الوافية في أصول الفقه

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني

الوافية في أصول الفقه

المؤلف:

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني


المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١

والقول الثالث : التفصيل ، وهو الدلالة (١) في العبادات ، لا في المعاملات ، وهو مختار المحصول منهم (٢) ، والعلامة (٣) ، والمحقق (٤) ، وكثير من المتأخرين منا (٥).

والحق : أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا ، فههنا مققامان :

الاول : أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من العبادات.

والدليل عليه : أن المنهي عنه لا يكون مرادا ومطلوبا للمكلف ، والعبادة الصحيحة ـ واجبة أو مندوبة ـ تكون مرادة ومطلوبة للمكلف ، فلا يكون المنهي عنه عبادة صحيحة ، وهو ظاهر.

واعلم أن النهي : قد يرجع إلى نفس العبادة ، كالنهي عن صلاة الحائض.

وقد يرجع إلى جزئها ، كالنهي عن قراء‌ة العزائم في اليومية ، بناء‌ا على جزئية السورة.

وقد يرجع إلى وصف لازم ، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهارية.

وقد يرجع إلى (٦) أمر مقارن غير لازم ، كالنهي عن قول ( آمين ) بعد الحمد ، وعن التكفير ـ وهو وضع اليمين على الشمال في الصلاة ـ ونحو ذلك.

واقتضاء النهي الفساد في الثلاثة الاول ظاهر ، إذ صحة الكل والملزوم ، مع فساد الجزء واللازم (٧) ، ظاهر الفساد.

وأما القسم الاخير : فقد وقع الخلاف فيه بين فقهائنا :

__________________

١ ـ زاد في ط كلمة ( مطلقا ) في هذا الموضع.

٢ ـ المحصول : ١ / ٣٤٤.

٣ ـ تهذيب الوصول : ٣٣.

٤ ـ معارج الاصول : ٧٧.

٥ ـ معالم الدين : ٩٦.

٦ ـ زاد في ب في هذا الموضع كلمة : وصف.

٧ ـ حرف العطف ساقط من أ وب.

١٠١

فبعضهم يقول : إن النهي عن مثل (١) هذه الامور ، لا يوجب فساد العبادة الواقعة هي فيها ، أو المتصفة بها ، إذ هذه امور خارجة (٢) ومغايرة للعبادة ، ولا دليل على استلزام فسادها لفساد العبادة ، والامر يقتضي الاجزاء إجماعا ممن يعتد به.

وبعضهم يقول بفساد العبادة بفسادها ، وكأن الوجه فيه : أنه يفهم من النهي أن عدم المنهي عنه من شرائط تحقق العبادة الشرعية ، ووجوده مانع منه ، فلا يمكن تحقق العبادة مع وجوده.

والحق أن يقال : إن العبادة إذا كانت بحيث قد علم من دليل شرعي جميع أجزائها وشرائطها وموانعها ، ولا يكون هذا المنهي عنه شيئا منها ، فالنهي حينئذ لا يقتضي فساد العبادة المقارنة للمنهي عنه ، لما مر ، وأما مع عدم ذلك فالظاهر أن المنهي عنه من موانع حقيقة العبادة شرعا ، إذ جميع أجزاء العبادة وشرائطها وموانعها ، إنما يعلم من الاوامر والنواهي ، فليس لاحد أن يقول : إن النهي إنما يدل على حرمة المنهي عنه ، وهو لا يستلزم فساد العبادة.

كما أنه ليس له أن يقول : إن الامر إنما يدل على وجوب المأمور به في العبادة (٣) ، ولا دلالة له (٤) على جزئيته للعبادة ، أو شرطيته.

ولو صح هذا القول ، لانسد طريق الاستدلال على بطلان الصلاة والصوم وغيرهما ، بترك جل أجزائها وشرائطها كما لا يكاد (٥) يخفى.

ثم لا يخفى عليك : أن مانعية المنهي عنه ، إنما هو على تقدير اختصاص النهي بالعبادة ، فلو علم أن النهي عن الشيء في عبادة إنما هو لاجل حرمة ذلك

__________________

١ ـ كذا في أ و ب ، وفي الاصل و ط : ان نهي مثل.

٢ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : خارجية.

٣ ـ في الاصل : والعبادة. وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.

٤ ـ كلمة ( له ) زيادة من أ.

٥ ـ كلمة ( يكاد ) : زيادة من ط.

١٠٢

الشئ مطلقا ، كالنهي عن النظر إلى الاجنبية في الصلاة ، فهو لا يقتضي فساد العبادة ، إذ حينئذ معلوم أن المنهي عنه لا ارتباط له بالعبادة في المانعية.

المقام الثاني : أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ، كأقسام البيوع والانكحة والطلاق وغيرها ، سواء كان النهي يرجع إلى نفس الصيغة ، كلفظ التحليل في النكاح ، والكنايات في الطلاق ، ونحو ذلك ، أو إلى أحد العوضين ، كبيع الميتة والخمر ونكاح المحرمات ، أو إلى وصف لازم ، كبيع الملامسة والمنابذة والربا ونكاح الشغار ونحو ذلك ، ويمكن إدخال كثير من هذه في الاولين.

والدليل على اقتضاء النهي الفساد في هذا القسم ـ من وجهين :

الاول : استدلال العلماء :

فإن علماء الامصار في الاعصار ، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي ، في أبواب الربا ، والانكحة والبيوع وغيرها (١).

وليس الفساد مدلولا للفظ النهي (٢) ، إذ لا يفهم سلب (٣) الاحكام من النهي المتعلق بشيء ، ولا تلازم بين التحريم وسلب الاحكام ، إذ لا بعد (٤) في أن تكون المصلحة في عدم شيء ، ولكن بعد وجوده تكون المصلحة في ترتب آثاره عليه (٥) ، ولهذاحكم شرعا بالتطهير إذا وقعت إزالة النجاسة بالماء المغصوب ، ويترتب على الوطئ في الحيض آثاره من لحوق الولد ، ووجوب المهر ، والتحليل للزوج الاول ، ونحو ذلك.

__________________

١ ـ في ب : ونحوها.

٢ ـ هذا تعريض بالمحقق الحلّي ، والعلامة الحلّي ، والشيخ حسن حيث استدلوا على عدم دلالة النهي على الفساد في هذا القسم بعدم الدلالة اللفظية عليه : معارج الاصول : ٧٧ ، تهذيب الوصول : ٣٤ ، معالم الدين : ٩٦ ـ ٩٧.

٣ ـ في أ : سبب.

٤ ـ في أ : يبعد.

٥ ـ هذا رد على دعوى المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : ٩٧.

١٠٣

بل الفساد مما يحكم به العقل في المعاملات من ظاهر حال الناهي.

وقد وقع في الروايات ما يدل على اقتضاء النهي الفساد :

روى الشيخ في التهذيب ، في الصحيح : « عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، أنه قال : لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لقول الله عزوجل ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ) (١) ـ حرم على الحسن والحسين عليهما‌السلام ، لقوله عزوجل : ( وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ ) (٢).

وروى في الموثق : « عن الحسن بن الجهم ، قال : قال أبوالحسن الرضا عليه‌السلام : يا أبا محمد ، ما تقول في رجل تزوج بنصرانية على مسلمة؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك؟!

قال : لتقولن ، فإن ذلك يعلم (٣) به قولي.

قلت : لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة ، ولا على غير مسلمة.

قال : لم؟ قلت : لقول الله عزوجل : ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) (٤).

قال : فما تقول في هذه الآية : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) (٥)؟ فقلت : قوله تعالى : ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) (٦) نسخت هذه الآية ، فتبسم ثم سكت » (٧).

__________________

١ ـ الاحزاب / ٥٣.

٢ ـ النساء / ٢٢ ، والحديث في : التهذيب : ٧ / ٢٨١ ح ١١٩٠.

٣ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : تعلم.

٤ ـ البقرة / ٢٢١.

٥ ـ المائدة / ٥.

٦ ـ البقرة / ٢٢١.

٧ ـ التهذيب : ٧ / ٢٩٧ ح ١٢٤٣.

١٠٤

وروى : « عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : لا ينبغي نكاح أهل الكتاب.

قلت : جعلت فداك ، وأين تحريمه؟ قال : قوله ( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) (١).

وفي الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ : « عن زرارة بن أعين ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول اللهه عزوجل : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) (٢)؟ فقال : هي منسوخة بقوله : ( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) » (٣).

فإن الامام عليه‌السلام استدل بالنهي عن التحريم ، ومعلوم أن المراد من التحريم في هذه الصور بطلان النكاح ، كما في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) (٤) الآية.

وروى في الحسن ـ به ـ : « عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال : إن ذلك إلى سيده ، إن شاء أجازه ، وإن شاء فرق بينهما.

فقلت : أصلحك الله ، إن الحكم بن عتيبة (٥) ، وإبراهيم النخعي ، وأصحابهما ، يقولون : إن أصل النكاح باطل ، فلا تحل إجازة السيد له.

فقال أبوجعفر عليه‌السلام : إنه لم يعص الله ، إنما عصى سيده ، فإذا أجازه فهو له جائز » (٦).

__________________

١ ـ الممتحنة / ١٠ ، والحديث في : التهذيب : ٧ / ١٩٧ ح ١٢٤٤.

٢ ـ المائدة / ٥.

٣ ـ التهذيب : ٧ / ٢٩٨ ح ١٢٤٥.

٤ ـ النساء / ٢٣.

٥ ـ في أ : عيينة. وهو تصحيف.

٦ ـ التهذيب : ٧ / ٣٥١ ح ١٤٣٢.

١٠٥

وفي حديث آخر عنه أيضا : « فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام فإن أصل النكاح كان عصيانا (١).

فقال أبوجعفر عليه‌السلام : إنما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ، وإنما عصى سيده ، ولم يعص الله ، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه » (٢).

فإنهما يدلان على فساد النكاح إذا كان معصية لله تعالى.

وفي الحسن : عن « محمد بن مسلم ، قال : قال أبوجعفر عليه‌السلام : من طلق ثلاثا في مجلس على غير طهر ، لم يكن شيئا ، إنما الطلاق : الذي أمر الله عزوجل به ، فمن خالف لم يكن له طلاق » (٣).

وجه الدلالة : أن الطلاق إذا كان منهيا عنه كان مخالفا لما أمر الله عزوجل به.

والروايات فيما يدل على المطلوب أكثر من أن تعد وتحصى ، فتدبرها (٤).

الثاني : أن لزوم الآثار والاحكام للمعاملات ليس عقليا ، بل هو بمجرد جعل الشارع ، من قبيل الاحكام الوضعية الناقلة عن الاصل ، فلا يحكم به إلا مع العلم ، أو الظن الشرعي ، ومع تعلق النهي بمعاملة لا يحصل العلم ولا الظن بأن الشارع جعل تلك المعاملة المنهي عنها سببا ومعرفا لشيء من الاحكام ، نعم إن علم في معاملة أن الشارع جعلها معرفا لاحكام مخصوصة مطلقا ـ سواء أكانت منهيا عنها لنفسها أو لجزئها أو لوصفها أو لم تكن ـ أمكن الحكم بترتب آثارها عليها مع حرمتها ، بأحد الوجوه المذكورة ، لكن الظاهر أن مثل ذلك ليس واقعا في أحكامنا.

__________________

١ ـ كذا في النسخ ، وفي المصدر : عاصيا.

٢ ـ التهذيب ٧ / ٣٥١ ح ١٤٣١.

٣ ـ التهذيب : ٨ / ٤٧ ح ١٤٦.

٤ ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : فليتدبرها.

١٠٦

هذا ، ولو رجع النهي في المعاملة إلى أمر مقارن ، كالنهي عن البيع وقت النداء ، فهل يوجب الفساد أو لا؟

والحق فيه ـ أيضا ـ : مثل ما مر في مثله في النهي في العبادات ، بأن يقال ـ مع اختصاص النهي ، وعدم العلم بعدم مانعية المنهي عنه في صحة المعاملة ـ : الظاهر كون المنهي عنه مانعا من ترتب أحكامها عليها ، ويجري فيه الدليل المذكور ، فتأمل.

* * *

١٠٧
١٠٨

الباب الثاني

في العام والخاص

وفيه ايضا مقصدان

١٠٩
١١٠

الاول في العام وفيه مباحث :

الاول :

العام : هو اللفظ المستغرق لما يصلح له بوضع واحد ، وقد وقع الخلاف في أن العام هل له صيغة تخصه؟ بحيث إذا استعملت في الخصوص كانت مجازا ، أو لا؟ والاكثر منا : على أن له صيغة كذلك (١).

وأنكر السيد المرتضى ذلك ، وذهب إلى الاشتراك اللفظي بحسب اللغة ، ووافقهم بحسب الشرع (٢).

والجمهور من العامة ـ أيضا ـ : على أن له صيغة كذلك (٣).

__________________

١ ـ عدة الاصول : ١ / ١٠٣ وما بعدها ، معارج الاصول : ٨١ ، تهذيب الوصول : ٣٥ ، وقد نسبه المحقق الشخ حسن إلى جمهور المحققين بعد أن صرح باختياره : معالم الدين : ١٠٢.

٢ ـ الذريعة : ١ / ١٩٨ ، ٢٠١.

٣ ـ المستصفى : ٢ / ٤٨ ، المحصول : ١ / ٣٥٦ ، المنتهى : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، منهاج الوصول : ٨١ ـ ٨٢.

١١١

وعكس جمع منهم ، والقاضي منهم كالمرتضى (١).

ونقل عن الآمدي : التوقف (٢).

[ وقيل : بالتوقف ] في الأخبار والوعد والوعيد ، دون الامر والنهي (٣).

والحق : المشهور.

والصيغة الموضوعة (٤) له عند المحققين هي هذه : ( من ) و ( ما ) للشرط والموصول والاستفهام.

و ( مهما ) و ( أينما ) للشراط.

و ( متى ) للزمان.

و ( كل ) و ( جميع ) ، مع عدم إرادة الهيئة الاجتماعية.

والنكرة في سياق النفي ب‍ ( لا ) أو ( ليس ) أو ( لن ) أو ( بما ) على المشهور.

وألحق البعض : النكرة في سياق الشرط ، كأن يقول : ( إن ولدت ولدا ، فأنت علي كظهر امي ) فيحصل الظهار بتوليد ولدين أو أكثر أيضا.

وألحق آخره النكرة في سياق الاثبات ، إذا كانت للامتنان ، نحو : ( فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (٥) وابتنى عليه الاستدلال على العموم في قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ) (٦).

وآخر : في سياق الامر ، نحو : ( اعتق رقبه ).

__________________

١ و ٢ و ٣ ـ حكى هذه الاقوال الإسنوي ، والظاهر اعتماد المصنف عليه في نسبة هذه الاقوال ، وما بين المعقوفين أخذناه من عبارة الإسنوي وقد خلت نسخ كتابنا هذا منه. انظر : التمهيد : ٢٩٧.

٤ ـ في ب : المخصوصة.

٥ ـ الرحمن / ٦٨.

٦ ـ الانفال / ١١.

١١٢

ومنها : الجمع المعرف باللام ، أو بالاضافة ، والمفرد كذلك عند الاكثر (١) ، نقله الآمدي عن الشافعي والاكثر (٢) واختاره هو (٣) ، ونقله الرازي عن الفقهاء والمبرد (٤) ، ويظهر من الشارح الرضي عدم الخلاف فيه (٥) ، وفي شرح العضدي نقله عن المحققين ، من غير إشعار بخلاف فيه بينهم ، إلا المنكر لاصل صيغة العموم (٦).

وقد ألحق بالعموم : الجميع بصيغة الامر ، نحو ( أكرموا زيدا ) (٧).

والدليل على العموم في جميع ذلك : تبادره من الصيغ المذكورة ، عند التجرد عن القرائن ، وهو علامة الحقيقة.

وبعض من أنكر عموم المفرد ، اعترف به في الاحكام الشرعية ، معللا :

بأن تعيين البعض غير معلوم ، والحكم على البعض غير المعين غير معقول ـ إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع ، وتحريم فرد من الربا ، وعدم تنجيس مقدار (٨) الكر من بعض الماء ، في : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (٩) ، و : « إذا بلغ الماء قدر (١٠) كر لم ينجسه شيء » (١١) ـ فتعين إرادة الجميع.

__________________

١ ـ اختاره الغزالي في المستصفى : ٢ / ٨٩.

٢ ـ كما في التمهيد : ٣٢٧.

٣ ـ الاحكام : ٢ / ٤٢١ ـ ٤٢٢.

٤ ـ المحصول : ١ / ٣٨٢. وزاد فيه : والجبائي. ولكن الرازي نفسه اختار عدم افادته العموم.

٥ ـ شرح الكافية : ٢ / ١٢٩.

٦ ـ شرح العضد : ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦.

٧ ـ ذكره في المحصول : ١ / ٣٨١.

٨ ـ في ب و ط زيادة كلمة ( من ) في هذا الموضع.

٩ ـ البقرة / ٢٧٥.

١٠ ـ كلمة ( قدر ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من باقي النسخ.

١١ ـ كذا الحديث في النسخ ، ولكن المروي هو : « إذا كان الماء ... إلى آخره » الكافي : ٣ / ٢ ـ كتاب الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شيء / ح ١. التهذيب : ١ / ٣٩ ـ ٤٠ / ح ١٠٧ ـ ١٠٩. وفي غوالي اللآلي : ١ / ٧٦ و ٢ / ٦ : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا ».

١١٣

وأيضا : صحة الاستثناء دليل العموم ، إذ الاستثناء ـ عند الاكثر ـ : إخرج ما لولاه لوجوب الدخول (١) ، ولا يكفي الصلوح ، ولهذا لا يجوز : ( رأيت رجالا (٢) إلا زيدا ).

وليست صيغ العموم منحصرة فيما أوردناه ، فلتعلم (٣).

واعلم : أن الجمع المنكر لا يدل على العموم إلا في موضع يجري فيه ما ذكره المعترف في عموم المفرد في الاحكام ، لعدم فهم العموم منه ، وإفادة المعرف العموم ، إنما هي مع عدم تساوي احتمالي العهد والجنس ، وإلا فالعهد أظهر ، كما ذكره الاكثر ، ولا يتساوى الاحتمالان إلا مع تقدم (٤) أمر يرجع إليه ، كقوله تعالى : ( فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (٥).

البحث الثاني :

قيل : « ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة

__________________

١ ـ كذا في ط ، وقد اسقط الضمير من الاصل ، وفي أ و ب : ما لو لا الاخراج لوجب الدخول.

٢ ـ في ط : رجلا.

٣ ـ هناك صيغ اخرى تفيد العموم ، وإن وقع في كثير منها الخلاف ك‍ ( سائر ) و ( معشر ) و ( معاشر ) و ( عامة ) و ( كافة ) و ( قاطبة ) و ( ما ) الزمانية نحو ( إلا ما دمت عليه قائما ) وكذا المصدرية مع الفعل المستقبل ، مثل ( يعجبني ما تصنع ) و ( أي ) في الشرط والاستفهام وان اتصل بها ( ما ) ، و ( متى ) و ( حيث ) و ( إن ) و ( كيف ) و ( اذا ) الشرطية اذا اتصلت بواحد منها ( ما ) ، و ( ايان ) و ( إذ ما ) و ( كم ) الاستفهامية ، واسم جمع ك‍ ( الناس ) ، و ( الرهط ) و ( القوم ) ، والاسماء الموصولة ك‍ ( الذي ) و ( التي ) ، وتثنيتهما وجمعهما ، واسماء الاشارة المجموعة مثل ( اولئك ) و ( هؤلاء ) والنكرة في سياق الاستفهام الانكاري مثل ( هل تعلم له سميا ) ، واذا اكد الكلام ب‍ ( الابد ) أو ( الدوام ) أو ( دهر الداهرين ) أو ( عوض ) أو ( قط ) في النفي ، افاد العموم في الزمان ، واسماء القبائل مثل ( ربيعة ) و ( مضر ) و ( الاوس ) و ( الخزرج ) ( منه رحمه‌الله ).

٤ ـ في أ و ب : مع تقدمه.

٥ ـ المزمل / ١٦.

١١٤

العموم في المقال » (١).

وقيل : بل حكايات الاحوال إذا تطرق اليها الاحتمال كساها ثوب الاجمال ، وسقط بها الاستدلال (٢) ، واختاره العلامة في التهذيب (٣).

والحق أن يقال : إنه أقسام :

الاول : أن يسأل عن واقعة دخلت في الوجود ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الامام عليه‌السلام ، مطلع عليها.

والحق فيه : عدم اقتضاء العموم ، لان الجواب ينصرف إلى الجهة الخاصه للواقعة المخصوصة ، ولا يتناول غيرها.

الثاني : أن يسأل عنها بعينها ، مع احتمال اطلاعه عليه‌السلام على جهتها.

والحق فيه : القول الثاني ، مع عدم مرجح لاحد الاحتمالين.

الثالث : أن يسأل عن الواقعة لا باعتبار وقوعها.

والحق فيه (٤) أن يقال : إن الواقعة إن كانت لها جهة شائعة تقع غالبا عليها ، فالجواب إنما ينصرف إليها ، فلا يستدل به على غيرها.

وإن كانت جهات وقوعها واحتمالاته متساوية ، لا مرجح لشيء منها في عصرهم عليهم‌السلام ، فالظاهر : العموم ، إذ عدم الانصراف إلى شيء منها يوجب إلغاء (٥) الدليل ، والصرف إلى إلبعض ترجيح بلا مرجح ، فينصرف إلى

__________________

١ ـ القاتل هو الشافعي واللفظ له ، حكاه عنه الفخر الرازي في : المحصول : ١ / ٣٩٢ ، ثم قال : مثاله أن ابن غيلان اسلم على عشر نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أمسك أربعا ، وفارق سائرهن » ولم يسأله عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع ، أو الترتيب ، فكان اطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا وعلى الترتيب.

٢ ـ المستصفى : ٢ / ٦٠ ، المحصول : ١ / ٣٩٣.

٣ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : واختار الاول العلامة. وهو خطأ ، فإن العلامة تنظر في الاول بعدما ذكره : تهذيب الوصول : ٣٨ : فتأمل.

٤ ـ في أ : فيها.

٥ ـ في أ : القاء.

١١٥

الكل ، وهو معنى (١) العموم.

والظاهر من المرتضى رحمه‌الله في الذريعة : القول بالعموم بترك الاستفصال ، فإنه قال : « إذا سئل عليه‌السلام عن حكم المفطر ، فلا يخلو جوابه من ثلاثة أقسام : إما أن يكون عام اللفظ ، نحو أن يقول : كل مفطر فعليه الكفارة.

والقسم الثاني : أن يكون الجواب في المعنى عاما ، نحو أن يسأل عليه‌السلام عن رجل أفطر ، فيدع الاستكشاف عما به أفطر ، ويقول عليه‌السلام : عليه الكفارة ، فكأنه عليه‌السلام قال : من أفطر فعليه الكفارة.

والقسم الثالث : أن يكون السؤال خاصا ، والجواب مثله ، فيحل (٢) محل الفعل » (٣).

فكلامه يدل على أن ترك الاستكشاف بمنزلة العموم ، إلا أن مثاله في تنقيح المناط ، والظاهر أنه لا خلاف في العموم حينئذ ، كما سيجيء في بحث الادلة العقلية إن شاء الله تعالى وتقدس.

البحث الثالث :

تخصيص حكم العام بمبين ، لا يخرجه عن الحجية (٤) في الباقي ، سواء خص بمتصل أو بمنفصل ، عقل أو نقل ، وسواء قلنا بأن ذلك العام حينئذ حقيقة ـ كما هو الحق في أغلب صور التخصيص بالمتصل ـ أو قلنا إنه مجاز ،

__________________

١ ـ في ط : مقتضى.

٢ ـ في أ : فيحمل. وفي ب : فجعل.

٣ ـ الذريعة : ١ / ٢٩٢.

٤ ـ في ط : الحجة.

١١٦

وفاقا لمن تكلم في هذه المسألة من أصحابنا (١) ، ولجمهور العامة (٢).

وعند البلخي : إن خص بمتصل (٣).

والبصري : إن أنبأ لفظ العموم عنه قبل التخصيص ، لا مثل ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ... ) (٤) غير المنبئ عن النصاب والحرز (٥).

وعبدالجبار : إن كان منبئا [ عنه ] (*) قبل التخصيص ، لا مثل ، ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (٦) المفتقر إلى البيان قبل إخراج مثل الحائض (٧).

وقيل بحجيته (٨) في أقل الجمع (٩).

وقال أبوثور : ليس بحجة مطلقا (١٠).

لنا وجوه :

الاول : تبادر كل الباقي من (١١) العام المخصص (١٢) ، وظهوره فيه

__________________

١ ـ عدة الاصول : ٢ / ٤ ، معارج الاصول : ٩٧ ، تهذيب الوصول : ٣٩ ، معالم الدين : ١١٦.

٢ ـ المستصفى : ٢ / ٥٧ ، المنخول : ١٥٣ ، المحصول : ١ / ٤٠٢ ، المنتهى : ١٠٧ ، منهاج الوصول : ٨٦ ، التمهيد : ٤١٤.

٣ ـ المنتهى : ١٠٧ ، الابهاج : ٢ / ١٣٩.

٤ ـ المائدة / ٣٨.

٥ ـ المنتهى : ١٠٧ ، الابهاج : ٢ / ١٣٩.

(*) [ عنه ] : اضافة اثبتناها للتوضيح ، أخذناها من : المنتهى : ١٠٧.

٦ ـ البقرة / ٤٣.

٧ ـ المنتهى : ١٠٧ ، الابهاج : ٢ / ١٤٠.

٨ ـ في أ : الحجية ، وفي : ط : بحجية.

٩ ـ وهو قول الشيخ صفي الدين الهندي الارموي. كما في الابهاج : ٢ / ١٤٠.

١٠ ـ الابهاج ٢ / ١٣٨ ، المنتهى ١٠٧ ، وزاد فيه : وأبان.

١١ ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : عن. بدل : من.

١٢ ـ هذا الدليل عبارة عن تطوير فني دقيق لما استدل به المحقق ، فقد استعاض بمصطلح التبادر عن قول المحقق : « لنا أن اللفظ متناول إلى آخره » : معارج الاصول : ٩٧.

١١٧

كظهوره في الكل قبل (١) التخصيص ، فإن المدار في المحاورات على إيراد العمومات المخصصة من دون نصب قرينة اخرى غير التخصيص ، ولا يتوقف المخاطب في الحكم بالمراد حينئذ ، ولا يحكم بإجمال كلام المتكلم ، بل لا يخطر بباله غير إرادة كل الباقي ، والمنكر مكابر.

الثاني : أنه إذا قال : ( أكرم بني تميم ، وأما فلان فلا تكرمه ) ، فترك إكرام غير المخرج ، عد عاصيا ، ولو لا الظهور لما عصى به (٢).

الثالث : استدل العلماء قديما وحديثا بالعامات المخصوصة من غير نكير (٣) ، وقد وقع في كلام أهل البيت عليهم‌السلام ، فليطلب.

احتج الخصم بوجهين :

الاول : أن متعلق الحكم ليس هو المعنى الحقيقي للعام ، لانه المفروض ، والمجازات كثيرة ، وكل منها محتمل (٤) ، وتمام الباقي أحد المجازات ، فلا يحمل عليه إلا بقرينة ، وبدونها يبقى مجملا (٥).

والجواب : منع احتمال كل واحد من المجازات ، بل المتبادر ، والظاهر ، الاقرب إلى الحقيقة ، هو : كل الباقي ، كما ذكرنا.

الثاني : أنه بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا ، وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجة (٦).

__________________

١ ـ في ط : تبادر كل الباقي بعد التخصيص إلى آخره.

٢ ـ المنتهى : ١٠٨ ، معالم الدين : ١١٧.

٣ ـ ذكر هذا الاستدلال في : المستصفى : ٢ / ٥٧ ، المحصول : ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤ مع زيادة : بل الصحابة أيضا.

٤ ـ في أ : يحتمل.

٥ ـ المستصفى : ٢ / ٥٦ ، المحصول : ١ / ٤٠٤ ، المنتهى : ١٠٨ ، معالم الدين : ١١٧.

٦ ـ معالم الدين : ١١٧.

١١٨

وجوابه : منع عدم ظهوره ، بل هو ظاهر في الباقي ، بعد ملاحظة المخصص (١).

والمذاهب المذكورة ، كلها اعتقادات فاسدة ، مبتنية (٢) على خيالات واهية ، تنحل شبههم بأدنى تأمل ، بعد ملاحظة ما مر.

البحث الرابع :

الحق أن الخطابات الواردة بصيغة النداء ، وكلمة الخطاب ـ كالكاف والتاء ، وغير ذلك مما خلقه الله تعالى في الملك ، ونحوه ، وأمره (٣) بإنزاله إلى السماء الدنيا في مدة ، أو في ليلة القدر ، ومنها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مدة مديدة بالتدريج ، ليبلغ هو وأوصياؤه من عترته صلوات الله عليهم أجمعين إلى امته ، إلى يوم القيامة ـ ليست مختصة بالموجودين في زمن الوحي ، بحيث يكون كل خطاب منها مختصا بمن استجمع شرائط التكليف في حين نزوله ، و (٤) لا يكون شاملا لمن تأخر ، كالخطابات المكية لمن تولد حين توطن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة.

ولا مختصة بحاضري مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قراء‌تها (٥).

خلافا للاكثر ممن صنف في الاصول من الشيعة (٦) ، والنواصب (٧) ،

__________________

١ ـ معالم الدين : ١١٧.

٢ ـ في أ و ب و ط : مبنية.

٣ ـ في ط : فأمره.

٤ ـ الواو اضافة من ط وب.

٥ ـ وفاقا للحنابلة حيث ذهبوا إلى عمومها في الجميع ، كما في : المنتهى : ١١٧.

٦ ـ تهذيب الوصول : ٣٨ ، معالم الدين : ١٠٨.

٧ ـ المستصفى : ٢ / ٨٣ ، المحصول : ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

١١٩

حيث جعلوها مختصة بالموجودين في زمن الخطاب ، أو بحاضري مجلس الوحي ، وجعلوا ثبوت حكمها لمن بعدهم بدليل آخر كإجماع ، أو نص ، أو قياس.

لنا : مساعدة الظواهر ـ من غير معارض ، إلا الشبهة (١) الواهية للخصم ـ وهي (٢) امور :

الاول : احتجاج العلماء قديما وحديثا حتى الائمة عليهم‌السلام بتلك الخطابات ، من غير ذكر إجماع أو نص أو قياس على الاشتراك ، مع أن الخصم معترف بعدم ظهور مستند الشركة ـ ولذا اختلفوا ، فقيل : مستنده الاجماع ، وقيل : بل القياس ـ ولو لم تعم تلك الخطابات ، لم يصح ذلك إلا بعد إيراد ما هو العمدة من الاجماع أو القياس.

ودعوى : ظهور المستند بحيث يعلمه كل أحد من الخصوم (٣).

مما تحكم البديهة (٤) بفساده ، وكيف يخفى هذا الخفاء ما كان ظاهرا هذا الظهور؟! وكيف يجوز على الله تعالى إخفاء مستند كل تكاليف من وجدد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الثاني : ورود الروايات ـ في كثير من تلك الخطابات ـ بأنها نزلت في جماعة نشأوا بعد زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث : ورودها ـ في كثير منها ـ بأنها نزلت في الائمة عليهم‌السلام ، وأن الخطاب إليهم (٥).

__________________

١ ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ و ب : الشبه. والصواب ما اثبتناه في المتن ، لانها شبهة واحدة سيأتي المصنف على ذكرها فيما بعد في قوله : « احتج الخصم » إلى آخره.

٢ ـ فيه اضطراب ، حيث جعل الخامس منها الظواهر ، فلاحظ.

٣ ـ الدعوى للمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : ١٠٩.

٤ ـ في ب : البديهية ، وفي ط : البداهة.

٥ ـ كقوله تعالى : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) رواه

١٢٠