تذكرة الفقهاء - ج ٧

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ٧

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: ٤٩٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

منها شي‌ء فلم يردّه عليّ ، قال : « هو له ، ولعلّه ضيّق على نفسه » (١) .

ولأنّ عقد الإِجارة سبب لتملّك الاُجرة مع الإِتيان بما وقع عليه الإِجارة وقد وجد السبب فيوجد المسبّب .

ولو قصرت الاُجرة عن النفقة ، لم يجب على المستأجر الإِتمام ، بل يستحب ، لاشتماله على المساعدة للمؤمن وإعانته على طاعته والإِنفاق على أفضل العبادات ، وليس واجباً ؛ عملاً بالأصل .

وأبو حنيفة منع من الإِجارة ، فيكون الأجير نائباً محضاً ، وما يدفع إليه من المال يكون رزقاً لطريقة (٢) .

فلو مات أو اُحصر أو ضلّ الطريق أو صُدّ ، لم يلزمه الضمان لما أنفق عليه ؛ لأنّه إنفاق بإذن صاحب المال .

فإذا ناب عنه آخر ، فإنّه يحج من حين بلغ النائب الأول ؛ لأنّه حصل قطع هذه المسافة بمال المنوب عنه ، فلم يكن عليه الإِنفاق دفعة اُخرى ، ويردّ النائب ما فضل معه من المال ، ولا يُسرف ولا يقتر على نفسه ولا يمشي ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضّل ، أمّا لو أعطاه ألفاً وقال : حجّ بهذه ، كان له أن يتوسّع فيها ، وإن فضل شي‌ء فهو له .

ولو سلك النائب طريقاً يمكنه سلوك أقرب منه ، كان الفاضل من النفقة في ماله . وإن تعجّل عجلة يمكنه تركها فكذلك .

وإن أقام بمكة أكثر من مدّة القصر بعد إمكان السفر للرجوع ، أنفق من ماله ، لأنّه غير مأذون فيه ، فأمّا من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة ؛ لأنّه مأذون فيه ، وله نفقة الرجوع .

وإن مرض في الطريق فعاد ، فله نفقة رجوعه ؛ لأنّه لا بدّ له منه حصل

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤١٤ ـ ٤١٥ / ١٤٤٢ .

(٢) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٥٩ ، المغني ٣ : ١٨٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٨٥ ، المجموع ٧ : ١٣٩ .

١٦١
 &

بغير تفريطه ، فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو صدّ .

وإن قال : خفت أن أمرض فرجعتُ ، فعليه الضمان ؛ لأنّه مجرّد وهم .

مسألة ١٢١ : يشترط في الاستئجار على الحج : العلم بالعوض كغيره ، فلو قال : استأجرتك للحج بنفقتك لم يصح ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لفوات شرط صحة العقد ، وهو العلم بمال الإِجارة .

وقال أبو حنيفة : يصح (٢) . وليس بمعتمد .

وكذا البحث لو قال : حجّ عنّي بما شئت .

وإذا فسدت الإِجارة فإن حجّ عنه ، وجب له اُجرة المثل ، وصحّت الحجّة عن المستأجر .

ولو قال : أول من يحجّ عنّي فله مائة ، صحّ جعالة .

وقال المزني : الإِجارة فاسدة ، وله اُجرة المثل (٣) .

واحتجّ الشيخ ـ رحمه الله ـ بقوله : [ صلّى الله عليه وآله ] : ( المؤمنون عند شروطهم ) (٤) (٥) .

ولو قال : حجّ عنّي أو اعتمر بمائة ، قال الشيخ : يكون صحيحاً ، فمتى حجّ أو اعتمر ، استحقّ المائة ؛ لأنّه خيّره بين الحجّ والعمرة باُجرة معيّنة ، وليس بمجهول ، ولا مانع يمنع منه .

وقال الشافعي : تبطل الإِجارة ، لجهالة العمل ، فإن حجّ أو اعتمر ،

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٩٣ ، المسألة ٢٥٠ ، وراجع : الاُم ٢ : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، والحاوي الكبير ٤ : ٢٧٦ .

(٢) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٩٣ ، المسألة ٢٥٠ .

(٣) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٨٧ ، المسألة ٢٣٨ ، وراجع : الحاوي الكبير ٤ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، وفتح العزيز ٧ : ٥١ ـ ٥٢ ، والمجموع ٧ : ١٢٢ .

(٤) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، تفسير القرطبي ٦ : ٣٣ .

(٥) الخلاف ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ، المسألة ٢٣٨ .

١٦٢
 &

استحقّ اُجرة المثل (١) .

والتحقيق : أنّه إن كان إجارةً ، فالوجه ما قاله الشافعي ، وإن كان جعالةً ، فالوجه ما قاله الشيخ .

وكذا لو قال : مَنْ حجّ عنّي فله عبد أو دينار أو عشرة دراهم إن كان عقد إجارة ، بطل ؛ لجهالة العوض ، وإن كان جعالةً ، صحّ ، ويتخيّر المستأجر في دفع أيّها شاء .

وقال الشافعي : يبطل العقد ، فإن حجّ ، استحقّ اُجرة المثل (٢) .

مسألة ١٢٢ : لو استأجره اثنان ليحجّ عنهما حجّة واحدة ، فأحرم عنهما ، قال الشيخ رحمه الله : لا يصح إحرامه عنهما ولا عن واحد منهما ؛ لأنّ الحجّة الواحدة لا تقع عن شخصين ، وليس أحدهما أولى بها من صاحبه ، ولا ينعقد عن نفسه ؛ لأنّه لم يَنْوها عنه بل عنهما ، فانقلابها اليه يحتاج الى دليل ، وعدم صحتها عنهما وعن واحد منهما بلا خلاف ، ولا يصح عندنا إحرامه عن نفسه ولا ينقلب اليه (٣) .

وقال الشافعي : ينقلب الإِحرام اليه (٤) .

وليس بجيّد ، لأنّه لم يقصد الإِيقاع لنفسه ، فلا يقع عنها ؛ لقوله عليه السلام : ( لا عمل إلّا بنيّة ) (٥) ( وإنّما لكلّ امرئ ما نوى ) (٦) .

والوجه أن يقال : إن كانت الحجّة مندوبةً ، صحّ أن تقع عن واحد وأكثر ؛ لأنّها طاعة تصح النيابة فيها عن واحد ، فتصح عن أكثر .

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ، المسألة ٢٥٢ .

(٢) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٩٤ ، المسألة ٢٥٣ .

(٣) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٢٣ ، الخلاف ٢ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، المسألة ٢٤٠ .

(٤) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٨٩ ، المسألة ٢٤٠ ، وانظر : المجموع ٧ : ١٣٨ ، والحاوي الكبير ٤ : ٢٧١ .

(٥) أمالي الطوسي ٢ : ٢٠٣ .

(٦) صحيح البخاري ١ : ٢ .

١٦٣
 &

ولما رواه علي بن أبي حمزة عن الكاظم عليه السلام ، قال : سألته عن الرجل يُشرك في حجّةٍ الأربعة والخمسة من مواليه ، فقال : « إن كانوا صرورةً جميعاً فلهم أجر ، ولا تجزئ عنهم من حجّة الإِسلام ، والحجّة للذي حجّ » (١) .

مسألة ١٢٣ : إذا أحرم الأجير عن نفسه وعمّن استأجره ، قال الشيخ رحمه الله : لا ينعقد الإِحرام عنهما ولا عن واحد منهما ؛ لأنّ شرط الإِحرام النيّة ، فإذا لم يَنْو عن نفسه بالاستقلال ، لم يصح عنه ، كما لا يصح عن المستأجر (٢) .

وقال الشافعي : ينعقد عن نفسه ولا يصح عن غيره ؛ لأنّ الإِحرام قد انعقد ولا يصح عن غيره ، فيقع عن نفسه ، كالصرورة (٣) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ مجامعة غيره في النية إن كان مبطلاً ، لم يتخصّص الوقوع بالأجير ، ونمنع من انعقاد الإِحرام .

ولو أحرم عن المستأجر ثم نقل الحجّ إلى نفسه ، لم يصح ، فإذا أتمّ الحجّ ، استحقّ الاُجرة ؛ لامتثال الشرط على إشكال .

وللشافعي قولان : هذا أحدهما ، والثاني : صحة النقل ؛ لقوله عليه السلام لمّا سمع مُلبّياً عن شبرمة ، قال : ( حجّ عن نفسك ثم عن شبرمة ) (٤) (٥) .

ولو استأجره ليحجّ عنه فاعتمر ، أو ليعتمر عنه فحجّ ، قال الشيخ رحمه الله : لا يقع عن المستأجر سواء كان حيّاً أو ميّتاً ، ولا يستحقّ شيئاً من الاُجرة ؛

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤١٣ / ١٤٣٥ ، الاستبصار ٢ : ٣٢٢ / ١١٣٩ بتفاوت يسير .

(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٢٣ ، الخلاف ٢ : ٣٨٩ ، المسألة ٢٤١ .

(٣) الاُم ٢ : ١٢٥ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٧١ ، المجموع ٧ : ١٣٨ .

(٤) المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ : ٤٢ ـ ٤٣ / ١٢٤٩ .

(٥) راجع : فتح العزيز ٧ : ٦٧ ، المجموع ٧ : ١٣٤ .

١٦٤
 &

لأنّه لم يفعل ما اسئوجر له (١) .

وقال الشافعي : إن كان المنوب حيّاً ، وقعت عن الأجير ، وإن كان ميّتاً ، وقعت عن المنوب ، ولا يستحق شيئاً من الاُجرة على كلّ حال (٢) .

والوجه : أنّه يقع عن المستأجر ؛ لأنّه نسك نوى به صرفه الى غيره فيصرف اليه .

نعم لا يستحقّ شيئاً من الاُجرة ؛ لتبرّعه بفعله ، والاُجرة وقعت في مقابلة ما لم يفعله فيرجع إلى المستأجر .

مسألة ١٢٤ : لو اُحصر الأجير ، تحلّل بالهدي على ما تقدّم ، ولا قضاء عليه ؛ إذ ليس في ذمّته حجّ يأتي به ، ويبقى المستأجر على ما كان عليه ، فإن كان الحجّ واجباً عليه ، وجب عليه أن يستأجر مَنْ يأتي به ، وإلّا كان مستحبّاً .

ولو فاته الموقفان بتفريط منه ، لزمه التحلّل بعمرة لنفسه ، ويعيد الاُجرة إن كان الزمان معيّناً .

وإن لم يكن بتفريط ، قال الشيخ : يستحق اُجرة المثل الى حين الفوات (٣) .

ولو قيل : له من الاُجرة بنسبة ما فعله من أفعال الحج ويستعاد الباقي ، كان وجهاً .

ولو أفسد الحج ، وجب عليه القضاء على ما تقدّم ، ولو أفسد القضاء ، وجب عليه أن يأتي بقضاء آخر ، كما يجب على المنوب لو فعل ذلك .

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٣٩٥ ، المسألة ٢٥٥ ، المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٢٥ .

(٢) المجموع ٧ : ١٣٤ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٦٦ ، وحكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٩٥ ، المسألة ٢٥٥ .

(٣) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ .

١٦٥
 &

تذكرة الفقهاء الجزء السابع للعلامة الحلّي

١٦٦
 &



الفصل الثالث في أنواع الحج وما يتبعها‌

الأول : في الأنواع‌

مسألة ١٢٥ : أنواع الحجّ ثلاثة : تمتّع وقران وإفراد ، بلا خلاف بين العلماء وإن اختلفوا في تفسير بعضها .

ونحن نقول : العمرة إن تقدّمت على الحجّ ، كان تمتّعاً ، وإن تأخّرت فإن انضمّ اليه سياق هدي ، فهو قران ، وإلّا فإفراد ؛ لما رواه معاوية بن عمّار ـ في الحسن ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : سمعته يقول : « الحجّ ثلاثة أصناف : حجّ مفرد وقران وتمتّع بالعمرة الى الحج ، وبها أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله ، والفضل فيها ، ولا نأمر الناس إلّا بها » (١) .

وفي الصحيح عن منصور الصيقل عن الصادق عليه السلام ، قال : « الحج عندنا على ثلاثة أوجه : حاج متمتّع وحاج مفرد ساق الهدي وحاج مفرد للحج » (٢) .

مسألة ١٢٦ : صورة التمتّع : أن يُحرم من الميقات بالعمرة المتمتّع بها

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٩١ / ١ ، التهذيب ٥ : ٢٤ / ٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٥٣ / ٥٠٤ .

(٢) الكافي ٤ : ٢٩١ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٢٤ / ٧٣ ، الاستبصار ٢ : ١٥٣ ـ ١٥٤ / ٥٠٥ .

١٦٧
 &

الى الحج ثم يدخل مكة فيطوف سبعة أشواط بالبيت ويصلّي ركعتيه بالمقام ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ثم يقصّر وقد أحلّ من كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا الصيد ؛ لكونه في الحرم ، فإن خرج منه ، جاز له الصيد أيضاً .

فإذا كان يوم التروية ، أحرم للحجّ ، ولا يتعيّن هذا اليوم ، بل يستحب ، والواجب ما يعلم أنّه يدرك الوقوف معه ، ثم يمضي الى عرفات فيقف بها الى الغروب من يوم عرفة ثم يفيض الى المشعر فيقف به بعد طلوع فجر العيد ثم يفيض الى منى فيحلق بها يوم النحر ويذبح هديه ويرمي جمرة العقبة ثم يأتي مكة ليومه إن شاء ، وإلّا فمن غده ، فيطوف طواف الحج ويصلّي ركعتيه ويسعى سعي الحج ويطوف طواف النساء ويصلّي ركعتيه ثم يعود الى منى فيرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ، وإن شاء أقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر والثاني عشر .

ثم إن اتّقى جاز له أن ينفر بعد الزوال الى مكة للطوافين والسعي ، وإلّا أقام الى الثالث عشر .

وصورة الإِفراد : أن يُحرم من الميقات أو من حيث يصح له الإِحرام منه بالحجّ ثم يمضي الى عرفات فيقف بها ثم يمضي الى المشعر فيقف به ثم يأتي منى فيقضي مناسكه بها ثم يطوف بالبيت ويصلّي ركعتيه ويسعى بين الصفا والمروة ويطوف طواف النساء ويصلّي ركعتيه ثم يأتي بعمرة مفردة بعد الحج والإِحلال منه يأتي بها من أدنى الحلّ .

وصورة القران كالإِفراد ، إلّا أنّه يضيف الى إحرامه سياق الهدي .

هذا مذهب علماء أهل البيت عليهم السلام .

وقالت العامّة : التمتّع : أن يُهلّ بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه . والإِفراد : أن يُهلّ بالحج مفرداً . والقران : أن يجمع بينهما في الإِحرام بهما ، أو يُحرم بالعمرة ثم يدخل عليها

١٦٨
 &

الحج قبل الطواف (١) .

مسألة ١٢٧ : أجمع علماؤنا كافة على أنّ فرض من نأى عن مكة التمتّع لا يجوز لهم غيره إلّا مع الضرورة ، وأمّا النوعان الآخران فهما فرض أهل مكة وحاضريها .

وعندنا أنّه لا يجوز لهم غير هذين النوعين ، وهو اختيار أكثر علمائنا (٢) ؛ لما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته عن الحج ، فقال : « تمتّع » ثم قال : « إنّا إذا وقفنا بين يدي الله تعالى قلنا : يا ربّنا أخذنا بكتابك وقال الناس : برأينا ورأينا (٣) ، ويفعل الله بنا وبهم ما أراد » (٤) .

وأمّا أهل مكة وحاضريها ـ وهو مَنْ كان بينه وبين مكة دون ثمانية وأربعين ميلاً ـ فإنّ فرضهم القران أو الإِفراد دون التمتّع ؛ لما رواه الحلبي وسليمان ابن خالد وأبو بصير ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، قال : « ليس لأهل مكة ولا لأهل مر ولا لأهل سرف متعة ، وذلك لقول الله عزّ وجلّ : ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (٥) » (٦) .

وفي الصحيح عن زرارة عن الباقر عليه السلام ، قال : قلت له : قول الله عزّ وجلّ في كتابه : ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) قال : « يعني أهل مكة ليس عليهم متعة ، كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ‌

__________________

(١) المغني ٣ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٠٨ ، المجموع ٧ : ١٧١ .

(٢) منهم : الشيخ الطوسي في النهاية : ٢٠٦ ، والسيد ابن زهرة في الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٥١١ ، وابن ادريس في السرائر : ١٢١ .

(٣) في المصدر : « رأينا رأينا » .

(٤) التهذيب ٥ : ٢٦ / ٧٦ ، الاستبصار ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١ / ٤٩٤ .

(٥) البقرة : ١٩٦ .

(٦) التهذيب ٥ : ٣٢ / ٩٦ ، الاستبصار ٢ : ١٥٧ / ٥١٤ .

١٦٩
 &

ميلاً ذات عرق وعسفان كما يدور حول مكة فهو ممّن دخل في هذه الآية ، وكلّ مَنْ كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة » (١) .

وأطبقت العامة على جواز الإِحرام بأيّ الأنساك الثلاثة شاء ؛ لقول عائشة : خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فمنّا مَنْ أهلّ بعمرة ، ومنّا مَنْ أهلّ بحج وعمرة ، ومنّا مَنْ أهلّ بحج (٢) (٣) .

ولا حجّة فيه ؛ لاختلافهم في الفرض لا التخيير بين الأنواع .

مسألة ١٢٨ : قال علماؤنا : التمتّع أفضل الأنواع ـ وبه قال الحسن وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة ، وهو أحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد ، وهو قول أصحاب الحديث (٤) ـ لقوله تعالى : ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (٥) وهو يدلّ على أنّه فرضهم ، فلا يجزئهم غيره .

ولما رواه العامة عن ابن عباس وجابر وأبي موسى وعائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أمر أصحابه لمّا طافوا بالبيت أن يحلّوا ويجعلوها عمرة (٦) ، فنقلهم من الإِفراد والقران الى المتعة ، ولا ينقلهم إلّا الى الأفضل .

ولم يختلف عندهم الرواية عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه لمّا قدم مكة أمر أصحابه أن يحلّوا إلّا مَنْ ساق هدياً ، وثبت على إحرامه ، وقال : ( لو

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٣ / ٩٨ ، الاستبصار ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨ / ٥١٦ .

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٧٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٧٢ و ٨٧٣ ـ ١١٧ و ١١٨ ، سنن البيهقي ٥ : ١٠٩ .

(٣) المغني ٣ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٣٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ٤٤ ، المجموع ٧ : ١٥١ و ١٥٣ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٢ : ٣٠١ .

(٤) المغني ٣ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٣٩ ، فتح العزيز ٧ : ١٠٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ٤٤ ، معالم السنن ـ للخطّابي ـ ٢ : ٣٠١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥٩ .

(٥) البقرة : ١٩٦ .

(٦) المغني ٣ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٠ .

١٧٠
 &

استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) (١) .

قال جابر : حججنا مع النبي صلّى الله عليه وآله يوم ساق البدن معه وقد أهلّوا بالحج مفرداً ، فقال لهم : ( حلّوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحج واجعلوا التي قدّمتم بها متعةً ) فقالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحج ؟ فقال : ( افعلوا ما أمرتكم به ، ولولا إنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ) (٢) .

وفي لفظ : فقام رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : ( قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ولولا هديي لحللت كما تحلّون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ) فحللنا وسمعنا وأطعنا (٣) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام ، قال : « لمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليه السلام عند فراغه من السعي وهو على المروة فقال : إنّ الله يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلّا من ساق الهدي ، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله على الناس بوجهه ، فقال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل ـ وأشار بيده الى خلفه ـ يأمرني عن الله أن آمر الناس أن يحلّوا إلّا مَنْ ساق الهدي ، فأمرهم بما أمر الله به ، فقام اليه رجل ، فقال : يا رسول الله نخرج الى منى ورؤوسنا تقطر من النساء ، وقال آخرون : يأمرنا بشي‌ء ويصنع هو غيره ، فقال : يا أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما

__________________

(١) المغني ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٠ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٥٥ .

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٧٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٨٤ ـ ٨٨٥ / ١٤٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٥٦ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٧ : ١٤٥ / ٦٥٧١ ، المغني ٣ : ٢٤٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ .

(٣) صحيح البخاري ٩ : ١٣٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٨٣ ـ ٨٨٤ / ١٢١٦ ، سنن البيهقي ٥ : ١٩ ، المغني ٣ : ٢٤٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤١ .

١٧١
 &

صنع الناس ، ولكنّي سُقْتُ الهدي ، فلا يحلّ مَنْ ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محلّه ، فقصّر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرةً ، فقام اليه سراقة بن مالك ابن جُشْعم المدلجي ، فقال : يا رسول الله هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : لا (١) ، للأبد الى يوم القيامة ، وشبّك أصابعه ، وأنزل الله في ذلك قرآناً ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىٰ الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (٢) » (٣) .

وفي الصحيح عن أبي أيّوب إبراهيم بن عيسى عن الصادق عليه السلام ، قال : سألته أيّ الأنواع أفضل ؟ فقال : « المتعة ، وكيف يكون شي‌ء أفضل منها ورسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت فعلت كما فعل الناس ! » (٤) .

ولأنّ التمتّع منصوص عليه في كتاب الله تعالى ؛ لقوله : ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىٰ الْحَجِّ ) دون سائر الأنساك .

ولأنّ المتمتّع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة .

وذهب الثوري وأصحاب الرأي الى أنّ القران أفضل ؛ لما رواه أنس قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله أهلّ بهما جميعاً يصرخ بهما صُراخاً يقول : ( لبّيك عمرةً وحجّاً ، لبّيك عمرةً وحجّاً ) (٥) .

__________________

(١) في المصدر بدل « لا » : « بل » .

(٢) البقرة : ١٩٦ .

(٣) التهذيب ٥ : ٢٥ / ٧٤ .

(٤) التهذيب ٥ : ٢٩ / ٨٩ ، الاستبصار ٢ : ١٥٤ / ٥٠٧ .

(٥) المغني ٣ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ٢٥ ، الاختيار لتعليل المختار ١ : ٢١١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ٤٤ ، المجموع ٧ : ١٥٢ ، معالم السنن ـ للخطابي ـ ٢ : ٣٠١ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ١ : ٢٨٥ ، وراجع : صحيح مسلم ٢ : ٩١٥ / ١٢٥١ ، وسنن أبي داود ٢ : ١٥٧ / ١٧٩٥ ، وسنن النسائي ٥ : ١٥٠ ، وسنن البيهقي ٥ : ٩ ، ومسند أحمد ٣ : ٩٩ .

١٧٢
 &

وقال أحمد : إن ساق الهدي ، فالقران أفضل ، وإن لم يسقه ، فالتمتّع أفضل ؛ لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قرن حين ساق الهدي ، ومنع كلّ مَنْ ساق الهدي من الحلّ حتى ينحر هديه (١) .

وذهب مالك وأبو ثور الى اختيار الإِفراد ـ وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة ـ لما روت عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وآله أفرد بالحج (٢) (٣) .

ونمنع كون النبي صلّى الله عليه وآله أفرد ؛ فإنّه قد روى ابن عمر وجابر وعائشة من طرق صحاح عندهم أنّ النبي صلّى الله عليه وآله تمتّع بالعمرة الى الحج (٤) .

ولأنّ روايتهم اختلفت ، فرووا مرّةً أنّه أفرد ، ومرّةً أنّه تمتّع ، ومرّةً أنّه قرن (٥) مع وحدة القضية ، ولا يمكن الجمع بينها ، فيجب إطراحها كلّها .

مع أنّ عمر قال : إنّي لأنهاكم عن المتعة ، وإنّها لفي كتاب الله ، ولقد صنعها رسول الله صلّى الله عليه وآله (٦) .

ولأنّ النبي صلّى الله عليه وآله أمر أصحابه بالانتقال الى المتعة عن الإِفراد والقران ، ولا يأمرهم إلّا بالانتقال الى الأفضل ، ويستحيل أن ينقلهم

__________________

(١) المغني ٣ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٣٩ .

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٥٢ / ١٧٧٧ ، سنن النسائي ٥ : ١٤٥ ، سنن الترمذي ٣ ١٨٣ / ٨٢٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٨٨ / ٢٩٦٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٣٥ ، الموطّأ ١ ٣٣٥ / ٣٨ .

(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣٨ ، التفريع ١ : ٣٣٥ ، المغني ٣ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٠ ، فتح العزيز ٧ : ١٠٧ ، المجموع ٧ : ١٥١ و ١٥٢ و ١٦٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٥٩ ، معالم السنن ـ للخطابي ـ ٢ : ٣٠١ ، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ١ : ٢٨٥ .

(٤) المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٤١ ، سنن النسائي ٥ : ١٥١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧ ـ ١٨ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٤٢ و ١٥٦ .

(٥) المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٤١ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٤٣ و ١٤٩ و ١٥٠ و ١٥٤ و ١٥٦ .

(٦) المغني ٣ : ٢٤٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٤ ، وسنن النسائي ٥ : ١٥٣ .

١٧٣
 &

من الأفضل الى الأدنى وهو الداعي الى الخير الدالّ عليه .

ثم أكّد ذلك بتأسّفه على فوات ذلك في حقّه ، وأنّه لا يقدر على انتقاله وحلّه ؛ لسياقه الهدي .

لا يقال : قد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية .

لأنّا نقول : قد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنها ، وخالفوهم في فعلها .

قالت الحنابلة : والحقّ مع المنكرين عليهم دونهم (١) ؛ لما رواه العامّة أنّ عليّاً عليه السلام اختلف هو وعثمان في المتعة بعُسْفان ، فقال علي عليه السلام : « ما تريد الى أمر فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله تنهى عنه ؟ » (٢) .

وقال علي عليه السلام لعثمان : « ألم تسمع رسول الله صلّى الله عليه وآله تمتّع ؟ » قال : بلى (٣) .

وعن ابن عمر قال : تمتّع رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجة الوداع بالعمرة الى الحج (٤) .

وقال سعد : صنعها رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وصنعناها معه (٥) .

فلا نقبل نهي عمر عنها خصوصاً مع قول عمر : والله إنّي لأنهاكم عنها ، وإنّها لفي كتاب الله ، وقد صنعها رسول الله صلّى الله عليه وآله (٦) . فهل يحلّ

__________________

(١) المغني ٣ : ٢٤٥ .

(٢) المغني ٣ : ٢٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٩٧ / ١٥٩ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٢ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٤٠ .

(٣) المغني ٣ : ٢٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٢ ، سنن الدارقطني ٢ : ٢٨٧ / ٢٣١ ، سنن النسائي ٥ : ١٥٢ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٤١ .

(٤) المغني ٣ : ٢٤١ ـ ٢٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٢ ، سنن النسائي ٥ : ١٥١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٤٢ .

(٥) المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٤٢ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧ ، شرح معاني الآثار ٢ : ١٤١ .

(٦) تقدّمت الإِشارة الى مصادره في ص ١٧٣ ، الهامش (٦) .

١٧٤
 &

تقليد مَنْ يُخالف رسول الله صلّى الله عليه وآله في ضدّ ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟

قال صاحب المغني من الحنابلة : قيل لابن عباس : إنّ فلاناً ينهى عن المتعة ، قال : اُنظروا في كتاب الله ، فإن وجدتموها ، فقد كذب على الله وعلى رسوله ، وإن لم تجدوها ، فقد صدق ، فأيّ الفريقين أحقّ بالاتّباع وأولى بالصواب ؟ الذين معهم كتاب الله وسنّة رسوله ، أم الذين خالفوهما ؟

ثم قد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله ، الذي قوله حجّة على الخلق أجمعين ، فكيف يعارض بقول غيره ! ؟ (١) .

قالوا : قال سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : تمتّع النبي صلّى الله عليه وآله ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي صلّى الله عليه وآله ، ويقول : نهى عنها أبو بكر وعمر (٢) .

قالوا : وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقال : إنّك تخالف أباك ، فقال : عمر لم يقل الذي تقولون ، فلمّا أكثروا عليه قال : أفكتاب الله أحقّ أن تتّبعوا أم عمر ؟ (٣) .

مسألة ١٢٩ : قد بيّنّا أنّ فرض أهل مكة وحاضريها القران أو الإِفراد ، فلو عدلوا الى التمتّع ، فللشيخ قولان :

أحدهما : الإِجزاء ، ولا دم عليهم ـ وبه قال الشافعي ومالك (٤) ـ لأنّ المتمتّع آتٍ بصورة الإِفراد وزيادة غير منافية (٥) .

__________________

(١ ـ ٣) المغني ٣ : ٢٤٦ .

(٤) المجموع ٧ : ١٦٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦٧ ، فتح العزيز ٧ : ١٦٤ ، أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ ١ : ١٢٩ .

(٥) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ، وحكاه عنه المحقّق في المعتبر : ٣٣٧ .

١٧٥
 &

والثاني : العدم (١) ـ وبه قال أبو حنيفة (٢) ـ لما رواه العامة عن ابن عمر أنّه قال : ليس لأهل مكة تمتّع ولا قران (٣) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه علي بن جعفر ـ في الصحيح ـ عن أخيه الكاظم عليه السلام ، قال : « لا يصلح لأهل مكة أن يتمتّعوا ؛ لقول الله عزّ وجلّ ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) (٤) » (٥) .

وهذا الأخير هو المعتمد ، ونمنع إتيانه بصورة الإِفراد ؛ لأنّه أخلّ بالإِحرام من ميقاته ، وأوقع مكانه العمرة مع أنّه غير مأمور بها ، فلا يكون ما أتاه مجزئاً .

وقول الشافعي : إنّ قوله تعالى : ( ذَٰلِكَ ) راجع الى الهدي (٦) ، ممنوع ؛ لعدم التخصيص ، ولمعارضة الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام .

مسألة ١٣٠ : اختلف علماؤنا في حدّ حاضري المسجد الحرام ، فقال الشيخ في بعض كتبه : مَنْ كان بين منزله وبين المسجد الحرام اثنا عشر ميلاً من كلّ جانب (٧) .

ونحوه قال ابن عباس ؛ لأنّه قال : حاضري أهل الحرم خاصة . وبه قال مجاهد والثوري (٨) .

__________________

(١) النهاية : ٢٠٦ ، وحكاه عنه المحقّق في المعتبر : ٣٣٧ .

(٢) الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٥٨ ، الاختيار لتعليل المختار ١ : ٢١٠ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ١ : ٢٨٧ .

(٣) لم نجده في مظانّه .

(٤) البقرة : ١٩٦ .

(٥) التهذيب ٥ : ٣٢ ـ ٣٣ / ٩٧ ، الاستبصار ٢ : ١٥٧ / ٥١٥ .

(٦) التفسير الكبير ٥ : ١٧٣ .

(٧) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٠٦ ، التبيان ٢ : ١٥٨ ـ ١٥٩ و ١٦١ .

(٨) المغني ٣ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٩ ، المجموع ٧ : ١٨٢ ، الحاوي الكبير ٤ :

=

١٧٦
 &

وقال الشيخ في بعض كتبه : حدّ حاضري المسجد الحرام مَنْ كان من أهل مكة أو يكون بينه وبينها ثمانية وأربعون ميلاً من كلّ جانب (١) . وبه قال الشافعي وأحمد (٢) ؛ لأنّه مسافة القصر ، ولأنّ ما دون مسافة القصر يكون قريباً من المسجد ؛ لأنّه بمنزلة الحاضر ، وقد سلف (٣) في حديث الباقر عليه السلام التحديد بثمانية وأربعين ميلاً .

ولما رواه الحلبي عن الصادق عليه السلام في حاضري المسجد الحرام : قال : « ما دون المواقيت الى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام وليس لهم متعة » (٤) ومعلومٌ أنّ هذه المواضع أكثر من اثني عشر ميلاً .

وقال أبو حنيفة : حاضر والمسجد الحرام اهل المواقيت والحرم وما بينهما (٥) .

وقال مالك : هُمْ أهل مكة وذي طوى (٦) . ورُوي عنه أنّهم أهل الحرم .

ومسافة القصر تعتبر من نفس مكة أو الحرم ؟ للشافعية وجهان (٧) .

__________________

=

٦٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦٢ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ١ : ٢٨٩ ، جامع البيان ٢ : ١٤٩ .

(١) النهاية : ٢٠٦ .

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ٦٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦٢ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٠٨ ، المجموع ٧ : ١٨٢ ، المغني ٣ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٩ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٦٩ ، تفسير القرطبي ٢ : ٤٠٤ ، التفسير الكبير ٥ : ١٧٤ .

(٣) سلف في المسألة ١٢٧ .

(٤) التهذيب ٥ : ٣٣ / ٩٩ ، الاستبصار ٢ : ١٥٨ / ٥١٧ .

(٥) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٦٩ ، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ١ : ٢٨٩ ، تفسير القرطبي ٢ : ٤٠٤ ، التفسير الكبير ٥ : ١٧٤ ، المغني ٣ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ٦٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦٢ .

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٩ ، تفسير القرطبي ٢ : ٤٠٤ ، التفسير الكبير ٥ : ١٧٤ ، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ١ : ٢٨٩ ، المغني ٣ : ٥٠٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٩ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٦٩ .

(٧) المجموع ٧ : ١٧٥ .

١٧٧
 &

مسألة ١٣١ : قد بيّنّا أنّ القارن هو الذي يسوق عند إحرامه بالحج هدياً عند علمائنا أجمع ، إلّا ابن أبي عقيل ؛ فإنّه جعله عبارةً عمّن قرن بين الحج والعمرة في إحرام واحد ، وهو مذهب العامّة بأسرهم (١) .

لنا : ما رواه العامة عن أبي شيخ قال : كنت في ملأ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله عند معاوية بن أبي سفيان ، فناشدهم معاوية الله في أشياء ، وكلّما قالوا : نعم يقول : وأنا أشهد ، ثم قال : أنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى عن جمع بين حجّ وعمرة ؟ قالوا : أمّا هذه فلا ، فقال : أمّا إنّها معهنّ ـ يعني مع المنهيات ـ ولكنكم نسيتم (٢) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه معاوية بن وهب ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه السلام ، أنّه قال في القارن : « لا يكون قران إلّا بسياق الهدي » (٣) الحديث .

احتجّوا بما رواه ابن عباس عن عمر ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : ( أتاني آتٍ من ربّي ، فقال : صلّ في هذا الوادي المبارك ركعتين ، وقُلْ : لبّيك بعمرة في حجّة ) (٤) .

ولقوله عليه السلام : ( أهلّوا يا آل محمد بعمرة في حج ) (٥) .

ونحن نقول بموجبه ؛ فإنّ عمرة التمتّع داخلة في الحج ، قال الصادق عليه السلام : « دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة » (٦) الى غير ذلك من

__________________

(١) المغني ٣ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، المهذب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٠٨ ، لمجموع ٧ : ١٧١ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٩ .

(٢) مسند أحمد ٤ : ٩٢ ، سنن أبي داود ٢ : ١٥٧ / ١٧٩٤ .

(٣) التهذيب ٥ : ٤١ / ١٢٢ .

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٦٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٩١ / ٢٩٧٦ ، سنن البيهقي ٥ : ١٤ بتفاوت يسير في اللفظ .

(٥) مسند أحمد ٦ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ .

(٦) الفقيه ٢ : ٢٠٤ / ٩٣٤ .

١٧٨
 &

الأحاديث .

مسألة ١٣٢ : لا يجوز إدخال الحج على العمرة ولا بالعكس ، مثل أن يكون مُحْرماً بعمرة مفردة فيُحرم بالحج قبل قضاء مناسكها ، أو يُحرم بالحج ثم يدخل عليه العمرة . ولأنّها عبادة شرعية ، فتقف على مورد النقل .

وأطبق العامّة على الأول (١) ، واختلفوا في إدخال العمرة على الحج بعد عقد نيّة الإِفراد ، فجوّزه أبو حنيفة (٢) ، وللشافعي قولان (٣) .

إذا عرفت هذا ، فلو كان مُحْرماً بعمرة التمتّع ، فمنعه مانع من مرض أو حيض عن إتمامها ، جاز نقلها إلى الإِفراد إجماعاً ، كما فعلت عائشة (٤) .

وكذا مَنْ كان مُحْرماً بحجّ مفرد فدخل مكة ، جاز أن ينقل إحرامه الى التمتّع ؛ لقوله عليه السلام : ( من لم يسق الهدي فليحل وليجعلها عمرة ) (٥) .

مسألة ١٣٣ : لا يجوز القران بين الحجّ والعمرة في إحرامه بنيّة واحدة على ما بيّنّاه .

قال الشيخ في الخلاف : لو فعل ، لم ينعقد إحرامه إلّا بالحج ، فإن أتى بأفعال الحج لم يلزمه دم ، وإن أراد أن يأتي بأفعال العمرة ويجعلها متعة ، جاز ذلك ، ولزمه الدم .

__________________

(١) كما في المعتبر : ٣٣٨ ، وراجع : المغني ٣ : ٥١٥ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٤٥ ، والمجموع ٧ : ١٧٢ ، وفتح العزيز ٧ : ١٢١ ـ ١٢٢ ، والحاوي الكبير ٤ : ٣٨ .

(٢) كما في المعتبر : ٣٣٨ ، وراجع : تحفة الفقهاء ١ : ٤١٣ ، والمغني ٣ : ٥١٥ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٤٥ ، وفتح العزيز ٧ : ١٢٥ .

(٣) كما في المعتبر : ٣٣٨ ، وراجع : فتح العزيز ٧ : ١٢٥ ، والمجموع ٧ : ١٧٣ ، والحاوي الكبير ٤ : ٣٨ .

(٤) كما في المعتبر : ٣٣٨ .

(٥) أورده المحقق في المعتبر : ٣٣٨ ، وراجع : سنن النسائي ٥ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، وسنن الدارمي ٢ : ٤٦ .

١٧٩
 &

وقال الشافعي ومالك والأوزاعي : إذا أتى بأفعال الحجّ ، لزمه دم .

وقال الشعبي وطاوس وداود : لا يلزمه شي‌ء (١) .

لنا : أصالة عدم وجوب الدم فلا يثبت منافيه إلّا بدليل .

وأمّا إذا نوى التمتّع ، فلزوم الدم ثابت بالإِجماع .

والمتمتّع إذا أحرم من مكة ، لزمه الدم ، ولو أحرم من الميقات ، لم يسقط الدم .

وقالت العامة : يسقط الدم (٢) .

لنا : أنّ الدم استقرّ بإحرام الحج ، فلا يسقط بعد استقراره ، وكذا لو أحرم المتمتّع من مكة ومضى الى الميقات ثم منه الى عرفات .

وقال الشيخ : يسقط (٣) .

إذا عرفت هذا ، فلا يجوز نيّة حجّتين ولا عمرتين ، ولو فعل ، قيل : تنعقد إحداهما ، وتلغو الاُخرى (٤) ، وبه قال مالك والشافعي (٥) .

وقال أبو حنيفة : ينعقد بهما ، وعليه قضاء إحداهما ؛ لأنّه أحرم بهما ولم يتمّهما (٦) .

__________________

(١) كما في المعتبر : ٣٣٨ نقلاً عن الشيخ في الخلاف ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، المسألة ٣٠ ، وفيه : . . . وقال الشعبي : عليه بدنة . وقال طاوس : لا شي‌ء عليه . وبه قال داود .

وانظر : الاُم ٢ : ١٣٣ ، والحاوي الكبير ٤ : ٣٩ ، والمجموع ٧ : ١٩٠ و ١٩١ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٥٢ .

(٢) كما في المعتبر : ٣٣٨ .

(٣) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٣٠٧ .

(٤) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١ .

(٥) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١ ، فتح العزيز ٧ : ٢٠٣ ، الاُم ٢ : ١٣٦ ، مختصر المزني : ٧٠ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٥٥ .

(٦) المغني ٣ : ٢٥٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٦١ ، فتح العزيز ٧ : ٢٠٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٥٥ .

١٨٠