزّ : أبلغُ الكلام : ما حَسُنَ إيجازُهُ ، وَقلَّ مَجَازُه ، وكَثُر إعجازُه ، وتناسَبت صُدُوره وأعجَازُه (٢).

(٨) وسمع خالدُ بنُ صَفوَان رجلاً يتكلّم ، ويكثرُ الكلام.

فقال : اعلم (رحمك الله) أن البلاغة ليست بخفَّة اللّسان ، وكثرة الهذيان ، ولكنها بإصابة المعنى ، والقصد إلى الحُجّة (٣).

(٩) ولبشرِ بن المعُتمرِ : فيما يجب أن يكون عليه الخطيب والكاتب رسالة من أنفس الرسائل الأدبية البليغة ، جمعت حدود البلاغة وصوّرتها أحسَنَ تصوير ، وسنذكر مع شيء من الإيجاز ما يتصل منها بموضوعنا قال :

خُذ من نفسك سَاعةَ نشاطك ، وفراغِ بالكَ ، وإجابتها إيَّاك؛ فانّ قليلَ تلك الساعة أكرَمُ جَوهَراً ، واشرفُ حسباً ، وأحسّنُ في الأسماع ، وأحلى في الصُّدُور ، واسلمُ من فاحش الخطأ ، وأجلَبُ لكل عَينٍ وغُرَّة : من لفظ شريف ، ومعنى بديع. واعلم أن ذلك أجدَى عليك : مما يعطيك يَومُكَ الأطولُ بالكَد والمُطاوَلة والمجاهدة ، وبالتكلُّفِ والمعاودة. وإيَّاك والتّوعُرَ؛ فإنّ التّوعر يُسلِمُك إلى التّعقيد ، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيكَ ، ويشين ألفاظَك ، ومن اراد معنى كريماً فَليَلتمس له لفظاً كريماً ، فإن حقَّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف ، ومن حقِهِّما أن تصونهما عما يفسدهما ويهُجِّنهما ...

__________________

(١) البيان والتبيين جزء ١ ص ٩١ ، ٩٢.

(٢) نهاية الأرب جزء ٧ ص ١١.

(٣) مختار العقد الفريد ص ٩٨.

٣٦

وكن في ثلاث منازل : فان أولى الثلاث ان يكون لفظكَ رشيقاً عذباً ، وفَخماً سهلاً ، ويكونَ معناك ظاهراً مكشوفاً ، وقريباً معروفاً ، إمَّا عند الخاصة : إن كنت للخاصة قَصَدت ، وإمَّا عند العامة : إن كنت للعامة أرَدت ، والمعنى ليس يشرُف بأن يكون من معاني الخاصة ، وكذلك ليس يَتَّضِعُ بان يكون من معاني العامة ، وإنما مدار الشرف على الصواب ، وإحراز المنفعة ، مع موافقة الحال ، وما يجب لكل مقام من المقال ، وكذلك اللفظُ العامِّي والخاصِّي ، فان أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك ، وبلاغة قلمك ، ولطف مَدَاخلك ، واقتدارك على نفسك. على أن تفهم العامة معاني الخاصة ، وتكسوها الألفاظ الواسِعةَ التي لا تلطفُ عن الدّهمَاءن ولا تجفُو عن الأكفاء ، فأنت البليغ التام.

فان كانت المنزلة الأولى لا تُواتيك ولا تَعتَريك ، ولا تسنح لك عند أوّل نظرِك ، وفي أوّل تكلّفك ، وتجد اللفظة لم تقع مَوقِعها ن ولم تصل إلى قرارها وإلى حقَّها : من أماكنها المقسومة لها ، والقافية لم تحُلَّ في مركزها وفي نصابها ، ولم تصل بشكلها ، وكانت قلقة في مكانها ، نافرة من موضعها ، فلا تُكرهها على اغتصاب الأماكن ، والنّزول في غير أوطانها ، فانك إذا لم تتعاط قرضَ الشعر الموزون ، ولم تتكلّف أختيار الكلام المنثور ، لم يَعبكَ بترك ذلك أحد ، وإن انت تكلَّفته ، ولم تكن حاذقاً مطبوعاً ، ولا مُحكماً لسانك ، بصيراً بما عليك أو مَالَك ، عابك من أنت أقَلُّ عيباً منه ، ورأى من هو دونَكَ أنهُ فوقك. فإن ابتليتَ بان تتكلّفَ القول ، وتتعاطى الصّنعة ، ولم تسمح لك الطباع في أول وَهلة ، وتَعصى عليك بعد إحالة الفِكرة ، فلا تَعجَل ولا تضجَر ، ودَعهُ بياض يومك ، أو سوادَ ليلك ، وعاودهُ عند نشاطك وفراغ بالك ، فإنك لا تعدَمُ الإجابة وَالمُواتاة ، إن كانت هناك طبيعة ، أو جَرَيتَ من الصناعة على عِرق.

فإن تَمنَّع عليك بعد ذلك من غير حادث شُغلٍ عَرضَ ، ومن غير طول إهمال ، فالمنزلة الثالثة أن تتحوّل من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك ، وأخفّها عليك ... ؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبَة ، ولا تسمح بمخزونها مع الرَّهبَة ، كما تجُودُ به مع المحبّة والشّهوة. فهكذا هذا.

٣٧

وينبغي للمتكلم : أن يعرف أقدار المعاني ، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين ، وبين اقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامان ولكل حالة من ذلك مقامان حتى يقسِّم أقدار الكلام على أقدار المعاني ، ويقسِّم أقدار المعاني على أقدار المقامات ، واقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات.

وبعدُ ، فاَنت ترى فيما قالوه : أن حدّ البلاغة هو أن تجعل لكل مقام مقالا؛ فتوجز : حيث يحسن الإيجاز ، وتطنب : حيث يجمل الاطناب ، وتؤكد : في موضع التوكيد ، وتقدم أو تؤخر : إذا رأيت ذلك أنسبَ لقولك ، وأوفى بغرضك ، وتخاطب الذكي بغير ما تخاطب به الغبي ، وتجعل لكل حال ما يناسبها من القول ، في عبارة فصيحة ، ومعنى مختار. ومن هنا عَرَّفَ العلماء «البلاغة» بأَنها : مطابقة الكلام لمقتضَى الحال مع فصاحة عباراته.

واعلم : أنَّ الفرق بين الفصاحة والبلاغة : أن الفصاحةَ مقصورةٌ على وصف الألفاظ ، والبلاغةَ لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني؛ وأن الفصاحةَ تكون وصفاً للكلمة والكلام ،

والبلاغةَ لا تكون وصفاً للكلمة ، بل تكون وصفاً للكلام ، وأن فصاحة الكلام شرط في بلاغته.

فكل كلام بليغ : فصيحٌ ، وليس كل فصيح بليغاً ، كالذي يقع فيه الإسهاب حين يجب الإيجاز.

٣٨

تمرين

بيَّن الحال ومقتضاه فيما يلي :

(١) هنَاء محَا ذاك العزاء المُقدما

فما عبس المحزونُ حتى تبسَّما (١)

(٢) تقول للرّاضي عن إثارة الحروب : إن الحرب مُتلفةٌ للعباد ، ذهَّابَةٌ (٢) بالطّارف والتَّلاد.

(٣) يقول الناس إذا رأوا لِصَّا. أو حريقاً : لصٌّ حريقٌ (٣).

(٤) قال تعالى : (وَإنَا لاَ نَدرِي أَشَرٌّ أُريدَ بمن في الأرض ، أم أرَادَ بِهم رَبُّهُم رَشَدا)(٤).

(٥) يقول راثى البرَامِكة :

أُصِبتُ بسَادةٍ كانوا عيوناً

بهم نسقى إذا انقطعَ الغَمامُ (٥)

__________________

(١) الحال هنا هو تعجيل المسرة والمقتضى هو تقديم الكلمة الدالة على السرور وهي كلمة هناء.

(٢) الحال هنا هو إنكار الضرر من الحرب والمقتضى هو توكيد الكلام.

(٣) الحال هنا هو ضيق المقام والمقتضى هو الاختصار بحذف المسند إليه والتقدير ، هذا لص ، هذا حريق.

(٤) الحال في أشر أريد هو عدم نسبة الشر إلى الله تعالى ، والمقتضى هو حذف الفاعل ، إذ الأصل ، أشر أرادة الله بمن في الأرض.

والحال في أم أراد بهم ربهم رشداً هو نسبة الخير إلى الله تعالى ، والمقتضى بقاء الفاعل من غير حذف «أي فعل الارادة جاء مع الشر على صورة المبني للمجهول ، ومع الرشد على صورة المبني للمعلوم ، والحال الداعية إلى بناء الأول للمجهول (التأدب) في جانب الله تعالى بعدم نسبة الشر إليه صراحة ، وإن كان الخير والشر مما قدره الله تعالى وأراده».

(٥) الحال هنا هو الخوف من (الرشيد) ناكب البرامكة ، والمقتضى حذف الفاعل من اصبت.

٣٩

ملاحظات

(١) التّنافر : يُعرف بالذوق السلَّيم؛ والحِسِّ الصَّادق (١).

(٢) مخالفة القياس : تُعرف بعلم الصرَّف.

(٣) ضعف التَّأليف والتَّعقيد اللَّفظي : يُعرفان بعلم النحو.

(٤) الغرَابة : تُعرف بكثرة الاطّلاع على كلام العرب ، والإحاطة بالمفردات المأنوسة.

(٥) التَّعقيد المعنوي : يُعرف بعلم البيان.

(٦) الأحوال ومقتضياتها : تُعرف بعلم المعاني.

(٧) خَلوُّ الكلام من أوجه التَّحسين : التي تكسوه رِقة ولَطافةً بعدَ رِعَايَة مُطابقته : تعرف بعلم البديع.

فاذاً وجَب عَلَى طالب البلاغة معرفةُ : اللغة والصَّرف ، والنَّحو ، والمعاني والبيان ، والبديع مع كونه سليمَ الذَّوق ، كثير الاطّلاع على كلام العرب ، وصاحبَ خبرة وافرةٍ بكُتُب الأدب ، ودِرَية ، تامَّة بعاداتهم وأحوالهم ، واستظهار للجيد الفاخرِ مِن نَثرهم ونظمهم ، وعلم كامل بالنَّابغين من شعراء ، وخطباء ، وكُتاب ، ممَّن لَهم الأثر البيّن في اللُّغة والفضلُ الأكبرُ على اللّسان العربي المبين.

__________________

(١) الذوق : في اللغة الحاسة يدرك بها طعم المأكل وفي الاصطلاح قوة غريزية لها اختصاص بادراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية ، وتحصل بالمثابرة على الدرس ، وممارسة كلام أئمة الكتاب ، وتكراره على السمع ، والتفطن لخواص معانيه وتراكيبه وأيضاً تحصل بتنزيه العقل والقلب عما يفسد الآداب والأخلاق. فان ذلك من أقوى أسباب سلامة الذوق.

أعلم أن (الذوق السليم) هو العمدة في معرفة حسن الكلمات وتمييز ما فيها من وجوه البشاعة ومظاهر الاستكراه ، لأن الألفاظ أصوات ، فالذي يطرب لصوت البلبل ، وينفر من صوت البوم والغربان ، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف ألا ترى أن كلمتي (المزنة والديمة السحابة الممطرة) كلتاهما سهلة عذبة يسكن اليهما السمع بخلاف كلمة (البعاق) التي في معناهما فانها قبيحة تصك الأذن وأمثال ذلك كثير في مفردات اللغة تستطيع أن تدركه بذوقك وقد سبق شرح ذلك.

٤٠