جواهر البلاغة

السيّد أحمد الهاشمي

جواهر البلاغة

المؤلف:

السيّد أحمد الهاشمي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مديرية العامة للحوزة العلمية في قم
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٥
ISBN: 964-6918-33-6
الصفحات: ٣٥٤

(٦) أو شرطاً : نحو : (اتبعوني يحببكم الله) أي : فان تتبعوني.

(٧) أو جواب شرط : نحو : (ولو ترى إذ وقفوا على النار) أي : لرأيت أمراً فظيعاً.

(٨) أو مسنداً : نحو (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) أي : خلقهن الله.

(٩) أو مسنداً إليه : كما في قول حاتم :

أماوى ما يغني الثراء عن الفتى

أي إذا حشرجت النفس يوماً

(١٠) أو مُتعلقا نحو : (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) أي عمّا يفعلون.

(١١) أو جملة نحو : (كان الناسُ امةً واحدة فبعث الله النبيين) أي فاختلُفوا : فبعث.

(١٢) أو جُمَلا كقوله تعالى : (فأرسلون يوسف أيها الصديقُ) (١). أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ، فأرسلوه فأتاه ، وقال له : يوسف أيها الصديق.

واعلم أنه لابد من دليل يدل على الخذوف وهو :

إما العقل وحده : نحو وجاء ربك ، وإما العقل مع غيره : نحو حرمت عليكم الميتة ، أي تناولها. وإما العادة : نحو (فذلكن الذي لمتنني فيه) ، أي في مراودته ، وإما الشروع فيه : نحو بسم الله الرحمن الرحيم ـ أي أؤلف مثلا ، وإما مقارنة الكلام للفعل : كما تقول لمن تزوج «بالرفاه والبنين» أي أعرست متلبساً بالالفة والبنين.

واعلم أنّ دواعي الإيجاز كثيرة منها : الاختصار ، وتسهيل الحفظ وتقريب الفهم ، وضيق المقام ، وإخفاء الأمر على غير السَّامع ، والضجر والسآمة ، وتحصيل المعنى الكثير باللفظ اليسير الخ.

ويُستحسن «الإيجاز» في الاستعطاف ، وشكوى الحال ، والاعتذارات والتعزية ، والعتاب ،

__________________

(١) فأرسلون حكاية عن أحد الفتيين الذي أرسله العزيز إلى يوسف ليستعبره ما رآه.

(تنبيه) حذف الجمل أكثر ما يرد في كلام الله عز وجل ، إذ هو الغاية في الفصاحة ، والنهاية في مراتب البلاغة ، واعلم أن كلا من الحشو والتطويل يخل ببلاغة الكلام ، بل لا يعد الكلام معهما إلا ساقطا عن مراتب البلاغة كلها.

١٨١

والوعد ، والوعيد ، والتوبيخ ، ورسائل طلب الخراج ، وجباية الأموال ، ورسائل الملوك في أوقات الحرب إلى الولاة والأوامر : والنواهي الملكية ، والشكر على النعم.

ومرجعك في ادراك أسرار البلاغة إلى الذوق الأدبي والإحساس الروحي

المبحث الثاني

في الإطناب وأقسامه

الإطناب : زيادة اللفظ على المعنى لفائدة ، أو هو تأدية المعنى بعبارة زائدة عن متعارف أوساط البلغاء : لفائدة تقويته وتوكيده نحو : (رب إني وهنَ العظم مني واشتعل الرأس شيبا) ، أي : كبرتُ.

فاذا لم تكن في الزيادة فائدة ، يسمى «تطويلا» إن كانت الزيادة في الكلام غير متعينة. ويسمى حشواً إن كانت الزيادة في الكلام متعينة لا يفسد بها المعنى.

فالتطويل : كقول عدي العبادي : في جذيمةَ الأبرش :

وقدَّدت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذباً وميناَ (١)

فالمينُ والكذب بمعنى واحد. ولم يتعين الزائد منهما ، لأن العطف بالواو : لا يفيد ترتيباً ولا تعقيباً ولا معية ، فلا يتغير المعنى باسقاط أيهما شئت.

__________________

(١) وقدت أي قطعت ، والضمير فيه يعود على الزباء ، وهي امرأة ورثت الملك عن أبيها والأديم الجلد ، ولراهشيه ، أي : إلى أن وصل القطع للراهشين ، وهما عرقان في باطن الذراع يتدفق الدم منهما عند القطع ، والضمير في ألفى يعود على المقطوع راهشاه ، وهو جذيمة الابرش ، والمراد الاخبار بأن جذيمة غدرت به الزباء ، وقطعت راهشيه ، وسأل منه الدم حتى مات ، وأنه وجد ما وعدته من تزوجه بها كذبا ومينا وهما بمعنى واحد ، واحدى الكلمتين زائدة فلا يتغير المعنى باسقاط أيهما شئت.

١٨٢

والحشو : كقول زهير بن أبي سلمى :

وأعلمُ علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمي (١)

وكل من الحشو والتطويل معيبٌ في البيان ، وكلاهما بمعزل عن مراتب البلاغة.

واعلم ان دواعي الاطناب كثيرة ، منها تثبيت المعنى ، وتوضيح المراد والتوكيد ، ودفع الايهام ، وإثارة الحمية وغير ذلك.

وأنواع الاطناب كثيرة(٢)

(١) منها : ذكر الخاص بعد العام : كقوله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وفائدته التنبيه على مزية : وفضلٍ في الخاص حتى كأنه لفضله ورفعته ، جزءٌ آخرُ ، مغاير لما قبله ولهذا خص الصلاة الوسطى (وهي العصر) بالذكر لزيادة فضلها.

(٢) ومنها : ذكر العام بعد الخاص : كقوله تعالى : (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) (٣) وفائدته شمول بقية الأفراد ، والاهتمام بالخاص لذكره ثانياً في عنوان عام ، بعد ذكره أولا في عنوان خاص.

(٣) ومنها : الإيضاح بعد الإبهام ، لتقرير المعنى في ذهن السامع بذكره مرتين ، مرة على سبيل الإبهام والأجمال ، ومرّة على سبيل التفصيل والإيضاح ، فيزيده ذلك نبلا وشرفاً كقوله تعالى : (يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) ، وكقوله تعالى (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين) فقوله أن دابر

__________________

(١) الشاهد في قوله ، قبله ، لأنه معلوم من قوله أمس : وكقول الآخر :

ذكرت أخي فعاودني

صداع الرأس والوصب

فان الصداع لا يكون الا في الرأس ، فذكر الرأس لا فائدة فيه.

(٢) ومنها الحروف الزائدة ، وتكثير الجمل ، (نحو فبما رحمة من الله لنت لهم).

(٣) من دعاء سيدنا نوح لنفسه ولوالديه وللمؤمنين.

١٨٣

هؤلاء تفسير وتوضيح لذلك (الأمر) المبهم وفائدته توجيه الذهن إلى معرفته ، وتفخيم شأن المبين ، وتمكينه في النفس فأبهم في كلمة (الأمر) ثم وضحه بعد ذلك تهويلا لأمر العذاب.

(٤) ومنها : التوشيع : وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنى مفسر بمفردين ليُرى المعنى في صورتين ، يخرج فيهما من الخفاء المستوحش إلى الظهور المأنوس ، نحو : العلم علمان ، علم الأبدان ، وعلم الأديان.

(٥) ومنها : التكرير : وهو ذكر الشيء مرتين أو أكثر لأغراض :

الأوّل : التأكيد وتقرير المعنى في النفس كقوله تعالى (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) (١) وكقوله تعالى : (فانَّ مع العُسر يُسراً إن مع العُسر يُسراً).

الثاني : طول الفصل. لئلا يجىء مبتوراً ليس له طلاوة كقوله تعالى (يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين) ، فكّرر (رأيت) لطول الفصل ـ ومن هذا قول الشاعر :

وإنَّ امرأ دامت مواثيق عهده

على مثل هذا إنه لكريمُ (٢)

الثالث : قصد الاستيعاب : نحو قرأت الكتاب باباً باباً ، وفهمته كلمة كلمة.

الرابع : زيادة الترغيب في العفو كقوله تعالى : (إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ، وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم).

الخامس : الترغيب في قبول النصح باستمالة المخاطب لقبول الخطاب كقوله تعالى (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار) ففي تكرير (يا قوم) تعطيف لقلوبهم ، حتى لا يشكوا في إخلاصه لهم في نصحه.

__________________

(١) أي سوف تعلمون ما أنتم عليه من الخطأ إذا شاهدتم هول المحشر ، فقد أكد الانذار بتكريره ليكون أبلغ تأثيرا وأشد تخويفا.

(٢) الشاهد في تكرير (إن) التي في أول البيت ، وتكريرها في آخره.

١٨٤

السادس : التنويه بشأن المخاطب (١) نحو : إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن ابراهيم.

السابع : الترّديد : وهو تكرار اللفظ متعلقاً بغير ما تعلق به أولا نحو ، السخي : قريب من الله ، قريب ٌ من الناس ، قريب من الجنة والبخيل : بعيدٌ من الله ، بعيدٌ من الناس ، بعيدٌ من الجنة.

الثامن : التلذذ بذكره ، نحو قول مروان بن أبي حفصة.

سقى الله نجداً والسلام على نجد

وياحبذا نجد على القُرب والبعد

التاسع : الارشاد إلى الطريقة المثلى ، كقوله تعالى : (أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى).

(٦) ومنها : الاعتراض لغرض يقصده المتكلم ، وهو أن يؤتى في اثناء الكلام ، أو بين كلامين متَّصلين في المعنى ، بجملة معترضة : أو أكثر ، لا محل لها من الاعراب (٢) وذلك لأغراض يرمي إليها البليغ غيرَ دَفع الإيهام.

أ ـ كالدعاء : نحو : إني «حفظك الله» مريضٌ وكقول عوف بن محلم الشيباني :

إن الثمانين وبُلغتها

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (٣)

ب ـ والتنبيه على فضيلة العلم كقول الآخر :

واعلم فعلمُ المرء ينفعُه

أن سوف يأتي كل ما قُدرا

__________________

(١) أو التشويه بشأن المخاطب كقول الإمام لحسين : انّ الدعىّ ابن الدعىّ قد ركضنى بين اثنتين ، بين السلة والذلة وهيهت منّا الذالة.

(٢) لم يشترط بعضهم وقوعه بين جزئي جملة ولا بين كلامينخ ، بل جوز وقوعه آخر الكلام مطلقا ، سواء وليه ارتباط بما قبله أولا ، كقوله تعالى (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) ، فجملة ونعم الوكيل معترضة ، وليست معطوفة على ما قبلها ، حتى يلزم عطف الانشاء على الخبر.

(٣) بلغتها بفتح التاس أي بلغك الله اياها ـ وترجمان كزعفران ، ويجوز ضم التاء مع الجيم ، واعلم أن الدعاء من الشاعر موجه إلى المخاطب بطول عمره ـ وأن يعيش مثله ثمانين سنة واعلم أنه قد يقع الاعتراض في الاعتراض كقوله تعالى (فلا اقسم بمواقع النجوم وأنه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم في كتاب مكنون).

١٨٥

ج ـ والتّنزيه : كقوله تعالى : (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون).

د ـ وزيادة التأكيد : كقوله تعالى : (وَوَصينا الإنسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولولديكَ إليَّ المصير).

ه ـ والاستعطاف كقول الشاعر :

وخفوقِ قلب لو رأيت لهيبه

يا جنّتي لرأيت فيه جهنَّما

و ـ والتهويل : نحو : (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم).

(٧) ومنها الإيغال : وهو ختم الكلام بما يُفيد نُكتة ، يتم المعنى بدونها ـ كالمبالغة : في قول الخنساء :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علمٌ في رأسه نارُ

فقولها : «كأنه علم» وافٍ بالمقصود ، لكنها أعقبته بقولها «في رأسه نار «لزيادة المبالغة ، ونحو : قوله تعالى (والله يرزق من يشاء بغير حساب).

(٨) ومنها التذييلُ : وهو تعقيب جملة بجملة أخرى مستقلّة ، تشتمل على معناها ، تأكيداً لمنطوق الأولى (١) ، أو لمفهومها نحو : قوله تعالى : (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). ونحو : قوله تعالى : (ذلكَ جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).

والتَّذييلُ «قسمان» قسمٌ يستقلُّ بمعناه ، لجريانه مجرى المثل وقسمٌ لا يستقل بمعناه ، لعدم جريانه مجرى المثل.

فالأول : الجاري مجرى الأمثال ، لاستقلال معناه ، واستغنائه عما قبله كقول طرفةَ :

كلُّ خليل قد كنت خاللته

لا ترك الله له واضحه

كلّكم أروغُ من ثعلب

ما أشبه الليلة بالبارحة

__________________

(١) التأكيد ضربان : تأكيد المنطوق كما في هذه الآية ، وتأكيد المفهوم كقوله :

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

فقد دل بمفهومه على نفي الكمال من الرجال ، فأكده بقوله (أي الرجال المهذب).

١٨٦

والثاني : غير الجاري مجرى الأمثال ، لعدم استغنائه عمّا قبله ، ولعدم استقلاله بافادة المعنى المراد ، كقول النّابغة :

لم يُبق جُودك لي شيئاً أؤمِّلهُ

تركَتني أصحب الدنيا بلا أملِ

فالشطر الثاني : مؤكد للأول ، وليس مستقلا عنه ، فلم يجر مجرى المثل.

(٩) ومنها الاحتراس : ويقال له التكميل ، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود ، بما يدفع ذلك الوهم. فالاحتراس : يوجد حينما ياتي المتكلم بمعنى ، يمكن أن يدخل عليه فيه لومٌ ، فيفطن لذلك : ويأتي بما يخلّصه.

سواء أوقع الاحتراس في وسط الكلام. كقول طرفة بن العبد :

فَسَقى ديارَك غير مُفسدها

صوبُ الرَّبيع وَديمَةٌ تهمى (١)

فقوله : غير مفسدها : للاحتراس.

أو وقع الاحتراس في آخره ، نحو : (ويُعمون الطعام على حبه) أي : مع حب الطعام : واشتهائهم له ، وذلك أبلغ في الكرم ، فلفظ على حبه فضلة للاحتراس ولزيادة التحسين في المعنى ، وكقول أعرابية لرجل أذلَّ الله كل عدوّ لك إلا نفسك.

(١٠) ومنها التَّتميم : وهو زيادةُ فضلة ، كمفعول ، أو حال أو تمييز ، أو جار ومجرور ، توجد في المعنى حُسنا بحيث لو حذفت صار الكلام مبتذلا كقول ابن المعتز يصف فرساً :

صَببنا عليها ظالمين سياَطنا

فطارت بها أيد سراعٌ وأرجلُ

إذ لو حذف ظالمين لكان الكلام مُبتذلا ، لا رقة فيه ولا طلاوة وتوهَّم أنها بليدة تستحق الضرب ، ويُستحسن الإطناب في الصلح بين العشائر ، والمدح ، والثناء ، والذّم والهجاء ، والوعظ ، والإرشاد ، والخطابة : في أمر من الأمور العامة ، والتهنئة ومنشورات الحكومة إلى الأمة ، وكتب الولاة إلى الملوك ، لاخبارهم بما يحدث لديهم من مَهام الأمور.

__________________

(١) لما كان دوام المطر مما يسبب الخراب ، دفع هذا الوهم بقوله (غير مفسدها).

١٨٧

وهناك أنواع أخرى من الإطناب ، كما تقول في الشيء المستبعد : رأيته بعيني ، وسمعته بأدنى ، وذقته بفمي : تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره. وكقوله تعالى : (فخرّ عليهم السَّقفُ من فوقهم) والسقف لا يخر طبعاً إلا من فوق ، ولكنه دلّ بقوله (من فوقهم) على الإحاطة والشمول.

واعلم : أن الأطناب أرجحُ عند بعضهم من الإيجاز ، وحُجَته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان ، والبيان لا يكون الا بالاشباع ، والإشباع لا يقع إلا بالإقناع ، وأفضل الكلام أبينُه ، وأبينُه أشده إحاطة بالمعاني ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة ، إلا بالاستقصاء والاطناب.

والمختار : أن الحاجة إلى كل من الاطناب ، والإيجاز ، ماسة : وكل موضع لا يسدّ أحدهما مكان الآخر فيه. وللذوق السليم : القول الفصل في موطن كلٍ منهما (١).

المبحث الثالث في المُساواة

المُساواة : هي تأديةُ المعنى المراد : بعبارة مساوية له (٢) ، بأن تكون الألفاظ على قدر المعاني ، لا يزيد بعضها على بعض.

ولسنا بحاجة إلى الكلام على المساواة ، فإنها هي الأصل المقيس عليه ، والدستور الذي

__________________

(١) المساواة هي ماسوي لفظه معناه : بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر وهي نوعان :

الأول : مساواة مع الاختصار ، وهي أن يتحرى البليغ في تأدية المعنى أوجز ما يكون من الالفاظ القليلة الأحرف ، الكثيرة المعاني كقوله تعالى : (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) وكقوله تعالى : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).

والثاني : مساواة بدون اختصار «ويسمى متعارف الاوساط» وهو تأدية المقصود من غير طلب الاختصار. كقوله تعالى : (حور مقصورات في الخيام).

والوجهان في المركز الأسمى من البلاغة غير أن الأول أدخل فيها وأدل عليها.

والمساواة فن من القول عزيز المنال ، تشرأب إليه أعناق البلغاء ، لكن لا يرتقي إلى ذراه إلا الأفذاذ لصعوبة المرتقى ، والمساواة يعتبرها بعضهم وسطا بين الايجاز والاطناب وبعضهم يدمجها ، ولا يعدها قسما ثالثا للايجاز والاطناب.

١٨٨

يُعتمد عليه ، كقوله تعالى (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) ، وكقوله تعالى (كل امرىء بما كسب رهين) وكقوله تعالى : (من كفر فعليه كُفره) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) فإن اللفظ فيه على قدر المعنى ، لا ينقص عنه ، ولا يزيد عليه ، وكقول طرفةَ بن العبد :

ستُبدى لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزَود

هذه أمثلة للمساواة ، لا يستغنى الكلام فيها عن لفظ منه ، ولو حُذف منه شيء لأخلّ بمعناه.

اسئلة على الايجاز والاطناب والمساواة

تطلب أجوبتها

ما هي المساواة؟ ما هو الايجاز؟ ما هو الاطناب؟ كم قسما للإيجاز؟ ما هو إيجاز القصر؟ ـ ما هو ايجاز الحذف؟ بأي شيء يكون إيجاز الحذف؟ كم قسما للإطناب ،؟ ما هو ذكر الخاص بعد العام؟ ما هو ذكر العام بعد الخاص؟ ما هو الايضاح بعد الابهام؟ ما هو التكرار؟ ماهو الاعتراض؟. ما هو الايغال؟ ما هو التوشيع؟ ما هو الذييل؟ ما هو التكميل؟ ما هو التتميم؟ ما هو الاحتراس؟ ماهو الفرق بين التطويل والحشو؟ ما هي دواعي الايجاز؟ ما هي دواعي الاطناب كم قسما للتذييل؟ أيكون الاطناب بغير هذه الانواع؟

تطبيق عام على الايجاز والاطناب والمساواة

درست الصرف : فيه مساواة. لأن اللفظ على قدر المعنى

(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) فيه اطناب بالتتميم : فان (على حبه) فضلة لزيادة التحسين في المعنى

(ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) فيه مساواة.

المرء بأدبه : فيه إيجاز قصر : لتضمن العبارة القصيرة معاني كثيرة.

١٨٩

(تالله تفتأ تذكر يوسف) فيه ايجاز حذف وهو لا.

(وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) : فيه إيجاز حذف جملة أي فضرب فانفلق ، ألا كل شيء ما خلا الله باطل : فيه اطناب بالاحتراس.

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

فيه الاطناب بالتذييل ، والجملة الثانية جارية مجرى المثل.

جوزى المذنب بذنبه وهل يجازي الا المذنب ، فيه إطناب بالتذييل ، وليس جاريا مجرى المثل ، (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) : فيه أطناب بالاحتراس البخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة ـ فيه أطناب بالترديد ولكن البر من اتقى فيه ايجاز حذف مضاف ، أي ذا البر.

واهتم للسفر القريب فانه

أنأى من السفر البعيد وأشنع

فيه إطناب بالايغال ، فان (أشنع) مزيدة للترتيب في الاهتمام.

(خلطوا عملا صالحا وآخر) ، فيه ايجا سيئاز حذف أي خلطوا عملا صالحا يسيء وعملا سيئا بصالح (والليل إذا يسر) : فيه ايجاز بحذف الياء ، وسبب حذفها ان الليل لما كان غير سار وانما يسرى من فيه ، نقص منه حرف اشارة إلى ذلك جريا على عادة العرب في مثل ذلك (ليحق الحق ويبطل الباطل) فيه ايجاز بحذف جملة. أي فعل ذلك.

تمرين

بين الايجاز ، والاطناب والمساواة : وأقسام كل منها فيما يأتي :

قال الله تعالى : (إنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل

١٩٠

دابة وتصريف الرِّياح والسحاب المُسخر بين السماء والأرض لآيات لقومٍ يعقلون) (١).

وقال تعالى : (خُذ العَفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين)(٢).

وقال تعالى : (يأخذ كل سفينة (٣) غصبا).

أنا ابن جلا (٤) وطلاَّع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

(فالله هو الولي) (٥) (وإن يُكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) (٦).

فقلت يمينُ الله أبرح (٧) قاعداً

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة

ويستحل دم الحجاج في الحرم (٨)

وقال تعالى : (تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

__________________

(١) في هذه الآية الاطناب بتكثير الجمل ، وهذا خلاف الأنواع السابقة ، وذلك لأنه لما كان الخطاب مع العموم وفيهم الذكي والغبي صرح بخلق أمهات الممكنات الظاهرة ليكون دليلا على القدرة الباهرة وذلك بدل أن يقال (ان في وقوع كل ممكن تساوي طرفاه لآيات للعقلاء).

(٢) فيه ايجاز القصر لأنه قد جمع مكارم الأخلاق.

(٣) أي سفينة سالمة.

(٤) أي أنا ابن رجل جلا المشكلات.

(٥) الشرط محذوف أي إن أرادوا وليا فالله هو الولي

(٦) أي فاقتد واصبر.

(٧) أي لا أبرح.

(٨) في الحرم ، ايغال للزيادة في المبالغة.

١٩١

خاتمة

علمت أن البلاغة متوقفة على مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ورأيت في ما تقدم من الأحكام ، أن مقتضى الحال يجري على مقتضى الظاهر.

وهذا بالطبع هو الأصل ، ولكن قد يُعدل عمّا يقتضيه الظاهر إلى خلافه ، مما تقتضيه الحال في بعض مقامات الكلام ، لاعتبارات يراها المتكلم وقد تقدَّم كثير من ذلك العدول المسمّى باخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر في الأبواب السابقة.

وبقى من هذا القبيل أنواع أخرى كثيرة.

الأول : الالتفات : وهو الانتقال من كل من التكلم ، أو الخطاب ، أو الغيبة إلى صاحبه ، لمقتضيات ومناسبات تظهر بالتأمل في مواقع الالتفات ، تفنناً في الحديث ، وتلويناً للخطاب ، حتى لا يمل السّامع من التزام حالة واحدة ، وتنشيطا وحملا له على زيادة الاصغاء : فان لكل جديد لذة ولبعض مواقعه لطائف ، ملاكُ إدراكها الذوق السليم.

واعلم أن صور العدول إلى الالتفات ستة.

(١) عدول من التَّكلم إلى الخطاب : كقوله تعالى : (ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) والقياس واليه أرجع.

(٢) عدولٌ من التكلّم إلى الغيبة : كقوله تعالى : (ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله).

(٣) عدول من الخطاب إلى التّكلم : كقوله تعالى : (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود).

(٤) عدول من الخطاب إلى الغيبة ، كقوله تعالى (ربنا إنكَ جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد).

(٥) عدول من الغيبة إلى التّكلم : كقوله تعالى : (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماءً طهورا) والقياس : وأنزل.

١٩٢

(٦) عدول من الغيبة إلى الخطاب : كقوله تعالى : (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله).

الثاني : تجاهل العارف ، وهو سوق المعلوم مساق المجهول ، بأن يجعل العارف بالشيء نفسه جاهلاً به ، وذلك لأغراض :

(١) كالتعجب : نحو قوله تعالى (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون).

(٢) والمبالغة في المدح : نحو ، وجهك بدر أم شمس.

(٣) والمبالغة في الذَّم : كقول الشاعر :

وما أدرى وسوف إخالُ أدرى

أقومٌ آلُ حصن أم نساء

(٤) والتوبيخ وشدة الجزع : كقول الشاعر :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كانكَ لم تجزع على ابن طريف (١)

(٥) وشدّة الوله : كقول الشاعر :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكنَّ أم ليلى من البشر

(٦) والفخر : كقوله :

أيُّنا تعرف المواقف منه

وثبات على العدا وثباتا

الثالث القلب (٢) : وهو جعل كل من الجزأين في الكلام مكان صاحبه ، الغرض المبالغة نحو قول رؤية بن العجاج :

ومهمهٍ مُغبرةٍ أرجاؤهُ

كأنَّ لونَ أرضه سماؤه (٣)

_________________

(١) تجاهلت أخت طريف عن سبب انتفاء الجزع عن الشجر لشدة التحير والتضجر.

(٢) ويستدل عليه بالتأمل في المعنى ، فنحو عرضت الناقة على الحوض ، وأذخلت الخاتم في أصبعي ، أصله «عرضت الحوض على الناقة» لأن الرعض يكون على ما له إدراك» وأصله أدخلت أصبعي في الخاتم لان الظر. هو الخاتم ، والنكتة أن الظاهر الاتيان بالمعروض إلى المعروض عليه ، وتحريك المظروف نحو الظرف ولما كان ما هنا بالعكس ، قلبوا الكلام رعاية لهذا الاعتبار وإنما يقبل حيث يتضمن اعتباراً لطيفاً.

(٣) والمهمة المفازة البعيدة ، وأرجاؤه نواحيه.

١٩٣

أي : كأنّ لون سمائه لغبرتها لون أرضه ، مبالغة في وصف لون السماء بالغُبرة ، حتى صار بحيث يشبه به لون الأرض.

ونحو : أدخلت الخاتم في أصبعي : والقياس «أدخلت أصبعي في الخاتم» وعرضت الناقة على الحوض.

الرابع : التعبير عن المضارع بلفظ الماضي ، وعكسه.

فمن أغراض التعبير عن المضارع بلفظ الماضي.

أ ـ التنبيه على تحقّق وقوعه : نحو (أُتى أمرُ الله) أي : يأتي.

ب ـ أو قرب الوقوع : نحو : قد قامت الصلاة أي : قرب القيام لها.

ج ـ والتفاؤل : نحو : إن شفاك الله تذهب معي.

د ـ والتعريض : نحو : قوله تعالى : (لئن أشركت لحبطن عملك) فيه تعريض للمشريكن بأنهم قد حبطت أعمالهم.

ومن أغراض التعبير عن الماضي بلفظ المضارع.

أ ـ حكاية الحالة الماضية باستحضار الصورة الغريبة في الخيال (١). كقوله تعالى : (الله الذي أرسل الرياح فتثيرُ سحاباً) بدل فأثارت.

ب ـ وإفادة الاستمرار فيما مضى : كقوله تعالى : (لو يطيعكم فيكثير من الأمر لعنتم) أي : لو استمرَّ على إطاعتكم لهلكتم.

الخامس : التعبير عن المستقبل بلفظ اسم الفاعل نحو : قوله تعالى : (إن الدِّين لواقع) أو بلفظ اسم المفعول نحو : قوله تعالى : (ذلك يوم مجموع له الناس) وذلك : لأن الوصفين المذكورين حقيقة في الحال ، مجاز فيما سواه.

السادس : يوضع المضمر موضع المظهر ، خلافاً لمقتضى الظاهر ، ليتمكن ما بعده في ذهن السامع ، نحو : هو الله عادل.

__________________

(١) يوضع المضارع موضع الماضي لا يهام المشاهدة باحضار صورة الشيء في ذهن السامع بصيغة الحاضر.

١٩٤

ويوضع المظهر موضع المضمر لزيادة التمكين ، نحو : خير الناس من نفع الناس أو لإلقاء المهابة في نفس السّامع ، كقول الخليفة : أمير المؤمنين يأمر بكذا أي : انا آمر. أو للاستعطاف : نحو : أيأذن لي مولاي أن أتكلم أي : أتأذن

السابع : التغليب : وهو ترجيح أحد الشيئين على الآخر في اطلاق لفظه عليه (١) وذلك :

(١) كتغليب المذكر على المؤنث ، في قوله تعالى (وكانت من القانتين) وقياسه القانتات. ونحو : الأبوين للأب والأم والقمرين للشمس والقمر.

(٢) وكتغليب الأخف على غيره ، نحو : الحسنين في الحسن والحسين.

(٣) وكتغليب الاكثر على الأقل ، كقوله تعالى : (لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا من قريتنا أو لتعودُن في ملَّتنا) أدخل (شُعيب) في العود إلى ملَّتهم ، مع أنه لم يكن فيها قطّ ، ثم خرَج منها وعاد ، تغليباً للأكثر.

ط ـ وكتغليب العاقل على غيره ، كقوله تعالى (الحمد لله رب العالمين).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين.

تم علم المعاني «ويليه علم البيان» والله المستعان أولا وآخراً.

__________________

(١) التغليب : هو إطلاق لفظ أحد الصاحبين على الآخر ترجيحا له عليه والتغليب كثير في كلام العرب ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٩٥
١٩٦

علم البيان

(١) البيان (١) : لغة الكشف ، والإيضاح ، والظهُّور (٢).

واصطلاحاً : أصولٌ وقواعدُ ، يعرف (٣) بها إيرادُ المعنى الواحد ، بطرق يختلف بعضُها عن بعض ، في وُضوح الدّلالة العقلية على نفس ذلك المعنى.

__________________

(١) هو اسم لكل شيء كشف لك بان المعنى ، وهتك لك الحجب ، دون الضمير ، حتى يفضى السامع إلى حقيقته ، ويهجم على محصوله ، كائنا ما كان ذلك البيان ، ومن أي جنس كان ذلك الدليل لان مدار الأمر والغاية التي يجري اليها القائل والسامع ، انما هو الفهم والافهام ، فبأي شيء بلغت الافهام ، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع ، واعلم أن المعتبر في علم البيان دقة المعاني المعتبرة فيها من الاستعارات والكنايات مع وضوح الألفاظ الدالة عليه ، فالبيان هو المنطق الفصح ، المعرب عما في الضمير.

(٢) فاذا كان معنى البيان (الايضاح) كان متعديا ، وان كان بمعنى (الظهور) كان لازماً يقال : بينت الشيء : أوضحته ، وبان الشيء ظهر واتضح وكذلك تقول أبنت الشيء وأبان الشيء وكذلك بينت الشيء أظهرته ، وبين الشيء ظهر وكذلك تبينت الشيء ، وتباين الشيء ، واستبنت الشيء ، واستبان الشيء ، بمعنى واحد ، والتبيان بالكسر البيان ، والكشف ، والايضاح.

(٣) أي يعرف من حصل تلك الاصول كيف يعبر عن المعنى الواحد بعبارات بعضها أوضح من بعض. فعلم البيان : علم يستطاع بمعرفته إبراز المعنى الواحد بصور متفاوتة ، وتراكيب مختلفة في درجة الوضوح ، مع مطابقة كل منها مقتضى الحال ، المحيط بفن البيان. الضليع من كلام العرب منشورة ومنظومة ، إذا أراد التعبير عن أي معنى يدور في خلده ويجول بضميره. استطاع أن يختار من فنون القول ، وطرق الكلام ما هو أقرب لمقصده .. وأليق بغرضه ، بطريقة تبين ما في نفس المتكلم من المقاصد ، وتوصل الأثر الذي يريده به إلى نفس السامع في المقام المناسب له ، فينال الكاتب والشاعر والخطيب من نفس مخاطبيه إذا جود قوله ، وسحرهم ببديع بيانه ، ولا بد في علم البيان من اعتبار (المطابقة لمقتضى الحال) المعتبرة في علم المعاني ، فمنزلة (المعاني) من (البيان) منزلة الفصاحة من البلاغة.

١٩٧

فالمعنى الواحد : يُستطاع أداؤه بأساليب مُختلفة ، في وضوح الدّلالة عليه فانك : تقرأ في بيان فضل (العلم) مثلا قول الشاعر :

(١) العلم ينهض بالخسيس إلى العلى

والجهل يقعد بالفتى المنسوب

ثم تقرأ في المعنى نفسه ، كلام الامام (علي) كرم الله وجهه.

(٢) العلم نهرٌ ، والحكمة بحر. والعلماء حول النهّر يطوفون. والحكماء وسط البحر يغوصون. والعارفون في سفن النّجاة يسيرون.

فتجد : أنّ بعض هذه التراكيب أوضحُ من بعض ، كما تراه يضع أمام عينيك مشهداً حسياً ، يقرِّب إلى فهمك ما يُريد الكلام عنه من فضل العلم.

فهو : يُشبّهه بنهر ، ويشبِّه الحكمة ببحر.

ويصور لك أشخاصاً طائفين حول ذلك النهر هُم العلماء.

ويُصور لك أشخاصاً غائصين وسط ذلك البحر هم الحكماء.

ويصور لك أشخاصاً راكبين سفُناً ماخرة في ذلك البحر للنَّجاة من مخاطر هذا العالم هم أرباب المعرفة.

ولا شك : أن هذا المشهد البديع : يستوقف نظرك ، ويستثير اعجابك من شدَّة الرّوعة والجمال المُستمدّة من التشبيه ، بفضل البيان الذي هو سر البلاغة.

ب ـ وموضوع هذا العلم الألفاظ العربية ، من حيث ، التشبيه ، والمجاز والكناية.

ج ـ وواضعه : أبو عبيدة الذي دونَ مسائل هذا العلم في كتابه المُسمَّى مجاز القرآن وما زال ينمو شيئاً فشيئاً ، حتى وصل إلى الامام «عبد القاهر» فأحكم أساسه ، وشيَّدَ بناءه ، ورتَّب قواعده ، وتبعه الجاحظ ، وابن المعُتزّ ، وقُدامَة ، وأبو هلال العسكري.

د ـ وثمرته الوقوف على أسرار كلام العرب منثورِه ومنظومِه ومعرفة ما فيه من تفاوُت في فنون الفصاحة ، وتبايُن في درجات البلاغة التي يصل بها إلى مرتبة إعجاز القرآن الكريم الذي حار الجنًّ والإنسُ في مُحاكاته وعجزوا عن الإتيان بمثله.

وفي هذا الفن أبواب ومباحث.

١٩٨

الباب الأول

في التشبيه

تمهيد

للتّشبيه : روعة وجمال ، وموقع حسنٌ في البلاغة : وذلك لإخراجه الخفي إلى الجلي ، وإدنائه البعيد من القريب ، يزيد المعاني رفعة ووضوحاً ويكسبُها جمالا وفضلا ، ويكسوها شرفا ونُبلا ، فهو فن واسع النطاق ، فسيح الخطو ، ممتدُ الحواشي مُتَشعب الأطراف مُتوعر المسلك ، غامض المدرك ، دقيق المجرى غزير الجدَوى.

ومن أساليب البيان : أنك إذا أردت إثبات صفة لموصوف ، مع التوضيح ، او وجهٍ من المبالغة ، عمدت إلى شيء آخر ، تكون هذه الصفة واضحة فيه ، وعقدت بين الاثنين مماثلة ، تجعلها وسيلة لتوضيح الصفة ، أو المبالغة في اثباتها _ لهذا كان التشبيه أول طريقة تدل عليه الطبيعة لبيان المعنى.

تعريف التشبيه وبيان أركانه الأربعة

التشبيه : لغة التمثيل ُ ، قال : هذا شبه هذا : ومثيله.

والتشبيه إصطلاحاً : عقد مماثلة بين أمرين ، أو : أكثر ، قصد اشتراكهما في صفة : أو : أكثر ، بأداة : لغرض يقصد المتكلم.

١٩٩

وأركان التشبيه أربعة :

(١) المُشبه : هو الأمر الذي يُراد الحاقه بغيره.

(٢) المُشبه به : هو الأمر الذي يلحق به المشبه.

(٣) وجه الشبه : هو الوصف المشترك بين الطرفين ، ويكون في المشبه به ، أقوى منه في المشبه وقد يُذكر وجه الشبه في الكلام ، وقد يُحذف كما سيأتي توضيحه.

(٤) أداة التشبيه : هي اللفظ الذي يدلُ على التشبيه ، ويربط المشبّه بالمشبّه به ، وقد تَذكر الأداة في التشبيه ، وقد تحذف ، نحو : كان عمرُ في رعيَّته كالميزان في العدل ، وكان فيهم كالوالد في الرحمة والعطف. وقد تحذف الأداة نحو : خدّه ورد في الطافة.

المبحث الأول

في تقسيم طرفي التشبيه إلى حسِّي ، وعقلي

طرفا التشبيه المشبه ، والمشبه به.

(١) إمَّا حسيَّان (١) أي مدركان بإحدى الحواس الخمس الظَّاهرة. نحو : أنتَ كالشمس في

__________________

(١) اعلم أن من الحسي : ما لا تدركه الحواس الخمس التي هي (البصر والسمع والشم والذوق واللمس) ولكن تدرك مادته فقط ويسمى هذا التشبيه (بالخيالي) الذي ركبته المخيلة من أمور موجودة ، كل واحد منها يدرك بالحس ، كقوله :

كأن الحباب المستدير برأسها

كواكب در في سما عقيق

فان كواكب در ، وسماه عقيق ، لا يدركها الحس ، لأنها غير موجودة ـ ولكن يدرك مادتها التي هي الدر والعقيق ، على انفراد والمراد بالحباب ما يعلو الماء من الفقاقيع والضمير للخمر ، ومنه أيضا قول الآخر :

وكان محمر الشقـ

ـيق إذا تصوب أو تصعد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

فان الأعلام والياقوت والزبرجد والرماح موجودة ـ لكن المشبه الذي مادته هذه ، ليس موجوداً ولا محسوساً.

٢٠٠