عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني
المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١
فلا يرد علينا شيء إلا وعندنا فيه شيء مسطهر (١) ، وذلك مما أنعم الله به علينا بكم ، ثم يرد علينا الشيء الصغير ، ليس عندنا فيه شيء ، فينظر بعضنا إلى بعض ، وعندنا ما يشبهه ، فنقيس على أحسنه؟ فقال : وما لكم وللقياس ، إنما هلك من هلك قبلكم ـ بالقياس ، ثم قال : إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإن جاءكم ما لا تعلمون فها ـ وأهوى بيده إلى فيه ـ » الحديث (٢).
وفيه تقرير منه عليهالسلام في العمل والفتوى بالكتاب ، مع أنه غالبا يكون من قبيل أخبار الآحاد.
ومنها : ما رواه في الصحيح ، عن عبدالله بن أبي يعفور « قال : سألت أبا عبدالله عليهالسلام ، عن اختلاف الحديث ، يرويه من نثق به ، ومنهم من لا نثق به؟ قال : إذا ورد عليكم حديث ، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ، أو من قول رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإلا فالذي جاءكم به أولى به » (٣).
وظاهر : أن السائل سأل عن أخبار الآحاد ، إذ لا دخل للوثوق بالراوي (٤) ، وعدمه في القطعي من الاخبار.
ونحوها : الأخبار الواردة في حكم اختلاف الأخبار (٥) ، كما سيجيء في آخر الكتاب إن شاء الله ، وهي تدل على حجية خبر الواحد ، بشرط اعتضاده بالقرآن ، أو سنة الرسول (٦).
__________________
١ ـ ورد في هامش الكافي ما يلي : « في بعض النسخ : مسطور ، وفي بعضها : مستطر ».
٢ ـ الكافي : ١ / ٥٧ ـ كتاب فضل العلم / باب البدع والرأي والمقائيس / ح ١٣. ومثله ما رواه البرقي باسناده عن محمد بن حكيم : المحاسن : ٢١٣.
٣ ـ الكافي : ١ / ٦٩ ـ كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب / ح ٢.
٤ ـ كذا في أ و ب ، وفي الاصل : للموثق بالراوي ، وفي ط : بالوثوق للراوي.
٥ ـ الكافي : ١ / ٦٢ ـ كتاب فضل العلم / باب اختلاف الحديث / ح ٧ ، ٨ ، ٩ ، وغيرها.
٦ ـ لا يقال : اشتراط اعتضاده بالقرآن والسنة يدل على عدم حجية خبر الواحد. لانا نقول : شهادة القرآن والسنة لا توجب انتهاءه إلى حد القطع ، فاجماله (ع) يدل على حجية الخبر المظنون المعتضد بالقرآن او السنة ، فتأمل جدا ( منه رحمهالله ).
ونحوها : ما رواه في الموثق بعبد الله بن بكير ، عن رجل عن أبي جعفر عليهالسلام ـ إلى أن قال ـ : « وإذا جاءكم عنا حديث ، فوجدتم عليه شاهدا ، أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، وإلا فقفوا عنده ، ثم ردوه إلينا ، حتى يستبين لكم » (١).
ومنها : الروايات الواردة في الامر بإبلاغ الحديث إلى الناس ، مثل ما رواه في الصحيح « عن خيثمة ، قال : قال لي أبوجعفر عليهالسلام : أبلغ شيعتنا أنه لن ينال ما عند الله إلا بعمل ، وأبلغ شيعتنا أن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ، ثم يخالفه إلى غيره » (٢).
إذ لا شك في علمهم عليهمالسلام بعدم انتهائها إلى حد القطع.
وقد يحتج على هذا المطلب بالآيات :
كقوله تعالى : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٣).
حيث يدل على وجوب الحذر ، بإنذار الطائفة من الفرقة ، وهي تصدق على واحد ـ ك ( الفرقة ) على الثلاثة ـ فيفيد وجوب اتباع قول الواحد ، وهو المطلوب.
وقوله تعالى : ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (٤).
حيث يدل بمفهومه (٥) على انتفاء التبين والتثبت عند خبر العدل ، فإما : الرد ، أو : القبول (٦) ، والاول : يوجب كون العدل أسوء حالا من الفاسق ، وهو
__________________
١ ـ الكافي ٢ / ٢٢٢ ـ كتاب الايمان والكفر / باب الكتمان / ح ٤.
٢ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٠ ـ كتاب الايمان والكفر / باب من وصف عدلا وعمل بغيره / ح ٥.
٣ ـ المستصفى : ١ / ١٥٢ ، والآية من سورة التوبة / ١٢٢.
٤ ـ المحصول : ٢ / ١٧٨ ، والآية من سورة : الحجرات / ٦.
٥ ـ في أ : يدل المفهوم ، وفي ط : دل المفهوم.
٦ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : فاما الرد أو لا أو القبول.
باطل ، فيكون الحق : هو الثاني ، وهو المطلوب (١).
والاولى : ترك الاستدلال بهذه الآيات ، فإنه :
يرد على الاستدلال بالاولى :
أن المتبادر (٢) من ( الطائفة ) الزيادة على الاثنين ، فالظاهر أن المراد ب ( الفرقة ) ممن ذكره الله تعالى ـ أهل كل حشم حشم ، وقرية قرية.
وأيضا : ـ على تقدير خروج واحد من كل ثلاثة ـ فالظاهر حينئذ : بلوغ المخبرين عدد التواتر ، لان الغالب في الاحشام والقرى ، الكثرة العظيمة ، ويندر توطن ثلاثة أنفس من الرجال والنساء والصبيان في موضع ، لا يكون لهم رابع بل عاشر.
وأيضا : يحتمل كون الانذار بطريق الفتوى بمعنى الروايات (٣) ، ولا نزاع لاحد في قبوله ، ويسمونه فتوى المجتهد.
وأيضا : إطلاق الانذار على نقل روايات الاحكام الشرعية ، غير متعارف ، فيحتمل كون المراد التخويف على ترك أو فعل ما ثبت بطريق القطع ، وهذا مما تتأثر النفس بسماعه ، ويحصل به للنفس خوف ، يوجب اهتمامه بالواجبات وترك المحرمات ، وإن لم يكن خبر الواحد حجة.
وأيضا : يحتمل أن يقال : إن خبر الواحد المشتمل على الانذار حجة ، لقضاء العقل بمثل هذه الاحتياطات دون غيره ، والاجماع على عدم الفصل ، غير معلوم.
وأيضا : يحتمل أن يكون ضمير ( ليتفقهوا ) راجعا إلى الباقي من الفرقة مع العالم ، دون من نفر منهم.
وغير ذلك من الاعتراضات.
__________________
١ ـ المحصول : ٢ / ١٧٩ ـ ١٨٠.
٢ ـ في أ و ط : التبادر.
٣ ـ في ط : لا بمعنى الروايات.
وعلى الآية الثانية :
بأنه استدلال بمفهوم الصفة على أصل علمي ، وحاله معلوم (١).
وأيضا : الآية واردة في شخص خاص ، وذكر ( فاسق ) إنما هو (٢) لاعلام الصحابة بفسق ذلك الشخص الخاص ، وتبيين حاله ، لا لانتفاء هذا الحكم عند انتفاء هذا الوصف.
احتج المنكرون : بأن العمل بخبر الواحد ، اتباع الظن ، وقول على الله بغير علم ، وهو غير جائز (٣).
أما الصغرى : فلان خبر الواحد لا يفيد العلم ، وأيضا : النزاع إنما هو فيما لا يفيده ، وإنما غايته أن يفيد الظن.
وأما الكبرى : فللآيات الكثيرة :
كقوله تعالى في مقام الذم : ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٤).
وقوله تعالى : ( إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) (٥).
وقوله تعالى : ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ) (٦).
ونحو ذلك.
وقوله تعالى في الآيات الكثيرة : ( وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (٧).
__________________
١ ـ المنتهى : ٧٥ ، لكن الفخر الرازي قرب الاستدلال بها بمفهوم الشرط : المحصول ١ / ١٧٩ ـ ١٨٠.
٢ ـ في ط : إما انه.
٣ ـ عدة الاصول : ١ / ٤٤ ، الذريعة : ٢ / ٥٢٣ ، المستصفى : ١ / ١٥٤ ، المحصول : ٢ / ١٩٢. المنتهى : ٧٦.
٤ ـ النجم / ٢٨.
٥ ـ الجاثية / ٢٤.
٦ ـ يونس / ٣٦.
٧ ـ البقرة / ١٦٩ وكذا : الاعراف / ٣٣.
وقوله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (١).
والجواب :
أولا : منع الصغرى :
فإن اتباع الظن : هو أن يكون مناط العمل هو الظن من حيث هو هو ، وههنا ليس كذلك ، وإنما مناط العمل هو كلام اصحاب العصمة المنقول عنهم ، وأخبار مهابط الوحي الالهي ، صلوات الله عليهم ، بشرط عدم المخالفة للكتاب والسنة ، وعدم المعارضة ، ونحو ذلك ، على ما سيأتي إن شاء الله ، سواء أفاد الظن أو لا.
وعلى تقدير القول باشتراط جواز العمل به بإفادته الظن ـ أيضا لا يلزم كون مناط العمل هو الظن ، بل هو الخبر الخاص المشترط بالظن ، ولهذا لو حصل الظن بحكم شرعي ، لا من دليل شرعي ، لا يجوز العمل به إتفاقا منا ، بل ومن غيرنا أيضا ، فعلم الفرق بين اتباع الظن ، واتباع الخبر الخاص بشرط الظن ، فلا تغفل.
وأيضا : فإن العمل بخبر الواحد ، إنما هو اتباع للدليل (٢) القطعي ، الدال على حجية خبر الواحد ، فهو اتباع للقطع.
وثانيا : بمنع الكبرى :
فإن سياق الآيات يقتضي اختصاصها باصول الدين.
وأيضا : فإن المطلق يقيد ، والعام يخص ، إذا وجد الدليل ، ونحن قد دللنا على حجية خبر الواحد.
* * *
__________________
١ ـ الاسراء / ٣٦.
٢ ـ في أ و ط : الدليل.
البحث الثالث :
للعمل بخبر الواحد في هذا الزمان شرائط ، يجمعها :
وجود الخبر في الكتب المعتمدة للشيعة ، كالكافي ، والفقيه ، والتهذيب ، ونحوها.
مع عمل جمع منهم به ، من غير رد ظاهر.
ولا معارضة لما هو أقوى منه.
سواء كان الراوي عدلا أم لا ، وسواء كانت الرواية مسندة صحيحة ، أو حسنة ، أو موثقة ، أو ضعيفة ـ بحسب الاصطلاح ـ أو مرسلة ، أو مرفوعة ، أو موقوفة ، أو منقطعة ، أو معضلة (١) ، أو معنعنة ، أو منكرة (٢) أو معللة ، أو مضطربة ، أو مدرجة ، أو معلقة ، أو مشهورة ، أو غريبة ، أو عزيزة ، أو مسلسلة ، أو مقطوعة ، إلى غير ذلك من الاصطلاحات.
والقوة : تكون باعتبار العدالة ، والورع ، والشهرة ، وعمل الاكثر ، ونحو ذلك ، مما سيجيء التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
البحث الرابع :
تعرف عدالة الراوي ، في هذا الزمان وما ضاهاه ، وكذا أعدليته ، وورعه ، وأورعيته ـ بتزكية العدل المشهور ، وقد انحصر المزكي والجارح في : الشيخ الطوسي ، والكشي ، والنجاشي ، وابن الغضائري ، وابن طاووس ،
__________________
١ ـ في ط : منفصلة.
٢ ـ في ط : مكررة.
والعلامة ، ومحمد ابن شهر آشوب ، وابن داود ، وربما توجد التزكية والجرح لغيرهم أيضا في كتب الحديث ، ك : الفقيه ، والكافي ، وغيرهما.
والظاهر : الاكتفاء بالواحد في الجرح والتعديل ، ولو لم يذكر السبب ، وإلا لم يوجد خبر صحيح بالاصطلاح المشهور ، وسيجيء فيه مزيد تحقيق.
ومع تعارض الجرح والتعديل : فقد قيل (١) : بتقديم الجرح ، لانه به يحصل الجمع بينهما.
والظاهر : الترجيح بالقرائن ، إن أمكن ، وإلا فالتوقف.
وبقي هنا مباحث اخر ، تركناها لقلة فائدتها ، كمباحث المطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ ، ومباحث المنطوق والمفهوم سيجيء ما يعتد به منها إن شاء الله تعالى.
* * *
__________________
١ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : فقيل.
الباب الرابع
في الادلة العقلية
وتحقيق ما يعتمد عليه منها وما لا يعتمد عليه
وهي أقسام :
الاول : ما يستقل بحكمه العقل ، كوجوب قضاء الدين ، ورد الوديعة ، وحرمة الظلم ، واستحباب الاحسان ، ونحو ذلك.
كذا ذكره المحقق في المعتبر (١) ، والشهيد في الذكرى (٢) ، وغيرهما.
وحجية هذه الطريقة : مبنية على الحسن والقبح العقليين (٣).
والحق ثبوتهما ، لقضاء الضرورة بهما (٤) في الجملة ، ولكن في إثبات الحكم الشرعي ـ كالوجوب والحرمة الشرعيين ـ بهما (٥) ، نظر وتأمل.
والواجب العقلي : ما يستحق فاعله المدح ، وتاركه الذم.
والشرعي : ما يستحق فاعله الثواب ، وتاركه العقاب.
وعكسه الحرام فيهما.
ووجه النظر امور :
__________________
١ ـ المعتبر : ١ / ٣٢.
٢ ـ الذكرى : ٥ / المقدمة / الاصل الرابع / القسم الاول.
٣ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : العقلي.
٤ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : به.
٥ ـ كذا في ب و ط ، وفي الاصل وأ : بها.
الاول : أن قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) (١) ظاهر في أن العقاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسول (٢) فلا وجوب (٣) ولا تحريم إلا وهو مستفاد من الرسول صلىاللهعليهوآله .
فإن قلت : يجوز أن يستحق العقاب ، ولكن لا يعاقبه الله تعالى إلا بعد بيان الرسول أيضا ، ليتعاضد (٤) العقل والنقل ، لطفا منه تعالى.
قلت : ظاهر أن الواجب شرعا مثلا ما يجوز المكلف العقاب على تركه ، فلا يتصور وجوب شرعي مثلا عند الجزم ـ بسبب إخبار الله تعالى ـ بعدم العقاب ، ولا يكون (٥) حينئذ إلا (٦) الوجوب العقلي.
الثاني : ما ورد من الأخبار : كما رواه الكليني عن : « عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان الاحمر ، عن حمزة بن الطيار ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : قال لي : اكتب ، فأملى علي : أن من قولنا أن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى أمر فيه بالصلاة والصيام ... » (٧) الحديث.
والتطبيق : كما مر.
وأيضا : قد نقل تواتر الأخبار بأنه لم يتعلق بأحد تكليف إلا بعد بعث (٨)
__________________
١ ـ الاسراء / ١٥.
٢ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : الرسل.
٣ ـ في أ و ط : ولا وجوب.
٤ ـ في أ : لتعاضد.
٥ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : بل لا يكون.
٦ ـ كلمة ( إلا ) : ساقطة من ط.
٧ ـ الكافي : ١ / ١٦٤ ـ كتاب التوحيد / باب حجج الله على خلقه / ح ٤.
٨ ـ في ط : بعثة.
الرسول ، ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (١) ، وبأنه على الله بيان ما يصلح الناس وما يفسد ، وبأنه لا يخلو زمان عن إمام معصوم ، ليعرف الناس ما يصلحهم وما يفسدهم.
والظاهر منها : حصر العلم بهما في ذلك ، وبأن أهل الفترة وأشباههم معذورون ، ويكون تكليفهم يوم الحشر (٢).
وأيضا : قد ورد : « كل شيء مطلق ، حتى يرد فيه نهي » رواه ابن بابويه في الفقيه ، في تجويز القنوت بالفارسية (٣).
فيفهم دخول غير المنصوص (٤) في المباح.
الثالث : ما عليه أصحابنا (٥) ، والمعتزلة (٦) ، من أن التكليف فيما يستقل به العقل لطف ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشرع نص ، لعدم اللطف فيه حينئذ.
وأيضا : العقل يحكم بأنه يبعد من الله تعالى توكيل (٧) بعض أحكامه (٨)
__________________
١ ـ الانفال / ٤٢.
٢ ـ روى ابن بابويه في كتاب الخصال بسنده « عن زرارة ، عن أبي جعفر (ع) ، قال : إذا كان يوم القيامة احتج الله عز وجل على خمسة : على الطفل ، والذي مات بين النبيين ، والذي ادرك النبي وهو لا يعقل ، والابله ، والمجنون الذي لا يعقل ، والاصم والابكم. فكل واحد منهم يحتج على الله عزوجل ، قال : فيبعث الله عزوجل اليهم رسولا ، فيؤجج لهم نارا فيقول لهم : ريكم يأمركم أن تثبوا فيها ، فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن عصى سيق إلى النار. ( منه رحمهالله ). الخصال : ٢٨٣ / باب الخمسة ح ٣١.
٣ ـ الفقيه : ١ / ٣١٧ ح ٩٣٧.
٤ ـ في ط : الخصوص.
٥ ـ الذريعة : ٢ / ٧٠١ ـ ٧٠٢ ، تقريب المعارف : ٧٧ ، كشف المراد : ٣١٩ ، ٣٢٤ ، ٣٢٧.
٦ ـ المواقف : ٣٢٣ بضميمة ما في ص ٣٢٨ ، حاشية السيالكوتي على شرح المواقف : ٣٩٣ ـ ٣٩٩.
٧ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : وكول.
٨ ـ في أ و ط : أحكام.
إلى مجرد إدراك العقول ، مع شدة اختلافها في الادراكات والاحكام ، من غير انضباطه بنص وشرع ، فإنه يوجب الاختلاف (١) والنزاع ، مع أن رفعه من إحدى الفوائد في إرسال الرسل ، ونصب الاوصياء عليهمالسلام.
فعلى ما ذكرنا ، يشكل التعلق بهذه الطريقة في إثبات الاحكام الشرعية غير المنصوصة.
لكن الظاهر : أنه لا يكاد يوجد شيء يندرج في هذه الطريق إلا وهو منصوص من الشرع ، ففائدة هذا الخلاف نادرة ، والله أعلم.
الرابع : ما رواه الكليني في الصحيح : « عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : بني الاسلام على خمسة أشياء ـ إلى أن قال ـ أما لو أن رجلا قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدق بجميع ماله ، وحج جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه (٢) ، ما كان له على الله حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الايمان » (٣) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
وهذا الخبر (٤) إنما يدل على أن الاحكام العملية (٥) تتوقف على الشرع ، وكأنه هو الحق ، للنصوص المطلقة الدالة على تعذيب الكفار بشركهم وكفرهم ، الشاملة لأهل الفترة وغيرهم ، فلو كانت المعارف الفطرية موقوفة على الشرع من حيث الوجوب ، لم يثبت تعذيب الوثني من أهل الفترة.
فإن قلت : الواجب العقلي : هو ما يكون تاركه مذموما عند كل عاقل وحكيم ، والحرام العقلي ما يكون فاعله مذموما كذلك ، فالحرام العقلي ـ مثلا ـ
__________________
١ ـ في أ : الاختلافات.
٢ ـ هذا محل الشاهد من الخبر ، إذ لو كان للعقل دلالة لم يوجب اخذ جميع الاعمال بدلالة الامام ( هامش نسخة ط ).
٣ ـ الكافي : ٢ / ١٨ ـ كتاب الايمان والكفر / باب دعائم الاسلام / ح ٤.
٤ ـ في أ : الاخير.
٥ ـ : في أ و ط : العلمية.
لابد وأن يكون مكروها وممقوتا لله تعالى ، وليس الحرام الشرعي إلا ذلك ، لان فاعل فعل ، هو مكروه عند الله تعالى ، ممقوت له تعالى ـ مستحق لعقابه ضرورة.
قلت : الحرام الشرعي : ما يجوز المكلف العقاب عليه ، ولا يكفي مجرد الاستحقاق ، وإن علم انتفاؤه بسبب ما ، كإخباره بذلك.
وأيضا : بداهة استلزام المكروهية عند الله تعالى لاستحقاق عقابه ، محل نظر ومنع.
فإن قلت : فإذا كان الامر على ما ذكرت ، فلم لم تحكم بعدم حجية هذه الطريقة على البت؟! بل جعلت حجيتها محل التأمل ، المشعر بالشك والتردد.
قلت : وجه التردد مما مر ، ومن : أن إخباره تعالى بنفي التعذيب ، فيما هو مذموم ومكروه عنده ـ إغراء منه تعالى للمكلف على هذا المذموم ، وهو قبيح (١) ، ونقض للغرض ، وحينئذ لا يكون ما يندرج في هذه الطريقة مندرجا في قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) (٢) وحينئذ ، فيبقى (٣) الكلام في صحة الملازمة المذكورة ، وعدمها.
وقد قال السيد المرتضى رحمهالله في الذريعة : « وأما حد المحظور : فهو القبيح الذي قد اعلم المكلف ، أو دله على ذلك من حاله » (٤).
وذهب الفاضل الزركشي في شرح جمع الجوامع (٥) إلى : أن الحسن والقبح ذاتيان ، والوجوب والحرمة شرعيان ، وأنه لا ملازمة بينهما ، فقال : « تنبيهات :
الاول : أن المعتزلة لا ينكرون أن الله تعالى هو الشارع للاحكام ، إنما
__________________
١ ـ في ط : قبح.
٢ ـ الاسراء / ١٥.
٣ ـ في أ : فبقي.
٤ ـ الذريعة ٢ / ٨٠٨ ، لكن فيه : أو دل.
٥ ـ المسمى ب : تشنيف المسامع بجمع الجوامع.
يقولون : إن العقل يدرك أن الله تعالى شرع أحكام الافعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها ، فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم (١) الشرعي ، والحكم الشرعي تابع لهما ، لا عينهما ، فما كان حسنا جوزه الشرع ، وما كان قبيحا منعه ، فصار عند المعتزلة حكمان : أحدهما عقلي ، والآخر شرعي تابع له ، فبان أنهم لا يقولون : إنه ـ يعني (٢) العقاب والثواب ـ ليس بشرعي أصلا ، خلافا لما توهمه (٣) عبارة المصنف ، وغيره.
والثاني : ما اقتصر عليه المصنف من حكاية قولين (٤) ، هو المشهور ، وتوسط قوم ، فقالوا : قبحها ثابت بالعقل ، والعقاب يتوقف على الشرع ، وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا ، وأبوالخطاب من الحنابلة ، وذكره الحنفية ، وحكوه عن أبي حنيفة نصا ، وهو المنصور ، لقوته من حيث الفطرة ، وآيات القرآن المجيد ، وسلامته من الوهن والتناقض ، فههنا أمران : الاول إدراك العقل حسن الاشياء وقبحها ، الثاني ، أن ذلك كاف في الثواب والعقاب ، وإن لم يرد شرع ، ولا تلازم (٥) بين الامرين ، بدليل ، ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) أي : بقبيح فعلهم (٦) ( وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) (٧) أي : لم تأتهم الرسل والشرائع ، ومثله : ( وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) أي : من القبائح ( فَيَقُولُوا رَبَّنَا
__________________
١ ـ كذا في المصدر المنقول عنه النص ، وفي النسخ كما يلي : فهما عدهم مؤديان إلى العلم بالحكم ( بالاحكام خ ل ).
٢ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : بمعنى.
٣ ـ كذا في المصدر ، وزاد في النسخ في هذا الموضع كلمة : ظاهر.
٤ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : قولهم.
٥ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : ولا ملازمة.
٦ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : أي بقبح فعلهم ( افعالهم خ ل ).
٧ ـ الانعام / ١٣١.
لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا ... ) (١) » انتهى كلام الزركشي (٢).
وليس الغرض من نقل هذا الكلام الاحتجاج به ، بل التنبيه (٣) على أن الملازمة المذكورة مما قد تكلم عليه جماعة من أهل البحث والنظر.
واعلم أن المحقق الطوسي ، ذكر في بعض تصانيفه : « أن القبيح العقلي ما ينفر الحكيم عنه ، وينسب فاعله إلى السفه » (٤).
وقال بعض المتأخرين من أصحابنا (٥) : « لا يقال قوله عليهالسلام « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » يبطل الحسن والقبح الذاتين.
لانا نقول : ههنا مسألتان : الأولى الحسن والقبح الذاتيان ، والاخرى الوجوب والحرمة الذاتيان ، والذي يلزم من ذلك بطلان الثانية لا الأولى ، وبينهما بون بعيد ، ألا ترى أن كثيرا من القبائح العقلية ليس بحرام في الشريعة ، ونقيضه (٦) ليس بواجب » إنتهى كلامه.
وفي آخر كلامه نظر ظاهر.
وقال السيد أيضا في الذريعة ـ في إثبات إباحة ما لم يرد به شرع ، بعد ادعاء انتفاء المضرة العاجلة ـ : « وأما المضرة الآجلة : فهي العقاب ، وإنما يعلم انتفاء ذلك ، لفقد السمع الذي يجب أن يرد به لو كان ثابتا ، لان الله تعالى لا بد أن يعلمنا ما علينا من المضار الآجلة التي هي العقاب ، الذي يقتضيه قبح الفعل (٧) ، وإذا فقدنا هذا الاعلام ، قطعنا على انتفاء المضرة الآجلة أيضا » (٨)
__________________
١ ـ القصص / ٤٧.
٢ ـ تشنيف المسامع : ١ / ١٣٣ ـ ١٣٩.
٣ ـ في ط : للتنبيه.
٤ ـ حكاه عنه في : الفوائد المدنية : ١٦١.
٥ ـ وهو المحدّث الأمين الاسترآبادي : الفوائد المدنية : ١٦١.
٦ ـ في أ و ط : فنقيضه.
٧ ـ كذا في المصدر المنقول عنه النص ، وفي النسخ : العقل.
٨ ـ الذريعة : ٢ / ٨١١ ـ ٨١٢.
انتهى.
القسم الثاني : استصحاب حال العقل ، أي : الحال السابقة ، وهي عدم شغل الذمة عند عدم دليل أو أمارة عليه ، والتمسك به أن (١) يقال : إن الذمة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمن السابق ، أو الحالة الأولى ، فلا تكون مشغولة في الزمن اللاحق أو الحالة الاخرى ، وهذا إنما يصح إذا لم يتجدد ما يوجب شغل الذمة في الزمن (٢) الثاني.
ووجه حجيته حينئذ ظاهر ، إذ التكليف بالشيء مع عدم الاعلام به ، تكليف الغافل ، وتكليف بما لا يطاق.
ويدل عليه (٣) الأخبار أيضا ، كما سيجيء مع ما فيه.
القسم الثالث : أصالة النفي ، وهو البراءة الاصلية.
قال المحقق الحلّي رحمهالله : « أعلم أن الاصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية ، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا ، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الاصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه.
ولا يتم هذا الدليل إلا ببيان مقدمتين :
الاولى : أنه لا دلالة عليه (٤) شرعا ، بأن يضبط طرق الاستدلالات الشرعية ويبين عدم دلالتها عليه.
والثانية : أن يبين أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك
__________________
١ ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : بأن.
٢ ـ في أ و ب : الزمان.
٣ ـ في أ و ب و ط : عليها.
٤ ـ في ط : لا دليل.
الدلائل ، لانه لو لم يكن عليه دلالة ، لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك الادلة ، لما كانت أدلة الشرع منحصرة فيها ، لكن بينا انحصار الاحكام في تلك الطرق ، وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم » انتهى كلامه في كتابه الاصول (١).
ولا يخفى أن بيان هاتين المقدمتين مما لا سبيل إليه إلا فيما تعم به البلوى.
أما الاول : ـ وهو عدم السبيل إلى البيان فيما لا تعم به البلوى ـ فلان جل أحكامنا ـ معاشر (٢) الشيعة ـ بل كلها ، متلقاة من الائمة الطاهرة ، صلوات الله عليهم اجمعين ، وظاهر أنهم عليهمالسلام لم يتمكنوا من إظهار جميع الاحكام ، وما أظهروه لم يتمكنوا من إظهاره على ما هو عليه في نفس الامر ، للتقية ـ على أنفسهم وعلى شيعتهم ـ من الحكام الظلمة والحسدة الكفرة (٣).
نعم ، هذا.
إنما (٤) يتم عند المخالفين ، القائلين : بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أظهر كل ما جاء به عند أصحابه ، وتوفرت الدواعي على أخذه ونشره ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء بعضه ، ويجوز خلو بعض الوقائع عن الحكم الشرعي ، فحينئذ : إذا تتبع الفقيه ولم يجد دليلا على واقعة ، علم (٥) انتفاء الحكم الشرعي فيها في نفس الامر.
وهذا عندنا باطل ، لان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أودع كل ما جاء به عند عترته الطاهرين صلوات الله عليهم اجمعين مما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ،
__________________
١ ـ المسمى ب : معارج الاصول ، راجع ص ٢١٢ ـ ٢١٣ منه.
٢ ـ في أ و ب و ط : معشر.
٣ ـ في ط : والكفرة.
٤ ـ كلمة ( انما ) : اضافة من أ وط.
٥ ـ في ط : جزم على انتفاء إلى آخره.
ولم تخل واقعة عن حكم حتى أرش الخدش ، كما نطقت به النصوص ، وأمر الناس بسؤالهم والرد اليهم ، فعلى هذا : فكيف يعلم من انتفاء الدليل انتفاء الحكم في نفس الامر؟! (١).
نعم ، يعلم عدم تكليف المكلف ، إذا لم يجد الدليل بعد التتبع ، بما في نفس الامر ، لانه تكليف بما لا يطاق ، ويدل عليه الأخبار الكثيرة : روى ابن بابويه في ( من لا يحضره الفقيه ) في بحث جواز القنوت بالفارسية ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٢).
وفي باب الاستطاعة من كتاب التوحيد ، في الصحيح : « عن حريز بن عبدالله ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رفع عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ، ما لم ينطقوا بشفة » (٣).
وهذا الحديث مذكور في أوائل ( من لا يحضره الفقيه ) أيضا (٤).
ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل : « ما لا يعلمون ».
وذكر في باب التعريف والحجة والبيان : « حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبدالله عليهالسلام ، قال : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٥).
__________________
١ ـ زاد في ب في هذا الموضع : لانه تكليف بما لا يطاق.
٢ ـ الفقيه : ١ / ٣١٧ ح ٩٣٧.
٣ ـ التوحيد : ٣٥٣ ح ٢٤.
٤ ـ الفقيه : ١ / ٥٩ ح ١٣٢ ، باختلاف يسير.
٥ ـ التوحيد : ٤١٣ ح ٩.