الوافية في أصول الفقه

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني

الوافية في أصول الفقه

المؤلف:

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني


المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١

الاول والثاني : الاحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل ، وهي الواجب والمندوب.

والثالث والرابع : الاقتضائية المطلوب فيها الكف والترك ، وهي الحرام والمكروه.

والخامس : الاحكام التخييرية الدالة على الاباحة.

والسادس : الاحكام الوضعية ، كالحكم على الشيء بأنه سبب لامر ، أو شرطه له أو مانع عنه.

والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ـ مما لا يضر فيما نحن بصدده.

إذا عرفت هذا! فإذا ورد أمر بطلب شيء ، فلا يخلو إما أن يكون مؤقتا ، أو لا.

وعلى الاول : يكون وجوب وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت ، ثابتا بذلك الامر ، فالتمسك حينئذ في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني ـ بالنص ، لا بالثبوت في الزمان الاول ، حتى يكون استصحابا ، وهو ظاهر.

وعلى الثاني : أيضا كذلك ، إن قلنا بإفادة الامر التكرار ، وإلا فذمة المكلف مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان ، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء‌ا في كل جزء منها ، سواء قلنا بأن الامر للفور ، أو لا.

والتوهم بأن الامر إذا كان للفور ، يكون نمن قبيل المؤقت المضيق ، اشتباه غير مخفي على المتأمل.

فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شئ.

ولا يمكن أن يقال : بأن إثبات الحكم في القسم الاول فيما بعد وقته ـ من الاستصحاب ، فإن هذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز إجماعا.

وكذا الكلام في النهي ، بل هو أولى بعدم توهم الاستصحاب فيه ، لان مطلقه لا يفيد التكرار.

٢٠١

والتخييري أيضا كذلك.

فالاحكام (١) الخمسة : ـ المجردة عن الاحكام الوضعية ـ لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب.

وأما الاحكام الوضعية : فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الاحكام الخمسة ـ كالدلوك لوجوب الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والايجاب والقبول لاباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أم الزوجة (٢) ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك ـ فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب ، هل هي على الاطلاق؟ كا في الايجاب والقبول ، فإن سببيته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق مزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معين ، كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم ، فإن السببية في هذه الاشياء على نحو آخر ، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة ، وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فإن ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة.

وكذا الكلام في الشرط والمانع.

فظهر مما مر : أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الاحكام الوضعية ـ أعني : الاسباب ، والشرائط ، والموانع ، للاحكام الخمسة ـ من حيث أنها كذلك (٣) ، ووقوعه في الاحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها ، كما يقال في الماء الكر المتغير بالنجاسة ، إذا زال تغيره من قبل نفسه : بأنه يجب الاجتناب

____________

١ ـ في أ و ط : والاحكام ، وفي ب : فان الاحكام.

٢ ـ في ط : وكذا الايجاب والقبول لتحريم ام الزوجة.

٣ ـ قيد الحيثية لجواز أن يكون حكم من الاحكام الخمسة سببا أو شرطا أو مانع لآخر منها. ( منه رحمه‌الله ).

٢٠٢

عنه (١) في الصلاة ، لوجوبه قبل زوال تغيره ، فإن مرجعه إلى : أن النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره ، فتكون كذلك بعده ، ويقال في المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إن صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ، فكذا بعده ، أي : كان مكلفا ومأمورا بالصلاة بتيممه قبله ، فكذا بعده ، فإن مرجعه إلى : أنه كان متطهرا قبل وجدان الماء ، فكذا بعده ، والطهارة من الشروط.

فالحق ـ مع قطع النظر عن الروايات ـ : عدم حجية الاستصحاب ، لان العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت ، لا يقتضي العلم بل ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت؟! فالذي يقتضيه النظر ، بدون ملاحظة الروايات : أنه إذا علم تحقق العلامة الوضعية ، تعلق الحكم بالمكلف ، وإذا زال ذلك العلم ، بطر وشك ـ بل وظن أيضا (٢) ـ يتوقف عن الحكم بثبوت الحكم الثابت أولا.

إلا أن الظاهر من الأخبار : أنه إذا علم وجود شيء ، فإنه يحكم به ، حتى يعلم زواله.

روى زرارة ، في الصحيح ، عن الباقر عليه‌السلام : « قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة ، والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء.

قلت : فإن حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، ولكن ينقضه بيقين آخر » (٣).

____________

١ ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : منه.

٢ ـ في ط : بطر وظن بل شك أيضا.

٣ ـ التهذيب : ١ / ٨ ح ١١.

٢٠٣

فإن اليقين والشك عام ، أو مطلق ينصرف إلى العموم ، في مثل هذه المواضع ، بل صرح الشارح الرضي رحمه‌الله : بأن الجنس المعرف باللام (١) أو الاضافة للعموم ، وادرجه ابن الحاجب في مختصره (٢) في ألفاظ العموم من غير نقل خلاف فيه ، ثم ذكر ألفاظا أختلف في عمومها.

ومع التنزل عن ذلك ، فالظاهر هنا العموم ، فإنه عليه‌السلام استدل على أن الوضوء اليقيني لا ينقض بشك النوم ، بقوله : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشك » ، ولو كان مراده أن لا ينقض يقين الوضوء أبدا بشك النوم ، كان عينا للمقدمة الأولى ، فقانون الاستدلال يقتضي أن يكون عاما.

وأيضا : فإن حمل المعروف باللام هنا على العهد ، يحتاج إلى قرينة مانعة عن الحمل على الجنس ، وليست متحققة.

قال الرضي ، في أوائل بحث المعرفة والنكرة : « فكل اسم دخله اللام لا يكون فيه علامة كونه بعضا من كل فينظر ذلك الاسم ، فإن لم تكن معه قرينة حالية ولا مقالية دالة على أنه بعض مجهول من كل ـ كقرينة الشراء الدالة على أن المشترى بعض في قولك ( اشتر اللحم ) ، ولا دلالة على أنه بعض معين كما في قوله تعالى : ( أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) (٣) ـ فهي اللام التي جيء بها للتعريف اللفظي ، والاسم المحلى بها لاستغراق الجنس » ثم شرع في الاستدلال على وجوب حمله على الاستغراق ، ثم قال : « فعلى هذا ، قوله عليه‌السلام « الماء طاهر » أي (٤) : كل الماء ، و« النوم حدث » أي : كل النوم ، إذ ليس في الكلام قرينة البعضية ، لا مطلقة ولا معينة ـ ثم ذكر ـ قوله تعالى : ( إِنَّ

__________________

١ ـ شرح الكفاية : ٢ / ١٢٩.

٢ ـ شرح العضد : ١ / ٢١٥ ( لاحظ المتن ).

٣ ـ سور طه / ١٠.

٤ ـ كلمة ( أي ) : ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ.

٢٠٤

الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) (١) أي : كل واحد منهم » (٢).

وقال العلامة التفتازاني في المطول ، في بحث تعريف المسند إليه باللام : « اللفظ إذا دل على الحقيقة باعتبار وجودها في الخارج ، فإما أن يكون لجميع الافراد ، أو لبعضها ، إذ لا واسطة بينهما في الخارج ، فإذا لم يكن للبعضية ، لعدم دليلها ، وجب أن يكون للجميع ، وإلى هذا ينظر صاحب الكشاف ، حيث يطلق لام الجنس على ما يفيد الاستغراق ، كما ذكر في قوله تعالى : « ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) أنه للجنس ، وقال في قوله : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٣) : إن اللام للجنس ، فيتناول كل محسن » (٤).

ولا يخفى : أن قوله « لعدم دليلها » صريح في أن حمل لام الجنس على البعض يحتاج إلى الدليل ، دون حمله على الجميع.

ثم لا يخفى : أن ( اليقين ) و ( الشك ) مما لا يمكن اجتماعهما في وقت واحد ، فالمراد أنه إذا تيقن وجود أمر ، يجب الحكم بوجوده ، إلى أن يتحقق يقين آخر يعارضه.

وصحيحة اخرى لزرارة أيضا ، وفي آخرها : « قلت : فإن ظننت أنه قد أصابه ، ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت : لم ذلك؟ قال : لانك كنت على يقين من طهارتك ، ثم شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ، ولم أدر أين هو ، فأغسله؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها ، حتى تكون على يقين من طهارتك »

__________________

١ ـ المصر / ٢.

٢ ـ شرح الكافية : ٢ / ١٢٩. كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : أي إلا كل واحد منهم.

٣ ـ البقرة / ١٩٥ ، والمائدة / ١٣.

٤ ـ المطول : ٨١.

٢٠٥

تمام الحديث (١).

وههنا أيضا : لا يمكن حمل ( اليقين ) على يقين طهارة الثوب ، و ( الشك ) على الشك في نجاسة الثوب ، بلا معارض أصلا ، لما مر.

وفي الكافي ، في باب السهو في الثلاث والاربع (٢) ، في الصحيح : « عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو ، أم في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين ، قال : يركع ركعتين ـ إلى أن قال ـ : ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين ، فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » (٣).

ودلالته على العموم غير خفية.

وفي التهذيب : « عن بكير ، قال : قال لي أبوعبدالله عليه‌السلام : إذا استيقنت أنك قد توضأت ، فإياك أن تحدث وضوء‌ا أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت » (٤).

وروى عمار في الموثق : « عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : كل شيء طاهر ، حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك » (٥).

وروى عبدالله بن سنان ، في الصحيح : « قال سأل رجل أبا عبدالله عليه‌السلام ، وأنا حاضر : إني اعير الذمي ثوبي ، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير ، فيرده علي ، فأغسله قبل أن اصلي فيه؟ فقال أبوعبدالله عليه

__________________

١ ـ التهذيب : ١ / ٤٢١ ح ١٣٣٥ ، الاستبصار : ١ / ١٨٣ ح ٦٤١.

٢ ـ في النسخ : « باب السهو في الفجر والمغرب والجمعة » وهو سهو.

٣ ـ الكافي : ٣ / ٣٥١ ـ باب السهو في الثلاث والاربع / ح ٣.

٤ ـ التهذيب : ١ / ١٠٢ ح ٢٦٨.

٥ ـ التهذيب : ١ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ح ٨٣٢. لكن فيه : نظيف. بدل : طاهر.

٢٠٦

السلام : صل فيه ، ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إياه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه ، حتى تستيقن أنه نجسه » (١).

وروى ضريس ، في الصحيح : « قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم ، أنأكله؟ فقال : أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام ، فلا تأكل ، وأما ما لم تعلم فكله ، حتى تعلم أنه حرام » (٢).

وروى عبدالله بن سنان ، في الصحيح : « قال : قال أبوعبدالله عليه‌السلام : كل شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبدا ، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (٣).

وروى مسعدة بن صدقة ، في الموثق : « عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال ، حتى تعلم أنه حرام بعينه ، فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته ، وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه ، أو خدع فبيع ، أو قهر ، أو إمرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك.

والاشياء كلها على هذا ، حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة » (٤).

وروي بعدة طرق ، عن الصادق عليه‌السلام : « كل ماء طاهر حتى يستيقن أنه قذر » (٥).

لا يقال : هذه الأخبار الاخيرة إنما تدل على حجية الاستصحاب في

__________________

١ ـ التهذيب : ٢ / ٣٦١ ح ١٤٩٥. لكن فيه : أبي. بدل : رجل.

٢ ـ التهذيب : ٩ / ٧٩ ح ٣٣٦.

٣ ـ الكافي : ٥ / ٣١٣ ـ كتاب المعيشة / باب النوادر / ح ٣٩ ، التهذيب : ٧ / ٢٢٦ ح ٩٨٨ ، و ٩ / ٧٩ ح ٣٣٧.

٤ ـ الكافي : ٥ / ٣١٣ ـ كتاب المعيشة / باب النوادر / ح ٤٠ ، التهذيب ٧ / ٢٢٦ ح ٩٨٩.

٥ ـ المروي في الكافي : ٣ /١ ح ٢ ، ٣ ، والتهذيب : ١ / ٢١٥ ح ٦١٩ هو : « الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر ».

٢٠٧

مواضع مخصوصة ، فلا تدل على حجيته على الاطلاق.

لانا نقول : الحال على ما ذكرت من ورودها (١) في موارد مخصوصة ، إلا أن العقل يحكم من بعض الأخبار الدالة على حجيته مطلقا ، ومن حكم الشارع به (٢) في مواضع مخصوصة كثيرة ـ كحكمه باستصحاب الملك ، وجواز الشهادة به ، حتى يعلم الرافع (٣) ، والبناء على الاستصحاب في بقاء الليل والنهار ، وعدم جواز قسمة تركة الغائب ولو مضى زمان يظن عدم بقائه ، وعدم تزويج زوجاته ، وجواز عتق العبد الآبق من (٤) الكفارة ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ـ بأن الحكم في خصوص هذه المواضع بالبناء على الحالة السابقة ليس لخصوص هذه الموانع ، بل لان اليقين لا يرفعه إلا يقين مثله.

وينبغي أن يعلم : أن للعمل بالاستصحاب شروطا :

الاول : أن لا يكون هناك دليل شرعي آخر ، يوجب انتفاء الحكم الثابت أولا في الوقت الثاني ، وإلا فيتعين العمل بذلك الدليل إجماعا.

الثاني : أن لا يحدث في الوقت الثاني أمر يوجب انتفاء الحكم الاول ، فالعامل بالاستصحاب ينبغي له غاية الملاحظة في هذا الشرط.

مثلا : في مسألة من دخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء في أثناء الصلاة ، ينبغي للقائل بالبناء على تيممه وإتمام الصلاة للاستصحاب ، ملاحظة النص الدال على أن التمكن من استعمال الماء ناقض للتيمم ، هل هو مطلق؟ أو عام؟ بحيث يشمل هذه الصورة؟ أو لا؟ فإن كان الاول ،

__________________

١ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : من أن ورودها.

٢ ـ كلمة ( به ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٣ ـ كذا في أ و ب وط. وفي الاصل : الواقع.

٤ ـ كذا في النسخ. ولعلها تصحيف : عن.

٢٠٨

فلا يجوز العمل بالاستصحاب ، لانه حينئذ يرجع إلى فقد الشرط الاول حقيقة ، وإلا فيصح التمسك به.

وفي مسألة من طلق زوجته المرضعة ، ثم تزوجت بعد العدة بزوج آخر ، وحملت منه ، ولم ينقطع بعد لبنها ، فالحكم بأن اللبن للزوج الاول للاستصحاب ، كما فعله المحقق في الشرائع (١) وغيره ـ يتوقف على ملاحظة ما دل على أن لبن المرأة ، الحاصل (٢) من الذي حملت منه ، هل يشمل هذه الصورة؟ أو لا؟ فعلى الاول لا يصح الاستصحاب ، لانه إما أن يتعين الحكم بالثاني ، أو يصير من قبيل تعادل (٣) الامارتين ، فيحتاج إلى الترجيح ، وعلى الثاني يصح.

الثالث : أن لا يكون هناك استصحاب آخر معارض له ، يوجب نفي الحكم الاول في الثاني.

مثلا : في مسألة الجلد المطروح ، قد استدل جماعة على نجاسته باستصحاب عدم الذبح ، فإن في وقت حياة ذلك الحيوان يصدق عليه أنه غير مذبوح ، ولم يعلم زوال عدم المذبوحية ، لاحتمال الموت حتف أنفه ، فيكون نجسا لان الطهارة حينئذ لا تكون (٤) إلا مع الذبح ، فإن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب طهارة الجلد الثابتة في حال حياته ، إذ لم يعلم زوالها ، لاحتمال الذبح ، وباستصحاب عدم الموت حتف أنفه أو نحوه الثابت أولا ، كعدم المذبوحية.

واستدل بعض آخر على النجاسة : بأن للذبح أسبابا حادثة ، والاصل عدم الحادث ، فيكون نجسا.

وقد عرفت أيضا : أن أصالة العدم أيضا مشروطة بشروط ، منها أن لا يكون

__________________

١ ـ شرائع الاسلام : ٢ / ٢٨٢.

٢ ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ و ب : الحامل.

٣ ـ في ط : تعارض.

٤ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : لا يمكن.

٢٠٩

مثبتا لحكم شرعي ، مع أنه معاض أيضا بأصالة عدم أسباب الموت أيضا.

الرابع : أن يكون الحكم الشرعي المترتب على الامر الوضعي المستصحب ثابتا في الوقت الاول ، إذ ثبوت الحكم في الوقت الثاني ، فرع لثبوت الحكم في الاول ، فإذا لم يثبت في الزمان الاول ، فكيف يمكن إثباته في الزمان الثاني؟!

مثلا : باستصحاب عدم المذبوحية في المسألة المذكورة ، لا يجوز الحكم بالنجاسة ، لان النجاسة لم تكن ثابتة (١) في الوقت الاول ، وهو وقت الحياة (٢).

والسر فيه : أن عدم المذبوحية لازم لامرين : الحياة ، والموت حتف أنفه ، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو هو ، بل ملزومه الثاني ، أعني : الموت ، فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحية العارض للحياة مغاير لعدم المذبوحية العارض للموت حتف أنفه ، والمعلوم ثبوته في الزمان الاول هو الاول ، لا الثاني ، وظاهر أنه غير باق في الوقت الثاني.

ففي الحقيقة : تخرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ، إذ شرطه بقاء الموضوع ، وعدمه هنا معلوم.

وليس مثل المتمسك (٣) بهذا الاستصحاب ، إلا مثل من تمسك على وجود عمرو في الدار في الوقت الثاني ، باستصحاب بقاء الضاحك المتحقق بوجود زيد في الدار في الوقت الاول ، وفساده غني عن البيان.

الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب.

__________________

١ ـ في أ و ط : بثابتة.

٢ ـ كأن نظر من حكم بنجاسة الجلد المطروح على انه غير جائز الاكل لعدم العلم بالتذكية ، وهو حكم بانه ميتة ، وهو يستلزم الحكم بالنجاسة ، وفي صحة هذه المقامات بحث ونظر ، فتأمل. ( منه رحمه‌الله ).

٣ ـ كذا في ب و ط ، وفي الاصل وأ : التمسك.

٢١٠

مثلا : إذا ثبت في الشرع أن الحكم بكون الحيوان ميتة ، يستلزم الحكم بنجاسة المائع القليل الواقع ذلك الحيوان فيه ـ لا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء ، ولا نجاسة الحيوان في مسألة من رمى صيدا فغاب ، ثم وجده (١) في ماء قليل ، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء.

وأنكر بعض الاصحاب ثبوت هذا التلازم ، وحكم بكلا الاصلين : نجاسة الصيد ، وطهارة الماء ، ولكن قد عرفت سابقا أن طهارة الاشياء ليست بالاستصحاب في وقت ، بل بالاصل ، بمعنى : القاعدة المستفادة من الشرع ، وكذا النجاسة قبل ثبوت الرافع الشرعي ، لان الحكم وقع في الأخبار في بيان تطهير (٢) النجس بالغسل ، في الثوب والبدن والاناء ، وإعادة الصلاة قبله ، وهو صريح في بقاء النجاسة إلى حين الغسل ، فيكون بقاء النجاسة إلى حين الغسل مدلولا للاخبار ، فلا يكون بالاستصحاب.

وكذا وقع الامر بإهراق الماء القليل النجس ، والنهي ـ الظاهر في الدوام ـ عن التوضي والشرب من الماء النجس (٣) ، وهو كالصريح في إستمرار النجاسة ، وورد الامر في حق المربية للصبي بغسل قميصها في اليوم مرة (٤) ، وورد (٥) النهي عن الصلاة في الثوب المشترى من النصراني قبل غسله (٦) ، وتعجبه عليه‌السلام في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، حين سأله عن : « الارض والسطح ، يصيبه البول أو ما أشبهه ، هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال : كيف تطهر من غير ماء؟! » (٧) إلى غير ذلك ، مما يدل على بقاء

__________________

١ ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ و ب : وجد.

٢ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : تطهر.

٣ ـ الكافي : ٣ / ١٠ ـ كتاب الطهارة / باب الوضوء من سؤر الدواب والسباع والطير / ح ٦.

٤ ـ التهذيب : ١ / ٢٥٠ ح ٧١٩ ، الفقيه : ١ / ٧٠ ح ١٦١.

٥ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : وورود.

٦ ـ التهذيب : ١ / ٢٦٣ ح ٧٦٦ ، قرب الاسناد : ٩٦.

٧ ـ التهذيب : ١ / ٢٧٣ ح ٨٠٥.

٢١١

النجاسة.

وإذا كان بقاء النجاسة إلى حين المطهّر الشرعي منصوصا من الروايات ، فكيف يمكن القول بأنه بالاستصحاب (١)؟! ففي بعض الامثلة المذكورة : وفي شرائط الاستصحاب قد انضم إليه أمر آخر من الادلة ، وهو الاصل ، بمعنى : القاعدة : فالامثلة للتوضيح.

وقد يمكن اشتراط شروط اخر غير ما ذكرنا ، لكن الجميع في الحقيقة يرجع إلى انتفاء المعارض وعدم العلم والظن بالانتفاء.

قال المدقق الاسترآبادي في الفوائد المكية (٢) ، بعد إيراد الأخبار الدالة على الاستصحاب المذكور (٣) : « لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل باستصحاب أحكام الله تعالى ، كما ذهب اليه المفيد والعلامة من أصحابنا ، والشافعية قاطبة ، وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية ، بعدم جواز العمل به ، لانا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية (٤) :

تارة بما ملخصه : أن صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق ، راجعة إلى : أنه : إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته ، نجريه (٥) في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة ، وحدوث نقيضها فيه ، ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد ، اختلف موضوع المسألتين ، فالذي سموه استصحابا ، راجع

__________________

١ ـ زاد في أ في هذا الموضع : قد انضم اليه.

٢ ـ هذا الكتاب جزء من التراث المفقود في العصر الحاضر ، وقد ذكره العلامة المجلسي في عداد مصادر كتابه : بحار الانوار : ١ / ٢٠.

٣ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : المذكورة.

٤ ـ لاحظ ذلك في بحث الاستصحاب من الفوائد المدنية : ص ١٦ ، ١٧ ، ١٤١ وما بعدها ، وفي بحث البراء‌ة الاصلية منه ص ١٣٧.

٥ ـ كذا في أ ، وفي الاصل و ب : بجريه ، وفي ط : تجريه.

٢١٢

بالحقيقة إلى إسراء حكم إلى موضوع آخر ، يتحد معه بالذات ويغايره بالقيد والصفات ، ومن المعلوم عند الحكيم ، أن هذا المعنى غير معتبر شرعا ، وأن القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة : بأن استصحاب الحكم الشرعي ، وكذ الاصل ، أي : الحالة التي إذا خلي الشيء ونفسه كان عليها ، إنما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محال النزاع.

بيان ذلك : أنه تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام ، بأن كل ما يحتاج اليه الامة إلى يوم القيامة ، ورد فيه خطاب وحكم ، حتى أرش الخدش ، وكثير مما ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم‌السلام (١) ، فعلم أنه ورد في محال (٢) النزاع أحكام نحن لا نعلمها بعينها ، وتواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بحصر المسائل في ثلاث : بين رشده ، وبين غيه ، أي : مقطوع به لا ريب فيه ، وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب (٣) التوقف في الثالث » (٤) انتهى كلامه بألفاظه.

ولا يخفى عليك ضعف هذين الجوابين : أما الاول : فلانه ظاهر أن مورد الروايات بعدم نقض الشك لليقين ، إنما هو إذا تغير وصف الموضوع ، بأن يعرض له أمر يجوز العقل رفعه به ، كالخفقة والخفقتين للوضوء ، وظن إصابة النجاسة لطهارة الثوب في لبس الذمي الثوب ، ونحو ذلك ، فإن سلم تبدل وصف الموضوع في هذه المواضع ، تكون الأخبار المذكورة حجة عليه ، وإلا فنحن لا نتمسك بالاستصحاب ، إلا فيما علم وجود أمر في وقت ، وتجدد في وقت آخر أمر يجوز العقل أن يكون رافعا

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٢٣٨ ـ ٢٤٢ ـ كتاب الحجة / باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة (ع).

٢ ـ في أ : محل.

٣ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : فبوجوب.

٤ ـ كما في مقبولة عمر بن حنظلة : الكافي : ١ / ٦٨ ح ١٠.

٢١٣

للاول ، لا فيما ترتب حكم على أمر موصوف بصفة ، بحيث يكون الحكم مترتبا على المركب من الموصوف والصفة جميعا ، ثم زالت الصفة في الوقت الثاني ، فإنا لا نحكم ببقاء ذلك الحكم في الوقت الثاني ، وهو ظاهر.

وأما الثاني : فلانا لا نسلم أنه دخل في الشبهة ، بل هو داخل في ال‍ ( بين رشده ) ، لان الأخبار ناطقة بأن الحكم السابق باق إلى أن يعلم زواله ، ولا يزول بسبب الشك. وهذا أظهر.

وقال هذا الفاضل في الفوائد المدنية ، في أغلاط المتأخرين من الفقهاء ـ بزعمه ـ : « من جملتها : أن كثيرا منهم ، زعموا أن قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشك أبدا ، وإنما تنقضه بيقين آخر » جار في نفس أحكامه تعالى (١) ، ومن جملتها : أن بعضهم توهم أن قوله عليه‌السلام : « كل شيء طاهر ، حتى تستيقن أنه قذر » يعم صورة الجهل بحكم الله تعالى ، فإذا لم نعلم أن نطفة الغنم طاهرة أو نجسة ، نحكم بطهارتها ، ومن المعلوم أن مرادهم عليهم‌السلام ، أن كل صنف فيه طاهر وفيه نجس ، كالدم والبول واللحم والماء واللبن والجبن ، مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة ، فهو طاهر ، حتى تعلم أنه نجس ، وكذلك كل صنف فيه حلال وحرام ، مما لم يميز الشارع بين فرديه بعلامة ، فهو لك حلال ، حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه » انتهى كلامه (٢).

__________________

١ ـ قال المحدّث البحراني في معرض رده على ما افاده الأمين الاسترآبادي من بطلان القول بالاستصحاب : « السادس : قوله ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس‌سره إلى جواز العمل بالاستصحاب إلى آخره فان فيه : انه وان كرر ذلك في غير موضع من هذا الكتاب ـ يعني به الفوائد المدنية ـ وشنع به على من عمل به من الاصحاب إلا أنه وقع فيما شنع به ، ومن عاب استعاب ، كما وقفت عليه من كلامه في حاشية [ حاشيته ظ ] على شرح المدارك وإن تستر ببعض التمويهات والتشبيهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وقد نقلنا كلامه المشار اليه في درة الاستصحاب ، فارجع اليه يظهر لك ما فيه من العجب العجاب والله الهادي إلى جادة الصواب ». الدرر النجفية : ٩٢ ، ولاحظ : درة الاستصحاب في ص ٧٣ منه.

٢ ـ الفوائد المدنية : ١٤٨.

٢١٤

ولا يخفى عليك ما في كلامه ، فإن قوله عليه‌السلام : « كل شيء طاهر حتى تستيقن أنه قذر » عام شامل ، لما إذا كان الجهل بوصول النجاسة ، أو بأنه في الشرع هل هو طاهر؟ أو نجس؟.

مع أن الاول يستلزم الثاني للجاهل ، فإن المسلم إذا أعار ثوبه للذمي الذي يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، ثم رده عليه ، فهو جاهل بأن مثل هذا الثوب الذي هو مظنة النجاسة ، هل هو مما يجب التنزه عنه في الصلاة ، وغيرها مما يشترط بالطهارة؟ أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي ، مع أنه عليه‌السلام قرر في الجواب قاعدة كلية ، بأن ما لم تعلم نجاسته ، فهو طاهر ، والفرق بين الجهل بحكم الله تعالى إذا كان تابعا للجهل بوصول النجاسة ، وبينه إذا لم يكن كذلك ، كالجهل بنجاسة نطفة الغنم ، مما لا يمكن إقامة دليل عليه.

وأيضا : قد عرفت مما مر في القسم الثالث ، أن الطهارة في جميع ما لم يظهر مخرج عنها ـ قاعدة مستفادة من الشرع.

وأيضا : فرقه بين نطفة الغنم ، وبين البول والدم واللحم وغيرها ، تحكم ظاهر ، فإن النطفة أيضا منها طاهرة ، كنطفة غير ذي النفس ، ومنها نجسة.

ومن العجب حكمه بالطهارة فيما إذا وقع الشك في بول الفرس هل هو طاهر؟ أو نجس؟ وحكمه بنجاسة نطفة الغنم عند الشك!.

وكذا الكلام في الحلال والحرام.

فإن قلت : قوله عليه‌السلام : « كل شيء طاهر ، حتى تستيقن أنه قذر » ظاهر في جوانب البناء في جميع الاشياء على الطهارة ، حتى يعلم بالنجاسة ، من غير فحص عن (١) المعارض ، مع أن البناء على أصل الطهارة في نفس الاحكام (٢) من المسائل الاجتهادية ، التي يحتاج ترجيحها إلى الفحص عن عدم المعارض.

__________________

١ ـ كلمة ( عن ) : اضافة من ب.

٢ ـ في أ و ط : الحكم.

٢١٥

وأيضا : على هذا يلزم معذورية من صلى مع البول مثلا ، عالما بأنه بول غير المأكول ، إذا جهل نجاسة البول.

فيجب أن يكون المراد من الحديث معذورية الجاهل بإصابة النجاسة لثوبه أو بدنه أو نحو ذلك ، لا معذورية الجاهل مطلقا.

قلت :

أولا : بإمكان التزام معذورية الجاهل بالنجاسة مطلقا ، من غير فحص لهذه الروايات.

وثانيا : بالتزام معذورية الجاهل بالنجاسة مطلقا ، إذا كان غافلا عن الحكم بالكلية ، وعدم معذورية من سمع الحكم مثل نجاسة البول ، وإن لم يصدق به ، بل حينئذ يلزمه التفحص حتى يظهر عليه الحكم الواقعي ، ولو بعدم الاطلاع على النجاسة بعد الفحص ، فإن مقتضاه الحكم بالطهارة.

وثالثا : بأن ظاهر هذا الحديث ، وإن اقتضى عدم وجوب الفحص مطلقا ، إلا أنه مخصص بما دل على لزوم الفحص عن المعارض ، في حق المجتهد في نفس الحكم ، حتى يجوز له الحكم بالطهارة.

ورابعا : بالتزام لزوم الفحص ، سواء جهل بأصل النجاسة ، أو بإصابتها ، إذا كان موجبا للجهل بحكم الله ، لانه من قبيل الاجتهاد ، فمن علم أن ظن النجاسة لا اعتبار به شرعا ، لا يلزمه الفحص عن ثوبه ، هل أصابته النجاسة؟ أو لا؟ وقد دل عليه بعض الروايات ، ومن لم يعلم ذلك ، وظن نجاسة ثوبه ، لا يبعد أن يقال : إنه يلزمه السؤال إن كان عاميا ، والفحص عن أنه هل ورد الشرع باجتناب مثل ذلك؟ أو لا؟ إن كان مجتهدا.

واعلم : أن الشهيد الاول قال في قواعده : « البناء على الاصل ، وهو استصحاب ما سبق ، أربعة أقسام :

أحدها : استصحاب النفي في الحكم الشرعي ، إلى أن يرد دليل ، وهو المعبر عنه بالبراء‌ة الاصلية.

٢١٦

وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصص ، وحكم النص إلى ورود ناسخ ، وهو إنما يتم بعد استقصاء البحث عن المخصص والناسخ.

وثالثها : استصحاب حكم ثبت شرعا ـ كالملك عند ورود سببه (١) ، وشغل الذمة عند إتلاف مال أو التزام ـ إلى أن يثبت (٢) رافعه.

ورابعها : استصحاب حكم الاجماع في مواضع النزاع ، كما نقول : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ، للاجماع على أنه متطهر قبل هذا الخارج ، فيستصحب ، إذ الاصل في كل متحقق دوامه ، حتى يثبت معارض ، والاصل عدمه » (٣).

ومثله قال الشهيد الثاني في كتاب تمهيد القواعد (٤).

ولا يخفى عليك الحال في القسم الاول ، فإنه قد مر مفصلا.

وعرفت أيضا أن الثاني ليس من الاستصحاب.

وأما الثالث : فهو من الاستصحاب ، ولكن الفائدة في قوله : « استصحاب حكم ثبت شرعا » وتقييد الثبوت بالشرع ، غير ظاهرة ، لعموم أدلة الاستصحاب على ما مر ، فتأمل.

وأما الرابع : فيجري فيه ما يجري في الثاني ، من خروجه عن الاستصحاب إن كان المجمع عليه الثبوت مطلقا ، وإلا فلا يجوز الاستصحاب.

وما قد يستدل في بعض المسائل ، بأن هذا الحكم ثابت بالاجماع ، والاجماع إنما هو إلى هذا الوقت الخاص ، فلا دليل عليه فيما بعده ، فلم يكن

__________________

١ ـ في ط : عند ثبوت سببه. وفي المصدر : عند وجود سببه.

٢ ـ كذا في أ و ط والمصدر. وفي الاصل و ب : ثبت.

٣ ـ القواعد والفوائد : ١ / ١٣٢ ـ ١٣٣ / القاعدة الثالثة.

٤ ـ تمهيد القواعد : ٣٧ / المقصد الخامس / قاعدة : استصحاب الحال حجة ... إلى آخره.

٢١٧

الحكم فيما بعده ثابتا ـ فهو (١) غير منقح ، فإنه يجب التفتيش عن متن الحكم المجمع عليه ، هل هو محدود إلى وقت؟ أو حال؟ أو هو مطلق غير محدود؟ فإن كان الاول ، فالاستدلال صحيح ، وإلا فلا ، ولا يجدي (٢) تحقق الخلاف في وقت ، إذا كان متن الاجماع غير محدود ، لانه يصير حجة على المخالف.

ثم اعلم : أن حجية الاستصحاب والعمل به ، ليس مذهبا للمفيد والعلامة فقط من أصحابنا ، بل الظاهر أنه مذهب الاكثر ، فإن من تتبع كتب الفروع ، سيما في أبواب العقود (٣) والايقاعات ، يظهر عليه أن مدارهم في الاغلب على الاستصحاب.

يشهد بذلك شرح الشرائع للشهيد الثاني رحمه‌الله (٤).

وقد صرح الشهيد الاول في قواعده باختياره في مواضع ، منها في قاعدة اليقين (٥).

ونسب الشهيد الثاني اختياره في تمهيد القواعد إلى أكثر المحققين ، حيث قال : « قاعدة : استصحاب الحال حجة عند أكثر المحققين ، وقد يعبر عنه بأن الاصل في كل حادث تقديره في أقرب زمان ، وبأن الاصل بقاء ما كان على ما كان » (٦).

القسم السابع :

التلازم بين الحكمين ، فإنه إذا ثبت تلازم حكمين ، وتحقق أحدهما ،

__________________

١ ـ كذا في أ وط. وفي الاصل و ب : فانه.

٢ ـ في ط : وإلا فلا يجدي ... إلى آخره.

٣ ـ في أ : كتب الفروع سيما في العقود ، وفي ط : كتب الفروع وفي أبواب العقود.

٤ ـ المسالك : ١ / ٦ ـ كتاب الطهارة / احكام الوضوء / في شرح قوله : « أو تيقنهما ».

٥ ـ القواعد والفوائد : ١ / ١٣٢ ـ ١٤١ / القاعدة الثالثة : قاعدة اليقين.

٦ ـ تمهيد القواعد : ٣٧.

٢١٨

فإنه يدل على تحقق الحكم الآخر.

والتلازم قد يكون مستفادا من الشرع ، كتلازم القصر في الصلاة والافطار في الصوم في السفر ، المستفاد من قوله عليه‌السلام : « اذا قصرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت » (١).

وقد يكون مستفادا من حكم العقل ، كما يقال : إن الامر بالشيء في وقت معين لا يزيد عليه ، يستلزم عدم الامر بضده في ذلك الوقت بعينه وإلا لزم التكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح عقلا ، مع قطع النظر عن كونه منصوصا أيضا.

وهذا القسم مما يتوقف (٢) حكم العقل فيه على ورود الخطاب الشرعي ويندرج فيه امور بحسب الظاهر ، فنحن نذكرها ، ونبين ما هو الحق في كل منها.

الاول : مقدمة الواجب :

وقد وقع الخلاف في أن وجوب الشيء هل يستلزم وجوب مقدمته؟ أي : ما يتوقف عليه ذلك الشيء ، أو لا؟ فقيل : بالتلازم مطلقا.

وقيل : لا ، مطلقا.

وقيل : به إذا كانت المقدمة سببا لا غير.

وقيل : به إذا كانت شرطا شرعيا لا غير.

والاول : مذهب أكثر القدماء والمحققين (٣) ، ولكن أدلتهم المنقولة مما لا

____________

١ ـ الفقيه : ١ / ٤٣٧ ح ١٢٦٩.

٢ ـ وضع ناسخ الاصل كلمة ( لا ) في الهامش ووضع عليها الرمز ( ظ ). اشارة إلى استظهار ان الصواب في العبارة هو : مما لا يتوقف. ولكن هذا الاستظهار كما ترى.

٣ ـ فقد قال السيد المرتضى : « اعلم أن كل من تكلم في هذا الباب اطلق القول بأن الامر بالشيء

٢١٩

يمكن التعويل عليها ، لضعفها ، كما يقال : على تقدير عدم وجوب المقدمة ، يكون تركها جائزا ، فإذا تركت : فإن بقي التكليف بذي المقدمة حينئذ ، كان تكليفا بما لا يطاق ، وإلا فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، وهو محال (١) ، وهذا الدليل عمدة أدلتهم ، وعليه يدور أكثر أدلتهم.

والجواب : أن هذا الواجب لا يخلو : إما أن يكون مؤقتا؟ أم لا؟ وعلى الاول : فإن تضيق الوقت ، بحيث لو أتى بالمقدمة ، لا يمكن الاتيان بذي المقدمة إلا فيما بعد وقته ، كالحج في المحرم مثلا ، فنختار عدم بقاء التكليف.

قوله : « يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ».

قلنا : نعم ، يلزم أن لا يكون الواجب المؤقت واجبا بعد وقته ، ولا فساد فيه ، فإن الحج مثلا في غير ذي الحجة ليس واجبا.

فإن قلت : نحن نقول : من استطاع الحج (٢) ، وترك المشي إليه بغير عذر ، وطلع عليه هلال ذي الحجة ، وهو في بلدة بعيدة لا يمكنه إدراك الحج في هذه السنة ـ إن وجب عليه الحج في هذه السنة ، يلزم تكليفه بالمحال عادة ، وإلا يلزم خروج الواجب في وقته عن الوجوب.

قلت : لما كان وقوع الحج في هذه السنة في وقته محالا ، عادة ، فالتكليف به حينئذ ينصرف (٣) إلى التكليف بإيقاعه فميا بعد وقته ، فنختار عدم بقاء التكليف حينئذ ، وليس إلا خروج الواجب بعد وقته عن الوجوب ، ولا استحالة فيه ، بل يتحقق (٤) الاثم حينئذ.

__________________

ـ هو بعينه أمر بما لا يتم ذلك الشيء إلا به » : الذريعة : ١ / ٨٣ ، وممن صرح بالوجوب الغزالي : المستصفى : ١ / ٧١ ، والرازي : المحصول : ١ / ٢٨٩.

١ ـ حكى هذا الدليل المحقق الشيخ حسن ثم رده : معالم الدين : ٦٢.

٢ ـ كذا في ب وط. وفي الاصل : إلى الحج. وفي أ : للحج.

٣ ـ في ط : يؤول.

٤ ـ كذا في أ و ب ، وفي الاصل و ط : تحقق.

٢٢٠