مفاهيم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والريحان والحور والثمار هي الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزي وتسمَّت بهذا الاسم ، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن ، فتحلّىٰ في كلّ موطن بحلية ، وتزيّىٰ في كلّ نشأة بزيّ ، وقالوا : إنّ اسم الفاعل في قوله تعالى : ( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (١) ليس بمعنى الاستقبال بأن يكون المراد انّها ستحيط بهم في النشأة الأُخرى. (٢)

ففي قوله : إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن فتحلّىٰ في كلّ موطن بحلية ، جواب عن الإشكالين الماضيين.

وحاصل الجواب : انّه لا مانع من أن يكون لشيء واحد تجليان حسب اختلاف الظروف ، ولم يكتب على جبين العرض انّه عرض في كلتا النشأتين.

يقول العلاّمة المجلسي : القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضاً ، والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة ، إذ النشأة الآخرة ليست إلاّ مثل تلك النشأة ، وتخلّل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك ، والقياس على حال النوم واليقظة أشد سفسطة إذ ما يظهر في النوم إنّما يظهر في الوجود العلمي ، وما يظهر في الخارج فإنّما يظهر بالوجود العيني ، ولا استبعاد كثيراً في اختلاف الحقائق بحسب الوجودين ، وأمّا النشأتان فهما من الوجود العيني ولا اختلاف بينهما إلاّ بما ذكرنا ، وقد عرفت أنّه لا يصلح لاختلاف الحكم العقلي في ذلك.

وأمّا الآيات والأخبار فهي غير صريحة في ذلك ، إذ يمكن حملها على أنّ الله تعالى يخلق هذه بازاء تلك أو هي جزاؤها ، ومثل هذا المجاز شائع ، وبهذا الوجه

__________________

١. العنكبوت : ٥٤.

٢. البحار : ٧ / ٢٢٩ ، باب أحوال المتقين من كتاب العدل والمعاد.

٣٤١

وقع التصريح في كثير من الأخبار والآيات ، والله يعلم وحججه عليهم‌السلام. (١)

إنّ أساس الإشكال الأوّل باطل من رأسه ، فانّ البرهان العقلي قائم على أنّ من طرأ عليه الوجود لا يعدم أصلاً ، وعدمه بعد انقضاء زمانه عدم نسبي لا عدم مطلق ، فكلّ شيء موجود في ظرفه ولا يمكن أن يطرأ العدم عليه.

نعم كلّ موجود زماني محدَّد بزمان خاص فهو غير موجود في غير زمانه ، ولكنّه موجود في ظرفه لا يطرأ عليه العدم.

هذا هو القضاء الحاسم للعقل ويؤيده النقل ، يقول سبحانه : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٢). (٣)

فعلىٰ ضوء ذلك ، فالإشكال الأوّل لا أساس له من الصحة ، وكلّ فعل موجود في ظرفه لا يطرأ عليه العدم ، فالعمل يوم المعاد يحضر بنفس وجوده المحقق في ظرفه.

إنّما المهم هو الإشكال الثاني ـ أعني : انقلاب العرض جوهراً ـ وهو أيضاً أمر ممكن لأنّ جسمانية المعاد ليس بمعنى سيادة القوانين الدنيوية جميعها على النشأة الأُخرى ، بل اختلاف النشأتين ربما يورث اختلافهما في بعض القوانين.

يقول سبحانه : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ). (٤)

نعم القوانين العامة السائدة على الوجود بإطلاقه تكون محفوظة في

__________________

١. البحار : ٧ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، باب أحوال المتقين من كتاب العدل والمعاد.

٢. يونس : ٦١.

٣. انظر سبأ : ٣ ، النمل : ٧٥.

٤. إبراهيم : ٤٨.

٣٤٢

النشأتين كامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين.

وليس من ذلك تبدل العرض جوهراً ، فانّ كون العرض غير قائم إلاّ بالموضوع في تلك النشأة لا يكون دليلاً على كونه كذلك في النشأة الأُخرى ، إذ من الممكن أن يكون العرض قائماً بنفسه في النشأة متبدلاً ، متجليّاً بصورة النار والأغلال والسلاسل ، أو أن يكون العمل الصالح كالصلاة والصوم قائماً بنفسه في النشأة الأُخرى متجلّياً بصورة الحور والجنات والعيون.

وما ذكرنا لا يختص بتجسم الأعمال بل يجري في الصراط والميزان والأعراض ، وقد قلنا إنّ حقائقها خفية علينا ، وانّ التعبير عنها بالميزان وغيره تقريب للذهن بالحقائق المستورة.

وعلى ما ذكرنا فلا مانع من تجسّم الأعمال ، ولنذكر بعض كلمات الأعلام في هذا الصدد :

يقول صدر المتألّهين : كما أنّ كلّ صفة تغلب على باطن الإنسان في الدنيا وتستولي على نفسه بحيث تصير ملكة لها ، يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة ، وربما بلغ ضرب من القسم الأوّل حدّ اللزوم ، وضرب من القسم الثاني حدّ الامتناع ، لأجل رسوخ تلك الصفة. لكن لما كان هذا العالم دار الاكتساب والتحصيل قلما تصل الأفعال المنسوبة إلى الإنسان الموسومة بكونها بالاختيار في شيء من طرفيها حدّ اللزوم والامتناع بالقياس إلى قدرة الإنسان وإرادته دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون النفس متعلّقة بمادة بدنية قابلة للانفعالات والانقلابات من حالة إلى حالة ، فالشقي ربما يصير بالاكتساب سعيداً وبالعكس ، بخلاف الآخرة فانّها ليست دار الاكتساب والتحصيل ، كما أشير إليه بقوله تعالى : ( لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ) (١) ، وكلّ صفة بقيت في النفس

__________________

١. الأنعام : ١٥٨.

٣٤٣

ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار الآخرة صارت كأنّها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشئة منها بصورة يناسبها في عالم الآخرة والأفعال والآثار التي كانت تلك الصفات مصادر لها في الدنيا ، وربما تخلفت عنها لأجل العوائق والصوارف الجسمانية الاتفاقية ، لأنّ الدنيا دار تعارض الأضداد وتزاحم المتمانعات بخلاف الآخرة لكونها دار الجمع والاتفاق لا تزاحم ولا تضاد فيها ، والأسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية فكلّما يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلّف عنها هناك كما يتخلف عنها هاهنا لمصادفة مانع له ومعاوقة صارف عنه ، إذ لا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتفاقية ومبادئ الشرور بل الملك لله الواحد القهار.

ثمّ إنّ صدر المتألّهين ضرب مثالاً لتقريب الموضوع ، يقول : إنّ الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من الرطوبة في جسم الآخر قَبِلَ الجسم المنفعل الرطوبةَ فصار رطباً مثله ، ومتى فعل فعله الرطوبة في قابل غير جسم كالقوة الدراكة الحسية والخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب ، لم يقبل الأثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطباً بل يقبل شيئاً آخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متىٰ نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئاً آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي ، ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية ، فانظر حكم تفاوت النشآت في ماهية واحدة لصفة واحدة ، كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أُخرى شيئاً آخر ، وفي جوهر شيئاً آخر وكلّ من هذه الثلاثة حكاية للآخرين ، لأنّ الماهية واحدة والوجودات متخالفة ، وهذا القدر يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعد الله ورسوله أو توعد عليه في لسان الشرع من الصور الأُخروية المرتبة على الاعتقادات الحقّة أو الباطلة أو الأخلاق الحسنة والقبيحة المستتبعة

٣٤٤

للذات والآلام إن لم يكن من أهل المكاشفة والمشاهدة. (١)

ثمّ إنّه قدس‌سره ضرب مثالاً آخر لتقريب ما رام إليه ، وقال :

إنّ شدة الغضب في رجل توجب ثوران دمه ، واحمرار وجهه ، وحرارة جسده ، واحتراق موادّه ، على أنّ الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام وقد صارت هذه الجهات والعوارض الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسانية في هذا العالم ، فلا عجب من أن يكون سورة هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الأُخرىٰ نار جهنم التي تطّلع على الأفئدة فاحترقت صاحبها كما يلزم هاهنا عند شدة ظهورها وقوة تأثيرها إذا لم يكن صارف عقلي أو زاجر عرفي يلزمها من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر ربما يؤدي إلى الضرب الشديد والقتل لغيره بل لنفسه ، وربما يموت غيظاً فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة لتلك الآثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات المؤذيات والاعتقادات المهلكات وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها يوم الآخرة من النيران وغيرها ، وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق والاعتقادات وكيفية استنباط النتائج والثمرات من الجنات والرضوان والوجوه الحسان. (٢)

تجسّم الأعمال من منظار العلم

ما ذكرناه سابقاً كان تحليلاً لتجسّم الأعمال من زاوية العقل والفلسفة الإسلامية ، فحان البحث عنه من منظار آخر وهو منظار العلم.

إنّ تجسم الأعمال أُرسي علىٰ قواعد ثابتة وهي :

__________________

١. المبدأ والمعاد : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

٢. المبدأ والمعاد : ٣٤٣.

٣٤٥

انّ المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة ، وربما تتبدّل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة ، فتكون الطاقة وجوداً منبسطاً للمادة ، كتبدّل مادة الغذاء الذي يتناوله الإنسان إلىٰ حركة ، وكتبدّل وقود الحافلات إلىٰ طاقة حركية.

إنّ مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم الأساسية الذي يكون حاكماً علىٰ كافة الظواهر الطبيعية ، بمعنى انّ كافة التفاعلات والتحولات التي تحدث في عالم الطبيعة لا تخرج عن هذا الإطار العام وهو انّ عموم الطاقة لا يتغير فيها أبداً.

فالطاقة يمكن أن تتبدّل إلى أنواع مختلفة ، وهذه الأنواع تشمل الطاقة الحركية ، الحرارية ، الكهربائية ، الكيميائية ، والنووية. (١)

حقيقة العمل من الإنسان

كلّ عمل يقوم به الإنسان ـ سواء كان طاعة أو معصية ـ يعدّ جزءاً من عالم المادة وليس له حقيقة إلاّ تبدل جزء ضئيل من المادة إلى طاقة حركية ، فتعود حقيقة العمل في الإنسان إلىٰ تبدل المادة إلى طاقة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ تجسّم الأعمال يبتني علىٰ قواعد أربع :

١. حقيقة العمل هو تبديل المادة إلىٰ طاقة.

٢. الطاقة الموجودة في العالم ثابتة لا تتغير.

٣. المادة والطاقة حقيقتها واحدة.

٤. كما أنّ المادة تتبدّل إلى الطاقة فهكذا تتبدّل الطاقة في ظروف خاصة إلى المادة.

__________________

١. دائرة المعارف البريطانية : ٦ / ٨٩٤.

٣٤٦

فهذه المقدمات تنتج انّ تجسم الأعمال الذي ترجع حقيقته إلى تبدّل الطاقة إلى المادة أمر ممكن وإن لم يكن واقعاً في عالم الطبيعة ، ولعلّ العلم سيحقق هذه الأمنية ، ولكن القرآن الكريم طرح هذه المسألة قبل ١٤ قرناً يوم لم يكن للإنسان أي معرفة بها. غير انّ الأكابر من علماء الإسلام وصلوا إليها عن طريق المكاشفة ودراسة الأُصول الفلسفية.

نعم ما ذكرناه إنّما هو صورة ضبابية لما يتحقق في النشأة الأُخرىٰ ، ولا يمكن للإنسان الذي هو رهين عالم المادة أن يتصور ما يحدث خارج عالمه على وجه تام.

سؤال وإجابة

إنّ ما دلّ من الآيات والروايات على تجسّم الأعمال ممّا لا غبار عليه ، وانّ الإنسان يجزى من خلال تجسّم عمله الصالح أو الطالح وتمثّله بصورة النعمة والنقمة فيتنعّم به المؤمن ، ويعذّب به الكافر.

لكن بقي سؤال : وهو انّ طائفة من الآيات دلت علىٰ أنّ الجزاء يوم القيامة أمر جعلي أشبه بمجازات المجرمين أو بإثابة المطيعين ، فعلىٰ ذلك يكون الجزاء أمراً خارجاً عن نطاق عمل الإنسان بل مفروضاً عليه من الخارج.

وبعبارة أُخرى : انّ القول بأنّ الجزاء يكمن في تمثّل عمل الإنسان بالجنة والنار يخالف مع ما دلّت عليه بعض الآيات من وجود جنة وجحيم خارج إطار عمل الإنسان من خير وشر ، وإنّما خلقهما الله سبحانه للمطيعين أو المذنبين قبل أن يخلق المطيع والعاصي ، فكيف يمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الآيات ؟

والجواب : انّ القرآن الكريم نزل من الله سبحانه : علىٰ قلب سيد المرسلين دون أن يكون فيه أي اختلاف ، وذلك آية انّه كلام الله سبحانه المنزّه من الخطأ والاشتباه والتناقض والتعارض ، يقول سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ

٣٤٧

عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ). (١)

وعلىٰ ضوء ذلك فلا مانع من أن يكون هناك نعمة ونقمة من خلال تجسّم الأعمال وتمثّلها ، وجنة ونار خارجين عن إطار عمل الإنسان وفعله ، فالجزاء الأوّل أمر تكويني يلازم وجود الإنسان ، والثاني أمر جعلي مفروض عليه حسب ما اكتسب من الحسنات والسيّئات.

سؤال وإجابة

إنّ حقيقة تجسّم الأعمال ترجع إلى أنّ الإنسان حسب اكتساب الطاعات أو اقتراف السيئات يخلق ملكات حسنة أو سيئة تبعاً لها على نحو تكون تلك الملكات جزء وجوده وصميم ذاته ، ومن الواضح بمكان انّ كلّ ملكة تستتبع مقتضاها ، فالملكة الحسنة تستتبع صوراً مثالية حسنة أو صوراً مثالية قبيحة يتلذّذ بها أو يتعذّب وليست خلاّقية الملكات لهذه الصور فعلاً اختيارياً ، بل لم تزل خلاّقة للصور حسب مقتضاها.

وإذا كانت الصور المثالية أمراً تكوينياً من لوازم وجود الإنسان بحيث لا ينفك عن وجوده مهما نزل أو سكن ، فما معنى الشفاعة التي تمحو المجازات الجعلية المفروضة عليه من خارج وجوده ؟

والجواب : انّ الملكات المكتسبة وإن كانت خلاّقة للصور المثالية جميلة كانت أو قبيحة شاء أم أبىٰ ، لكن ثمة مرتبة من الشفاعة تؤثر في صميم الإنسان وذاته بنحو تؤثر علىٰ ملكاته السيئة وليس تأثير الشفيع في ملكات المشفوع له بأصعب من تأثير دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الاعجاز في عالم الكون حيث يعود ـ بفضل دعائه ـ الميت حياً والأعمى بصيراً والسقيم صحيحاً ، فكما انّ دعاء النبي وإرادته

__________________

١. النساء : ٨٢.

٣٤٨

تؤثر في التكوين ، فهكذا الحال في شفاعة النبي في الآخرة تؤثر في الملكات السيئة وتقلبها رأساً علىٰ عقب.

ونظير ذلك دعاء المذنب في هذه الدنيا واستغفاره قبل الموت حيث إنّه يؤثر فيما اكتسب من الملكات ويقلبها إلىٰ غيرها.

وحصيلة البحث : انّ تأثير الملكات في الصور المثالية يتم علىٰ نحو المقتضي لا العلة التامة ، فهي تؤثر مادام العامل الخارجي وإلاّ فلا ، وبذلك يمكن الجمع بين القول بالشفاعة وتجسّم الأعمال.

٣٤٩

الفصل السادس والعشرون

الأحوال الطارئة على الإنسان يوم القيامة

إنّ الذكر الحكيم يصف أحوال الإنسان وما يطرأ عليه وصفاً دقيقاً يهزّالمشاعر ويُثير الرعب فينعكس علىٰ سلوكه التربوي حيث يختار معه الطاعة على العصيان ، والدخول في ربقة الطاعة ، فكما أنّ الإيمان بنفس المعاد له أثر تربوي من خلال كبت غرائز الإنسان الجامحة ، فهكذا وصف ما يطرأ على الإنسان من الحالات ـ يوم القيامة مؤثر في كبت النفس الجامحة في هذه الدنيا ، وإيقافها عن الولوج في المعاصي.

إنّ الآيات الواردة في هذا الصدد علىٰ قسمين : فتارة تتخذ نفس الإنسان موضوعاً لوصف حاله في القيامة من دون أن يشير إلىٰ طائفة دون أُخرى ، وأُخرى تصنّف الإنسان إلىٰ طوائف خاصة وتصف حالة كلّ طائفة. وإليك الكلام في كلتا الطائفتين :

الطائفة الأُولى : الآيات التي تتكفل بيان حال الإنسان يوم القيامة دون أن تخصه بطائفة :

٣٥٠

١. كلّ إنسان له شأن يغنيه

يقول سبحانه : ( يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ). (١)

فما هو الوجه في تحيّره واستغراقه بنفسه وغفلته عن سواه ، يعلم ذلك من الآيات التي تصف مشاهد القيامة وقد مرت أوصافها.

٢. لا يملك إنسان لإنسان نفعاً

قال سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ). (٢)

وفي آية أُخرى : ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ). (٣)

والسبب في ذلك انّ النظام السائد في الدنيا سينهار في الآخرة وتنفصم معه كافة العلاقات والروابط والأسباب ، فلا تملك نفس لنفس شيئاً ، يقول سبحانه : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ). (٤)

والمراد من الأسباب المنقطعة هي الأسباب الدنيوية لا مطلق الأسباب ، فانّ ذلك النظام أيضاً مبني على أسباب خاصة لتلك النشأة.

__________________

١. عبس : ٣٤ ـ ٣٧.

٢. سبأ : ٤٢.

٣. الانفطار : ١٩.

٤. البقرة : ١٦٦.

٣٥١

٣. ما لا ينفع الإنسان

يصرح الذكر الحكيم بأنّ المال والثروة والأولاد والأرحام لا تنفع أبداً ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ). (١)

وفي آية أُخرى : ( لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ). (٢)

والوجه هو ما تقدم آنفاً من إيجاد نظام آخر قائم على أسباب خاصة وانقطاع الأسباب الدنيوية فيه.

٤. لا تنفع الأعذار

يقول سبحانه : ( فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ). (٣)

والسبب في ذلك انّه سبحانه يبعث الأنبياء والرسل كي يوصد باب الأعذار ويتم الحجة.

٥. ما ينفع يوم القيامة

قد صرح الذكر الحكيم بأمرين ينفعان يوم القيامة.

أ. القلب السليم : يقول سبحانه : ( إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٤) ، والمراد من القلب السليم هو القلب النزيه عن الشرك الخالي من حب الدنيا.

__________________

١. الشعراء : ٨٨.

٢. الممتحنة : ٣.

٣. الروم : ٥٧.

٤. الشعراء : ٨٩.

٣٥٢

يقول الطبرسي : وإنّما خصّ القلب بالسلامة ، لأنّه إذا سلم القلب ، سلمت سائر الجوارح من الفساد من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلاّ عن قصد بالقلب الفاسد ، وروي عن الصادق عليه‌السلام ، انّه قال : « هو القلب الذي سلم من حب الدنيا » ، ويؤيده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حب الدنيا رأس كلّ خطيئة ». (١)

ب. الصدق : قال سبحانه : ( هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ). (٢)

٦. الأخلاّء بعضهم عدو لبعض

ومن الشواهد على أنّ النظام السائد يوم القيامة غير ما هو السائد في هذه النشأة ، هو انّ الأخلاّء في هذه الدنيا سيكونون أعداء ، يقول سبحانه : ( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ ). (٣)

وما هذا إلاّ لأنّ التقوىٰ تربط المتقين ، فالمؤمنون الأخلاّء في هذه النشأة أخلاّء في النشأة الآخرة بخلاف الكفار والمنافقين.

٧. منطق المؤمنين مع الكافرين

لقد كان الكافرون يستهزئون بالمؤمنين في الحياة الدنيا ، ففي الآخرة يعكس الأمر فالمؤمنون يستهزئون بالكافرين ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلاءِ لَضَالُّونَ ). (٤)

__________________

١. مجمع البيان : ٤ / ١٩٤.

٢. المائدة : ١١٩.

٣. الزخرف : ٦٧.

٤. المطففون : ٢٩ ـ ٣٢.

٣٥٣

هذه الآية تعكس نظر الكافرين إلى المؤمنين وانّهم كانوا يتغامزون بهم ويصفونهم بالضلال ، ولكن الأمر في الآخرة ينقلب لصالح المؤمنين ، يقول سبحانه : ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ). (١)

وما هذا إلاّ لأنّ الأسباب الدنيوية تنقطع بهم في الآخرة ، وانّ السائدة في النشأة الأُخرى هي قوانين تخصّها.

الطائفة الثانية : تتكفل بيان صنف خاص ، مقتصرة عليه أو تتعداه إلىٰ ضدّه.

السعداء والأشقياء

يركز القرآن الكريم في غير واحد من آياته علىٰ تصنيف الناس إلىٰ تصانيف مختلفة يجمعها انّهم بين فرحين مستبشرين بما يلحقهم من الجزاء ، وبين مغمومين يدعون ويلاً وثبوراً لما يلحقهم من الشقاء.

وقد عبر القرآن عن ذلك التصنيف بتعابير مختلفة فتارة يركز على وصف الحالات التي تطرأ علىٰ وجوههم التي تخبر عما في ضميرهم من السرور والفرح أو الحزن والقلق ، وإليك الآيات :

يقول سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ).

ويقول سبحانه : ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ). (٢)

يقول سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ).

ويقول سبحانه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ). (٣)

__________________

١. المطففون : ٣٤ ـ ٣٦.

٢. عبس : ٣٨ ـ ٤١.

٣. القيامة : ٢٢ ـ ٢٥.

٣٥٤

ويقول سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ ).

ويقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ). (١)

يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). (٢)

وأُخرى يشير إلى تصنيفهم عن طريق أخذ كتابهم باليمين أو اليسار ، فمن أُوتي كتابه بيمينه فقد بوركت عليه الحياة في تلك النشأة.

وأمّا من أُوتي كتابه بشماله أو وراء ظهره ، فسوف يجزى بحياة قاسية وعذاب دائم.

وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ). (٣)

وقال سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ). (٤)

وقال سبحانه : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ).

وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *

__________________

١. الغاشية : ٢ ـ ١١.

٢. آل عمران : ١٠٦ ـ ١٠٧.

٣. الحاقة : ٢٥ ـ ٢٦.

٤. الإسراء : ٧١.

٣٥٥

وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ). (١)

وثالثة يصنّفهم إلى أصحاب الميمنة والمشأمة.

يقول سبحانه : ( فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ المُقَرَّبُونَ ). (٢)

هؤلاء الأصناف الذين أشار إليهم القرآن الكريم تارة عن طريق وصف وجوههم ، وأُخرى عن طريق أخذ كتابهم ، وثالثة بكونهم من أصحاب الميمنة أو المشأمة ليسوا أصحاب مصير واحد بل يختلف مصيرهم حسب اختلاف درجاتهم من السعادة والشقاء ، ولذلك يصف القرآن الكريم مصير هذه الأصناف بما يليق بهم من الجزاء ، ونحن نقتصر بالقليل من الكثير.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون في الآخرة

يظهر من الآيات انّ المؤمنين يلتفون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونورهم يسعى بين أيديهم.

يقول سبحانه : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (٣)

المتقون

إنّ للمتّقين عند الله سبحانه مكانة عالية تعرب عنها الآيات التالية :

يقول سبحانه : ( وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ ). (٤)

__________________

١. الانشقاق : ٧ ـ ١٣.

٢. الواقعة : ٨ ـ ١١.

٣. التحريم : ٨.

٤. النحل : ٣٠.

٣٥٦

ويقول : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ). (١)

ويقول : ( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ). (٢)

ويقول سبحانه : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ). (٣)

ويقول سبحانه : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ). (٤)

ويقول : ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللهُ المُتَّقِينَ ). (٥)

ويقول : ( فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ). (٦)

ويقول : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ). (٧)

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة حول المتَّقين ، فمن أراد فليرجع إلى الآيات المذكورة في الهامش. (٨)

الصابرون

إنّ للصابرين في طريق الطاعة ومواجهة البلايا والمصائب ومكافحة المعاصي مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى ، فهؤلاء يصفهم الله سبحانه بالنحو التالي :

أ. يسلم عليهم الملائكة عند دخولهم الجنة ، يقول سبحانه : ( سَلامٌ عَلَيْكُم

__________________

١. الدخان : ٥١.

٢. الحجر : ٤٦.

٣. المرسلات : ٤١.

٤. الحجر : ٤٥.

٥. النحل : ٣١.

٦. الطور : ١٨.

٧. الحجر : ٤٧.

٨. النبأ: ٣١ ـ ٣٦ ، المرسلات: ٤١ ـ ٤٣ ، الحجر: ٤٥ ـ ٤٧ ، الدخان: ٥١ ـ ٥٧ ، الرعد : ٣٥ ، الفرقان: ١٥ ، محمد: ١٥ ، آل عمران: ١٣٣ ، الشعراء: ٩٠ ، الزخرف: ٣٥ ، القلم : ٣٤ ، القمر : ٥٤ ، الذاريات : ١٥.

٣٥٧

بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ). (١)

ب. يعطون أجرهم مرتين ، يقول سبحانه : ( أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ). (٢)

ج. يجزون بالوجه الأحسن ، يقول سبحانه : ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). (٣)

د. يجزون غرف الجنة ، يقول سبحانه : ( أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ). (٤)

وليعلم أنّ الصابرين ليسوا قسماً مغايراً للمتّقين أو المؤمنين بل الجميع صنف واحد ولكن لهم ميزات وصفات خاصة بهم.

المصلّون

إنّ الصلاة هي الرابطة الوثيقة بين العبد وخالقه ولها أهمية خاصة في الذكر الحكيم ، فالله سبحانه يذكر المصلين ويمدحهم بمدائح مختلفة ، لما في الصلاة من تأثير خاص في كرامة الإنسان وصفاء روحه والقيام بالوظائف الملقاة علىٰ عاتقه.

فقد جاء في سورة المعارج من الآية ١٩ ـ ٣٥ ذكر للصلاة وذكر تأثيرها في مختلف المجالات ، وها نحن نذكر تلك الآثار من خلال التدبر في تلك الآيات.

١. انّ الصلاة تحد من حرص الإنسان وطمعه ، لأنّ المصلي بصلاته يرتبط بالعالم الغيبي وتصير الدنيا صغيرة في عينيه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ

__________________

١. الرعد : ٢٤.

٢. القصص : ٥٤.

٣. النحل : ٩٦.

٤. الفرقان : ٧٥.

٣٥٨

هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ). (١)

٢. إذا كانت الصلاة تمثل علاقة الإنسان مع خالقه فهي تبعثه في نفس الوقت إلى عدم تناسي علاقته مع الناس ، ولذلك تبعث المصلي إلى أداء حقوق المحرومين والمستحقين ، يقول سبحانه في حقّ المصلين : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ ). (٢)

٣. انّ الصلاة أذكار وأفعال ، ومن أذكارها ما يقرأه المصلّي في سورة الحمد ، ويقول : ( مالِكِ يَوم الدِّين ) فلا محيص للمصلّي عن تصديقه بيوم الدين ، ولذلك يصف سبحانه المصلين ، بقوله : ( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ). (٣)

٤. انّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر حسب الذكر الحكيم ، ولذلك يصف سبحانه المصلّين بقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ). (٤)

٥. انّ الخيانة الأمانة من المنكرات التي تنهى عنها الصلاة ، ولذلك يصف سبحانه المصلين بقوله : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ). (٥)

٦. انّ كتمان الحق خيانة لصاحبه والصلاة تنهى عن المنكر الذي تعد الخيانة من أكبر مصاديقه ، ولذلك يصف سبحانه المصلين بقوله : ( وَالَّذِينَ هُم

__________________

١. المعارج : ١٩ ـ ٢٣.

٢. المعارج : ٢٤ ـ ٢٥.

٣. المعارج : ٢٦ ـ ٢٨.

٤. المعارج : ٢٩ ـ ٣١.

٥. المعارج : ٣٢.

٣٥٩

بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ). (١)

كلّ ذلك من أوصاف المصلين الواردة في تلك السورة ، وقد ورد في القرآن حول الصلاة آيات كثيرة فضلاً عن الروايات.

السابقون

إنّه سبحانه يصف المحشورين يوم القيامة بصفات ويصنّفهم إلى السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وإليك التوضيح :

فالمراد من السابقين هم السابقون إلى الخيرات والحسنات ، ولو أُريد منهم السابقون إلى الإسلام فهو من مصاديق هذا المفهوم الكلي ، ويشير إلى ما ذكرنا قوله سبحانه : ( أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ). (٢)

ويقول سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ). (٣)

فالآية الأخيرة تقسم العباد إلى ظالم لنفسه ، وإلىٰ مقتصد في الحياة ، ومعتدل في السلوك وإلى سابق بالخيرات بإذن الله تبارك وتعالى ، وللإمام علي عليه‌السلام كلام يشبه أن يكون تفسيراً لهذه الآية :

( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ). (٤)

شغل من الجنة والنار أمامه ، ساع سريع نجا ، وطالب بطيء رجا ، ومقصر في

__________________

١. المعارج : ٣٣.

٢. المؤمنون : ٦١.

٣. فاطر : ٣٢.

٤. التوبة : ١٠٠.

٣٦٠