مفاهيم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

إلى موته ، يقول سبحانه : ( لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ ) (١) ويقول أيضاً : ( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٢) ، وفي آية ثالثة : ( فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ ) (٣).

ولا غرو في ذلك فهو سبحانه محيط بالإنسان وهو معه أينما كان يراه ليلاً ونهاراً ، ويقف على ظواهر أعماله سرائرها وما يكمن في ضميره.

٢. أنبياء الله

الشاهد الثاني من الشهود هم أنبياء الله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيدًا ). (٤)

والآية تتضمن أمرين :

الأوّل : انّ لكلّ أُمّة شهيداً ، وأمّا من هو ؟ فالآية ساكتة عنه ، ويمكن استظهار انّ المراد من الشهيد هو نبي كلّ أُمّة ، بشهادة انّه سبحانه صرّح بانّ المسيح عليه‌السلام يكون شهيداً على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ). (٥)

الثاني : انّ النبي الخاتم بحكم الآية الأُولى شهيد علىٰ هؤلاء ، إنّما الكلام في تعيين المشار إليه ، فهل المراد انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد على الأنبياء الذين هم شهود ؟ أو شاهد على أُممهم ؟ هناك احتمالان :

__________________

١. آل عمران : ٩٨.

٢. الحج : ١٧.

٣. يونس : ٤٦.

٤. النساء : ٤١.

٥. النساء : ١٥٩.

٢٦١

وثمة نكتة جديرة بالإشارة وهي أنّ شهادة النبي والأنبياء عليهم وعلى أُممهم رهن علم وسيع بأحوال الأُمّة ، فانّ أداء الشهادة فرع تحمّلها ، وتحمُّلها فرع حضور الشاهد الواقعة حضوراً يرى الواقع على نحو يصح له أن يشهد. ومن الواضح بمكان أنّ العلوم التي ينالها الإنسان لا تغني عن هذا النوع من الشهادة وذلك لبعد الشاهد زماناً ومكاناً عن المشهود له أو المشهود عليه ، وهذا يدل على أنّ لهم إحاطة علمية بما يجري على أُممهم من الأعمال والأفعال.

ولا غرو في ذلك فانّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يتخذ منهم شهوداً يمدّهم بالعلم الكافي في عالم الشهادة حتى يقفوا علىٰ ما يجري في أذهانهم ونفوسهم من الأفكار والآراء الصحيحة والباطلة ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على سعة علمهم.

٣. النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاتم شاهد على أعمال أُمّته ، وقد ورد في ذلك غير واحد من الآيات ، يقول سبحانه : ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ). (١)

وفي آية أُخرى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ). (٢)

وقد وصفت بعض الآيات نبي الإسلام بأنّه شاهد ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ). (٣)

__________________

١. الحج : ٧٨.

٢. البقرة : ١٤٣.

٣. الأحزاب : ٤٥ والفتح : ٨.

٢٦٢

وفي آية أُخرى ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) (١).

والمراد شهادته على أعمال أُمّته من خير وشر وصلاح وفساد ، وأداء الشهادة فرع تحمّلها ولا يتحمله إنسان إلاّ بعد العلم بظواهر أعمالهم وبواطنها ، وخير نياتهم وشرّها ، وهذا يدل على سعة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالظواهر والبواطن ، والحقائق والدقائق.

٤. المثاليّون من الأُمة الإسلامية

قال سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ). (٢)

فيقع الكلام في تعيين ما هو المقصود من المخاطبين ، فهل المراد الأُمّة الإسلامية قاطبة ؟ وعلى هذا يكون المشهود عليهم هم الأُمم السالفة ، أو المراد شهادة بعض الأُمّة على بعض ؟

والظاهر انّ الثاني هو المتعيّن ، إذ لو كانت الأُمّة الإسلامية أُمة صالحة برُمَّتها لصحت شهادتهم ، وأمّا إذا كانت غالبية الأُمة غير شاكرين ، كما يقول سبحانه : ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (٣) فكيف تكون تلك الأُمة بعامتهم شهداء ؟!

فلا محيص عن كون المراد بعض الأُمّة لا جميعهم ، وليس هذا البعض إلاّ من اختارهم الله سبحانه أئمّة على الأُمّة وحكّاماً على البلاد.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : فإن ظننت انّ الله عنىٰ بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحدين ، أفترىٰ أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا علىٰ صاع من تمر ،

__________________

١. المزمل : ١٥.

٢. البقرة : ١٤٣.

٣. الأعراف : ١٧.

٢٦٣

يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟! كلا لم يعن الله مثل هذا في خلقه. (١)

ويبقى ثمة سؤال ، وهو انّه إذا كان المراد بعض الأُمّة الذين شملتهم العناية الإلهية وجعلتهم صفوة عباده ، فلماذا ينسب الحكم إلى الجميع ؟

والجواب : انّ ذلك ليس بغريب ، فقد ورد نظير ذلك في الذكر الحكيم حيث وصف جميع بني إسرائيل بجعلهم ملوكاً مع أنّ البعض القليل منهم قد تصدّوا لمنصة الحكم كداود وسليمان وغيرهما ، يقول سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) (٢) وهذا يدل على أنّه تصحّ نسبة الحكم إلى الجميع وإن كان الحكم خاصّاً ببعضهم. والقدر المتيقن من شهداء الأُمة الذي يخبر عنه قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (٣) هم الأئمّة المعصومون قرناء الكتاب وأعداله بنصِّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي ».

وقال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ). (٤)

دلت الآية علىٰ أنّه سبحانه أورث علم الكتاب المصطفين من عباده لا جميع عباده ، وثمة سؤال انّه لماذا لم يورث علم الكتاب جميع عباده ؟ وتجيب الآية بأنّهم علىٰ ثلاثة أصناف ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، وهاتان الطائفتان لا تستحقان وراثة علم الكتاب ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ، فهؤلاء هم الذين اصطفاهم الله من عباده ورزقهم فضلاً كبيراً ، كما يقول في ذيل الآية ( ذَٰلِكَ هُوَ

__________________

١. تفسير البرهان : ١ / ١٦٠.

٢. المائدة : ٢٠.

٣. البقرة : ١٤٣.

٤. فاطر : ٣٢.

٢٦٤

الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، فهذه الفضيلة الكبيرة إنّما هي للمصطفين من عباده سبحانه لا لجميعهم. فعلى المفسّر الخبير ، أن يتعرف على هؤلاء الذين اصطفاهم الله من عباده ، ويُنيخ مطيّته على عتبة أبوابهم.

٥. الملائكة

دلّت غير واحدة من الآيات علىٰ أنّ الملائكة من شهداء الأعمال ، وهم الذين يستنسخون ما يقوم به الإنسان من أعمال ثمّ يشهدون عليه يوم القيامة ، وربّما يسوقون المشهود عليه إلى المحشر ، يقول سبحانه : ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ). (١)

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وانتفعوا بالذكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وانقطعت منكم علائق الأُمنية ، ودهمتكم مفظعات الأُمور ، والسِّياقة إلى الورد المورود ف‍ : ( كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها ». (٢)

وقد ذكرنا أنّ الملائكة الشهود هم الذين يكتبون أعمال الإنسان ويسجّلونها ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (٣) ، وقال عزّ من قائل : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (٤) وطبيعة الحال تقتضي أن يكون كتّاب الأعمال هم الشهود عنده في المحشر ولعلهم هم الساقة أيضاً إلى النار أو الجنة.

__________________

١. ق : ٢١ ـ ٢٣.

٢. نهج البلاغة : الخطبة ٨٥.

٣. ق : ١٨.

٤. الانفطار : ١٠ ـ ١٢.

٢٦٥

٦. الأرض

أخبر سبحانه بأنّ الأرض تحدّث أخبارها عند قيام القيامة ، يقول سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) (١) وليس في الآية ما يدل على تعيين ما يخبر عنه غير أنّ مناسبة المقام تقتضي علىٰ أنّ المراد التحدّث بالأعمال التي اقترفها الإنسان سواء أكانت خيراً أم شراً ، ولأجل ذلك أردفه بجزاء الإنسان بأعماله ، قال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ). (٢)

وقد روي في السنّة انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « أتدرون ما أخبارها ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « أخبارها أن تشهد على كلّ عبد بما عمل علىٰ ظهرها تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، وهذه أخبارها ». (٣)

وأمّا البحث في أنّ الأرض كيف تتحمل تلك الشهادة وتؤدّيها يوم القيامة فهو خارج عن موضوع بحثنا ، وقد قلنا في محله : إنّ كلّ موجود ـ وإن بلغ من الضعف بمكان ـ له نصيب من العلم والإدراك ، وانّ الوجود في جميع المراتب يساوق العلم والقدرة ، غاية الأمر علماً وقدرة يناسبان مقام الوجود المفروض له ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ). (٤)

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما إنّ الله عزّ وجلّ كما أمركم أن تحتاطوا لأنفسكم

__________________

١. الزلزلة : ٤ ـ ٥.

٢. الزلزلة : ٦ ـ ٨.

٣. مجمع البيان : ٩ ـ ١٠ / ٧٩٨ ، تفسير سورة الزلزلة.

٤. الإسراء : ٤٤.

٢٦٦

وأديانكم وأموالكم باستشهاد الشهود العدول عليكم ، فكذلك قد احتاط على عباده ولكم في استشهاد الشهود عليهم ، فلله عزّوجلّ على كلّ عبد رقباء من كلّ خلقه ومعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ويحفظون عليه ما يكون منه من أعماله وأقواله وألفاظه وألحاظه والبقاع التي تشتمل عليه شهود ربّه له أو عليه ، والليالي والأيام والشهور شهوده عليه أو له ، وسائر عباد الله المؤمنين شهوده عليه أو له ، وحفظته الكاتبون أعمالَه ، شهود له أو عليه ». (١)

سأل أبو كهمس أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرّقها ؟ قال : « لا ، بل هاهنا وهاهنا فانّها تشهد له يوم القيامة ». (٢)

٧. الزمان

إذا كانت الأرض تحدّث أخبارها يوم القيامة ، فهكذا الزمان يشهد على ما عمل به الإنسان ، روى الكليني في الكافي باسناده انّ أبا عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إنّ النهار إذا جاء قال يابن آدم اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربّك يوم القيامة ، فانّي لم آتك فيما مضى ولا آتك فيما بقي ، وإذا جاء الليل قال مثل ذلك ». (٣)

كما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام ، قال : « الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلاّ الثقلين : يابن آدم إنّي علىٰ ما فيّ شهيد فخذ منّي ، فانّي لو طلعت الشمس لم تزدد فيّ حسنة ولم تستعتب فيَّ من سيئة ، وكذلك يقول النهار إذا أدبر اللّيل ». (٤)

__________________

١. بحار الأنوار : ٧ / ٣١٥ ، الباب ١٦ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ١١.

٢. بحار الأنوار : ٧ / ٣١٨ ، الباب ١٦ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ١٥.

٣ و ٤. بحار الأنوار : ٧ / ٣٢٥ ، الباب ١٦ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٢٢.

٢٦٧

٨. القرآن

تدلّ بعض الآيات على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشتكي من أُمّته لهجرهم القرآن ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ). (١)

والآية بما انّها مصدرة بالفعل الماضي أعني : « قال » يمكن أن يقال إنّ الرسول يشتكي في هذه النشأة كما يحتمل أن ترجع شكايته إلى النشأة الأُخرى وانّ استعمال الفعل الماضي فيما لم يتحقق لأجل كونه محقّق الوقوع.

وعلىٰ كلّ حال فالروايات تدل على أنّ نفس القرآن يشتكي يوم القيامة.

روى سعد الخفّاف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « ... انّه سبحانه يخاطب القرآن الكريم ، ويقول : يا حجتي في الأرض ... كيف رأيت عبادي ؟ فيقول : منهم من صانني وحافظ عليَّ ولم يضيع شيئاً ، ومنهم من ضيّعني واستخف بحقّي وكذب وأنا حجتك على جميع خلقك ، فيقول الله تبارك وتعالى : وعزَّتي وجلالي وارتفاع مكاني لأُثيبنَّ عليك اليوم أحسن الثواب ولأُعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب ». (٢)

٩. صحيفة الأعمال

إنّ من الشهود الصحف التي تكتبها الملائكة الموكّلون على أعمال الإنسان ليلاً ونهاراً فلا يفترون عن كتابة كلّ صغير وكبير ، وقد دلت الآيات على ذلك وإليك بعض ما ورد.

( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ). (٣)

__________________

١. الفرقان : ٣٠.

٢. بحار الأنوار : ٧ / ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، الباب ١٦ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ١٦.

٣. يونس : ٢٠.

٢٦٨

( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ). (١)

والآيتان صريحتان في أنّ الملائكة الموكّلين يكتبون الأعمال ظاهرها وخفيّها ، ولكن ليس فيها تصريح بالاحتجاج بهما يوم القيامة ، وبما انّ كتابة الأعمال يجب أن تكون مقترنة بالغرض ليخرج عن كونه عبثاً ، فلا محيص من القول بأنّ الكتابة مقدمة للاحتجاج بها على العباد ، وهذا ( أي الاحتجاج بصحائف الأعمال ) هو الظاهر من الآيات التالية :

قال سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ). (٢)

وليس إشفاقهم إلاّ لأجل انّهم يجدون فيه جليل أعمالهم ودقيقها ، كما يقول سبحانه حاكياً عن لسان المشركين : ( مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ). (٣)

ويقول سبحانه : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ * وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ... * هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالحَقِّ ) (٤).

ويستفاد من بعض الآيات أنّ صحيفة الأعمال تُعلَّق على عنق الإنسان ، يقول سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ). (٥)

وثمة سؤال ، وهو انّ ما جاء في تلك الصحف لا يتجاوز عن كونها صحفاً نسب فيها إلى الإنسان عدّة جرائم ، فكيف يمكن أن يحتج بها على الإنسان ؟

__________________

١. الزخرف : ٨٠.

٢. الكهف : ٤٩.

٣. الكهف : ٤٩.

٤. الجاثية : ٢٧ ـ ٢٩.

٥. الإسراء : ١٣.

٢٦٩

والجواب : انّ واقع هذه الصحف غير معلوم لنا ، ونحن نتصوّر أنّها صحف كصحف الدين وانّ صحيفة عمل كلّ إنسان كاضبارة المحاكم ، فعندئذٍ يطرح السؤال التالي : كيف يمكن ، أن يحتج بالصحيفة المجردة عن الاعتراف بالذنب ؟

والجواب : يمكن أن تكون واقع الصحف على نحو لا يمكن للإنسان إنكار ما سجِّل فيها ; ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ). (١)

وقد تقدّم في آية أُخرى أنّ المجرم حينما يرىٰ صحيفة أعماله يعترف بأنّه ما غادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها.

وهذا السؤال ونظائره ناجم من قياس حال هذه النشأة بالنشأة الأُخرى ، مع أنّ النشأتين متشابهتان لا متماثلتان ، ولا يمكن إجراء حكم هذه النشأة في الآخرة.

وتشير بعض الروايات إلىٰ محاولة الشغب التي يثيرها بعض المجرمين بغية إنكار ما سجِّل في صحيفة أعمالهم ، وربَّما يحلفون بأنّهم لم يفعلوا ذلك فعندئذٍ تشهد عليهم أعضاؤهم وجوارحهم على ما اقترفوه فيُفحمون.

روى القمي في تفسير قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (٢)

قال : « إذا جمع الله الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئاً ، فيشهد عليهم الملائكة فيقولون : يا ربّ ملائكتك يشهدون لك ، ثمّ يحلفون انّهم لم يعملوا من ذلك شيئاً وهو قوله :

__________________

١. الإسراء : ١٤.

٢. يس : ٦٥.

٢٧٠

( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (١) فإذا فعلوا ذلك ختم على ألسنتهم وينطق جوارحهم بما كانوا يكسبون ». (٢)

وروى أيضاً : ( حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (٣)

فانّها نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها ، فيقولون : ما عملنا منها شيئاً ، فيشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم.

فقال الصادق عليه‌السلام : « فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ، ثمّ يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئاً ، وهو قول الله : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (٤) وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين ، فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم ، فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم الله ، ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم الله ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا ممّا حرم الله ، وتشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم الله ، ثمّ أنطق الله ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم : ( لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ) فيقولون : ( أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) (٥) أي من الله ( أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ) والجلود الفروج ( وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ). (٦)

__________________

١. المجادلة : ١٨.

٢. بحار الأنوار : ٧ / ٣١٢ ، الباب ١٦ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٣.

٣. فصلت : ٢٠ ـ ٢١.

٤. المجادلة : ١٨.

٥. فصلت : ٢١ ـ ٢٢.

٦. بحار الأنوار : ٧ / ٣١٢ ، الباب ١٦ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٤.

٢٧١

١٠ ـ ١١. شهادة الأعضاء والجلود

يذكر القرآن الكريم أنّ الجوارح والجلود تشهد علىٰ ما اقترفه المذنبون ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) ، فالآية صريحة في شهادة اللسان علىٰ ما فعله ولعلّه في موقف خاص من مواقف القيامة بشهادة انّ القرآن يذكر انّه يختم على أفواههم فلا تتكلّم ألسنتهم وإنّما تتكلّم أيديهم وأرجلهم ، كما قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (٢)

وأمّا شهادة الجلود فيدل عليه قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (٣)

فالآية صريحة على شهادة الجلود بما اقترفه ، وربّما يقال من أنّ المراد من الجلود هو خصوص الفروج ، وإنّما كني بها صيانة لحسن التعبير ، ولكنّه غير ظاهر لوروده في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ). (٤)

بقي هنا سؤال وهو أنّ المذنبين يعترضون على خصوص شهادة الجلود ولا يعترضون علىٰ شهادة سائر الأعضاء والجوارح ، فما هو وجهه ؟

والجواب : انّ الجلود تشهد علىٰ ما يصدر عنها بالمباشرة ، بخلاف السمع

__________________

١. النور : ٢٤.

٢. يس : ٦٥.

٣. فصلت : ١٩ ـ ٢١.

٤. المؤمنون : ٥.

٢٧٢

والبصر فانّها كسائر الشهود تشهد بما ارتكبه غيرها. (١)

والمقصود أنّ الأعضاء والجوارح كسائر الشهود الذين يشهدون على ما صدر عن غيرهم فلا يعترض عليهم بشيء ، وهذا بخلاف الجلود فانّها تشهد على ما صدر عنهم مباشرة فتستحق أن يعترض على شهادتها ، لأنّ الفعل قد صدر عنها.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من البحث في الشهود يوم القيامة ، ولو أُضيف إليه تجسّم الأعمال الذي هو شاهد صدق علىٰ صلاح الأعمال وطلاحها لبلغ عدد الشهود إلى اثني عشر شاهداً ، وسنعقد فصلاً خاصاً للبحث في تجسم الأعمال إن شاء الله.

__________________

١. الميزان : ١٧ / ٣٧٩.

٢٧٣

الفصل الواحد والعشرون

القيامة والصراط

الصراط في اللغة هو الطريق ، وقد استعمل في الذكر الحكيم في هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) ، وقد أطلق الصراط على الطريق الذي ينتهي إلى الجحيم ، قال سبحانه : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الجَحِيمِ ). (٢)

قال الراغب : الصراط الطريق المستسهل.

ولعلّ وجه إطلاقه على الطريق المنتهي إلى الجحيم والجنة هو سهولة سلوك طريقهما ، أمّا طريق الجنة فسلوكه رهن العمل بالشرائع السماوية الموافقة للفطرة ، وأمّا سلوك طريق الجحيم فهو رهن الاستجابة لميول الغرائز الحيوانية ; وربّما يطلق الصراط على الجسر الذي يوصل بين ضفَّتي النهر.

الصراط : معبر عام

دلّت الآيات والروايات على أنّ الصراط معبر عام تجتازه الخلائق برمتها دون

__________________

١. البقرة : ٢١٣.

٢. الصافات : ٢٢ ـ ٢٣.

٢٧٤

فرق بين المتقين والفجار ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ). (١)

والضمير في قوله : ( وَارِدُهَا ) يرجع إلى جهنم التي ذكرت قبل هذه الآية ، قال سبحانه : ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) (٢) إلى أن قال : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ).

وعلى ضوء هذا فالناس قاطبة يردون جهنم ، فهل المراد من الورود هو الاقتراب والإشراف ، أو المراد هو الدخول والاقتحام ؟ وجهان.

يشهد على الوجه الأوّل انّ القرآن يستعمل الورود بمعنى الإشراف والاقتراب ، يقول سبحانه : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ). (٣)

ومن الواضح انّ موسى لم يطأ الماء بقدميه وإنّما اقترب منه ، بشهادة انّه سبحانه يردفه بقوله : ( وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ). (٤)

ولا شكّ انّ الناس لا سيما المرأتين لم يدخلوا المشرعة بل أشرفوا عليها.

ونظيره قوله سبحانه في قصة يوسف : ( وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلامٌ ). (٥)

والمراد من الوارد هو الساقي الذي يدخل الدلو في البئر لإخراج الماء ، وعلىٰ ضوء هذا ، فالمراد من قوله سبحانه : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) هو انّ أهل الجنة

__________________

١. مريم : ٧١ ـ ٧٢.

٢. مريم : ٦٨.

٣. القصص : ٢٣.

٤. القصص : ٢٣.

٥. يوسف : ١٩.

٢٧٥

والجحيم يشرفون عليها دون أن يدخلوها ، غير انّ من كتب عليه النجاة سيغادرها إلى الجنة وأمّا من كتب عليه الشقاء فيلقىٰ في النار.

ويشهد علىٰ الوجه الثاني انّ المتبادر من الورود هو الدخول ، والمتبادر من الآية انّ كلتا الطائفتين سيدخلون الجحيم ثمّ ينجو منها السعداء ويمكث فيها الأشقياء.

وقد استدل على هذا الوجه ببعض الآيات : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ المَوْرُودُ ). (١)

فقوله سبحانه ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ ) يحكي عن تجسّم ما كان عليه فرعون في نشأة الدنيا وانّه كان يتزعم قومه فيها ، وهكذا الحال في يوم المحشر يتزعمهم فيقودهم ويدخلهم النار.

فلفظة « أورد » في الآية بمعنى أدخل ، نظير الآية التالية : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَٰؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ). (٢)

فقد استدل سبحانه بورود معبود المشركين في النار علىٰ عدم الوهيته. فقد استخدم لفظة الورود في الآيتين بمعنى الدخول.

وأمّا استعمال الورود بمعنى الاقتراب والإشراف في قصة يوسف ، فإنّما هو من باب المجاز دلَّت عليه القرائن.

فلو تعبدنا بظاهر الآية فلا مناص من الأخذ بهذا الوجه ، وانّ المؤمنين والكافرين يدخلون النار ثمّ ينجِّي الله الذين آمنوا ويترك المشركين فيها.

__________________

١. هود : ٩٨.

٢. الأنبياء : ٩٨ ـ ٩٩.

٢٧٦

الصراط في الروايات

١. روى علي بن إبراهيم ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، في تفسير قوله سبحانه : ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ). (١)

قال : « سئل عن ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أخبرني الروح الأمين انّ الله لا إله غيره إذا برز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين أتى بجهنم تقاد بألف زمام ، يقودها مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد لها هدّة وغضب وزفير وشهيق ـ إلىٰ أن قال : ـ ثمّ يوضع عليها الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف ». (٢)

٢. وروى المفضل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصراط ، قال : « هو الطريق إلىٰ معرفة الله عزّوجلّ وهما صراطان : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدىٰ بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّىٰ في نار جهنم ». (٣)

ويستفاد من هاتين الروايتين انّ الصراط جسر ممدود على جهنم ، وقد وصف في الحديث الثاني بأنّه أحد من السيف وأدق من الشعرة.

قال الشيخ المفيد : الصراط في اللغة هو الطريق ، فلذلك سمِّي الدين صراطاً لأنّه طريق إلى الصواب ، وله سمِّي الولاء لأمير المؤمنين والأئمّة من ذريته صراطاً. ومن معناه ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنا صراط الله المستقيم وعروته الوثقى التي لا انفصام لها » يعني انّ معرفته والتمسك به طريق إلى الله سبحانه ،

__________________

١. الفجر : ٢٣.

٢. بحار الأنوار : ٨ / ٦٥ ، باب ٢٢ من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٢.

٣. المصدر نفسه ، الحديث ٣.

٢٧٧

وقد جاء الخبر بأنّ الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمرُّ به الناس وهو الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن شماله أمير المؤمنين عليه‌السلام ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى : ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) (١). (٢)

وقال التفتازاني : الصراط جسر ممدود علىٰ متن جهنم يرده الأوّلون والآخرون ، أدق من الشعر وأحد من السيف على ما ورد في الحديث الصحيح ، ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كلّ أحد النار علىٰ ما قال تعالى ( وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) (٣). (٤)

هذه طائفة من الروايات وكلمات العلماء الواردة حول الصراط.

وخلاصة القول : إنّ الصراط عبارة عن الطريق الممدود علىٰ متن الجحيم يجتازه المؤمنون والمشركون علىٰ حدّ سواء ، غير انّ الفئة الأُولى تجتازه بإذنه سبحانه ، والفئة الثانية تسقط في هاوية جهنم. ومع أنّ هذا هو الظاهر المتبادر ، إلاّ أنّ ثمة احتمالاً آخر وهو انّ الصراط كناية عن الطريق الذي يختاره كلّ من المؤمن والكافر في هذه الدنيا فالطريق الذي اختاره المؤمن يوصله إلى الجنة ، والطريق الذي اختاره الكافر ينتهي به إلى نار جهنم ، والمعنى الأوّل هو الأوفق بالظواهر ، ولكن المعنى الثاني أيضاً محتمل ، ويؤيد الاحتمال الثاني ما روي عن علي عليه‌السلام انّه قال : « ألا وإنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لُجُمُها فتقحَّمت بهم في النار ، ألا وإنّ التَّقوى مطايا ذُلُل حمل عليها أهلها وأُعطُوا ازمّتها فأوردتهم الجنة ». (٥)

__________________

١. ق : ٢٤.

٢. تصحيح الاعتقاد : ٥٠ ، ط. تبريز.

٣. مريم : ٧١.

٤. شرح المقاصد : ٢ / ٢٢٣ ، ط. آستانه.

٥. نهج البلاغة : الخطبة ١٦.

٢٧٨

وهذا التعبير من الإمام يؤيد الاحتمال الثاني وهو انّ الطريق الذي يسلكه كلٌّ من المؤمن والفاجر هو صراطهما في النشأة الأُخرى ، فيوصل أحدهما إلى الغاية المنشودة والآخر إلى النار. فكلّ من اختار طريق الطاعة فهو يوصله إلى الجنة ، ومن اختار طريق العصيان فهو يوصله إلى الجحيم.

فصراط كلّ إنسان هو الطريق الذي يسلكه في نشأة الدنيا ، ثمّ يتجسد في الآخرة فيجتازه إمّا إلى الجنة أو إلى النار.

ومع ذلك كلّه فالاحتمالان علىٰ حد سواء عندنا دون أن نجزم بأحدهما.

أوصاف الصراط

قد وصف الصراط في الروايات بأوصاف عديدة نذكرها تباعاً :

أ. انّه أدق من الشعرة وأحد من السيف.

ب. فمنهم من يمرّ مثل البرق ، فيمضي أهل بيت محمد وآله زمرة على الصراط مثل البرق الخاطف.

ج. ثمّ قوم مثل الريح.

د. ثمّ قوم مثل عدو الفرس.

ه‍. ثمّ يمضي قوم مثل المشي.

و. ثمّ قوم مثل الحبو.

ز. ثمّ قوم مثل الزحف.

ح. ويجعله الله علىٰ المؤمنين عريضاً وعلى المذنبين دقيقاً. (١)

إنّ الأعمال والأفعال التي يقوم بها البشر في نشأة الدنيا تتبلور في النشأة الأُخرى بشكل حقائق أُخروية ، فالإنسان المثالي الذي ينهج الشريعة في سلوكه

__________________

١. انظر بحار الأنوار : ٨ / ٦٧ ، باب الصراط من كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٨.

٢٧٩

ويتناوب معها ، فهو يمرُّ كالبرق الخاطف على الصراط ، وأمّا الإنسان الذي يلبي كافة غرائزه الحيوانية الجامحة ولا يولي أهمية للشريعة فهو يسقط في هاوية الجحيم ولا يجتاز الصراط ، وبينهما مراتب متفاوتة حسب اختلاف سلوك الإنسان في العمل بالشريعة.

وأمّا كون الصراط أحدُّ من السيف وأدقّ من الشعرة ، فقد فسره الشيخ المفيد بقوله : إنّ المراد لا يثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدّة ما يلحقهم من أهوال يوم القيامة ، ومخاوفها فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف ، وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط ، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى النار يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى من أهوال النار وقد يمر به عن الطريق المعوج ، فلهذا قال الله تعالى : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ). (١)

فميّز بين طريقه الذي دعا إلى سلوكه من الدين وبين طرق الضلال ، وقال الله تعالى فيما أمر به عباده من الدعاء وتلاوة القرآن : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) (٢) فدلّ على أنّ سواه صراط غير مستقيم وصراط الله تعالى دين الله. وصراط الشيطان طريق العصيان ، والصراط في الأصل ـ علىٰ ما بيناه ـ هو الطريق والصراط إلىٰ يوم القيامة ، هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو النار. (٣)

وعلىٰ ضوء هذا فالعمل بالحقّ والحقيقة والسير على ضوء البعد الملكوتي للإنسان هو الصراط الذي يسير عليه المؤمن وينتهي به إلى الجنة ، كما أنّ الجنوح إلى الشهوات والانقياد للبعد الحيواني طريق إلى النار ، فالأوّل صراط المؤمن ،

__________________

١. الأنعام : ١٥٣.

٢. الحمد : ٦.

٣. تصحيح الاعتقاد : ٥١.

٢٨٠