أصل الشيعة وأصولها

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

أصل الشيعة وأصولها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: علاء آل جعفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام علي عليه السلام ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-50-7
الصفحات: ٤٤٢

فهذه كتب الشِّيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه ، وأخف كلمة تقولها كتب رجال الشِّيعة في حقِّه ويكتفون بها عن ترجمة حاله عند ذكره في حرف العين هكذا : ( عبدالله بن سبأ ، العن مِنْ أنْ يُذكر ).

انظر رجال أبي علي وغيره (١).

على أنَّه ليس من البعيد رأي القائل : أنَّ عبدالله بن سبأ ، ومجنون بني عامر ، وأبي هلال ، وأمثال هؤلاء الرجال أو الأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصّاصون وأرباب السَّمر والمجون ، فانَّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين الأموية والعبّاسية ، وكلّما اتسع العيش وتوفَّرت دواعي اللهو ، اتسّع المجال للوضع ، وراج سوق الخيال ، وجعل القصص والأمثال ، كي تأنس بها ربّات الحجال ، وأبناء الترف والنعمة المنغمرين في

__________________

وإلا فأنَّ موقف الشيعة وعلمائها من هذا الامر أوضح من أنْ يحتاج معه إلى بيان ، فراجع ما شئت من كتبهم ترى حقيقة الامر بجلاء ووضوح.

ولعل الامر الواضح والجلي في سر صناعة هذه الاسطورة يكمن في أمر موالاة الشيعة لعلي عليه‌السلام وأهل بيته الاطهار ، امتثالاً لامر الله تعالى ورسوله ، وهذا ما أثار حفيظة الامويين وحقدهم الاسود عليهم والذي لا يقف عند أي حد ، فاختلقوا ما زيَّنته لهم نفوسهم المريضة ، ووجدها أعداء الشِّيعة لقمة سائغة فازدورها وطفقوا بجهل يتبجحون بها كالحمقى والمغفلين ، من دون أدنى مراجعة ودراسة ، وأنا أترك للقارئ الكريم مسألة الحكم حول هذا الموضوع بعد دراسته المجردة للوقائع التاريخية الممتدة خلال فترة ظهور هذا الرجل ، أو ما كتب عنه من قبل الباحثين والدارسين المختلفين ، وحتى يدرك بالتالي تفاهة وسقامة الربط الساذج بين عقيدة تمتد جذورها إلى اليوم الاول لقيام الدعوة الاسلامية ، وبين رجل أبسط ما قيل في حقَّه أنَّه مشرك وكافر ، فراجع.

(١) بلى إنَّ جميع مصادر الشيعة اتفقت على لعنه وتكفيره ، وأنه غال زعم أن أمير المؤمنين عليه‌السلام إله أو نبي مرسل من قِبَل الله على الاقل.

فراجع : رجال أبو علي : ٣٠٢ ، رجال الكشي ٩ : ٣٢٣ ، رجال الطوسي : ٥١|٧٦ ، نقد الرجال : ١٩٩|١٣١ ، الخلاصة ( القسم الثاني ) : ٢٣٧|١٩ ، تنقيح المقال ٢ : ١٨٣ وغيرها.

١٨١

بُلَهْنية (١) العيش.

وأنَّ سمادير (٢) الأهازيج الَّتي أصبح يتغنّى بها لنا عن القرآن والاسلام ( الدكتور طه حسين ) وزملاؤه ، والدور الَّذي جاءوا يلعبون فيه للمسلمين بالحراب والدرق ، فهو أشبه أنْ يكون من أدوار تلك العصور الخالية ، لا من أدوار هذه العصور التي تتطلب تمحيص الحقائق بحصافة وأمانة ، ورصانة ومتانة.

ومهما كان الأمر أو يكن ، فكلّ ذلك ليس من صميم غرضنا في شيء ، وما كان ذكره إلاّ من باب التوطئة والتمهيد للقصد ، وإنَّما جلّ الغرض أنَّه بعد توفُّر تلك الأسباب والدواعي ، والشؤون والشجون ، والوقوف على تلك الطعنات الطائشة على الشِّيعة المتتابعة من كتَبَةِ العصر في مصر وغيرها ، رأشا من الفرض علينا ـ الَّذي لا ندحة عنه ـ أنْ نكتب موجزاً من القول عن معتقدات الشِّيعة واُصول مذهبها ، وأُمهات مسائل فروعها التي عليها إجماع علمائها ، والَّذي يصح أنْ يقال أنَّه مذهب الشِّيعة على إطلاقها ، أمّا ما عداه فهو رأي الفرد أو الأفراد منها ، ومثله لا يصح أنْ يُعد مذهباً لها ، ومعلوم أنَّ باب الاجتهاد لم يزل مفتوحاً عند الشَيعة ، ولكلّ رأيه ما لم يخالف الإجماع أو نص الكتاب والسنَّة أو ضرورة العقول ، فإن خالف شيئاً من ذلك كان زائغاً

__________________

(١) البُلَهْنية : السعة والرفاهية في العيش.

انظر : القاموس المحيط ٤ : ٢٠٣.

(٢) السمادير : ضعف البصر ، وقيل : هو الشيء الذي يتراءى للانسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب وغَشْي النعاس والدوّار.

قال الكميت :

وَلَما رايتُ المقرباتِ مُذالةً

وَأنكرتُ إلاّ بِالسًماديرِ ألها

لسان العرب ٤ : ٣٨٠.

١٨٢

عن الطريق ، ومارقاً عن تلك الطائفة ، على أصول مقرَّرة ، وقواعد محرَّرة ، لا يتسع المقام لمجملاتها فضلاً عن مفصَّلاتها ، وإنَّما المقصود هنا بيان ذات المسائل التي يدور عليها محور التشيُّع ، ويعتقده عوام الشِّيعة وخواصها ، وعليها عملهم ، ولا خلاف فيها بينهم ، من دون تعرُّض للأدلة والحجج ، فانَّها موكولة ألى الكتب المطوَّلة ، وهو خارج عن الغرض المهم من تعريف كافة فرق المسلمين ، وافراد كلُّ طائفة من علمائها وعوامها عن عقائد الشِّيعة ، حتى يعرفوا أنَّهم مسلمون مثلهم ، فلا يضلموا أنفسهم ويتورطوا في نسبة ألأضاليل والأباطيل إلى اخوانهم في الدِّين ، ولا يتمثَّلوهم كالسعالى وأنياب الأغوال ورؤوس الشياطين ، أو كوحوش صحارى أفريقيا وأكلة لحوم البشر ، بل هم ـ بحمد اللهّ ـ ممَّن تأدّب بآداب الاسلام ، وتمسَّك بتعاليم القران ، وأخذ بحظ وافر من الايمان ومكارم الأخلاق ، ولا يعتمدون إلاّ على الكتاب والسنَّة وضرورة العقل ، فعسى أنْ ينتبه الغافل ، ويعلم الجاهل ، ويرتدع المهوّس الطائش عن غلوائه ، ويكسر المتعصِّب عن سورته ، ويتقارب من إخوانه ، لعل الله يجمع شملهم ، ويجعلهم يداً واحدة على أعدائهم ، وما ذلك على الله بعزيز.

ولابدَّ أولاً من بيان مبدأ التشيُّع ، وأسباب نشوئه ونموه ، ثم بيان أُصوله ومعتقداته.

١٨٣

إذاً فالغرض يحصل في مقصدين :

[ المقصد ] الأول :

في أنَّ التشيُّع من أين نشأ؟ ومتى تكوَّن؟ وَمَنْ هو غارس بذرته الأُولى ، وواضع حجره الأَوّل ، وكيف أفرعت دوحته حتى سما واستطال ، وأزهر وأثمر ، واستدام واستمر حتى تديَّنت به جملة من أعاظم ملوك الاسلام ، بل وجملة من خلفاء بني العبّاس : كالمأمون ، والناصر لدين الله ، وكبار وزراء الدولة العبّاسية وغيرها.

فنقول وبالله المستعان :

إنَّ أول مَنْ وضع بذرة التشيُّع في حقل الاسلام هو نفس صاحب الشَّريعة الاسلامية ، يعني أنَّ بذرة التشيَّع وضعت مع بذرة الاسلام ، جنباً الى جنب ، وسواء بسواء ، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته ، ثم أثمرت بعد وفاته.

وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشَّريفة ، لا من طرق الشِّيعة ورواة الامامية ، حتى يُقال : أنَّهم ساقطون لأنهم يقولون ( بالرجعة ) أو أنَّ راويهم ( يجر الى قرصه ) بل من نفس أحاديث علماء السنَّة وأعلامهم ، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع ، وأنا أذكر جملة ممّا علق بذهني من المراجعات الغابرة ، والتي عثرت عليها عفواً من غير قصد ولا عناية.

فمنها : ما رواه السيوطي في كتاب ( الدر المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور ) في تفسير قوله تعالى : ( أُولئِكَ هُمْ خَيرُ البريّةِ ).

قال : أخرج ابن عساكر : عن جابربن عبدالله قال : كنّا عند النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاقبل عليٌ عليه‌السلام فقال النَّبي : « والَّذي نفسي بيده إنَ

١٨٤

هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ».

ونزلت : ( إنَّ الِّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصّالِحاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريّةِ ).

وأخرج ابن عدي : عن ابن عبّاس قال : لما نزلت : ( إنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ) قال رسول الله [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] لعلي [ عليه‌السلام ] : « هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ».

وأخرج ابن مردويه : عن علي عليه‌السلام قال : « قال لي رسول اللهّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الم تسمع قول الله : ( إنَّ الّذينَ امَنُوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ اُولئِكَ هُمْ خَيرُ البَريّةِ ) أنتَ وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض ، إذا جاءت الامم للحساب تُدعون غرّاً محجَّلين ». انتهى حديث السيوطي (١).

وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في ( صواعقه ) عن الدارقطني ، وحدّث أيضاً عن أُمِّ سلمة أنَّ النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يا علي أنت وأصحابك في الجنَّة » (٢).

وفي ( نهاية ابن الأثير ما نصَّه في مادة ( قمح ) : وفي حديث علي عليه‌السلام قال له النَّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ستقدم على الله أنتَ وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضاباً مقمَّحين » ، ثم جمع يده إلى عنقه ليريهم كيف الاقماح (٣). انتهى.

وببالي أنَّ هذا الحديث أيضاً رواه ابن حجر في ( صواعقه ) وجماعة

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٦ : ٣٧٩.

(٢) الصواعق المحرقة : ٩٦.

(٣) النهاية ٤ : ١٠٦.

١٨٥

آخرون من طرق اُخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث (١).

والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) يروي عن رسول الله [ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] أنَّه قال : « يا علي ، إذا كان يوم القيامة أخذتُ بحجزة الله تعالى ، وأخذتُ أنت بحجزتي ، وأخذ وُلْدِكَ بحجزتك ، واخذ شيعة ولْدِكَ بحجزتهم ، فترى أين يؤمر بنا » (٢).

ولو أراد المتتبع [ لـ ] كتب الحديث ، مثل : مسند الامام أحمد بن حنبل ، وخصائص النسائي ، وأمثالهما أنْ يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه.

وإذا كان نفس صاحب الشريعة الاسلامية صلى‌الله‌عليه‌وآله يُكرر ذكر شيعة علي عليه‌السلام ويُنَوِّه عنهم بأنَّهم هُمُ الآمنون يوم القيامة ، وهم الفائزون والراضون المرضيون ، ولا شك أنَّ كلُّ معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول ، وأنَّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحي يوحى (٣) ، فإذا لم يصر كلُّ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شيعة لعلي عليه‌السلام فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممَّن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه ، لا بضرب من التوسّع والتأويل.

نعم ، وهكذا كان الأمر ، فإنَّ عدداً ليس بالقليل اختصوا في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلي عليه‌السلام ولازموه ، وجعلوه إماما كمبلِّغٍ عن

__________________

(١) راجع : كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة للسيد مرتضى الحسيني ، وكتاب إحقاق الحقِّ وإزهاق الباطل للسيِّد التستري ، وغيرهما من المصادر المختصة بايراد هذه الاحاديث الواردة في كتب العامة ، حيث تجد الكثير الكثير من هذه الروايات وبطرقها المختلفة.

(٢) ربيع الابرار ١ : ٨٠٨.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى في حق رسوله الكريم مُحَمَدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سورة النجم ( ٥٣ : ٣ ـ ٤ ) : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلأ وَحي يُوحى ).

١٨٦

الرسول ، وشارح ومفسِّرٍ لتعاليمه ، وأسرار حِكَمِه وأحكامه ، وصاروا يُعرفون بأنّهم شيعة علي عليه‌السلام كعَلَمٍ خاص بهم كما نصًّ على ذلك أهل اللغة. راجع النهاية (١) ولسان العرب (٢) وغيرهما (٣) تجدهم ينصّون على أنَّ هذا الاسم غلب على أتباع علي عليه‌السلام وولده ومن يواليهم ، حتى صار اسماً خاصاً بهم.

ومن الغني عن البيان أنَه لو كان مراد صاحب الرسالة من شيعة علي عليه‌السلام مَنْ يحبه أو لا يبغضه ـ بحيث ينطبق على أكثر المسلمين ، كما تخيَّله بعض القاصرين ـ لم يستقم التعبير بلفظ ( شيعة ) ، فانَّ صرف محبة شخص لآخر أو عدم بغضه لا يكفي في كونه شيعة له ، بل لا بدَّ هناك من خصوصية زائدة ، وهي الاقتداء والمتابعة له ، بل ومع الالتزام بالمتابعة أيضاً ، وهذا يعرفه كلُّ من له أدنى ذوق في مجاري استعمال الألفاظ العربية ، وإذا استعمل في غيره فهو مجاز مدلول عليه بقرينة حال أو مقال.

والقصارى إنِّي لا أحسب أنَّ المنصف يستطيع أنْ ينكر ظهور تلك الأحاديث وأمثالها في إرادة جماعة خاصة من المسلمين ، ولهم نسبة خاصة بعلي عليه‌السلام ، يمتازون بها عن سائر المسلمين الَّذين لم يكن فيهم ذلك اليوم من لا يحب علياً ، فضلاً عن وجود من يبغضه.

ولا أقول : إنَّ الاخرين من الصحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يأخذوا بارشاده ، كلّا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك ، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ ، ولكن

__________________

(١) النهاية ٢ : ٥١٩.

(٢) لسان العرب ٨ : ١٨٩.

(٣) القاموس المحيط ٣ : ٤٧ ، أقرب الموارد ١ : ٦٢٧ ، مجمع البحرين ٤ : ٣٥٦ ، تاج العروس ٥ : ٤٠٥.

١٨٧

لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلَّهم ، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها ، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام (١).

__________________

(١) بلى إنَّ صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم من الفضل والدرجة العظيمة التي ليست بخافية على أحد ، بل وكانوا ولازالوا موضع إحترام وتقدير وتبجيل من قبل المسلمين ، والشِّيعة في أوائلهم. ولاغرو في ذلك ، فانّ كتاب الله عزَّ وجل يحذَثنا في أكثر من موضع عن تلك المنزلة السامقة لاؤلئك المؤمنين المجاهدين الذين شادوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الكرام صرح الاسلام ، وأقاموا أركانه.

قال الله تعالىِ في أواخر سورة الفتح المباركة : ( مُحَمَّد رَسُولُ الله وَالَّذينَ مَعَهُ أشِدَاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَينهُمْ تَراهُمْ ركعاً سجداً يَبْتغُونَ فضلاًَ مِنَ الله ِ وَرِضواناً ...).

وكذا ترى ذلك بوضوح عند مراجعتك لاقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام ، وذلك ما لا ندعيه ولا نتقوّله ... إلّا إنّا لا نتفق مع مَنْ يذهب إلى سريان هذا الامر على جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ، دون فحص وتمييز ، وكذا يوافقنا في ذلك كلُّ عاقل منصف مدرك للحقيقة.

فالقرآن الكريم ، والسنَّة النبوية المطهَّرة ، والوقائع التاريخية الثابتة تؤكد صواب ما نذهب اليه ، وبطلان ما ذهب اليه الاخرون ، سواء كانوا من الذين اظفوا هذه الصفة على الجميع ، أو من طعنوا في الجميع دون دليل أو حجة أو برهان سليم ، وإنْ كانت الجماعة الاولى هي الاكثر ، وهي صاحبة الرأي السائد عند اخواننا من أبناء العامَّة ، وهم يُشكلون الطرف الاكثر والاوسع في عموم المسلمين ، قِبال الشِّيعة التي تشكِّل الثقل الاكبر الثاني في المذاهب الاسلامية المختلفة.

واذا كنّا لا نتفق معهم في نسبة العدالة إلى جميع الصحابة دون استثناء ، ودون مناقشة تذكر في صحة نسبة تلك العدالة إلى بعض الجماعات التي ثبت تاريخياً انحرافها عن مفهوم العدالة الاسلامية ، فإن هذا لا يعني أبداً الاتفاق مع الجماعة الاخرى الذاهبة الى الطعن في جميع الصحابة ، لانه رأي تافه وسقيم ولايستحق النقاش ، ولذا فان حديثنا سيكون مع الجماعة الاولى ، والتي تلقي باللوم على الشِّيعة لاعتمادهم اسلوب تقييم الصحابة وفق المنهج السماوي والمقياس الشرعي الذي جاءت به الشريعة الاسلامية المتكاملة والواضحة ، من دون تحزُّب أعمى ، أو تعصُّب مقيت ، وحيث تعضدنا في ذلك المبادئ السليمة التي اعتمدناها في هذا تبني هذا المنهج السليم. فلنتوقف قليلاً ولنتأمَّل فيما نقول.

أقول : ولنبتدأ أوَّلاً بما تقدم منّا من ذكر الاية المباركة السالفة والمثنية على صحابة رسول

١٨٨

...................................................

__________________

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهذه الآية القرآنية المباركة تحمل في طياتها الدليل الواضح على صحة هذا الاستثناء الذي نقول به ، والمؤيدة له ، حيث جاء في آخرها ( وَعَدَ الله الَذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ مِنْهُم مَغفِرةً وَأجراً عَظيماً ) فكلمة ( منهم ) المبعِّضة تدل بوضوح على التمييز بين فئتين أو طائفتين ، احداهما مؤمنة عاملة ، والاخرى لابد أنْ تكون مخالفة لها. بلِ وفي قوله تعالى في نفس السورة ( الآية ١٠ ) ( إن الذينَ يُبايعُونَكَ إنما يُبايعُونَ الله َ يَدُ اللهِ فوقَ أيدِيهِم فَمَنْ نَكَثَ فَانما يَنكتُ عَلى نَفسِهِ وَمَنْ أوفى بمَا عاهَدَ عَلَيهَِ اللهَ فَسَيُؤتيهِ أجْراً عَظِيماً ) عين الدلالة ، وذات المعيار ، وغيرها وغيرها.

ثم أوَ ليس قد تواتر في كتب القوم المعروفة بالصحاح وغيرها الكثير من الاخبار الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدالة بوضوح على انحراف جماعة معلومة ومبجلة من الصحابة معررفة بأعيانها ، ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله المروي في البخاري ( ٨ : ١٤٨ ) : « انا فرطكم على الحوض ، وليُرفعنَّ رجالاً منكم ثم ليختلجنَّ دوني ، فأقول : ياربِّ أصحابي!

فيقال : إنَّك لاتدري ما أحدثوا بعدك ».

ومثله روى ذلك مسلم في صحيحه ( ٤ : ١٧٩٦ ) وأحمد في مسنده ( ٣ : ١٤٠ و ٢٨١ و ٥ : ٤٨ ، ٥٠ ، ٣٨٨ ، ٤٠٠ ).

وأمّا الحاكم النيسابوري فقد روى في مستدركه ( ٤ : ٧٤ ) : « إنِّي ـ أيُّها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فاذا جئتُ قام رجل ، فقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان. فاقول : قد عرفتكم ، ولكنَّكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى ».

بل إنَّ ابن ماجة في سننه أضاف أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في حقِّ أصحابه أؤلئك « سُحقاً سُحقاً ».

ثم ألَم يمرعلينا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله مع أبي بكر ـ وهو من كبار الصحابة وأعيانهم ـ عندما قال صلى الله عليه وآله عن شهداء اُحد : « هؤلاء أشهد عليهم » فقال له أبو بكر : ألَسنا ـ يا رسول الله ـ باخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا؟

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بلى ، ولكن لا أدري ما تُحدثون بعدي ». انظر : موطأ مالك ٢ : ٤٦١|٣٢.

فانظر وتأمَّل في دلالة هذا الحديث ، ومَنْ هو المخاطَب ، لتدرك بوضوح أنَّ لا أحد مُستثنى من هذه الموازين الشرعية ، فمن خالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله واتبع

١٨٩

...................................................

__________________

هواه وهوى الشيطان فانَّ الشَّريعة الاسلامية هي التي تنبذه لا نحن ، وتلك بديهية لا أعتقد أنَّها تحتاج الى برهان.

فهل نأتي نحن المسلمين في آخر الزمان ضاربين عرض الحائط باقوال رسول الله صلى الله عليه وآله بحقَ هذه الطائفة ممّن أحدثوا وبدَّلوا وغيَّروا وانحرفوا لنترحَّم عليهم ، ونبجِّلهم ونقدِّمهم ، دون وعي أو تدبُّر أو دليل؟! إنَّ ذلك لا يقول به عاقل أبداً.

ثم أعود فأسال : مَنْ كان أصحاب الافك الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله ، واتهموه في عرضه ، والذين توعدهم اللهّ تعالى بالعقاب الاليم والعذاب الشديد ، هل كانوا إلاّ جماعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله ، أم ماذا؟

بل ومَنْ اولئك الذين ارادوا الكيد برسول الله صلى الله عليه وآله وقتله عند عودته من تبوك ، هل كانوا ايضاً إلاّ من صحابته صلى الله عليه وآله ( راجع : مسند أحمد٥ : ٤٥٣ ، مغازي الواقدي ٣ : ١٠٤٢ ، دلائل النبوة للبيهقي ٥ : ٢٥٦ ، وغيرها ).

ثم ماذا يعني هذا التكرار الواضح في آيات القرآن الكريم المحذِّرة من كيد المنافقين الذين أظهروا الايمان وأسرّوا الكفر والمعاداة ، حتى لقد بلغ عدد المرَّات التي وردت فيها كلمة المنافقين والمنافقات في القرآن الكريم ( ٣٢ ) مرة.

وأخيراً أعود فأسال العقلاء : كيف تستسيغ العقول أنْ تضفي مسالة العدالة والنزاهة على جميع الصحابة دون استثناء أو تأمُّل في سيرة ذلك الصحابي وعرض أفعاله على المقياس الشرعي الذي أقرَّته الشريعة الاسلامية الخالدة لا لشيء إلاّ لانَّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله أوصحبه ، وكأنَّ في تلك الصحبة تنزيهاً أو عصمة من الادانة والمحاسبة ، وجوازاً للفوز بالرضا الالهي ، مهما فعل هذا الصحابي وأسرف وخالف ، رغم مخالفة ذلك التصوُّر السقيم لابسط المفاهيم الاسلامية المعروفة لدى جميع المسلمين؟! إنَّ ذلك والله لمن عجائب الامور. كيف وأنَّ الله تبارك وتعالى قد هدد زوجات الرسول صلى الله عليه وآله ـ وهنِّ أقرب اليه صلى الله عليه وآله ، واشد تماسَّاً به من جميع الصحابة ـ بمضاعفة العذاب إذا ارتكبنَّ ما يُخالف الشريعة الاسلامية ، دون نظر منه تبارك وتعالى إلى شدة هذا التماس هذا القرب ، إذ قال جلَّ اسمه في سورة الاحزاب ( الآية ٣٠ ) : ( يا نساء النبي منْ يَأتِ منكُنَّ بفاحِشَةٍ مُبَيِّنَتةٍ يُضاعَف لَها العَذابُ ضِعْفَينِ وَكانَ ذلك على اللهِ يَسيراً ) فاذا كان الامر وفق هذَا المفهوم فانَّ من يُخالف من الصحابة يجب أنْ يًضاعف عليه النكير ، لانَّه أساء إلى شرف الصحبة وكرامتها.

نعم إنَّ لدينا ألف دليل ودليل على صحة ما نذهب إليه ، ولا أريد هنا استعراض جملة

١٩٠

ثم إنَّ صاحب الشريعة لم يزل يتعاهد تلك البذرة ، ويسقيها بالماء النمير العذب من كلماته وإشاراته ، في أحاديث مشهورة عند أئمة الحديث من علماء السنَّة ، فضلاً عن الشِّيعة ، وأكثرها مروي في الصحيحين ، مثل : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عليٌ مني بمنزلة هارون من موسى » (١).

ومثل : « لا يحبك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق » (٢).

وفي حديث الطائر : « اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك » (٣).

__________________

معروفة ممَن يُسمَّون بالصحابة هم والله أشد ضرراً وكلَباً على الاسلام وأهله من النصارى واليهود ، فليس هذا المكان المحدود بمحل مستساغ لهذا المبحث المهم ، إلاّ إنِّي أعتقد بأنَّ القول بعدالة جميع الصحابة ـ والذي كان أوَّل من دعا اليه أهل الحديث ثم أصبح بعد ذلك عقيدة ثابتة من العقائد التي مُنحت على أساسها تلك الجماعات سهماً في التشريع الاسلامي ، بل وأنْ تكون لهم سنن كسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل وأنْ تكون آرائهم حجة على الناس الى يوم القيامة ـ كان من بدع الفئات المنحرفة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، والمناصرة لفساد معاوية بن أبي سفيان ، وبسر بن ارطاة ، وسمرة من جندب ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية بن حديج وغيرهم ممَّن لاعذر لهم في كثير من أفعالهم الفاسدة ، ولا يستطيع أحد تقديم العذر لهم فيها ، إلاّ طريق نسبة العدالة اليهم ، وكذا نسبَّة حق الاجتهاد لهم حتى ولو كان ذلك قِبالة النصً ، فعمدوا إلى ذلك ، وتشبَّثوا به ، فصار هذا الخليط الممجوج الهجين سنَّة سارت عليها الجماعات اللاحقة بهم دون أدنى وقفة أو مراجعة لمدى صواب ذلك المنهج الخاطئ والمردود.

(١) انظر : صحيح البخاري ٥ : ٢٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٢|١١٤ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٤٠٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٨|٣٧٢٤ و ٦٤٠|٣٧٣١ ، اُسد الغابة٥ : ٨ ، الرياض النضرة ٣ : ١١٧ ، تاريخ بغداد ٤ : ٢٠٤ ، حلية الاولياء ٧ : ١٩٤ ، ترجمة الامام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ١٢٤.

(٢) أنظر : صحيح البخاري ٥ : ٨٦|١٣١ ، صحيح الترمذي ٥ : ٦٣٥|٣٧١٧ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٢ / ١١٤ ، تأريخ بغداد ٢ : ٢٥٥ ، و ٨ : ٤١٧ و ١٤ : ٤٢٦ ، حلية الاولياء ٤ : ١٨٥ ، الرياض النضرة ٣ : ١٨٩.

(٣) انظر : سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦|٣٧٢١ ، اُسد الغابة ٤ : ٣٠ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٠ ، الرياض النضرة ٣ : ١١٤ ، حلية الاولياء ٦ : ٣٣٩ ، ترجمة الامام علي عليه‌السلام من

١٩١

ومثل : « لأعطين الراية غداَ رجلاً يُحب اللهَ ورسولَهُ ويُحبه الله ورسولُهُ » (١).

ومثل : « إنِّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللهّ ، وعترتي أهل بيتي » (٢).

و « عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي » (٣).

إلى كثير من أمثالها ممَّا لسنا في صدد إحصائه وإثبات أسانيده ، وقد كفانا ذلك موسوعات كتب الامامية ، فقد ألَّف العالم الحبر السيِّد حامد حسين اللكناهوري كتاباً أسماه ( عبقات الأنوار ) يزيد على عشرة مجلَّدات ، كلُّ مجلَّد بقدر صحيح البخاري تقريباً ، أثبت فيها أسانيد تلك الأحاديت من الطرق المعتبرة عند القوم ومداليلها ، وهذا واحد من اُلوف ممَّن سبقه ولحقه.

ثمَّ لمّا ارتحل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الدار إلى دار القرار ، ورأى جمع من الصحابة أنْ لا تكون الخلافة لعلي عليه‌السلام : إمّا لصغر سنِّه!! أو لأنَّ قريشاً كرهت أنْ تجتمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، زعماً منهم أنَّ النبوة والخلافة إليهم يضعونها حيث شاؤوا!! أو لاُمور اُخرى لسنا بصدد البحث عنها ، ولكنَّه باتفاق الفريقين امتنع أوَّلاً عن البيعة ، بل في صحيح البخاري ـ في باب غزوة خيبر : أنَّه لم يُبايع إلاّ بعد ستة أشهر (٤).

__________________

تاريخ دمشق ٢ : ١٠٥ ـ ١٥١ ، تذكز الخواص : ٤٤.

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ : ٦٥ و ٧٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٨|٣٧٢٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٥|١٢١ ، مسند أحمد ٤ : ٥٢ ، سنن البيهقي ٩ : ١٣١ ، التاريخ الكبير للبخاري ٧ : ٢٦٣ ، المصنّف لعبد الرزاق ٥ : ٢٨٧|٩٦٣٧.

(٢) اُنظر : سنن الترمذي ٥ : ٦٦٢|٣٧٨٦ و ٦٦٣|٣٧٨٨ ، مسند أحمد ٣ : ١٧ و ٥ : ١٨١ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ و ١٤٨ ، اُسد الغابة ٢ : ٢ ١.

(٣) اُنظر : تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤ ، ترجمة الامام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٣ : ١١٧|١١٥٩.

(٤) صحيح البخاري ٥ : ١٧٧ ، وانظر كذلك : صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ٥ : ١٥٢ ،

١٩٢

وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة ، كالزبير وعمّار والمقداد وآخرين (١).

ثمَّ لمّا رأى تخلّفه يوجب فتقاً في الاسلام لا يُرتق ، وكسراً لا يُجبر ، وكلُّ أحد يعلم أنَّ علياً ما كان يطلب الخلافة رغبة في الامرة ، ولا حرصاً على المُلك والغلبة والاثَرة ، وحديثه مع ابن عبّاس بذي قار مشهور (٢) ، وإنَّما يريد تقوية الاسلام ، وتوسيع نطاقه ، ومد رواقه ، وإقامة الحقِّ ، وإماتة الباطل.

وحين رأى أنَّ المتخلّفين (٣) ـ أعني الخليفة الأول والثاني ـ بذلا أقصى الجهد في نشركلمة التوحيد ، وتجهيز الجنود ، وتوسيع الفتوح ، ولم يستأثروا ولم يستبدوا ، بايع وسالم ، وأغضى عما يراه حقّاً له ، محافظة على الاسلام أن تتصدّع وحدته ، وتتفرَّق كلمته ، ويعود الناس الى جاهليتهم الأُولى.

__________________

الامامة والسياسة ١ : ١١ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠٢ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٨ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٧ ، الصواعق المحرقة : ١٣.

(١) منهم : أبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، والمقداد بن عمرو ، وعمار بن ياسر ، وفروة بن عمرو ، وخالد بن سعيد بن العاص ، واُبي بن كعب ، والبراء بن عازب ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وخزيمة بن ثابت ، وغيرهم.

راجع : مروج الذهب ٢ : ٣٠١ ، العقد الفريد ٤ : ٢٥٩ ، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٨ ، الكامل في التأريخ ٢ : ٣٢٥ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٠٣ ، تاريخ ابي الفداء ٢ : ٦٣.

(٢) قال عبدالله بن عبّاس : دخلتُ على أمير المؤمنين عليه‌السلام بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال رحمه الله لي : ما قيمة هذهِ النعل؟ فقلت : لا قيمة لها.

فقال عليه‌السلام : « والله لهي أحب إلى من امرتكم إلاّ أنْ اُقيم حقَّاً ، أو أدفع باطلا » ....

انظر : شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده ١ : ٧٦|٣٢.

(٣) صوابها ( المختلّف ) لأنَّ الامر برمته كان في عهد أبي بكر ، ومثل ذلك في المفردات اللاحقة ، فلاحظ.

١٩٣

وبقي شيعته منضوين تحت جناحه ، ومستنيرين بمصباحه (١) ، ولم

__________________

(١) إنَّ إدراك حقيقة الموقف الذي اتخذه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بالتسليم الظاهري لواقع الحال الذي ترتَّب عليه وضع الدولة الاسلامية بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يتأتى إلاّ من خلال التأمل الدقيق لمفردات الواقع الذي عايشته تلك الدولة الفتية والغضة أبان تلك الفترة الحسَّاسة والدقيقة من حياتها ووجودها المقدس.

اقول : إنَّ من الثابت الذي سجله معظم المؤرِّخين لتلك الحقبة الغابرة من التأريخ الاسلامي أن أبا بكر وعمر وجماعة من الصحابة حاولوا قسراً وتهديداً اجبار الامام علي عليه‌السلام على البيعة لابي بكر أوَّل الامر ، والتنازل عن موقفه المبتني على حقِّه الشرعي في خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى بلغ الامر بهم إلى التهديد الصريح باحراق بيته عليه‌السلام ، وحيث كانت فيه بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وثلة من الصحابة الذين أعلنوا رفضهم لما ترتِّب عليه الامر في سقيفة بني ساعدة أثناء غَيبة أهل البيت عليهم‌السلام وانشغالهم بأمر تغسيل وتكفين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالشكل الذي ينبغي ان يكون عليه ، لما يمثله من الوداع الاخير لنبي الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وإلى حقيقة هذه المحاولة الخطيرة التي لجأ اليها هؤلاء الصحابة أشارت بوضوح الكثير الكثير من المصادر والمراجع التاريخية المختلفة المثبتة لوقائع الايام الاولى لما بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( راجع : تاريخ الطبري ، الامامة والسياسة لابن قتيبهّ ، أنساب الاشراف للبلاذري ، تاريخ ابن شحنة ، تاريخ ابي الفداء ، شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي ، كتاب الملل والنحل للشهرستاني ، مروج الذهب ، العقد الفريد ، كتاب أعلام النساء لابن طيفور ، وغيرها ).

وتحضرني اللحظة جملة أبيات شعرية قرأتُها للشاعر حافظ ابراهيم ، تشير بوضوح الى هذا الامر ، يقول فيها :

وقَولَةٍ لِعَليٍ قالها عُمَرُ

أكْرِمْ بِسامِعِها أعْظِمْ بِمُلْقِيها

حَرقْتُ داركً لا اُبقي عَليكَ بِها

إنْ لَم تُبايع ، وَبنتُ المُصطفى فيها!!

ماكانَ غيرُ أبي حَفصٍ بِقاثِلِها

أمامَ فارِسِ عَدنانٍ وَحامِيها!!!.

بيد أن هذه المحاولة الرهيبة ـ والتي تشكّل سابقة خطيرة في التاريخ الاسلامي ، وغيرها من المحاولات السقيمة ـ لم تكن لتؤدي بالنتيجة المرجوة من قِبَل الحكومة الاسلامية آنذاك لولا الحس العميق ، والادراك الدقيق لجملة النتاثج المترتبة على الوقوف المعارض المعلن أمام ذلك الطرف المستهجن في مسيرة الدولة الاسلامية ـ وما سيتلاقى به مع واقع الحال

١٩٤

...................................................

__________________

الذي يحيط بالدولة الفتية من كلُّ جانب ـ لدى الامام علي عليه‌السلام ، وإلى ذلك تشير خطبه وكلماته المليئة بالشكوى والتظلّم.

نعم ، لقد كانت المدينة المنوَّرة وما يحيط بها حلقة حساسة وخطيرة لقربها من مركز الدولة الاسلامية وعاصمتها ، في حين كان يعتاش بين جدرانها والى جوارها من يريد الكيد بها ، والانقضاض عليها ، ومن هؤلاء :

اوّلاً : المنافقون الذين كانوا يشكَلون شريحة لا يستهان بها ، بل وكان خطرهم أكبر واعظم من أنْ يُغض الطرف عنه.

قال تعالى في سورة التوبة الآية ١٠١ : ( وَممَنْ حَولَكُمْ مِنَ الاعراب مُنافِقونَ وَمِنْ أهلِ المَدينةِ مَرَدُوا على النفاقِ لاتعْلَمَهُمْ نَحن نعْلَمَهْمْ سَنُعَذِّبَهُمْ مرتَينْ ثُم يُردُونُ إلى عَذابٍ عَظيم ).

ثانياً : اليهود ، وهم أشد الناس عداوة للاسلام واهله.

ثالثاً : الدول والامبراطوريات التي كَانت ترى في السلام خطراً أكيداً عليها ، كالرومان والاكاسرة والقياصرة.

رابعاً : المراكز المنحرفة والفاسدة التي حتاولت عبثاً ان تجد لها موطأ قدم في أرض الواقع ، يضافي إليها مدعي النبوة ممن وجدوا اعداداً لايستهان بها من الحمقى والمغفلين يؤيدونهم في ترهاتهم ومفاسدهم أمثال : مسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد ، وسجاج بنت الحرث.

وغير ذلك من الاسباب الاُخرى ، والتي أدرك إلامام علي عليه السلام مدى خطرها على الدولة الاسلامية المباركة التي كاد لجهاده وسيفه الفضل الاكبر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في اقامتها وتثبيتها.

وإليك أخي القارئ الكريم شيئاً من كلماته عليه السّلام الموضحة لواقع الحال الذي عايشه عليه السلام ، والذي دفعه لغض النظر عن حقِّه الشرعي ، ومكانه الحقيقي :

قال عليه‌السلام فيما يعرف بالخطبة الشقشقيهّ : « أما والله لقد تقمصها فلان [ وفي بعض المصادر : ابن أبي قحافة ، ولا خلاف في ذلك ، فانَ الحديث لواضح ، والتلميح يغني عن التصريح هنا ] وإنَّه ليعلم أنَّ محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقتُ أرتئي بين أنْ أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى به ، فرأيتُ أنَ الصبر على هاتا أحجى.

فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تُراثي نهباً » .....

١٩٥

يكن للشِّيعة والتشيُع يومئذٍ مجال للظهور ، لأنَّ الاسلام كان يجري على مناهجه القويمة ، حتى إذا تميَّز الحقًّ من الباطل ، وتبيَّن الرشد من الغي ، وامتنع معاوية عن البيعة لعلي عليه‌السلام وحاربه في ( صفِّين ) انضم بقية الصحابة إلى علي عليه‌السلام حتى قتل أكثرهم تحت رايته (١) ، وكان معه من عظماء أصحاب النبي ثمانون رجلاً ، كلّهم بدريَ عقبي : كعمّار بن ياسر ، وخزيمة ذي الشَّهادتين ، وأبي أيوب الأنصاري ، ونظرائهم.

ثمَّ لما قُتل علي عليه‌السلام واستتب الأمر لمعاوية ، وانقضى دور

__________________

وفي احدى خطبه عليه‌السلام يقول : « .... فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فظننتُ بهم على الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرتُ على أخذ الكظم ، وعلى أمَر من طعم العلقم ».

وفى كتابه عليه‌السلام إلى أهل مصر يقول : « ... فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان ليبايعوّنه ، فامسكتُ يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون إلى محق دين محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخشيتُ إنْ لم أنصر الاسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايَتِكُم ».

وقوله عليه‌السلام عند فتنة الجمل : « فوالله ما زلتُ مدفوعاً عن حقِّي ، مُستاثَراً عليَّ منذ قبض الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يوم الناس هذا ».

ويروي هو عليه‌السلام حديثاً له مع بعض الصحابة : « وقد قال قائل : إنََّك على هذا الامر يا بن أبي طالب ـ لحريص!

فقلتُ : بل أنتم والله أحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنَّما طلبتُ حقَّاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه.

فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبَّ كأنَّه بُهِتَ لا يدري ما يجيبني به ».

واخيراً اليك أخي القارئ الكريم دعاء أمير المؤمنين عليه السلام وتظلمه ممَّا وقع عليه من قِبَلِ قريش ، فتأمَّل فيه بروية وامعان : « اللَّهَمَّ إنَي أستعديك على قريشِ ، ومن أعانهم ، فإنَّهم قطعوا رحمي ، وصغَّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ».

(١) منهم : عمّار بن ياسر ، خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، أبو عمرة الانصاري ، ثابت بن عبيد الانصاري ، عبدالله بن بديل الخزاعي ، أبو الهيثم مالك بن التيهان ، هاشم المرقال ، عبدالرحمن بن بديل الخزاعي ، جندب بن زهير الازدي ، سعد بن الحارث الانصاري.

١٩٦

الخلفاء الراشدين ، سار معاوية بسيرة الجبابرة في المسلمين ، واستبد واستأثر عليهم ، وفعل في شريعة الاسلام ما لا مجال لتعداده في هذا المقام ، ولكن باتفاق المسلمين سار بضد سيرة مَنْ تقدمه من الخلفاء ، وتغلَب على الأُمَّة قهراً عليها ، وكانت أحوال أمير المؤمنين عليه‌السلام وأطواره في جميع شؤونه جارية على نواميس الزهد والورع ، وخشونة العيش ، وعدم المخادعة والمداهنة في شيء من أقواله وأفعاله ، وأطوار معاوية كلّها على الضد من ذلك تماماً.

وقضية إعطائه مصر لابن العاص على الغدر والخيانة مشهورة (١) ، وقهر

__________________

(١) روت المصادر التأريخية المختلفة : أنَّ معاوية بن هند لما عزم على الخروج على علي ابن ابي طالب عليه‌السلام ، أرسل الى عمرو بن العاص طالباً منه القدوم إليه من مصر ، فشد إليه الرحال حتى قدم عليه في الشام ، فتذاكرا أمر الخروج على علي عليه‌السلام وقتاله ، فترادا في القول حتى قال معاوية له : ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ، ونُلزمه قتل عثمان.

فقال عمرو : واسوأتاه ، إنَ احقَّ الناس ألاّ يذكر عثمان لا أنا ولا أنت!!

فقال معاوية : ولِمَ ويحك؟

فقال : أما انت فخذلته ـ ومعك أهل الشام ـ حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي ، واما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين!!

فقال معاوية : دعني من هذا ، مُدَّ يدك فبايعني.

قال : لا لعمر الله ، لا اُعطيك ديني حتى آخذ من دنياك!!

فقال معاوية بن هند : لك مصر طعمة.

وهكذا اتفق الفريقان حيث تم لمعاوية ما اراد من شراء دين ابن العاص قبال ثمن زهيد ومتاع قليل ، لم يلبث أنْ خلَّفه من وراءه ليقف أمام محكمة السماء مثقلاً بذنوبه ومعاصيه ، حتى قيل أنه تذكَر ذلك على فراش الموت ـ على ما ترويه كتب التأريخ ـ فقال : ياليتني متُّ قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني ، أثرت دنياي وتركت آخرتي ، عُمِّي عليّ رشدي حتى حضرني أجلي.

أنظر : وقعة صفين : ٣٤ ، تأريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ٢|٦١ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٧٢ ، مختصر تأريخ دمشق ١٩ : ٢٤٤ ، العقد الفريد ٤ : ٩٧ و ٥ : ٩٢ ، عيون الاخبار ١ : ٤٣٨.

١٩٧

الأُمَّة على بيعة يزيد (١) ، واستلحاق زياد أشهر (٢) ، وتوسّعه بالموائد وألوان المطاعم الأنيقة معلوم ، وكلُّ ذلك من أموال الأُمَّة ، وفيء المسلمين الذي كان يصرفه

__________________

(١) وتلك والله وحدها موبقة عظيمة كفيلة بايراد معاوية في أسفل درك الجحيم ، حيث ملَّك رقاب الاُمَّة رجلاً تجمَّعت فيه كلُّ صفات الرذيلة والانحطاط بشكل جلي ، بل وكان من أوضح الناس عداءً لله ولرسوله ، وبغضاً لاهل بيت النبوة عليهم‌السلام ، حتى فعل ما فعل ابان حكمه القصير من الفجائع والنكبات ما ترتعش من هولها السموات والارضين ، كان أعظمها قتل ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وريحانته ، وسيِّد شباب أهل الجنة ، الامام السبط الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام مع اخوانه وأهل بيته وأصحابه ، بل وسبي عياله والطواف بهم في البلدان بشكل تتفطَّر له القلوب ، وتتصدع له الجبال .... فما فعل معاوية بهذه الأُمة وما جنى عليها .... بل وبمن تتعلَّق هذه الجناية العظيمة ، والرزية المهولة؟

ثم هل ينجو معاوية من واقعة الحرة التي فجع فيها ولده اللعين مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستباح فيها الاموال والدماء والاعراض ، وغير ذلك مما لا تحتمله القلوب ولا تصدقه العقول ، بل ووضع سيفه في رقاب المسلمين حتى قتل يومئذ من المهاجرين والانصار وغيرهم من المسلمين أكثر من عشرة آلاف رجل كما تذكر ذلك الكثير من المراجع والمصادر المختلفة ، حتى لقد قيل بانه لم يبق في المدينة بدري بعدها ، ناهيك عمن قُتل من النساء ايضاً والصبيان ... ، بل وروي ايضاً بأنَّ جنده وأزلامه افتضوا في هذه الواقعة ألف عذراء من بنات المهاجرين والانصار ، وأمروا المسلمين بالبيعة لاميرهم اللعين يزيد على أنهم عبيد وخول ، إنْ شاء استرق وإنْ شاء أعتق!!.

نعم ، هذه وغيرها من الموبقات العظيمة التي لا عد لها ولا حصر ، والتي لا تصدر إلاّ عن كافر ، خبيث السريرة ، نتن الطوية ، لعين المرتع.

وأخيراً اقول : ماذا فعل معاوية بهذه الاُمَّة ، وانّى له التنصُّل من تبعات هذه الافعال الثقال التي لحقت بافعاله هو والتي لاتقل عنها فساداً ولا انحرافاً.

(٢) نعم الحقه بدعوى أنَّ ابا سفيان زنى بسمية ـ وكانت من ذوات الرايات ـ وهي على فراش عبيد ، فحملت بزياد ، وذلكُ بشهادة أبي مريم ، المتاجر بالخمور والقيادة ، فهنيئاً للاُمَّة الاسلامية بكذا زعماء لايزال البعض يكنّون لهم الاحترام والتقدير والتقديس ، بعد أنْ حرَّفوا الَّذين ، وضيَّعوا حدوده ، وأباحوا حرماته ، وسفكوا دماء أهله ، وما تركوا شيئاً منكراً إلاّ وفعلوه.

اُنظر : تاريخ الطبري ٥ : ٢١٤ ، الكامل في التأريخ ٣ : ٤٤١ ، مروج الذهب ٣ : ١٩٣ ، العقد الفريد ٥ : ٢٦٧ و ٦ : ١٤٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٤٩٥ ، الاصابة ٣ : ٤٣.

١٩٨

الخليفتان (١) في الكراع والسلاح والجند.

ويحدثنا الوزير أبو سعيد منصور بن الحسين اللآبي المتوفى سنة (٤٢٢) في كتابه ( نثر الدرر ) ما نصَّه :.

قال أحنف بن قيس : دخلتُ على معاوية فقدَّم لي من الحار والبارد ، والحلو والحامض ، ما كثر تعجبي منه ، ثم قدَّم لوناً لم أعرف ما هو : فقلتُ : ما هذا؟

فقال : هذا مصارين البط محشوَّة بالمخ ، قد قلي بدهن الفستق ، وذُرَّ عليه بالطبرزد.

فبكيتُ ، فقال : ما يُبكيك؟

قلت : ذكرتُ علياً ، بينا أنا عنده وحضر وقت الطعام وإفطاره ـ وسألني المقام ـ فجيء له بجراب مختوم ، قلتُ : ما في الجراب؟

قال : سويق شعير.

قلتُ : خفتَ عليه أنْ يُؤخذ أو بخلتَ به؟

قال : لا ولا أحدهما ، ولكن خفتُ أنْ يلته الحسن والحسين بسمن أو زيت.

فقلتُ : محرَّم هو يا أمير المؤمنين؟

فتهال : لا ، ولكن يجب على أئمة الحقِّ أنْ يعتدُوا أنفسهم من ضعفة الناس لئلا يُطغيَ الفقيرَ فقرُهُ.

فقال معاوية : ذكرتَ مَنْ لا يُنكر فضله (٢).

__________________

(١) لعله رحمه الله تعالى يقصد بهما أبا بكر وعمر ، ولكن لم ادرك وجه تخصيصهما بذلك ، فتأمَّل.

(٢) نثر الدر ١ : ٣٠٥.

١٩٩

وتجد في ( ربيع الأبرار ) للزمخشري ونظائره لهذه النادرة نظائر كثيرة (١).

هذا كلّه والناس قريبو عهد بالنبي والخلفاء ، وما كانوا عليه من التجافي عن زخارف الدنيا وشهواتها ، ثم انتهى الأمر به إلى أنْ دسَّ السّم إلى الحسن عليه‌السلام فقتله (٢) ، بعد أنْ نقض كلُّ عهد وشرط عاهد الله عليه له (٣) ، ثم أخذ البيعة لولده يزيد قهراً ، وحاله معلوم عند الأُمَّة يومئذٍ أكثر ممَّا هو معلوم عندنا

__________________

(١) اُنظر : ربيع الابرار ١ : ٩٠ ، ٩٢ ، ٨٠٧ ، ٨٣٥ و ٢ : ٦٩٣ ، ٧٢٠ و ٣ : ٧٧ ، ٨٠ و ٤ : ٢٣٩ و ٢٤٢.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٧٣ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي ١٦ : ٤٩ ، الاستيعاب بهامش الاصابة ١ : ٣٧٥ ، مروج الذهب ٣ : ١٨٢|١٧٦٠.

(٣) قد يكتفي البعض بمقولة معاوية بن هند في مسجد الكوفة من أنَّ كلُّ العهود والمواثيق ـ التي أبرمها وتعهَّد للامام الحسن عليه‌السلام بالوفاء بها ، وأشهد على نفسه في ذلك الشهود ـ تحت قدميه لا يفي منها بشيء ، إلاّ أن استقراء سيرة معاوية وافعاله بعد ذلك الصلح خير شاهد على هذا النقض والتنصل عما عاهد الله تعالى عليه لأن يفي به.

بلى ، فقد عاهد الامام الحسن عليه السلام بأن تكون الخلافة له بعد موته ، واذا توفي الامام الحسن عليه السلام قبله فإنَ الخلافة تكون للامام الحسين عليه السلام بعد هلاك معاوية ، بيد أنَّه ( أي معاوية ) جهد على استحصال البيعة لولده يزيد الفاجر بشتى الوسائل والذرائع بعد وفاة الامام الحسن عليه السلام ، حين كان قد تحايل في التمهيد لاذاعة هذا الامر في حياة الامام الحسن عليه السلام على ما تذكره المراجع المختلفة.

ثم إنَّ معاوية تعهَّد للامام الحسن عليه‌السلام بالكف عن مطاردة شيعته وحقن دمائهم ، لكنه لم يترك وجهاً من أصحاب الامام عليه‌السلام وشيعته إلاّ ونكلَّ به أو قتله.

بل ونقض ما تعهَّد به من رفع السنَّة السيئة التي ابتدعها بسب الامام علي ابن ابي طالب عليه‌السلام على المنابر ، ولكنًه هلك وهلك الذين بعده وهم على هذه الفعلة النكرة دائمون ، حتى نهى عنها عمر بن عبدالعزيز من بعد.

واخيراً فقد تعهَّد بأن يحكم بما في القرآن وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله ، ولكنَّه ... وكما قيل شتان بين مشرق ومغرب.

راجع ما شئت من كتب التأريخ التي تحدَّثت عن هذه الواقعة ، واحكم بما يمليه عليك دينك وعقلك.

٢٠٠