أصل الشيعة وأصولها

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

أصل الشيعة وأصولها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: علاء آل جعفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام علي عليه السلام ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-50-7
الصفحات: ٤٤٢

محكمة ومدروسة ـ يأجِّجوا نار الاختلاف ، ويوسِّعوا الهوَّة بين الأُخوة الاشقاء ، بل ولم يتورَّعوا عن الكذب والافتراء ، والتحريف والتشويه ، وقلب الحقائق وتزييفها كما اسلفنا.

لقد كانت حقيقة هذا الاختلاف تتلخَّص في تشبُّث طرف واصراره على أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نصَّ على خلافة علي عليه‌السلام من بعده ، وتعضدهم في مقولتهم هذه جملة قوية من الأدلَّة النقلية والعقلية الثابتة ، وهم الشيعة ، حين يصر الطرف الاخر على نفي هذا الأمر ، ويذهب الى القول بأنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك الأُمَّة دون أنْ ينصِّب عليها خليفة له من بعده ، وكان على هذه الأُمَّة أنْ تتولى بنفسها تدبير اُمورها ، وتنصيب خليفة عليها ـ رغم ما يحيطها من ظروف عسرة وشديدة التعقيد ـ وهو مذهب أبناء العامَّة من الفرق الاسلامية غير الشِّيعة ، فكأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وبناء على هذا التصوُّر ـ قد ترك هذه الأمَّة الغضة الأطراف دون راع يقودها في هذا التيه العظيم ، والبحر اللجي المتلاطم الامواج!! وذلك ما كانت ولا زالت تعارضهم فيه الشِّيعة أشد المعارضة.

نعم لقد كان هذا هو الأمر الذي انسحبت ظلاله على مسيرة هذه الأُمة ابتداء من تلك اللحظات الحساسة ـ التي شهدت انعقاد مؤتمر السقيفة ـ وحتى يومنا هذا ، وكانت من نتائجه المرة ما ترتبت عليه من تفسيرات متباينة لجملة العقائد التي يؤمن بها الجميع ـ والتي ينبغي ان لا يختلف الطرفان فيها ـ نتيجة تعدُّد المدارس الكلامية التي تحاول كلُّ واحدة منها جاهدة انْ تدلي بدلوها في هذا المعترك العقائدي المهم ، بعيداً ـ عن منهله العذب المنبعث عن بيت العصمة ومهبط الوحي.

فاذا كان الطرفان لا يختلفان قطعاً في عقائدهم الاساسية وهي : الايمان بالله تبارك وتعالى ، وكتبه المنزلة ، وجميع انبيائه ورسله عليهم

٢١

السَّلام ، ويؤمنون بأنَّ الجنة والنار حق لا ريب فيهما ، وأنَّ الله تعالى سوف يبعث الموتى من قبورهم للحساب والجزاء ، فإنَّ الاعتقاد المتفاوت في ماهية الأمامة بين الطرفين شكَّل بالتالي نشوء ما نراه من التأويلات والتفسيرات المتفاوتة بتفاوت المدارس المختلفة ، والتي يخالف البعض منها الاخر ، بل ويستسلم البعض منها لآراء هجينة مردودة ، لا تتوافق وحقيقة الاعتقاد التي ينبغي التسليم بها (١).

__________________

(١) لعلّ من الأمور التي تثير الاستغراب في نفوس الباحثين وجود جملة من أصحاب السنن والصحاح ـ ومن استقى من منابعهم موارد بحثه دون تأمُّل أو تدبُّر ـ قد وقع أسير جملة مردودة من الأخبار والروايات الموضوعة التي يُشخَّص الكثير منها بانتمائه إلى الاسرائيليات التي جهدت أصابع أعداء الدين في رصفها مع جملة العقائد الاسلامية المباركة والمتوافقة مع العقل والمنطق والفطرة.

بل والأنكى من ذلك أنْ تجد مَنْ يتعبَّد بتلك النصوص الموضوعة ، ويسلِّم بصحتها ، ويؤمن بمضامينها ، وذلك ممّا تنفطر تأسفاً عليه القلوب ، رغم إيمان ذلك البعض بالجوانب السليمة من تلك العقيدة المتنافية بشكل حاد مع تلك الآراء والمعتقدات الدخيلة ، والذي يشكِّل دعوة صريحة وواضحة لمناقشة تلك الآراء مناقشة علمية رصينَة ، بعيدة عن التعصُّب والتشنُّج.

نعم إنَ تسرُّب هذه الاسرائيليات الموضوعة يشكِّل الطرف الأوضح في ظاهرة الفهم للخاطىء والتفسير السلبي لبعض النصوص القرآنية المباركة التي أصبحت محل الاختلاف في تفسير ورسم المفهوم الخاص لتلك المدارس في بعض العقائد التي يؤمن بها الجميع ، وزادها تعقيداً تشبث تلك المدارس في الدفاع عنها ، ورد الاعتراضات الموجهة اليها ، واتهام المخالفين الفين لها بالانحراف والسقوط ، رغم ان العقلاء من المسلمين يتسالمون على ما تشكله ظاهرة التحاور العلمي المبتني على اُسس التشريع الاسلامي من مرتكز واضح المباني في التوصل إلى نتيجتين ايجابيتين ، وهما التصحيح والتشذيب للمظاهر الدخيلة على العقائد الاسلامية ، أو التسليم بصواب المنهج الآخر والاقرار بصحته ، وذلك هو بغية كلُّ المخلصين.

وإذا كانت هناك بعض المشخَّصات التي تعزى الى ظاهرة التسرُّب جانب مهم في تبلورها وبنائها ، فإنَّ ما عرفه المسلمون ممّا يسمى بالتشبيه والتجسيم واحد من تلك الجوانب المشخصة الغريبة عن البنيان العقائدي للشريعة الاسلامية القائمة على التنزيه

٢٢

.......................................................

__________________

والتوحيد.

ولعلَّ الأقرب للصواب في تحديد العلة الأساسية في تحليل ظاهرة التسرُّب يتأتى في دراسة الظروف المادية والنفسية التي رافقت نشوء هذه الظاهرة ، وهذه العملية بلا شك تتطلّب دراسة مستفيضة ومتخصصة لا يسعنا هنا الخوض في غمارها ، إلّا أنَّ ما ذكره ابن خلدون في مقدمته يلقي شيئاً من التوضيح على هذا الأمر ، حيث قال : أنَّ العلة الأساسية تكمن في كون العرب آنذاك لم يكونوا أهل كتاب ، ولا علم ، وأنَّما غلبت عليهم البداوة والأُمَيّة ، وإذا تشوَفوا إلى معرفة شيء مما تتشوَّف اليه النفوس البشرية في أسباب المكنونات ، وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فانما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى مثل؟ كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبدالله بن سلام.

بلى لقد كان ذلك الأمر ما يمكن اعتبار الطرف الأوّل في تلك الظاهرة محل البحث ، وأمّا الطرف الأخر منها فيكمن بالجمود على الفهم السطحي المبتور لجملة تلك الآيات القرآنية أو الأخبار المختلفة ، والتي تختلف بشكل بيِّن مع الأُصول العقائدية الاسلامية التي تحاول جاهدة الانتماء اليها ، كما في حالة تفسير قوله تعالى : ( وجُوهٌ يَومَئذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّها ناظرَة ) ، وقوله تعالى : ( كلُّ مَنْ عَلَيها فانٌ وَيَبقى وَجهُ رَبِّكَ ذو الجَلالِ وَالاكرامِ ) ، وقوله جلَّ اسمه : ( وَقالَتِ اليَهودُ يَدُ الله مغلُولَة غُلَّتْ أيديهِم وَلُعِنوا بِما قالُوا بَل يَداهُ مَبسَوطَتانِ ) وغيرها.

أقول : ثم إنَّ ما تولَّد من ذلك الفهم السلبي واُسمي بالتشبيه والتجسيم لا يمكن اعتباره بانَّه يشكَّل ظاهرة جديدة طفحت على الساحة العقائدية لأتباع بعض المدارس الاسلامية ، بل يبدو من الواضح للعيان تشكِّل جوانب منها لدى الأُمم السالفة ، كما في تشبيه النصارى المسيح عليه‌السلام بالله تبارك وتعالى ، وإنْ كان الشهرستاني يقول في ملله (١ : ٩٣) : بأنَّ التشبيه كان صرفاً خالصاً في اليهود ـ لا في كلِّهم بل في القرّائين منهم ـ إذ وجد في التوراة الفاظاً كثيرة تدل على ذلك ...

وأضاف في موضع آخر (١ : ٠٦ ١) عند حديثه عن بعض أخبار التشبيه التي تداولها جماعة من أهل الحديث ( وهو ما أردنا الاشارة اليه ) : وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فإنَّ التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة!! وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه!! وأنَّ العرش ليئط من تحته كأطيط الرحل الحديد!! انتهى.

وأخيراً فإنَّ استعراض ومناقشة جملة تلك الأخبار والروايات المختلفة التي أشرنا اليها يدل

٢٣

أقول : إنَ اعتبار الشِّيعة كون ألامامة أصل من اصول الدين ، ومنصب الهي يمنُّ به الله تبارك وتعالى على من يشاء من عباده الذين يمتازون عن غيرهم بمواصفات خاصة تجعلهم اهلاً لهذا التكليف العظيم ، ليس هو نتاج افكارهم الخاصة ـ كما يحلو للبعض اطلاق ذلك دون دليل أو حجة ـ بل

__________________

بصراحة على صحة وصواب ما ذهبنا اليه ، هذا إذا اعتمد الباحث والدارس في الحكم عليها الأُسس والقواعد المعروفة لدى علماء الأصول والجرح والتعديل.

فمن ذلك : الأخبار والروايات التي تزعم بأنَّ الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صورته ، أو أنَّ له سبحانه جوارح مشخصة كالأصابع والساق والقدم ، وأنَّ في ساقه ـ سبحانه ـ علامة يُعرف بها!!.

بل وأنَّه تعالى يضع قدمه يوم القيامة في نار جهنم ليكف نهمها فتقول : قط قط!!.

كما أنَّه جل اسمه يهبط في آخر الليل إلى السماء الدنيا!! ويقول : من يسألني فأستجيب له ، من يسالني فأعطيه ، من يستغفرني فاغفر له.

يضاف إلى ذلك ما يروى من إمكان رؤيته تعالى حقيقة لا مجازاً ، حتى أنَّ تلك الأخبار لا تكتفي بحصر رؤية الله تعالى برسوله الأكرم صلى الله عليه وآله ـ حيث تذكر بأنَّه يرى الله سبحانه فيقع ساجداً له ـ بل يتعداه ذلك الأمر إلى الجميع ، حيث تورد بأنََّه جلَّ وعلا يهبط يوم القيامة إلى العباد ليقضي بينهم!! وذلك مصداق ما نُسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله : أنَّكم سترون ربَكم عياناً ، وأنّ المسلمين يرون ربَّهم يوم القيامة كما يرون القمر لا يضامون في رويته!!.

والأغرب من ذلك كلِّه ما يُروى من أنَ الله تبارك وتعالى يأتي هذه الأُمة يوم القيامة على هيئة غير هيئته التي يعرفونه بها ، فينكرون ذلك عليه!! حتى يأتيهم بالصورة التي يعرفونه بها فيتبعونه!!

وغير ذلك. راجع : صحيح البخاري ٨ : ٦٢ ( كتاب الاستئذان ) ٩ : ١٥٦ ( كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : لما خلقت بيدي ، وباب قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة ) و ٢ : ٦٦ ( كتاب التهجد ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ) ، صحيح مسلم ٤ : ٢١٨٣|٢٨٤١ و : ٢٠١٧|١١٥ و ٢١٤٧|١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢ ، و : ٢١٨٦|٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ١ : ٤٣٩|٢١١ ، ٢١٢ ، ٩٦٣|٢٩٩ ، ٣٠٠ ، ٣٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦٤|١٨٢ و : ٤٣٥|١٣٦٦ و ٤٤٤|١٣٨٨ ، ١٣٩٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٦٩١|٢٥٥٧ و ٢ : ٣٠٧|٤٤٦ و ٤ : ٥٩١|٢٣٨٢ و ٤ : ٦٨٧|٢٥٥١ ، ٢٥٥٢ ، مسند أحمد ٢ : ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢ ، ٤٨٧ ، ٥٠٤ ، ٣ : ٣٤ ، ٤ : ١٦ ، موطأ مالك ١ : ٢١٤|٣٠.

٢٤

على العكس من ذلك ، فقد ابتنت عليه جملة كبيرة من افكارهم ومعتقداتهم ، لأنَّهم يمتلكون على اثبات هذا الأمر جملة واسعة من الأدلة النقلية والعقلية التي يتفق عليها الفريقان ، رغم مخالفة الطرف الآخر لهم في اعتقاده بأنَّ اختيار الامام من حقِّ الأُمة ، وليس هو شأن خارج عن ارادتها ومتعلِّق بارادة السماء ـ كما يعتقده الشِّيعة ـ وإنْ كانوا يذهبون إلى القول بوجوبها لقيادة الأُمة. وبهذا فهم قد خالفوا الشِّيعة فيما ذهبوا اليه من تنصيب علي عليه‌السلام من قِبل الله تعالى ، خليفة لرسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحصر الامامة في ابنائه عليهم‌السلام.

وممّا لا ريب فيه أنَّ اطلاق الأقوال جزافاً ليس هو بعمل المحصَّلين ، ولا يسع المرء ـ بل لا ينبغي له ـ الركون إلى صدقه اذا لم يعضده الدليل السليم ، والحجة المقنعة ، وهذا ما نراه من أنَّ الشِّيعة أكثر ما يطالبون به مخالفيهم والرادين عليهم ، مع تطوعهم ( اي الشِّيعة ) لاثبات دعاواهم من خلال طرحها ومناقشة حجيتها.

وخلاصة المقال : فإنَّ الاختلاف الحاصل في مسألة الامامة والخلافة بين الفريقين ، وإنْ تشعَّبت فيه الآراء ، إلا أنَّه لا يخرج عن هذه التصوُّرات الثلاث :

أوَّلها : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ترك اُمَّته هملاً من بعده ، وعليها هي وحدها أنْ تتولّى مسؤولية تدبير اُمورها وفق ماترتأيه ، ومما تتوصل اليه. وهذا الأمر كما هو واضح وجلي ينسحب بالتالي الى ارادة الباري عزَّ وجلَّ ، حيث أنَّ الرسول مبلِّغ ، وما لم يُبلَّغ به لا يُطالَب به.

ثانيها : إنَّ الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رسما للأُمَّة سبيل ومواصفات واسلوب اختيار الخليفة والإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٥

ثالثها : أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نصَّ بالاسم على خليفة له من بعده بأمر من الله تبارك وتعالى ، وعلى الأُمة أنْ تستجيب لهذه المشيئة لأنَّها حكم سماوي لا تأويل ولا اجتهاد ولا رد عليه إلّا من العاصين الخارجين عن تلك الارادة المقدسة.

ولعلَّ الذهاب في مناقشة وبحث هذه الآراء الممثِّلة لجملة المدارس الفكرية المنبعثة عنها يستلزم الكثير من المساحة التي لا يسعنا قطعاً تحميل هذا الكتاب بها ، إلاّ ان ذلك لا يحول دون اللمحة او الاشارة المتعجِّلة اليها.

فأقول مستعيناً بالله تعالى : إنَّ وجود الوصي ضرورة حتمية يحكم بوجوبها العقل وحاجة المجتمع الاسلامي لقائد يسوسه ويدبِّر شؤونه ، ويتولّى مواصلة النهج الذي اختطه الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بكفاءه تتناسب ـ حتماً ـ وعظم هذه الرسالة واهميتها والظروف المحيطة بها.

ولا يعتري أي عاقل شك في وجوب ذلك ، فإنَّ ما تآلف عليه الناس منذ ظهور التجمعات البشرية ، وتبلور أبسط النظم الحياتية ، وجود إمام أو رئيس يفوضون اليه اُمورهم ، ويفزعون اليه في تدبير شؤونهم ، لأنَّهم يدركون بوضوح أنَّ خلو أي مجتمع من قائد أو إمام يفتح الباب على مصراعيه امام ذوي المآرب الفاسدة والظلمة والمنحرفين ، فتضطرب أحوالهم ، وتختل موازين حياتهم ، ويفشو فيهم الظلم والفساد وفعل القبيح ، بل وتنهار النظم التي كانت تحكم حياتهم ابان وجود الحاكم السابق ، حتى يستقر الحال على أمر ما.

ومن هنا فإنَّ من اُولى المسلَّمات في سياسات الحكّام والملوك والأُمراء ـ بل وحتى ذوي المسؤوليات المتواضعة ـ تنصيب نائب ( أي خليفة ) تُناط به مسؤولية تولِّي شؤون ذلك الحاكم عند تغيُّبه أو وفاته ، لأنَّ ترك هذا

٢٦

الأمر خلاف العقل والمنطق ، ولا يذهب اليه أحد ، فتأمَّل واستقرء ما غبر من الدهور ، بل وما نعاينه في أيامنا هذه ، فهل تجد إلّا ما قلناه؟.

ثم اذا كان ذلك في شؤون الامارات والممالك والدول ، فكيف لو تعلَّق الأمر بالأديان السماوية ، بل وبآخرها وأعظمها ، وباوسعها نظاماً وتشريعاً؟! وحيث يتعلَّق الأمر بالخالق تبارك وتعالى ، وبرسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي ما اُرسل إلا رحمة للعالمين ... فهل يريد من يخالف ذلك أنْ ينسب التفريط بهذا الأمر الذي لم يفرِّط به ملوك الدنيا وحكامها إلى الله تبارك وتعالى ، وذلك لا يذهب اليه أحد إلّا من كان أعمى القلب معدوم البصيرة ، أو الى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك ليس بمعهود منه ، حيث تحدِّثنا جميع المراجع التاريخية المختلفة أنَّه لم يغادر المدينة يوماً إلا واستناب فيها من يخلفه (١) يلحق بذلك ايضاً وصاياه

__________________

(١) بلى إنَّ المراجعة البسيطة لسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في استخلاف مَنْ ينوب عنه حين تركه لعاصمة الدولة الاسلامية ، حتى ولو قصر مدى السفر وقلت أيامه ـ كما فيِ غزوة اُحد التي لم تبعد عن المدينة إلّا ميلاً واحداً ، ولم يستغرق بعده عنها إلّا يوماً واحداً فقط ، بل وفي غزوة الخندق التي كانت في المدينة عينها ـ تدل دلالة واضحة على استحالة وقوع التفريط منه في ترك هذه الأُمَّة دون راعي أو خليفة ينوب عنه ، لاسيما ونحن نعلم أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفاجأ بموته كما معروف لدى الجميع ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يدرك بوضوح ما يحيط اُمّته من المخاطر الجسيمة التي تتحين بها الفرص والغفلات؟!

نعم ، فإنّا عندما نتأمّل ذلك نجد أنَّ افتراض عدم الاستخلاف من قِبَل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلاف ما عُهد من سيرته المباركة ـ مضافاً إلى خلافه الصريح مع المنطق والعقل ـ وذلك ما يتبيّن عند المراجعة البسيطة لكتب السيرة والتاريخ المختلفة :

١ ـ فعندما اُذن له صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتال المشركين في السنة الثانية من الهجرة ، وخرج مع جماعة من المسلمين للتعرض لعير قريش ، استخلف على المدينة سعد بن عبادة خليفة عنه.

٢ ـ وفي تلك السنة ايضاً ، وعند خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة بواط ، استخلف عنه سعد بن معاذ.

٢٧

.......................................................

__________________

٣ ـ واستخلف زيد بن حارثة عند خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب كرز بن جابر الفهري الذيَ اغار على المدينة.

٤ ـ ثم استخلف صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا سلمة المخزومي عندما خرج في غزوة العشير.

٥ ـ وفي غزوة بدر الكبرى كان ابن اُم مكتوم خليفة عنه صلى الله عليه وآله في المدينة.

٦ ـ وعندما خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة بني القينقاع استخلف أبا لبابة الأنصاري.

٧ ـ وأعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلاف أبي لبابة عند خروجه في غزوة السويق.

٨ ـ وأما عندما خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله الى سليم وغطفان في السنة الثالثة من الهجرة ، فإنًه استخلف عنه ابن اُم مكتوم.

٩ ـ وفي غزوة بفران كان خليفته صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ابن اُم مكتوم ايضاً.

١٠ ـ وأمّا عثمان بن عفان فقد استخلفه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند خروجه في غزوة ذيَ أمر.

١١ ـ واستخلف صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن اُم مكتوم عند خروجه الى أحد.

١٢ ـ وأعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلاف ابن اُم مكتوم عندما خرج الى غزوة حمراء الأسد.

١٣ ـ واستخلفه أيضاً عند خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة بني النضير.

١٤ ـ وعند خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله الى غزوة بدر الثالثة كان خليفته في المدينة عبدالله بن رواحة الأنصاري.

١٥ ـ وفي غزوة ذات الرقاع استخلف صلى‌الله‌عليه‌وآله عثمان بن عفان في المدينة.

١٦ ـ وأمّا في غزوة دومة الجندل فقد استخلف صلى الله عليه وآله ابن أم مكتوم في المدينة.

١٧ ـ وفي غزوة بني المصطلق كان زيد بن حارثة خليفة عنه صلى الله عليه وآله في المدينة.

١٨ ـ وعندما قاتل صلى‌الله‌عليه‌وآله الاحزاب ، وفي المدينة عينها ، استخلف ابن أم مكتوم أيضاً خليفة عنه.

١٩ ـ وكان أبو رهم الغفاري خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة بني قريضة.

٢٠ ـ وفي غزوة بني لحيان كان ابن اُم مكتوم خليفة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢١ ـ واعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلاف ابن اُم مكتوم عند خروجه في غزوة ذي قَرَد.

٢٢ ـ وكان ابن اُم مكتوم ايضاً خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله عند خروجه في غزوة الحديبية.

٢٨

المتكررة صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوب الوصية على المسلم والتشديد على المفرِّط فيها. هذا اذا أدركنا أنَّ المنية لم تعاجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بل امتد به مرض الموت اياماً. فما معنى هذا التناقض بين الحالتين!!

ثم ألا يثير في النفس الاستهجان مما يقوله الذاهبون الى عدم وجوب الوصية ما يرويه مسلم في صحيحه بسنده عن ابن عمر ، من إنه قال : دخلت على حفصة فقالت : أعلمت أنّ أباك غير مستخلف؟

قال : قلت : ما كان ليفعل.

قالت : انه فاعل.

قال ابن عمر : فحلفت اني اكلمه في ذلك. فسكتُّ ، حتى غدوت. ولم اكلمه.

قال : فكنت كأنما احمل بيميني جبلاً. حتى رجعت فدخلت عليه ، فقلت له : إني سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت ان اقولها لك ، زعموا أنَّك غير مستخلف ، وانَّه لو كان لك راعي إبل ، أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيَّع ، فرعاية الناس اشد (١).

بل وما يروى عن عائشة ايضاً في هذا المنحى من ارسالها إلى عمر عندما طُعن : لا تدع اُمَّة محمّد بلا راع ، استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك

__________________

٢٣ ـ وفي غزوة خيبر استخلف صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه في المدينة سباع بن عرفطة.

٢٤ ـ وأعاد صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلافه عند خروجه في عمرة القضاء.

٢٥ ـ وأمّا عند خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة فإنَه استخلف أبا رهم الغفاري في المدينة.

٢٦ ـ ولمّا خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة حنين كان أبو رهم خليفته في المدينة أيضاً.

٢٧ ـ وأمّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقد خلفه عنه صلى الله عليه وآله في المدينة عند خروجه الى تبوك.

(١) صحيح مسلم ٣ : ١٨٢٣ (كتاب الامارة ، باب الاستخلاف وتركه ).

٢٩

هملاًَ ، فإنِّي أخشى عليهم الفتنة (١).

ألا تجد في ذلك الموقف ـ الذي نسبه ذلك البعض من اهمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لامَّته حيرى مضطربة لا تاوي إلى مكان تستظل فيه ، ولا تجد مرفأ أمان تأوي اليه ـ تناقض صريح مع قول الله تبارك وتعالى في حق رسوله الكريم : ( لَقَدْ جاءَكُم رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بالمؤمنينَ رَؤُوفِّ رَحِيمٌ ) (٢).

نعم ، ألا يُعد الذهاب إلى هذا القول اساءة وتوهيناً لشخص الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يقال أنَّ عائشة وعبدالله بن عمر كانا أفقه منه واكثر ادراكاً لخطورة الأمر المترتِّب على ترك الأُمّة دون خليفة أو وصي!!.

بل وياليت هذا الامر انتهى عند هذين حتى يلتفت اليه ابن خلدون ليقول في مقدمته : فاستحال بقاؤهم فوضى دون حاكم يزع بعضهم عن بعض (٣).

فهل خفي كلُّ هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ثم الا يُعد هذا خطلاًَ من القول وسفهاً؟

هذا اذا تجاهلنا أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مبلِّغ عن الله تبارك وتعالى في هذه الرسالة العظيمة ، وأنَّ المرسِل جل وعلا أولى برعاية رسالته من الضياع والسقوط ، لعلمه المطلق بما يترتب عليه هذا الترك من تخبط واضطراب عظيمين ، فهل نرتضي لانفسنا نسبة هذا التفريط الى الباري عز وجل؟! انها بحاجة الى وقفة تأمل.

__________________

(١) الامامة والسياسة : ٢٣.

(٢) التوبة ٩ : ١٢٨.

(٣) مقدمة ابن خلدون : ١٨٧.

٣٠

ولذا فان هذا الافتراض باطل لا يؤبه به لمخالفته الصريحة مع مفهوم العقيدة الاسلامية ، والسيرة الثابتة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضرورة العقل لإفتراضه تركه الأُمَّة الاسلامية الفتية نهبة للاختلافات والمشاحنات والافتراضات المتضاربة ، وغرضاً لطلاب الدنيا والسلطة ، واللاهثين خلف متعها الرخيصة الفانية ، مضافاً الى ما ثبت من عدم الوصول الى قاعدة موحَّدة يمكن التسليم بصحتها.

بيد أنَّ خروج هذا التصوُّر عن افتراض العقلاء لم يغن عن اعتقاد البعض بوقوعه ، بل والتصريح به ، كما افترض ذلك الدكتور أحمد أمين في كتابه الموسوم بفجر الاسلام ، حيث قال : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يعين من يخلفه ، ولم يبين كيف يكون اختياره ، فواجه المسلمون أشق مسألة واخطرها ... (١)!!.

كذا نجد من تذهب به المزاعم هذا المذهب الخطير من نسبة الاهمال والتقصير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، رغم القطع الثابت بأهمية الوصية وحساسيتها في استمرارية وديمومة الشريعة الاسلامية واتباعها من المسلمين ، بل وانتظام أمرهم حفظاً لهم من التشتُّت والتبعثر.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : مكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخرز ، يجمعه ويضمه ، فإنْ انقطع النظام تفرَّق وذهب ، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً (٢).

ثم اذا افترضنا أنْ الشارع الاسلامي قد حدد للأُمَّة سبيل ومنهج اختيار الوصي والخليفة ، فإنَّ من حقِّ المرء أنْ يتساءل : أي منهج وضع للمسلمين هو ذلك الذي اعتمده الصحابة في اقرار هذا الأمر؟

__________________

(١) فجر الاسلام : ٢٢٥.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ٣١٦.

٣١

فسقيفة بني ساعدة كانت كميدان تناطحت فيه آراء متضاربة كلُّ منها يدعي أولويته في التصدي لمسؤولية خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحقانيته في هذا الأمر دون غيره ، حتى بادر المهاجرون ، وكانوا ثلاثة نفر ، إلى مصادرة هذا الأمر رغماً عن الانصار وغيرهم.

نعم لم يكن بحاضر في سقيفة بني ساعدة من وجوه المهاجرين سوى ثلاثة من المهاجرين : أبي بكر ، وعمر بن الخطاب ، وابي عبيدة الجرّاح ، وليس في هذا تمثيل قانوني لجموع المهاجرين ، وعلى رأسهم أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم الأولى بهذا الأمر استرسالاً مع حجتهم الذاهبة ـ في التشبُث بتقدُّمهم على الأنصار ـ إلى أن القرابة هي الحاكمة في هذا التنصيب.

فهل كان هناك منهجان اختطهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم أنَّ كلاً منهما كان يجر النار إلى قرصه ، أم ماذا!؟

ثم إذا سلَّمنا بصحة مدعى المهاجرين ، فهل يمكننا أنْ نعتبر دعواهم هي المقياس الذي ينبغي أنْ لا يتجاوزه المسلمون من بعد ، على اعتبار أنَّ فعلهم هو المعيار الشرعي في اختيار الخليفة النائب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ طالما سلَّمنا بوجود المنهج الذي رسمه المشرع الاسلامي في اختيار الوصي أو الإمام وأناطه بالأُمَّة ـ فَلِمَ لم يُتخذ منهجاً يسير عليه اللاحقون ، وتجري في مدارجه خطاهم ، بل تراها خضعت لحسابات متفاوتة حتى امتطى سدة الخلافة ومنبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمثال معاوية وولده يزيد ومروان ومن لف لفهم.

بلى إذا كان ابو بكر قد تولّى خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما يقال ـ بالانتخاب أو التصويت ـ وان كان عمر بن الخطاب يقول : أنَّها

٣٢

فلتة ( أو فتنة ) وقى الله المسلمين شرها (١) ـ فلم اختار من بعده عمر ، بل ولِمَ جعلها عمر في ستة؟

إنَّ في ذلك نفي قاطع لوجود منهج مرسوم من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في اختيار خليفته ، وإلا لكان الجميع مخالفين قطعاً له كما هو معلوم.

واما ما يذهب اليه البعض من أنَّ تعيين الأمام أو الوصي يتم بواسطة مبدأ الشورى الذي يشير اليها قوله تعالىِ : ( وَأمرهم شُورى بَينهم ) (٢) وقوله تبارك وتعالى ( وَشاوِرهُم بِالأمْر ) (٣) فإن قولهم هذا لا ينهض كحجة شرعية يُعتد بها في نفي النص واعتماد الشورى ، لأنَّ المشاورة هنا لا يُراد بها قطعاً مسألة الخلافة ، حيث يُعد ضرباً من المحال اتفاق آراء الأُمَّة على فرد معيَّن ، وفيها الجاهل والمنافق والمناوئ وغيرهمِ.

كما لا عبرة بما يُقال من حصر الاُمَّة بثلة محددة تتشاور في هذا الأمر ، لأنَّ هذا الحصر ينفي استقراء جميع آراء هذه الأمة ، مع ما فيه من المداخلات التي قد تخرج بالأمر عن مساره السليم.

نعم فهل فاتك كيف رست سفينة الشورى التي أمر بها الخليفة عمر ابن الخطاب بعد أنْ طُعن ، وفيها كما يعرف الجميع وجوه الصحابة وأعيانهم ، فدارت دوران الرحى على عثمان ، بعد أنْ فقدت أي مصداقية شرعية لها في القطع بصحة الاختيار لخضوع البعض منهم لهوى النفس ، ومحاباة ذلك

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ٢٠٨ ( كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا اذا احصنت ) ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٥ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٧ ، تاريخ الخلفاء : ٥١ ، الرياض النضرة ١ : ٢٣٧ ، الصواعق المحرقة : ١٨ ، النهاية لابن الأثير ٣ : ٤٦٧ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٤٥.

(٢) الشورى ٤٢ : ٣٨.

(٣) آل عمران ٣ : ١٥٩.

٣٣

الهوى على حساب الحق ، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عنها : فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن (١).

بلى لم يكونوا إلّا ستة نفر ، والحق أمامهم أجلى من أنْ يواريه السحاب ، واحتجاج علي عليه‌السلام عليهم بأحقانيته من غيره في هذا الأمر حجة عليهم في اناطة الحق باهله ، بيد أنَّ تلك الجماعة المعدودة لم تصدق الأمانة ، فمال البعض منهم لضغنه ، والآخر لصهره ، فضاع الحق بين هذه الجماعة القليلة ، وظُلم علي عليه‌السلام وهو صاحب الحق ... فكيف بالأمَّة أجمع وفيها من فيها كما ذكرنا؟! بل ورأينا صحابي من كبار هؤلاء الصحابة ، وهوعبد الرحمن بن عوف يأكله الندم على ميله لعثمان وتقليده اياه خلافة المسلمين ، فيعرض عنه وينافره بعد ان اضطربت الدولة الاسلامية من اقصاها الى ادناها بفساد الامويين وتهتكهم تحت مظلة خليفة المسلمين ، فماذا بعد ذلك؟ وهل يُعقل أنْ يرتضي الله تبارك وتعالى لرسالته هذا الضياع والتلاعب ، والفوضى والاضطراب؟! إنَّه مجرد تساؤل.

إذن ـ وبعيداً عن المعاندة للحق ـ لم يبق سوى الافتراض الثالث من أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوصى لأحد المسلمين بأنْ يكون خليفته فيهم ، ووصيه عليهم ، وعلى الأُمَّة أنْ تسمع له وتطيع ، لأنَّه الامتداد الحقيقي لصاحب الرسالة ، عدا كونه غير نبي.

ثم لا يخفى عليك أنَ عظم الأهمية المترتِّبة على هذا المنصب تظهر بوضوح تعلِّق صدوره عن الله تبارك وتعالى ، لاسيما والقرآن الكريم يحدِّثنا أنِّ هذا الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله مرهونة كلُّ أقواله وأفعاله بالمشيئة

__________________

(١) يشير عليه‌السلام إلى اغراض كره التصريح بها.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٨٨ ( ضمن ما يُعرف بالخطبة الشقشقية ).

٣٤

الالهية ، لأنَّه ( مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلا وَحيٌ يُوحى ) (١).

نعم فهل يمكن حصر تلك الشخصية العظيمة التي شاءت ارادة الباري عزَّ وجلَّ أنْ تنيط بها هذه المسؤولية الجسيمة والخطيرة ، والتي ينبغي أنْ تكون مشخَّصة للجميع ، ومعلومة عندهم ، ومتميِّزة من بينهم ، تُعرف دون عناء قد يضيع البعض في سلوك الدرب اليه ، أو يقع في جملة المتشابهات المتعددة.

أقول ـ ويوافقني في ذلك كلُّ العقلاء ـ : إنَّ من المنطقيِ الذي ينبغي أنْ تتسالم عليه اراء ومعتقدات الجميع كون معرفة تلك الشخصية الوارثة لهذا الأمر أيسر من أنْ تاخذ من المسلم مأخذاً كبيراً ، وجهداً مضنياً ، لأنَّ الله تبارك وتعالى ما أرسل الأنبياء والمُرسَلين عليهم‌السلام إلا رحمة منه ولطفاً يفيضه على عباده ، وجعل صراط الحق الذي يدعو اولئك المُرسَلين اليه بيِّناً واضحاً لا لبس فيه ولا شبهة ، يسلكه من ابتغى النجاة ، ويعرض عنه من أبى ، وليس للثاني حجة يحتج بها يوم القيامة ، وتلك هي العدالة السماوية ، وإلّا لانتفى ذلك المفهوم عندما يعجز البعض عن ادراك الحق لقصور المشرِّع في تحديد مسالكه ، وذلك ما يستحيل افتراضه ، وإنْ افترضه البعض معاندة للحق فليس هو إلّا محض افتراء وتجنِّي على المُرسِل والرسول ، ومجافاة صريحة للعقل والمنطق ، وهذا ما يستدل به في وجوب تشخيص الوصي والنائب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنَّه ليس من المنطقي أنْ يجعل الله تبارك وتعالى وصي رسوله لغزاً مخفياً ، وسراً مموَّهاً ، لما في ذلك من التعارض البين مع الرحمة الالهية أوّلاً ، ومع حكمة نصب هذا الإمام ثانياً ، وكذا هو حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن فماذا يجيبنا الاستقراء العلمي والبعيد عن الهوى والتعصُّب

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤.

٣٥

المقيت؟ بل وأين تنتهي بنا سلسلة الأدلة المتوافرة في تحديد شخصية هذا الامام والوصي والخليفة؟

ولعل التسليم لمنطق الحق والصواب يقود الباحث عن الحقيقة إلى الاقرار الذي لا ريب فيه بانحصار الوصاية والخلافة بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام دون غيره ، وذلك جلي واضح لم يثبت قطعاً لغيره ، ولا حجة لمن ينيطها بغيره إلا مكابرة للحق ومعاندة له ، وهو مطالب بالدليل والبرهان على مدعاه هذا ، من الآخرين لا منّا ، لأنّا ندرك ذلك بوضوح ، وذلك الادراك الواضح هو الذي كان ولا يزال يدفع بالبعض ـ واقولها بمرارة ـ إلى التجنِّي والافتراء والتقوُّل على الشِّيعة ، بصحائف صفراء باهتة ومتغرِّبة عن الحق ، لا سمة علمية تتسم بها ، ولا حجة حقيقية تحتج بها ، فصرفوا أذهان البعض عن تلمُّس الحقيقة وادراكها بتلاحقهم في اثارة النقع وتكثيفه حول الأدلة والبراهين التي تحتج بها الشِّيعة منذ تلك الدهور التي بالغ فيها الامويون والعباسيون في بطشهم الرهيب ، وتنكليهم القاسي برجال الشَيعة ومفكريها ، حتى ضجت الأرض بمقابر من حضى منهم بقبر ، ناهيك عمَّن لا أثر له ولا ذكر (١).

__________________

(١) لقد بلغ تنكيل الحكّام بشيعة أهل البيت عليهم‌السلام حداً يعجز عن تصويره القلم ، وفي وصفه اللسان ، لا لشيء يُتهمون به إلا ولائهم لبيت النبوة الطاهر ، ودفاعهم عن حريمه ... فاخذوهم على التهمة والظنة ، وتقصوهم تحت كلُّ حجر ومدر ، وشرَّدوهم في الاصقاع النائية بعد أنْ سملوا أعين العديد منهم ، وهتكوا اعراضهم ، وقتلوا الكثيرين منهم ، فملئوا حياة الباقين منهم رعباً وخوفاً ، ولوعة وحزناً ، وصبغوا حياتهم بالسواد دون رحمة أو شفقة.

نعم ذلك هو مصداق تعامل الكثير من اولئك الحكّام مع الشِّيعة ، لا مبالغة فيه ولا تهويل ، وأنا أدعو القارئ الكريم إلى استقراء ذلك من خلال مراجعته لكتب التاريخ المختلفة ، وأدعوه بالخصوص لمطالعة كتاب ( الشيعة والحاكمون ) للشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعالى برحمته الواسعة ، فقد تناول الكثير من دقائق هذه الأحداث بشكل علمي رصين.

٣٦

أقول : لم يحتج القوم باختيار المشرِّع لوصي وخليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل قطعي ، إلّا ما ادعاه البعض لأبي بكر ، وهو أحتجاج وقول لا يؤبه به ، لأنَّه لم يثبت قطعاً ، ولم يدعيه هو لنفسه ، بل نقل عنه قوله على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اقيلوني ، فكيف يطلب مَنْ نصبه الله ورسوله وصياً على الأُمَّة منها أنْ تقيله؟! إنْ ذلك محض خيال لا صلة له بالواقع قطعاً.

كما إنَّه يتناقض مع قوله الشهير : إنْ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها ، وخشيت الفتنة (١) ويؤكِّدها في ذلك قول عمر بن الخطاب من بعد ، وقد تقدم منّا ذكره.

بلى قد يحتج البعض بأنَّ الأُمَّة قد اجمعت على بيعة أبي بكر ، وأنَّ هذه الأمَّة لا تجتمع على خطأ أو على ضلال كما يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلا أنَّه يُرد عليه وكما قال سيِّدنا الامام المرحوم عبدالحسين شرف الدين : بأنَّ المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تجتمع على الخطأ ، ولا تجتمع على الضلال : إنَّما هو نفي الخطأ والضلال عن الأمر الذي اشتورت فيه الأُمّة فقرَّرته باختيارها ، واتفاق آرائها ، وهذا هو المتبادر من السنن لا غير ، أمّا الأمر الذي يراه نفر من الأُمّة فينهضون به [ يشير الى ما جرى في سقيفة بني ساعدة ] ثم يتسنّى لهم اكراه أهل الحل والعقد عليه ، فلا دليل على صوابه. وبيعة السقيفة لم تكن عن مشورة ، وإنَّما قام بها الخليفة الثاني ، وابو عبيدة ، ونفر معهما ، ثم فاجأوا بها أهل الحل والعقد ، وساعدتهم تلك الظروف على ما أرادوا (٢).

نعم وإنْ كان يبدو ايراد هذا القول لسيِّدنا الامام شرف الدين رحمه الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ٦ : ٤٧ ، أنساب الأشراف ١ : ٥٩٠.

(٢) المراجعات : ٥٧٩ ، المراجعة ٨٠.

٣٧

تعالى برحمته الواسعة خلاف استرسالنا في بحث هذا الموضوع إلّا أنْ ايراده لازم لاستكمال الأمر مدار البحث ، لأنَّ ابن خلدون وجماعة ممَّن وافقه في مشربه ذهبوا إلى أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عَيّن أبا بكر خليفة من بعده قياساً ـ ولا نوافقهم في القياس ـ على ما يروونه من تعيينه إماماً للمسلمين في صلاتهم حين مرضه.

إنّا لا نبتغي هنا مناقشة صحة وفساد هذا الحديث ، ولا رد القياس الذي لا يمكن الركون اليه في هذا الأمر ، لأنَّ ذلك يرده عدم تصريح أبي بكر بذلك ، لأنَّه أولى من غيره في تدعيم خلافته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل يعقل أنْ يعرض عن هذا الدليل مع اهميته العظيمة هذه؟! كلا وألف كلا.

أقول : لم يتبق لدى الفريقين مَنْ تُحصر فيه الأمامة والخلافة غير علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو قول الشِّيعة وعليه دارت رحى عقائدهم ، وكان العلة الحقيقية التي اضطهدت هذه الطائفة بسببها من قِبل الحكومات الجائرة كالامويين والعبّاسيين وغيرهم ، كما اسلفنا.

ولعلَّ من حق المسلمين التساؤل عن أدلَّة الشِّيعة في دعواهم هذه لكي يمكن التسليم بصحتها أو الاعتقاد بها ، أو ردها إنْ ثبت بطلانها.

فمّما تقدَّم من الحديث واسترساله أشرنا إلى حتمية نصب الامام والوصي من قِبل الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ووجوب تحديده ، وانتفاء هذا التحديد عن غير الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذاك لا يسلَّم بصحته دون الدليل الواضح والبيِّن ، والشيعة مطالبون به ، وهو ما سنشير اليه دون الاستفاضة في مناقشته محيلين القارئ الكريم إلى المراجع المختصة بذلك.

فمما يحتج به الشيعة على وجود النص على خلافة علي عليه‌السلام

٣٨

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحصرها بأهل بيته عليهم‌السلام ما تناقله الفريقان من الأخبار الصحيحة الجمة الموافقة للاستدلال العقلي السائد بوضوح في مجرى هذه المباحث ، والتي منها :

١ ـ نص حديث الدار :

روى الفريقان وبأسانيد متعددة واقعة الدار التي ترتبت بعد نزول الأمر الالهي من السماء بوجوب انذار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعشيرته بأمر الدعوة بنص قوله تعالى : ( وَأنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأقرَبينَ ) (١) فخاطبهم صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : يا بني عبدالمطلب ، إنِّي والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي ، ووصي ، وخليفتي فيكم؟

فأحجم القوم عن ذلك إلا علي عليه‌السلام ، وكان احدثهم سنَّاً ، إذ استجاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله برقبة علي عليه‌السلام وقال : هذا أخي ، ووصي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أنْ تسمع لابنك وتطيع (٢).

٢ ـ حديث المنزلة :

وأمّا حديث المنزاسة فدلالته على أمر خلافة علي عليه‌السلام لرسول

__________________

(١) الشعراء ٢٦ : ٢١٤.

(٢) تأريخ الطبري ٢ : ٢١٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٦٢ ، تأريخ أبي الفداء ١ : ١١٦ ، شرح الشفا ٣ : ٣٧ ، معالم التنزيل ٤ : ٢٧٨ ، شواهد التنزيل ١ : ٣٧٢ ، ترجمة الامام علي عليه‌السلام من تأريخ دمشق ١ : ١٠٣|١٣٩ و ١٤٠ ، تفسير الخازن ٣ : ٣٧١.

٣٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطعية لا تقبل الشك ، وصحته سلَّم بها أئمة الحديث عند العامَّة ، ورووه بطرق كثيرة جداً ، وأخرجوه في صحاحهم ومسانيدهم ، وبشكل يصعب حصره واستقصاؤه.

وخلاصة هذا الحديث الذي رواه جمع كبير من الصحابة تتحدد في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنَّه لا نبي بعدي (١).

فتخصيص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي عليه‌السلام منه بمنزلة هارون من موسى عليهما‌السلام دون منزلة النبوة اشارة إلى مشاركته له في كلُّ شيء دونها ، والتي من أهمها خلافته في قومه ، والى ذلك يشير بوضوح تسلسل الوقائع التي يرويها لنا القرآن الكريم من قوله تعالى عن لسان موسى عليه‌السلام بعد تكليفه بالرسالة ، وانفاذه إلى فرعون طاغية عصره ( قالَ رَبِّ اشرح لي صَدري * وَيَسِّرْ لي أمري * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِساني * يَفْقَهُوا قَولي * واجْعَلْ لي وَزيراً مِنْ أهلي * هارونَ أخي * اشدُدْ بهِ أزري * وَأشْرِكه في أمرِي ) (٢) فاستجاب له الله تبارك وتعالى توسله هذا بقوَله : ( قَدْ اُوتيتَ سُؤلَكَ يا مُوسى ) (٣) وأكَّد ذلك سبحانه أيضاً في موضع آخر من الكتاب العزيز حيث قال : ( وَلَقَدْ آتَينا مُوسى الكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أخاهُ هارونَ وَزيراً ) (٤).

وأمّا تلك الوزارة فيوضحها قوله جلَّ اسمه : ( وَقالَ مُوسى لأخِيهِ هارونَ

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٨٩ / ٢٠٢ ، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧ / ٢٤٠٤ ، سنن الترمذي ٥ : ، ٣٧٣٠ ، مسند احمد ١ : ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٨٢ ، ١٨٤ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٣٣٧ ، الرياض النضرة ٢ : ١٥٧ ، مصابيح السنَّة ٤ : ١٧٠ / ٤٧٦٢ ، تأريخ بغداد ٤ : ٢٠٤ ، تأريخ الخلفاء : ٦٥ ، الصواعق المحرقة : ١٨٧.

(٢) طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٣٢.

(٣) طه ٢٠ : ٣٦.

(٤) الفرقان ٢٥ : ٣٥.

٤٠