مفاهيم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وصراحة الآية غير قابلة للإنكار حيث تعدّهم أحياء أوّلاً ، وتحكم عليهم بالرزق وتثبت لهم آثاراً نفسية كالفرح والاستبشار وعدم الخوف والحزن.

ونظيره قوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لا تَشْعُرُونَ ). (١)

وربما يتراءى من بعض الذين أخلدوا إلى المادة ، تفسير حياة الشهداء بخلود ذكراهم في المجتمع والأندية والمحافل ، ولكنّه تفسير بعيد عن الصواب ، إذ لو كان المراد هو هذا فما معنى قوله سبحانه : ( يُرْزَقُونَ ) ، ( فَرِحِينَ ) ، ( يَسْتَبْشِرُونَ ) ، بل وما معنى قوله : ( وَلَٰكِن لا تَشْعُرُونَ ) فانّ الحياة بالمعنى الذي ذُكر أمر يشعر بها كلّ الناس ؟!

٣. ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ). (٢)

نرى أنّه سبحانه يحكم علىٰ آل فرعون بأنّهم يعرضون على النار كلّ يوم وليلة قبل يوم القيامة ولكنّهم يدخلون في النار حين تقوم الساعة ، فلو كان الموت بطلاناً للشخصية فما معنى عرضهم على النار صباحاً ومساءً ؟

٤. ( مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللهِ أَنصَارًا ). (٣)

فالآية تحكي عن أنّ قوم نوح عليه‌السلام بعدما غرقوا أُدخلوا النار بلا تراخ ، فلو كان المراد من دخول النار هو نار القيامة لا يصح التعبير عنه بالفاء ، في قوله : ( فَأُدْخِلُوا ناراً ) الحاكية عن الاتصال ، وعلى ذلك فالمراد من النار هي النار

__________________

١. البقرة : ١٥٤.

٢. غافر : ٤٥ ـ ٤٦.

٣. نوح : ٢٥.

٦١

الموجودة في النشأة البرزخية.

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة عن خلود الشخصية الإنسانية وبقائها بعد موته.

القسم الثاني : ما هو غير صريح في خلود الروح وإن كان ظاهراً في تجرّده وخلوده.

١. ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ). (١)

نرى أنّه سبحانه يخصّ النجاة ببدنه ، وهو يعرب عن أنّ هناك شيئاً آخر لم يشمله النجاة.

أضف إلى ذلك خطابه سبحانه بقوله : ( نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ) حيث يدل على أنّ هناك واقعية وراء البدن يكلمها ويخاطبها ويُعْلِمْها بأنّ النجاة يشمل البدن لا غير.

٢. ( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ). (٢)

فهذه الآية والآية التالية تدلاّن على بقاء الروح بعد الموت ووجود الصلة بين النشأتين الدنيوية ، والبرزخية ، وإليك الآية الثانية :

( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ

__________________

١. يونس : ٩٢.

٢. الأعراف : ٩٢ ـ ٩٣.

٦٢

فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ ). (١) ودلالة الآيتين علىٰ نمط واحد حيث إنّ كلاً من صالح وشعيب يخاطبان قومهما بعد هلاكهم ويقولان : ( يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ) فلو كان الموت فناء الشخصية ، فما معنى هذا الخطاب الجدي والذي يوضحه دخول الفاء علىٰ قوله : « فتولىٰ » والذي يعرب عن تأخّر التولّي والمحاورة عن هلاكهم ؟!

٣. ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ). (٢)

والآية تأمر النبي بسؤال المتقدمين من الرسل في شأن التوحيد ، والسؤال فرع وجود المسؤول أوّلاً وإمكان الاتصال ثانياً ، فالآية ظاهرة في وجود أرواح الأنبياء وإمكان الإتصال بهم.

وهناك آيات أُخرى صريحة أو ظاهرة في خلود الروح وإمكان الاتصال بها ، اقتصرنا على ما ذكرنا روماً للاختصار.

__________________

١. الأعراف : ٩٢ ـ ٩٣.

٢. الزخرف : ٤٥.

٦٣

الفصل الخامس :

ذكر نماذج من إحياء الموتى في الشرائع السابقة

إنّ للمتّقين مراتب ودرجات ، فاليقين بأنّ النار حارة أمر يقبل الاشتداد ، فتارة نتصور النار ونعلم بأنّها حارة ، وأُخرى نشاهدها عن كثب ، وثالثة نقترب منها ونحس حرارتها ، ولاختلاف درجات اليقين صار العلم بشيء واحد يوصف تارة بعلم اليقين ، وأُخرى بحقّ اليقين ، وثالثة بعين اليقين.

يقول سبحانه : ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ). (١)

وعلى ضوء ذلك فيصح لإنسان مذعن بإمكان إحياء الموتىٰ أن يطلب من الله سبحانه زيادة اليقين بمشاهدة الإحياء بأُم عينيه وما هذا إلاّ عملاً ، بقوله سبحانه : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ). (٢)

فما جاء في الذكر الحكيم من إحياء الموتىٰ للأنبياء والصالحين كان من هذا القبيل ، وإليك ذكرَها علىٰ وجه الإيجاز.

__________________

١. التكاثر : ٥ ـ ٧.

٢. طه : ١١٤.

٦٤

١. إبراهيم عليه‌السلام وإحياء الموتىٰ

ذكر المفسرون انّ إبراهيم عليه‌السلام رأىٰ جيفة تفترسها السباع ويأكل منها سباع البر ودواب البحر ، فسأل الله سبحانه ، وقال : يا ربّ ، قد علمت أنّك تجمعها من بطون السباع والطير ودواب البحر فأرني كيف تحييها لأُعاين ذلك.

يقول سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (١)

وما ذكرنا من شأن النزول يكشف عن هدف إبراهيم ، وهو انّه كيف يمكن إحياء الميت بعد تشتّت أوصاله واختلاطها بأوصال حيوانات أُخرى ؟ فلذلك أمره سبحانه بأخذ طيور مختلفة فقطعها ومزقها ثمّ فرقهنّ على جبال ثمّ أخذ بمناقيرهنّ ثمّ دعاهنّ باسمه سبحانه فأتتن سعياً فكانت تجتمع ويأتلف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه حتى قامت احياءً بين يديه ، وبذلك ازداد يقين إبراهيم حيث عاين إمكان إعادة أجزاء بدن كلّ حيّ إليه وإن اختلط بحي آخر ، فلو أكلت سباع البراري وجوارح السماء وحيتان البحر ، بدن الإنسان فصار جزءاً لأبدانها ، فالاختلاط لا يكون مانعاً عن الإحياء والإعادة.

وبعبارة أُخرى : لم يسأل إبراهيم عليه‌السلام عن أصل إحياء الموتىٰ وإلاّ لكفى في الإجابة بإحياء فرد واحد من الطيور والإنسان ، بل كان يستهدف الوقوف علىٰ كيفية إعادة أجزاء كلّ ميت إليه بعد الاختلاط ، ولذلك أمره سبحانه بأخذ طيور أربعة وقطع رؤوسهنّ وخلط أعضائهنّ وتفريقهنّ علىٰ رؤوس الجبال ثمّ دعوتهنّ.

__________________

١. البقرة : ٢٦٠.

٦٥

وبذلك اطمئنّ قلب إبراهيم واذعن بأنّه سبحانه له القدرة علىٰ إعادة أجزاء بدن الميت وإن اختلطت أجزاؤه بأجزاء ميت آخر. وانّ اختلاط أجزاء الموتىٰ أو ضلالتها في الأرض لا يمنع من الإعادة ، قال سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ). (١)

ومن غريب التفسير ما ذكره صاحب المنار حيث قال في معنى الآية ما حاصله : خذ أربعة من الطير فضُمَّها إليك ، وآنسها بك ، حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوانات استعداداً لذلك ، ثمّ اجعل كلّ واحد منها على جبل ثمّ ادعها ، فانّها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها ، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم بكلمة التكوين : « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة ، إذ قال للسماوات والأرض : ( ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). (٢)

قال : والدليل على ذلك من الآية ، قوله تعالى : ( فَصُرْهُنَّ ) فانّ معنى « أملهنّ » أي أوجد ميلاً بها ، وآنسها بك ، ويشهد به تعديته بإلىٰ ، فإنّ صار إذا تعدىٰ بإلىٰ كان بمعنى الأمالة. (٣)

ما ذكره من التفسير بعيد عن الصواب لوجوه :

الوجه الأوّل : انّ إبراهيم كان بصدد الوصول إلىٰ معرفة تامة بحقيقة إحياء الموتى ، وطلب من الله سبحانه أن يرى الإحياء بأُم عينه ويشاهده عن كثب ، فلم يكن تشبيه الإحياء والتمثيل له يجدي نفعاً ، كأن يشبه دعوة إبراهيم الطيور ومجيئهن إليه ، بدعوة الله سبحانه الموتىٰ ومجيئهم إليه.

__________________

١. ق : ٤.

٢. فصلت : ١١.

٣. تفسير المنار : ٣ / ٥٥ ـ ٥٨ ، وذكر وجوهاً في دعم هذه النظرية التي نقلها عن أبي مسلم وقد استحسنها في آخر كلامه ، وقال : « ولله در أبي مسلم ما أدقّ فهمه وأشدَّ استقلاله فيه ».

٦٦

الوجه الثاني : لو كان المراد ما ذكره ، لكان اللازم أن يقول : « ثمّ اجعل علىٰ كلّ جبل منهنَّ واحداً » بدل أن يقول : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ).

الوجه الثالث : انّ لفظة ( فَصُرْهُنَّ ) إمّا من « صيّر » بمعنى الميل والأُنس ، فعندئذٍ يكون الأمر بالقطع مقدراً ، فكأنّه يقول : « أملهنَّ إليك ثمّ اقطعهنَّ ».

أو من « صرىٰ » بمعنى القطع ، فعندئذ تكون متضمنة معنى الميل ، فكأنّه يقول : اقطعهنّ متمايلات إليك ، كتمايل كلّ طير إلىٰ صاحبه.

وعلى كلّ حال فالآية تدل صراحة على أنّ إبراهيم قطعهنّ وخلط أجزاءهنّ ، ثمّ فرقها على الجبال ، ثمّ دعاهنّ ، فأتينّه سعياً.

٢. إحياء نفس عزير (١)

يحكي الذكر الحكيم انّ رجلاً صالحاً مرّ علىٰ قرية خاوية وقد سقطت سقوفها فتساءل في نفسه كيف يحيي الله أهلها بعد ما ماتوا ؟ ولم يقل ذلك إنكاراً ولا ارتياباً ، بل أحبَّ أن يريه الله إحياءها مشاهدة مثل قول إبراهيم ، فأماته الله مائة سنة ثمّ أحياه ، فسمع نداءً ( كَمْ لَبِثْتَ ) فقال : ( لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) لأنّ الله أماته في أوّل النهار وأحياه بعد ـ مائة سنة ـ في آخر النهار ، فقال : (يَوْمًا ) ثم التفت فرأىٰ بقية من الشمس ، فقال : ( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فوافاه النداء : ( بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) فانظر إلى طعامك وشرابك لم تغيره السنون ، ثمّ أمر بأن ينظر إلى حماره كيف تفرقت أجزاؤه وتبدّدت عظامه ، فجعل الله سبحانه إحياءه آية للناس وحجّة في البعث. ثمّ جمع الله عظام حماره وكساها لحماً وأحياه.

يقول سبحانه : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ

__________________

١. المعروف انّ المحيىٰ هو عزير ، ولكن ليس في الآية دليل عليه ، وما يدل عليه هو انّ السائل كان رجلاً صالحاً ، وأمّا انّه هو عزير فلا نقطع به.

٦٧

يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (١)

والإمعان في قوله سبحانه : ( فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ) يفيد أنّه أماته سبحانه ، ثمّ أحياه بعد تلك المدة.

كما أنّ الإمعان في قوله : ( وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ ) سواء أُريد منه عظام حماره أو غيره ، يفيد انّه سبحانه كساها لحماً ثمّ أحياه ، فكان هناك إحياء لميتين.

والعجب انّ الذي يتطرق إليه الفساد بسرعة كالطعام والشراب لم يتغير طيلة هذه المدة ولكن ما لا يتطرق إليه الفساد إلاّ بعد مدّة طويلة فقد تفرقت أجزاؤه وتلاشت أعضاؤه ، وبذلك ازداد إيمان الرجل الصالح بالبعث والحشر.

بيد انّ صاحب المنار سلك في تفسير الآية نفس التفسير السابق فحمل الموت على السُّبات وهو النوم المستغرق الذي سمّاه الله سبحانه وفاة ، واستعان في تقريب مراده بأنّه قد ثبت في هذا الزمان انّ من الناس من تحفظ حياته زمناً طويلاً يكون فيه فاقد الحس والشعور ، فلبث الرجل الذي ضرب علىٰ سمعه مائة سنة غير محال في نظر العقل. (٢)

والتفسير بعيد عن الصواب ، وذلك لأنّ تفسير الموت بالسبات بحاجة إلىٰ دليل ، والمتبادر من الإماتة هي الإماتة الحقيقية ، وقياس المقام بأصحاب الكهف قياس مع الفارق ، لأنّ المتبادر من الآيات هناك هو السبات والنوم ، يقول سبحانه : ( فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ). (٣)

__________________

١. البقرة : ٢٥٩.

٢. تفسير المنار : ٣ / ٥٠.

٣. الكهف : ١١.

٦٨

ويقول أيضاً : ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ) (١) بخلاف المقام.

على أنّ ما ذكره لو صحّ في نفس الرجل الصالح لا يصح في حماره حيث إنّ الآية صريحة بأنّه سبحانه أماته ثمّ أحياه ونشز عظامه وكساها لحماً ، قال سبحانه : ( وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ).

٣. إحياء قوم من بني إسرائيل

ذكر المفسّرون انّ قوماً من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو الجهاد لما رأوا انّ الموت كثر فيهم ، فأماتهم الله جميعاً وأمات دوابهم ، ثمّ أحياهم لمصالح مذكورة في الآية ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ). (٢)

والرؤية في قوله : ( أَلَمْ تَرَ ) بمعنى العلم ، والمعنى : « ألم تعلم » والآية كما تثبت وقوع إحياء الموتى بعد إمكانه ، تثبت إمكان الرجعة إلى الدنيا على ما تتبنّاه الشيعة الإمامية كما هو الحال في إحياء عزير.

وممّا يثير العجب ما ذكره صاحب المنار ، حيث قال : الآية مسوقة سوق المَثَل ، والمراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، فلم يدافعوا عن استقلالهم ، وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، لهم كثرة وعزّة ، حذر الموت ، فقال لهم الله : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت ، والعلم وإباء الضيم حياة ، فهؤلاء ماتوا بالخزي ، وتمكّن الأعداء منهم ، وبقوا أمواتاً ثمّ أحياهم بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم

__________________

١. الكهف : ١٨.

٢. البقرة : ٢٤٣.

٦٩

فقاموا بحقوق أنفسهم واستغلوا في ذلك. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الظاهر انّ الآية تبيّن قصة واحدة ، وهي فرار قوم من الموت ، فأماتهم الله ، ثمّ أحياهم ، لا قصتين. بمعنى تشبيه من لم يدافعوا عن عزتهم ، وغُلبوا ، وبقوا كذلك حتى نفث في روعهم روح النهضة ، فقاموا للدفاع ، بقوم فرّوا من الموت الحقيقي ، فأماتهم الله موتاً حقيقياً ، ثمّ أحياهم ، ولو كانت الآية جارية مجرى المثل لوجب أن يكون هناك مشبه ومشبه به ، مع أنّ الآية لا تحتمل ذلك.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عندما يريد التمثيل بمضمون آية ، يأتي بلفظ « مثل » ، ويقول : ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (٢) و ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ ) (٣) و ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ). (٤)

وثانياً : لو كان المراد من الموت ، موت الخزي ، ومن الحياة ، روح النهضة ، للزم على الله سبحانه مدحهم وذكرهم بالخير ، مع أنّه يذمهم في ذيل الآية ، فانّ فيها : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ). (٥)

ثمّ إنّ صاحب المنار استعان في ردّ نظرية الجمهور ، بقوله سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتَةَ الأُولَىٰ ) (٦) فلا حياة في هذه الدنيا إلاّ حياة واحدة. (٧)

ولكن عزب عنه انّ ما جاء في الآية يدلّ على سنّة الله تعالى في عموم الناس ،

__________________

١. لاحظ تفسير المنار : ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

٢. البقرة : ١٧.

٣. يونس : ٢٤.

٤. الجمعة : ٥.

٥. النمل : ٧٣.

٦. الدخان : ٥٦.

٧. تفسير المنار : ٢ / ٤٥٩.

٧٠

وهذا لا يخالف اقتضاء مصالح معيّنة ، أن يذوق البعض النادر منهم حياتين ، وسيوافيك الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخية.

٤. إحياء قتيل بني إسرائيل

روى المفسرون انّ رجلاً من بني إسرائيل قتل أحد أبناء عمومته ليرثه وأخفىٰ قتله له ، ورغب اليهود في معرفة قاتله ، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوا بعض القتيل ببعض البقرة ليحيا ويخبر عن اسم قاتله ، وقاموا بذبح تلك البقرة بعد ان طرحوا عدّة تساؤلات على موسى تعرب عن لجاجهم وعنادهم ، ثمّ ضربوا بعض القتيل بها ، فقام حيّاً وأوداجه تشخب دماً ، وقال : قتلني « فلان بن عمي » ثمّ قُبض ، يقول سبحانه :

( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * ... وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). (١)

كان الهدف من وراء ذبح البقرة وضرب القتيل ببعضها ، أُمور :

الأوّل : أن يعرف القاتل بالأُسلوب الذي جاء في الآية.

الثاني : أن يزداد إيمان بني إسرائيل بالبعث والنشر ، وانّه سبحانه قادر على إحياء الموتىٰ كما أحيا المقتول في المقام.

الثالث : أمرهم بذبح البقرة بأيديهم ، لأنّ بني إسرائيل كانوا قد أُشربوا بعبادة العجل ، كما يقول الذكر الحكيم : ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) (٢) ، فذبح العجل بأيديهم صار آية على تحقير معبودهم لئلاّ يرجعوا إلىٰ

__________________

١. البقرة : ٦٧ ـ ٧٣.

٢. البقرة : ٩٣.

٧١

عبادته من جديد.

هذا ما استظهره جمهور المفسرين من الآية الكريمة بيد انّ صاحب المنار اتخذ موقفاً سلبياً حيال الآية تعرب عن انفراده بتفسير آخر ، فقال بعد ما ذكر نظرية جمهور المفسرين : والظاهر ممّا قدمنا انّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل ، إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ، ليعرف الجاني من غيره ، فمن غسل يده وفعل ما رُسِم لذلك في الشريعة ، برئ من الدم ، ومن لم يفعل ، ثبتت عليه. ومعنى إحياء الموتىٰ على هذا ، حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تُسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس ، أي يحييها بمثل هذه الأحكام ، وهذا الإحياء علىٰ حد ، قوله تعالى :

( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (١) وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) (٢). (٣)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ هذا التفسير لا ينطبق علىٰ قوله : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) ، فانّ معناه : اضربوا بعض النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ، وأين هذا من غسل أيدي المتهمين في دم الرجل المقتول ، فهل غسل الأيدي في دمها عبارة عن ضرب المقتول ببعض البقرة ؟

وثانياً : أنّه سبحانه يقول : ( كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ). فالقصة تتضمن آية من آيات الله ، ومعجزة من المعاجز ، فهل في غسل الأيدي بدم العجل ودرء التهمة عن المتهم إراءة للآيات الإلهية.

وثالثاً : أنّ تفسير الآية بالاستناد إلى الإسرائيليات والمسيحيات ، مسلك

__________________

١. المائدة : ٣٢.

٢. البقرة : ١٧٩.

٣. تفسير المنار : ١ / ٣٤٥ ـ ٣٥١.

٧٢

ضالّ في تفسير كتاب الله العزيز ، وليس اللجوء إليها إلاّ لأجل ما اتخذه صاحب المنار من موقف مسبق حيال المعاجز وخوارق العادات ، وإصراره علىٰ إرجاع عالم الغيب إلى الشهادة.

٥. المسيح عليه‌السلام وإحياء الموتى

إنّ الذكر الحكيم يقص لنا إحياء المسيح عليه‌السلام للموتىٰ ، قال تعالى حاكياً عنه : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ). (١)

وقال تعالى : ( إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَىٰ بِإِذْنِي ). (٢)

وقد تضافر في التاريخ والإنجيل والحديث قيام المسيح عليه‌السلام بإحياء الموتىٰ مرّات عديدة بحيث صار المسيح علماً وسمة لإحياء الموتىٰ وعلاج الأمراض المستعصية.

٦. إحياء سبعين رجلاً من قوم موسى

ذكر المفسّرون انّ موسى عليه‌السلام اختار من قومه سبعين رجلاً حينما خرج إلى الميقات ليكلّمه الله سبحانه بحضرتهم ، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لعدم وثوقهم بأنّ الله سبحانه يكلّمه ، فلمّا حضروا الميقات وسمعوا كلامه تعالى سألوا الرؤية فأصابتهم الصاعقة فماتوا ثمّ أحياهم الله تعالى.

يقول سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللهَ جَهْرَةً

__________________

١. آل عمران : ٤٩.

٢. المائدة : ١١٠.

٧٣

فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (١)

ويقول سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاَ لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ). (٢)

والمتبادر من الآية هو إحياؤهم بعد الموت ، ولا يفهم أي عربي صميم من قوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) ، سوى البعث من الموت.

ولكن صاحب المنار وحسب وجهة نظره اتخذ في تفسير الآية موقفاً سلبياً حيال المعاجز وخوارق العادات ، فذهب إلى أنّ المراد من البعث هو كثرة النسل ، أي انّه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن ان سينقرضون ، بارك الله في نسلهم ، ليعِد الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها ، ولكن هذا التفسير من الوهن بمكان.

أوّلاً : أنّ الظاهر من قول موسىٰ : ( لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ ) انّه سبحانه أجاب دعوته وأحياهم حتى يدفع عنه عادية اعتراض القوم بأنّه ذهب بهم إلى الميعاد فأهلكهم فتركهم هناك ورجع وحيداً ، ولا يدفع ذلك الاعتراض إلاّ بإحيائهم حقيقة.

وثانياً : انّ الرجفة لم تصب إلاّ سبعين رجلاً من قومه ، فليس في إهلاكهم مظنة انقراض نسلهم.

إلى هنا تمّ ما أورده القرآن الكريم من ذكر نماذج لإحياء الموتىٰ يستدل به على جواز إمكان النشر والحشر ، ولكن جاءت في القرآن الكريم نماذج أُخرى نظير إيقاظ الناس بعد سبات عميق ، الذي هو أشبه بالموت.

__________________

١. البقرة : ٥٥ ـ ٥٦.

٢. الأعراف : ١٥٥.

٧٤

٧. إيقاظ أصحاب الكهف

روى المفسرون أنّ فتية من قوم آمنوا بالله تعالى وكانوا يخفون إيمانهم خوفاً من مَلِكِهم ، الذي كان يعبد الأصنام ويدعو إليها ، ويقتل من خالفه ، والفتية كانوا علىٰ دين المسيح ، وكان كلّ واحد منهم يكتم إيمانه عن صاحبه. ثمّ اتّفق انّهم اجتمعوا وأظهروا أمرهم لبعضهم ، ولجأوا إلى كهف ، فضرب سبحانه على آذانهم فناموا في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ، ثمّ بعثهم ، يقول سبحانه :

( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ). (١)

فإنامة الله سبحانه هؤلاء الفتية هذه المدة المديدة ، ثمّ إيقاظهم ، لا يقصر عن الإماتة والإحياء ، والقادر عليه قادر على إحياء الموتى.

__________________

١. الكهف : ١٠ ـ ١٢.

٧٥

الفصل السادس :

المعاد الجسماني والروحاني

من المسائل الشائكة في مبحث المعاد هو تبيين كيفيته ، وانّه هل هو جسماني فحسب أو روحاني كذلك ، أو هو جسماني وروحاني معاً ؟ آراء وأقوال ، وها نحن نستعرض الآراء المهمة المطروحة على هذا الصعيد.

١. المعاد ، جسماني فحسب

المحكي عن المحدّثين هو انّ المعاد جسماني فحسب ، وذلك لأنّه لا واقعية للإنسان سوى هيكله الجسماني ، وانّ الروح سار في بدنه سريان النار في الفحم والماء في الورد ، فإذا بطل البدن بالموت بطلت الروح أيضاً ، فلا يبقىٰ هناك واقعية باسم الروح حتى تُعاد ، وإنّما المعاد ما يبقىٰ من الإنسان بعد موته من عظامه وسائر أجزاء بدنه.

٢. المعاد روحاني فحسب

ذهب أكثر المشائين من الفلاسفة إلى القول بأنّ المعاد روحاني فقط ، لانقطاع الصلة بين الروح والبدن بالموت فيستحيل حينئذ أن تتعلق الروح بالمادة من جديد.

٧٦

٣. المعاد جسماني وروحاني معاً

ذهب المحقّقون من المتكلّمين والحكماء كالشيخ المفيد والسيد المرتضىٰ والشيخ الطوسي والمحقّق الطوسي والعلاّمة الحلّي من الإمامية ، والغزالي والكعبي والحليمي والراغب الاصفهاني من السنّة ، إلىٰ أنّ المعاد جسماني وروحاني ، لأنّ النفس وإنْ كانت مجرّدة إلاّ أنّ تجرّدها ليس تامّاً حتى يستحيل تعلّقها بالمادة من جديد.

هذه هي الآراء المطروحة ، إنّما الكلام في تبيين الضوابط والمعايير التي علىٰ ضوئها يوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ، وهذا هو المهم في الباب.

لأنّ القول بكون المعاد جسمانيّاً فقط ، لا يخلو عن غموض ، فلو أريد من جسمانيته هو بعث البدن المنسلخ عن الروح ، فيعود إلى القول بمعاد الإنسان بصورة جماد فاقد للإدراك والشعور ، ومن الواضح انّ مثل هذا لا يقبل الجزاء ولا الثواب والعقاب ، فينتفي الغرض من المعاد.

وإن أُريد منه البدن المرافق مع الروح ، فلا يكون المعاد عندئذٍ جسمانياً فقط ، ولأجل ذلك عاد كثير من المتشرّعة إلى القول بجسمانية المعاد وروحانيته.

واللازم قبل اتّخاذ موقف صريح في ذلك تعيين معيار علىٰ أساسه يطلق الجسمانية أو الروحانية على المعاد. فنقول :

إنّ ثمة ملاكين للوصف بالجسمانية أو الروحانية ، حيث يرجع أحدهما إلىٰ بيان واقع الإنسان وحقيقته ، والآخر إلىٰ بيان نوع الجزاء من كونه جسمانياً أو روحانياً ، وها نحن نستعرض كلا الملاكين.

٧٧

أ. ما هي واقعية الإنسان

اختلفت الأنظار في واقع الإنسان وحقيقته ، فأهل الحديث يرون أنّ واقع الإنسان هو الهيكل الظاهري بما أنّ له حساً وحركة وإدراكاً ، وانّه ليس له وراء ذلك واقعية أُخرى باسم الروح والنفس ، فهؤلاء حطُّوا من المكانة الرفيعة للإنسان وجعلوه في عداد الحيوانات ، غير أنّ له صفات خاصة في مجال الحس والإدراك.

فهؤلاء يصحّ لهم وصف المعاد جسمانياً لا بمعنىٰ عود الإنسان جماداً ، بل عوده إلى ما كان عليه في الدنيا من الهيكل الإنساني المساوق للحس والحركة.

فهذه الثُّلّة ليس لها وصف المعاد بالروحانية وراء الجسمانية ، بل المعاد عندها جسماني محض. بالمعنى الذي عرفت.

وفي مقابلهم أهل الفكر والتدبّر من المحقّقين الذين ذهبوا إلىٰ أنّ للإنسان وراء ذلك الهيكل الظاهري المساوق للحس والحركة ، واقعية أُخرى أطلق عليها « النفس المجرّدة » ، وهي مجردة لها ارتباط وثيق بالمادة أي البدن من خلال تدبيره وإدارة شؤونه.

وعند ذاك فلو كان المحشور هو الروح المتعلقة بالبدن فقط ، يكون المعاد روحانياً محضاً ، ولو قلنا بعود الروح والجسم معاً فيصحّ وصف المعاد بالجسمانية والروحانية.

أمّا كونه جسمانياً فلعود الهيكل الإنساني ـ المرافق للحس والحركة ـ إلى المحشر.

وأمّا كونه روحانياً ، فلعود الروح إلى البدن من جديد.

فتلخّص ممّا سبق أنّ من لم يذعن بوجود النفس المجردة يكون المعاد عنده جسمانياً محضاً ، وأمّا المذعن بها فالمعاد عنده يمكن أن يكون روحانياً محضاً ، أو روحانياً وجسمانياً.

إلى هنا تمّ الملاك الأوّل.

٧٨

ب. أصناف الثواب والعقاب

وثمة ملاك آخر لوصف المعاد بالجسمانية أو الروحانية ، وهو اختلاف الثواب والعقاب فانّ هناك صنفاً من الثواب والعقاب لا ينالها الإنسان إلاّ ببدنه وهيكله المرافق للحس والحركة ، كالأكل والشرب من نعيم الجنة والالتذاذ برؤية مناظر الجنة الخلاّبة ، فعندئذٍ يكون معاد الإنسان معاداً جسمانياً.

كما أنّ هناك صنفاً آخر لا ينالها الإنسان إلاّ بعقله وروحه ، فلو تجرّد الروح عن البدن لما كان للبدن ذلك كنيل رضوان الله والابتعاد عن رحمته.

وعلىٰ ذلك الاصطلاح درج الشيخ الرئيس في الشفاء (١) وصدر المتألّهين في الأسفار ، والحكيم السبزواري في شرح المنظومة.

قال صدر المتألّهين : إنّ للنفس الإنسانية نشاءات ثلاثة إدراكية.

النشأة الأُولى : هي الصورة الحسية الطبيعية ، ومظهرها الحواس الخمس الظاهرة ، ويقال لها الدنيا لدنوها وقربها ولتقدمها على الأخيرتين.

وعالم الشهادة لكونها مشهودة بالحواس ، وشرورها وخيراتها معلومة لكلّ أحد لا يحتاج إلى البيان ، وفي هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته واستحالته ، ووجود صورتها لا تنفك عن وجود مادتها.

والنشأة الثانية : هي الأشباه والصور الغائبة عن هذه الحواس ، ومظهرها الحواس الباطنة ، ويقال لها عالم الغيب والآخرة لمقايستها إلى الأُولى.

والنشأة الثالثة : هي العقلية وهي دار المقربين ودار العقل والمعقول ، ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلاً بالفعل ، وهي لا تكون إلاّخيراً محضاً ونوراً صرفاً.

__________________

١. الإلهيات : ٤٦٠ المقالة التاسعة ، الفصل الثامن ، ط ١٤١٨ ه‍.

٧٩

فالنشأة الأُولى دار القوة والاستعداد والمزرعة لبذور الأرواح ، ونبات النيات والاعتقادات ، والأُخريتان كلّ منهما دار التمام والفعلية وحصول الثمرات وحصاد المزروعات. (١)

ويقول الحكيم السبزواري :

انّ الذي بالعقل بالفعل انتقىٰ

فهو لعالم العقول مرتقىٰ

في المعاد الروحاني وهو الحشر إلى الله وصفاته وأفعاله الإبداعية ، « انّ الذي » من العقل بالقوة « بالعقل بالفعل انتقىٰ » والانتقاء بمعنى الاختيار ، « فهو لعالم العقول » اللام بمعنى إلىٰ « مرتقىٰ » بعد المفارقة عن البدن بالموت ، والمراد من الارتقاء أعمّ ممّا هو بعد أزمنة المكث قليله أو كثيره في عالم المثال متنعماً بالصور البهية المستنيرة وممّا هو بغير مكث فانّ الذي صار عقلاً بالفعل أعمّ من الكامل في الحكمتين العلمية والعملية والكامل في العلمية دون العملية فانّ النفس لا تخلو عن أقسام خمسة : إمّا أن تكون كاملة في الحكمتين العلمية والعملية ، أو متوسطة فيهما ، أو كاملة في العلمية دون العملية ، أو في العملية دون العلمية ، أو ناقصة فيهما. (٢)

__________________

١. الأسفار : ٩ / ٢١ ـ ٢٢.

٢. شرح المنظومة : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

٨٠