أعلام الدين في صفات المؤمنين

الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي

أعلام الدين في صفات المؤمنين

المؤلف:

الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٢
ISBN: 4-5503-75-2
الصفحات: ٥٣٢

في الظاهر ، لا تدرك حركتها بالبصر ، ولكن بالبصيرة ، ولقد أحسن من وصفها بقوله فيها :

أحلام نوم أو كظلّ زائل

إن اللبيب بمثلها لايخذل

وكان الحسن بن علي عليهما‌السلام يتمثل :

يا أهل لذات دنيا لابقاء لها

إن اغتراراً بظل زائل حمق

فينبغي للعاقل أن يفرغ نفسه للتفكرفي طريق الخلاص من الهلكة ، فيتحرى سبل النجاة من أفعال الخير ، والتوبة والندم على الذنوب ، والعزم على ترك العود إليها ، والصبرعلى بلاء الله ، والرضى بقضاء الله ، والتسليم لأمره ، والشكر لنعمائه ، والخوف والرجاء له ، والزهد في الدنيا ، والاخلاص في العمل ، والصدق في القول ، والجد في الطاعات ، ويفكر كل يوم في قلبه ، فينظرإلى الذي يقرّبه من هذه الصفات الجميلة فيتحلى به ، وإلى ما يباعد صفتها فيتجافى عنه ، ورأس ذلك التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزود لسكنى القبور ، والتأهب ليوم النشور.

ثم لينظر في ايات الوعد والوعيد ، والتشديد الذي ورد والترغيب ، فيتحقق عند نفسه ذلك ، فيزداد خوفاً من الله ورغبة إليه ، وإذا أراد أن يتبين له حال الشكر فلينظر في إحسان الله إليه ، وإذا أراد أن يشتد خوفه فلينظر في ذنوبه ويتذكّرها ، ثم ينظر في الموت وكربته ، والقبر ووحشته ، واللحد وضغطته ، ومساءلة القبر ودهشته ، ومنكر ونكير ونهرتهما ، وفي هول النداء عند نفخة الصور ، وهول المحشر ، وجمع الخلائق في صعيد واحد ، ليوم تشيب فيه الصغار ، ويسكر الكبار ، وتضع كل ذات حمل حملها ، ثم في مناقشة الحساب على الفتيل (١) والنقير (٢) والقطمير (٣) والذرة (٤) والخردلة (٥) ، وكتاب الله الذي لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها.

__________________

١ ـ الفتيل : مايكون في شق النواة ، ويقال : هو ما يفتل بين الاصبعين من الوسخ. « الصحاح ـ فتل ـ ٥ : ١٧٨٨ ».

٢ ـ النقير : فسره ابن عباس بأن وضع طرف إبهامه على باطن سبابته ثم نقرها. « النهاية ـ نقر ـ ٥ : ١٠٤ ».

٣ ـ القطمير : النكتة البيضاء التي في ظهر النواة. « لسان العرب ـ قطمر ـ ٥ : ١٠٨ ».

٤ ـ الذرة : جمعها الذر ، وهو صغار النمل. « لسان العرب ـ ذرر ـ ٤ : ٣٠٤ ».

٥ ـ الخردل : حَبُ شجرصغيرجداً. انظر « القاموس المحيط ـ خردل ـ ٣ : ٣٦٧ ».

٢٤١

ثم أهوال يوم القيامة ، فيصور في نفسه جهنم ودركها ومقامها ، أهوالها وأنواع ألعذاب فيها وقبح صورة الزبانية ، وأنه كلّما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ، وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، وإذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيّضاًوزفيراً.

وإذا أرادوا أن ينظروا إلى الرجاء ، فلينظروا إلى الجنة ونعيمها ، وما أعدّ الله تعالى فيها من الملك الدائم ، والنعيم ، والحور ، واللذات ، [ فعليك بقراءة القرآن ] (١) والتفكر فيه ، فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال ، وفيه شفاء للعالمين ، وفيه ما يورث الخوف والرجاء ، والصبر والشكر ، وسائر الصفات ، وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة ، فينبغي أن يقرأه العبد ، ويردّد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ، ولو مائة مرة فقراءة آية بتفكّر وتفهم خير من ألف اية بغير تفكر وتفهم ، وليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة ، فإنّ تحت كل كلمة منها أسراراً لا تنحصر ، ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفات القلب.

وكذلك مطالعة كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه قد أُوتي جوامع الكلم ، وكلّ كلمة من كلماته بحر من بحور الحكم ، وإذا تأملها العاقل ـ حق التأمل ـ لم ينقطع فيها نظره طول عمره ، وشرح الآيات والأخبار يطول. فانظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن روح القدس نفث في روعي : أحبب ما أحببت فإنك مفارقه ، وعش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ». فهذه الكلمات جامعة حِكم الأولين والآخرين ، وهي كافية للمتأملين فيها ـ طول العمر ـ إذلو وقفوا على معانيها ، وغلبت قلوبهم عليه بيقين (٢) لاستغرقتهم ، وحال ذلك بينهم وبين التلفّت إلى الدنيا بالكلية ، فهذا طريق الفكر ، حتى يعم قلبه بالأخلاق المحمودة ، والمقامات الشريفة ، لتنزه باطنه وظاهره عن المكاره والرذائل ، لئلا يغفل عن صفات نفسه المبعدة من الله تعالى ، وأحواله المقربة إليه سبحانه وتعالى ، بل ينبغي أن يكون للأنسان جريدة (٣) يثبت فيها جملة الصفات المهلكات والصفات المنجيات ، وجملة المعاصي والطاعات ، ويعرض نفسه عليها كل يوم.

__________________

١ ـ ما بين المعقوفين أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٢ ـ في تنبيه الخواطر : وغلبت على قلوبهم غلبة يقين.

٣ ـ الجريدة : دفتر يكتب به « المعجم الوسيط ١ : ١١٦ ».

٢٤٢

فأما المهلكات فهن : البخل ، الكبر ، والعجب ، والرياء ، والحسد ، وشدة الغضب ، وشره الطعام ، وحب المال والجاه.

والمنجيات فهي : الندم على الذنوب ، والصبر على بلاء الله والشكر على نعمائه ، والزهد في الدنيا ، والاخلاص في الأعمال وحسن الخلق ، والخوف من الله تعالى ، والخشوع له فمهما كفي من المذمومات واحدة فيخط (١) عليها في جريده ، ويدع الفكر فيها على الباقي ، فلا يزال يدفع عن نفسه مذموماً منها إلى أن يأتي على الجميع وكذلك يطالب نفسه بالأّوصاف المنجيات ، فإذا اتصف بواحدة منها كالتوبة مثلاً والندم وخط عليها (٢) ، واشتغل بالباقي ، وهذا يحتاج إليه من علت درجته ، وشمّر جده في طلب الصالحات ، وأما اكثر الناس من المعدودين الصالحين ، فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة ، كأكل الشبهة ، وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة ، والثناء على النفس ، والإفراط في معاداة الأعداء ، وموالاة الأولياء ، والمداهنة مع الخلق في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أكثرمن يعد نفسه من الصالحين فلا ينفك عن جملة هذه المعاصي في جوارحه ، وما لم تطهر الجوارح عن الآثام ، لايمكن الإشتغال [ بعمارة القلب ] (٣) وتطهيره ، بل كل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من المعصية ، فينبغي أن يكون تفقّدهم لها ، وتفكرهم فيها لإزالتها.

وبالجملة فينبغي للسالك طريق الصالحين ، الراغب فيما عند الله في الدار الاخرة ، أن ينزل عن قلبه حب الجاه والمال والثناء ، والتعظيم ، فإن ذلك ينبت النفاق في القلب ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حب الجاه والمال ، ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ذئبان ضاريان اُرسلا في زريبة (٤) غنم ، بأكثر فساداً فيها من حب المال (٥) في دين المرء المسلم ».

ولا ينقطع حب الجاه والمال من القلب ، إلاّ بالقناعة باليسير من الرزق ، وترك

__________________

١ ـ في الأصل : فيحصل ، وما أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٢ ـ في الأصل : وحضّ عليها ، وما أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٣ ـ ما بين ألمعقوفين أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٤ ـ زريبة الغنم : حظيرتها « الصحاح ـ زرب ـ ١ : ٤٢ ».

٥ ـ في تنبيه الخواطر : حب الجاه والمال.

٢٤٣

الطمع فيما في أيدي الناس ، فينبغي أن لا ينقطع فكر الراغب في هذا الأمر في التفطن بخفايا هذه الصفات ، واستنباط طريق الخلاص منها ، وهذه صفات الأتقياء الصالحين.

وأما أمثالنا فينبغي أن يكون فكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب ، إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعاً : إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب ، فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار ، فإن من خاف شيئاً هرب منه ، ومن رجا شيئاً عمل له ، وقد علمنا أن الهرب من النار ترك ما يوجبها ، وترك الشهوات من الحرام والمعاصي ، ونحن منهمكون فيها ، وأن طلب الجنة بفعل الطاعات ، وكثرة طاعة الله بالصلاة والصوم والقربات ، وملازمة الذكر والفكر في طريق النجاة ونحن مقصرون في القيام بذلك ، فكيف تحصل الجنة مع ترك العمل لها؟ والنجاة من النار مع العمل بما يوجبها؟

فهذه هي الأماني الكاذبة والغرور ، كما قال الله سبحانه : ( ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور ) (١) هذا توبيخ وتقريع لغير الكفار ، بدليل قوله تعالى : ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ) (٢) (٣).

يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه الحسن بن أبي الحسن الديلمي ـ أعانه الله على طاعته وتغمده برأفته ورحمته ـ : إني لأعجب من قوم سمعوا الله تعالى يقول : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ) (٤) وهم يرجون ذلك بغير بذل نفس ولامال. فانظروا أيها الإخوان إلى معاني هذه الآية ، وكونه تعالى باع الجنة بالنفس والمال ، وأكثر الناس لا يسمح بماله ولا بشيء منه ولا بشعرة من نفسه ، ثم مع هذه الحال يرجو الجنة ، فهذا هو الطمع.

ألا ترون إلى إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، كيف بذل نفسه وولده وماله؟ أمّا

__________________

١ ـ الحديد ٥٧ : ١٤.

٢ ـ الحديد ١٥ : ٥٧.

٣ ـ الكلام الآنف الذكر المنسوب للمؤلف ورد في تنبيه الخواطر : ١٤٤ و ٢٥٢ ـ ٢٥٦ بالختلاف في ألفاظه ، فتأمل.

٤ ـ التوبة ٩ : ١١١.

٢٤٤

بذل نفسه ، فإنه لما كسر أصنام المشركين ، أضرموا له النار وحذفوه إليها في المنجنيق ، فعرض له جبرئيل عليه‌السلام في الهواء فقال له : ألك حاجة يا خليل الرحمان؟ قال : إليك لا.

وأما بذله لولده ، فإنه أضجعه للذبح كما حكى الله تعالى بقوله : ( فلما أسلما وتلّه للجبين ) (١) أسلم إبراهيم ولده للذبح ، وأسلم إسماعيل نفسه.

وأما المال ، فإنه لما اتخذه الله خليلاً ، قالت الملائكة : إلهنا اتخذت بشراً من الآدميين خليلاً؟ قال سبحانه : إني اختبرته في نفسه فجاد بها ، وفي ولده فجاد به ، وقد بقي ماله ، فانزلوا الأرض فاختبروه فيه ، فنزل نفر من الملائكة في شبه البشر فعرضوا له وسلموا عليه وقالوا : يا خليل الرحمان ، إن نحن آمنا بك وصدقناك ، فما لنا عندك؟قال لي العصا ، ولكم الرعاء ـ يعنى ألأغنام ـ وكانت يومئذ كلاب غنمه إثنا عشر الف كلب فما ظنكم بغنم كلابها إثنا عشر ألف كلباً كم تكون!؟ فجاد بالنفس والمال والولد ، حتى قال الله تعال : ( وأبراهيم الذي وفى ) (٣) فصدق الله في شهادته له ببذله نفسه وماله وولده.

ونحن نرجو المنازل العالية ، ولا نعمل عمل أهلها ، وما ذاك إلا لترك الخوف والإفتكار فيما مضى من العمر في غير طاعة ، وإنما السلامة غداً للخائفين المشفقين الوجلين ، دل على ذلك القرآن المجيد ، بقوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) (٣) وبقوله تعالى : ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) (٤) وبقوله تعالى : ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ) (٥) يعنى بقوله : ( مشفقين ) خائفين. ومدح سبحانه قوماً بقوله : ( يخافون يوماً كان شره مستطيراً ) (٦) وبقوله تعالى : ( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) (٧) يريد به أنه أنعم بالخوف

__________________

١ ـ الصافات ٣٧ : ١٠٣.

٢ ـ النجم ٥٣ : ٣٧.

٣ ـ الرحمن ٥٥ : ٤٦.

٤ ـ ابراهيم ١٤ : ١٤.

٥ ـ الطور ٥٢ : ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧.

٦ ـ الإنسان ٧ : ٧٦.

٧ ـ المائدة ٥ : ٢٣.

٢٤٥

عليهما ، وقال سبحانه : ( وأمّا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) (١) وقال سبحانه : ( إنما يخشى الله من عباده العلماءُ ) (٢) والآيات في ذلك كثيرة يعرفها من يتلوها ، ولكن لا يتدبّرونها كما قال سبحانه وتعالى ( افلا يتدبرون القرآن ) (٣) فلو تدبّروها لما ركبوا الطمع وسموه رجاءً.

ولقد أحسن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : « يدعي بزعمه أنه يرجوا الله ، كذب والعظيم ، فما باله لا يتبين رجاؤه في عمله! فكل من رجا تبين رجاؤه في عمله ، إلاّرجاء الله فإنه مدخول ، وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول ، يرجو الله في الكبير ، ويرجو العباد في الصغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرب ، فما بال الله جل جلاله يُقصرُ به عما يُصنع بعباده!؟ أتخاف أن تكون له في رجائك كاذباً ، أولا تراه للرجاء موضعاً ، وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربه ، فجعل خوفه من العباد نقداً ، وجعل خوفه من خالقه وربه ضماراً (٤) ووعداً وكذلك من عظمت الدنيا في عينه ، وعظم موقعها من قلبه ، آثرها على الله ، وانقطع إليها ، وصار عبداً لها (٥) ولمن في يديه شيء منها ، ثم إنهم ركبوا الغرة وظنوا أنهم خائفون ، وما حملهم على ذلك إلاّ لجهلهم بحقيقة الخوف ».

وقد فصله مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : « إن استطعتم أن يحسن ظنكم بالله ، ويشتد خوفكم منه ، فاجمعوا بينهما ، فإنما يكون حسن الظن العبد بربه على قدر خوفه منه ، وإن أحسن الناس بالله ظناً أشدهم منه خوفاً » (٦).

وقد روي أن أبراهيم عليه‌السلام كان يُسمع تأوهه على حد ميل ، حتى مدحه الله تعالى بقوله : ( إن أبراهيم لحليم أوّاه منيب ) (٧) وكان في صلاته يسمع من صدره أزيزكأزيز المرجل ، وكذلك كان يسمع من صدر سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل

__________________

١ ـ النازعات ٧٩ : ٤٠ ، ٤١.

٢ ـ فاطر ٣٥ : ٢٨.

٣ ـ النساء ٤ : ٨٢.

٤ ـ الضمار : ككتاب ، من المال الذي لا يرجى رجوعه ، ومن العدات ما كان ذا تسويف وخلاف العيان ، ومن الدين ما كان بلا أجل « القاموس المحيط ـ ضمر ـ ٢ : ٧٦ ».

٥ ـ نهج البلاغة ١ : ٧١ / ١٥٥.

٦ ـ عدة الداعي : ١٣٧.

٧ ـ هود ١١ : ٧٥.

٢٤٦

ذلك (١).

وكان أمير ـ المؤمنين عليه‌السلام إذا أخذ في الوضوء يتغير وجهه من خيفة الله تعالى ، وكانت سيدتنا فاطمة عليها‌السلام تنهج (٢) في صلاتها من خشية الله تعالى (٣)

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ عليه أُبيّ سورة النساء ، فلما وصل إلى قوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل اُمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) (٤) فبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأنظروا أيها الناس إلى الشهيد كيف يبكي ، والمشهود عليهم يضحكون!؟ وأنظروا الى الخليل والحبيب والصفيّ والصديقة الطاهرة ، كيف يخافون هذا الخوف العظيم ، وهم الشهداء والشفعاء!؟ ومن يستشفع بهم ويرجو النجاة غداً بحبهم كيف هوآمن لاهٍ! كأنه لم يسمع الله تعالى يقول ( أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون ) (٥) وقال أهل التفسير : السامد هو اللاهي ، وقيل : الضاحك ، وقيل : الساكت.

فتيقظوا ـ عباد الله ـ من الغفلة ، وحاسبوا أنفسكم على الصغيرة والكبيرة ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

إن الله تعالى يسائلكم ـ معشر عباده ـ عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة ، والظاهرة والمستورة ، فإن يعذب فأنتم أظلم ، وإن يعفو فهو أكرم.

وأعلموا ـ عباد الله ـ أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة ، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الدنيا ، في آخرتهم ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت ، وأكلوها بأفضل ما اُكلت ، فحفظوا في الدنيا بما حظي المترفون ، وأخذوا ما أخذه الجبابرة المتكبرون ، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ ، والمتجر الرابح ، اصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم ، وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم ، لا ترد لهم دعوة ، ولا ينقصلهم نصيب من لذة.

__________________

١ ـ عدة الداعي : ١٣٨.

٢ ـ النهيج : تتابع النفس ، اُنظر « لسان العرب ـ نهج ـ ٢ : ٣٨٣ ».

٣ ـ عدة الداعي ١٣٨.

٤ ـ النساء ٤ : ٤١.

٥ ـ النجم ٥٣ : ٥٩ ـ ٦١.

٢٤٧

فاحذروا ـ عباد الله ـ الموت وقربه ، وأعدّوا له عدته ، فإنه يأتي بأمر عظيم ، وخطب جليل ، يأتي بخير لا شر بعده أبداً ، وبشر لا خير بعده أبداً ، فمن أقرب من الجنة من عامليها!؟ ومن أقرب من النار من عامليها!؟ وأنتم طرد الموت الذي إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، وهو ألزم لكم من ظلكم ، الموت معقود بنواصيكم ، والدنيا تطوى من خلفكم ، فاحذروا ناراً قعرها بعيد ، وحرها شديد ، وعذابها جديد ، وحليتها حديد ، دار ليس فيها رحمة ، ولا تسمع فيها دعوة ، ولا تفرج فيها كربة (١) ، فاتقوا الله ، ولا تسخطوه برضى أحد من خلقه ، فإن في الله خلفاً من خلقه ، وليس في غيره خلف منه.

فانتبه أيها الإنسان لنفسك ، واعلم أنك مسؤول عن ألقليل والكثير ، والنقير والقطمير ، والفتيل والذرة والحرف ، وما تضمر في نفسك ، وزمرات (٢) عينك وخيانتها ، وتمثل في نفسك ـ إن أردت أن يخشع قلبك ، وتقشعر جوارحك ، وتجري دمعتك ـ أهول يوم القيامة ، وكربها وفرقها ، وشدة عظائمها ، وخروجك من قبرك عرياناً حافياً ، شاحباً لونك ، شاخصاً بصرك ، تنظر مرة عن يمينك ، ومرة عن يسارك ، إذ الخلائق كلهم في شأن غير شأنك ، ومعك ملائكة موكّلون بك غلاظ شداد ، منهم سائق وشهيد ، سائق يسوقك إلى محشرك ، وشهيد يشهد عليك ، بعملك ، فحينئذ تنزل الملائكة من أرجاء السماوات ، جسام عظام ، وأشخاص ضخام شداد ، اُمروا أن يأخذوا بنواصي المجرمين إلى موقف العرض ، مهول خلقهم.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن لله ملكا ما بين شفري عينيه مسيرة مائة عام ».

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إن لله ملائكة لو أن ملكاً هبط إلى الأرض لم تسعه ، لعظم خلقه ، وكثرة أجنحته ، ومنهم من لو كلفت الجن والأنس أن يصفوه ما قدروا على وصفه ، لبعد ما بين مفاصله ، وحسن تركيب صورته ، وكيف يوصف من ما بين منكبه وشحمة اذنه مسيرة سبعمائة عام!؟ ومنهم من يسد الأفق بجناح من أجنحته دون عظم بدنه

__________________

١ ـ نهج البلاغة ٣ : ٣١ / ٢٧.

٢ ـ كذا في الأصل ، والظاهر أنه تصحيف ، صحته : ورمزات ، والرمز : الإشارة والإيماء بالحاجب.

« الصحاح ـ رمز ـ ٣ : ٨٨٠ ».

٢٤٨

ومنهم من السماوات إلى حجزته (١) ، ومنهم من قدماه على غير قرار في جو الهواء الأسفل ، والأرضون إلى ركبته ، ومنهم لو اُلقي في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها ، ومنهم من لو اُلقيت السفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين. فتبارك الله أحسن الخالقين ».

روى هذا الحديث مسنداً الشيخ أبو جعفر ابن بابويه الفقيه رحمه‌الله ، في كتابه كتاب (الخصال) (٢).

فانتبه لنفسك ـ أيها الأنسان ـ كيف تكون حالك إذا شاهدت مثل هؤلاء الملائكة العظيمي الخلق ، ليأخذوك إلى مقام العرض ، وتراهم على عظم أشخاصهم منكسرين ، لشدة خوف يوم المحشر ، مما يرون من غضب الجبار على عباده ، وعند نزولهم لا يبقي نبي ولا صدّيق ولا صالح إلاّ ويخرون لأذقانهم خوفاً من الله ، كأنهم هم المأخوذون ، فهذا حال المقربين ، فما ظنك بالعصاة المجرمين!

وعند ذلك تقوم الملائكة صفاً محدقين بالخلائق من الجوانب ، وعلى جميعهم شعار الذل والخضوع ، وهيبة الخوف والمهابة لشدة ذلك اليوم.

ثم تقبل الملائكة فينادون وأحداً واحداً يافلان بن فلانة ، هلمّ إلى موقف العرض ، فعند ذلك ترتعد الفرائص ، وتضطرب الجوارح ، وتبهت العقول ، ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار ، ولا تعرض قبائح ، أعمالهم على الجبار ، ولا يكشف سرهم على ملأ الخلائق. فعند ذلك يخرج النداء : يا جبرئيل ، إئت النار ، فجاءها جبرئيل وقال لها : يا جهنم ، أجيبي خالقك ومليكك. فقادها جبرئيل على غيظها وغضبها ، فلم تلبث بعد النداء أن فارت وزفرت إلى الخلائق وشهقت ، وسمع الخلائق شهيقها وزفيرها ، وانتهضت خزانها متنكرة على الخلائق ، غضباً على من عصى الله وخالف أمره.

فأخطر ببالك حال قلوب العباد وقد امتلأت فزعاً ورعباً ، فتساقطوا وجثوا على الركب ، وولوا مدبرين ، وسقط بعضهم على الوجوه ، وينادي الظالمون والعصاة بالويل والثبور ، ونادى كل واحد من الصديقين : نفسي نفسي. فبينا هم كذلك إذ زفرت النار زفرة ثانية ، فتساقط الخلائق على وجوههم ، وشخصوا بأبصارهم ينظرون من طرف

__________________

١ ـ في الأصل : حرته ، وما أثبتناه من المصدر.

٢ ـ الخصال : ٤٠٠ / ١٠٩.

٢٤٩

خاشع خفي ، واُنهضت قلوب الظالمين فبلغت الحناجر كاظمين ، فعند ذلك يقال : يا ابن آدم ، ألم أكرمك وأسوّدك (١) وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والابل والأنعام ، وأنعم عليك بالشباب؟ ففي ماذا أبليته؟ وأمهل لك في العمر ، ففي ماذا أفنيته؟ وأرزقك المال ، ففي ماذا أنفقته؟ ألم أكرمك بالعلم ، فماذا عملت فيه؟

فانظر خجلك وحياءك عند تعداده عليك إنعامه وأياديه ، ومقابلته بمساوئك ، وأنت قائم بين يديه بقلب محزون خافق وجل ، وطرف خاشع ذليل منكسر ، ثم أُعصيت كتابك الذي لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

أوما علمت أن جوارحك شهوده ، وأعضاءك جنوده ، وضمائرك عيونه ، وخلواتك عيانه ، فكم من فاحشة نسيتها! وكم من طاعة غفلت عنها! وكم من ذنوب كشف لك عن مساوئها! فخجلت منها حيث لاينفع الخجل ، ووجلت حيث لاينفع الوجل ، فليت شعريَ بأي قدم تقف بين يديه! وبأي لسان تجيب عند العرض عليه!وبأي قلب تعقل! فتفكر في عظم جنايتك وذنوبك ، إذ يقول لك : يا عبديَ أما استحيت مني! بارزتنى بالقبيح ، واستحيت من خلقي ، فأظهرت لهم الجميل ، وبارزتنى بالقبيح ، أكنت أهون عليك من عبادي ، استخففت بنظري إليك ، واستعظمت خلقي.

يابن آدم ، ما غرك بي ، فاذا عملت؟ وبماذا أجبت الرسل؟ ألم أكن رقيباً عليك ، وأنت تنظر بعينك إلى مالا يحل لك! ألم أكن رقيباً على أذنيك ، وأنت تسمع بهما مالا يحل لك! وكذا يعدد عليه جميع جوارحه وأعضائه.

فانظر لنفسك ، فإنك بين أن يقال لك : قد تفضلت عليك بالغفران ، فيعظم سرورك وفرحك ، ويغبطك الأولون والآخرون. وأما أن يقال للملائكة : خذوه فغلٌوه ثم الجحيم صلّوه ، فعند ذلك لو بكت عليك السمماوات والأرض لكان ذلك جديراً بك ، لعظيم مصيبتك ، وشدّة حسرتك على ما فرطت من طاعة الله ، وعلى ما بعت من آخرتك من دنيا دنيئة لم تبق لك.

واعلم أنه لن ينجومن هول ذلك اليوم إلا من حاسب في الدنيا نفسه ، ووزن فيها بميزان الشرع أعماله وأقواله وخطراته (٢) ، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

__________________

١ ـ سَوّده : جعله سيداً ، يعني سيادة الإنسان على المخلوقات الاُخرى اُنظر « الصحاح ـ سود ـ ٢ : ٤٩٠ ».

٢ ـ في تنبيه الخواطر : وخطواته.

٢٥٠

صلوات الله عليه واله : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا » وإنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً ، ويتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله ، ورد المظالم حبة بعد حبة ، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده ويطيب قلوبهم ، حتى يتوب (١) ولم تبق عليه مظلومة ولا فريضة ، فهذا يدخل الجنة بلا حساب.

وإن مات قبل ذلك كان على أمر خطر من أهوال ذلك اليوم ، فنعوذ بالله منشر ذلك الموقف ، حين تتذكر ما أنذرك الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار * مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم وافئدتكم هواء ) (٢) فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أموالهم ، وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقفبك على بساط العدل ، وقوبلت بميزان السياسة والعدل ، وأنت مفلس فقير عاجز مهين ، لا تقدر على أن ترد حقاً أو تقيم عذراً.

فدع التفكر فيما أنت مرتحل عنه ، واصرفه إلى مورده واحذره ، واجتهد فيما ينججك منه ، واستمع إلى قوله تعالى : ( وان منكم إلأ واردها كان على ربك حتمآَ مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً ) (٣) فإن كنت تعلم من نفسك التقوى ، فأنت من الناجين ، وإن لم تكن كذلك ، فأنت من الظالمين فيها جثياً ، فأشعر قلبك هول ذلك المورد ، فعساك تستعد للنجاة (٤) منه.

وتأمل في حال الخلائق ، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا ، فبيناهم في كربها وأهوالها واقفون ينظرون حقيقة آياتها ، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ، وأظلت عليهم بادرات ، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة تفصح عن شدة الغيظ ، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعقاب ، وجثت الاُمم على الركب ، حتى أشفق البراء من سوء المنقلب.

وخرج ملك من الزبانية ينادي : يافلان بن فلان ، المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل ، المضيع عمره في سوء العمل. فيبادرونه بمقامع حديد ، ويستقلبونه بعظائم

__________________

١ ـ في تنبيه الخواطر : يموت.

٢ ـ إبراهيم ١٤ : ٤٢ ، ٤٣.

٣ ـ مريم ١٩ : ٧١ ، ٧٢.

٤ ـ في الأصل : بالنجاة ، وما أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٢٥١

التهديد ، ويسكنونه في دار ضيقة الأرجاء ، مظلمة المسالك ، مبهمة المهالك ، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله فلا ينجيهم الندم ، ولا ينفعهم الأسف ، بل يكبون على وجوههم من فوق النار ، فهم بين مقطعات النار وسرابيل القطران ، يتحطمون في دركاتها ، ويضطربون بين غواشيها ، تغلي بهم النار كغلي القدور ، وينادون بالويل والعويل ، ومهما دعوا بالثبور صب فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ، فمن كان من أهل الشفاعة أدركته ، لقوله صلى الله عليه : « ادخرت شفاعتي لأهل الكبائرمن أمتي ».

وقوله عليه‌السلام : « يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمماً (١) وفحماً » ومن كان من أهل الخلود ، فالويل له بالعذاب الدائم المقيم ، نعوذ بالله من ذلك.

واعلم أن تلك الدار التي عرفت غمومها وهمومها ، يقابلها دار اُخرى وهي الجنة ، فإن من بعد منها استقر لا محالة في جهنم ، فاستشعر الخوف في قلبك بطول الذكر في أهوال الجحيم ، واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم ، الموعود لأهل الاحسان ، وسق نفسك بسوط الخوف ، وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم ، فبذلك تنال الملك العظيم ، وتسلم من ألعذاب الأليم.

فتفكر في أهل الجنة ، في وجوههم نظرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك ، جالسين على منابر من الياقوت الأحمر ، في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض ، فيها بسط من العبقري الأخضر ، متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل ، محفوفة بالغلمان والولدان ، مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان ، كأنّهنّ الياقوت والمرجان ، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، يمسون (٢) في درجات الجنان. إذا اختالت في مشيها ، حمل أعطافها سبعون ألفاً من الولدان ، عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار ، مكلّلاً بالتيجان المرصّعة باللؤلؤ والمرجان ، كَحلات غنجات (٣) عطرات آمنات من الهرم البؤس ، ومقصورات في قصور من الياقوت ، نبتت وسط روضات الجنات ، قاصرات الطرف عين ، ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين.

__________________

١ ـ الحمم : الرماد والفحم وكل ما احترق في النار « الصحاح ـ حمم ـ ٥ : ١٩٠٥ ».

٢ ـ في تنبيه الخواطر : يمشين.

٣ ـ إمرأة غَنجة : حسنة الدل ، وقيل : الغنج ملاحة العينين « لسان العرب ـ غنج ـ ٢ : ٣٣٧ ».

٢٥٢

وقيل : إن في الجنة حوراء يقال لها : العيناء ، إذا مشت يمشي عن يمينها ويسارها سبعون ألف وصيفة ، وهي تقول : أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ وقال آخر : ترك الدنيا شديد ، وفوت الجنة أشد ، وترك الدنيا مهرالاخرة.

وقال أيضاً : في طلب الدنيا ذلّ النفوس ، وفي طلب الجنة عز النفوس ، فيا عجباً لمن يطلب الدنيا بذلّ النفوس والتعب ، ولا يطلب الاخرة بعز النفوس والراحة (١).

ابن بابويه ، عن محمد بن [ أبي ] (٢) القاسم ، عن محمد بن علي الكوفي ، عن محمد أبن خالد ، عن بعض رجاله ، عن داود الرقي ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين ، قال : من لم يقنّط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يرخص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة (٣). ألا ، لا خير في علم ليس فيه تفهم ، الا ، لا خير في قراءة ليس فيها تدبر ، الا ، لا خير في عبادة ليس فيها تفقه » (٤).

* * *

__________________

١ ـ الكلام الآنف الذكر المنسوب للمؤلف ورد في تنبيه الخواطر : ٢٩٦ ـ ٣٠٠ ، بتصرف في عباراته ، فتأمل.

٢ ـ أثبتناه من معاني الأخبار ، وهو محمد بن أبي القاسم عبيد الله بن عمران الجنابي البرقي ، أبو عبد الله الملقب ماجيلويه ، وأبو القاسم يلقب بندار ، ثقة عالم فقيه عارف بالأدب والشعر والغريب ، وهو صهر أحمد بن أبي عبد الله البرقي على أبنته ، وابنه علي بن محمد منها. « رجال النجاشي : ٢٥٠ ، معجم رجال الحديث١٤ : ٢٩٦ ».

٣ ـ في معاني الأخبار زيادة : عنه إلى غيره

٤ ـ معاني الأخبار : ٢٢٦ / ١ ، تنبيه الخواطر : ٣٠٠.

٢٥٣

فصل في ذكر حقوق الإخوان

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن من أفضل الأعمال بعد الفرائض ، إدخال السرور على المؤمن ».

وقال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « من سرَ لنا ولياً ، فقد وصل لنا رحماً ».

وقال عليه‌السلام : « فقراء شيعتنا حجة على أغنيائهم ».

وروي عن الصادق عليه‌السلام ، أنه قال : « من رفع أخاه رفع الله قدره ـ ثم قال : ـ من أحوج أخاه إلى عدوه ، أحوجه الله تعالى عز وجل إلى شرارخلقه ، وضيق عليه في رزقه ».

وقال عليه‌السلام : « من ترك حاجة لأخيه المؤمن ، ولم يقضها له من ماله وجاهه ويده ورجله ولسانه ، أوجب الله عز وجل عليه ثلاث حوائج لرجل منافق ، يكيده فيها ولا يأجره الله عليها ».

وقال : « من سأله أخوه المؤمن حاجة ، وعنده قضاؤها ولم يقضها بأنعم الله عنده ، فقد كفر بها ، وباء بغضب ، ومأواه جهنم وبئس المصير ».

وقال : « من سر مّؤمناً فقد سرّني ، ومن سرّني فقد سر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن سرّ رسول الله فقد سر الله عز وجل ، ومن سرّ الله أدخله الجنة ».

وعن المعلى بن خنيس قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : ما حق المؤمن على المؤمن؟ قال : « سبعة حقوق واجبات ، ما فيها حق إلا وهو عليه واجب ، إن خالفه خرج من ولاية الله وترك طاعته ، ولم يكن لله عز وجل فيه نصيب ».

قال : قلت : جعلت فداك ، حدثني ماهي؟ قال : « يا معلى إني شفيق عليك ، أخشى أن تضيع ولا تحفظ ، وتعلم ولا تعمل ».

قلت : لا قوة إلاّ بالله. قال : « أيسر حق منها ، أن تحب له ما تحب لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك.

والحق الثاني : أن تمشي في حاجته ، وتبتغي رضاه ، ولا تخالف قوله.

والحق الثالث : أن تصله بنفسك ، ومالك ، ويدك ، ورجلك ، ولسانك.

والحق الرابع : أن تكون عينه ووليه ومرآته وقميصه.

٢٥٤

والحق الخامس : أن لا تشبع ويجوع ، ولا تلبس ويعرى ، ولا تروى ويظمأ.

والحق السادس : أن تكون لك امرأة وخادم ، وليس لأخيك امرأة ولا خادم ، أن تبعث خادمك فتغسل ثيابه ، وتصنع طعامه ، تمهد فراشه ، فإن ذلك كله إنما جعل بينك وبينه.

والحق السابع : أن تبر قسمه ، وتجيب دعوته ، وتشهد جنازته ، وتعوده في مرضه ، وتشخص بدنك في قضاء حاجته ، ولا تحوجه إلى أن يسألك ، ولكن تبادر إلى قضاء حوائجه ، فإذا فعلت ذلك به وصلت ولايتك بولايته ، وولايته بولاية الله عز وجل » (١).

عن علي عليه‌السلام : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في وصيته : « يا علي ، سبعة من كن فيه فقد استكمل حقيقة الإيمان ، وأبواب الجنة مفتحة له : من أسبغ وضوءه ، وأحسن صلاته ، وأدى زكاة ماله ، وكفّ غضبه ، وسجن لسانه ، واستغفر لذنبه ، وأدى النصيحة لأهل بيت نبيه » (٢).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من مؤمن يصوم شهر رمضان ، إلا أوجب الله ـ تبارك وتعالى ـ له سبع خصال : أولها : يذوب الحرام في جسده.

والثانية : يقرب من رحمة الله عز وجل.

والثالثة : قد كفي خطيئة أبيه آدم.

والرابعة : يهون الله عليه سكرات الموت.

والخامسة : أمان من الجوع والعطش يوم القيامة.

والسادسة : يطعمه الله عز وجل من طيبات الجنة.

والسابعة : يعطيه الله عز وجل براءة من النار » قال : صدقت يا محمد (٣).

وروي عن العالم أنه قال : « والله ، ما اُعطي مؤمن قط خير الدنيا والاخرة ، إلا بحسن ظنه بالله ـ عز وجل ـ ورجائه له ، وحسن خلقه ، والكف عن اغتياب المؤمنين.

__________________

١ ـ الخصال : ٣٥٠ / ٢٦.

٢ ـ الخصال : ٣٤٥ / ١٣.

٣ ـ الخصال ٣٤٦ / ١٤ ، والحديث المذكور قطعة من الحديث الطويل لليهود الذين جاءوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن عدة مسائل ، فعبارة « صدقت يا محمد » هي لليهودي السائل.

٢٥٥

والله ـ تبارك وتعالى ـ لايعذب عبداً بعد التوبة والإستغفار إلا بسوء ظنه ، وتقصيره في رجائه لله عز وجل ، وسوء خلقه ، واغتيابه للمؤمنين. وليس يحسن ظن عبد مؤمنبالله عز وجل إلا كان عند ظنه به ، لأن الله تعالى كريم يستحي أن يخلف ظن عبدهورجاءه ، فأحسنوا الظن بالله ، وارغبوا إليه ، فإن الله تعالى يقول : ( الظانين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنم وساءت مصيرا ) (١) و (٢).

وقد روي : ان الله تعالى قال : « أنا عند ظن عبدي بي ، فلا يظن بي إلا خيراً » (٣) وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « الثقة بالله حصن لايتحصن به إلا مؤمن ، والتوكل عليه نجاة من كل سوء وحرزمن كل عدو ».

وروي أن الله تعالى إذا حاسب الخلق ، يبقى رجل قد فضلت سيئاته على حسناته ، فتأخذه الملائكة إلى النار ـ وهو يتلفت ـ فيأمر الله بردّه ، فيقول له : لم تتلفت؟ ـ وهو أعلم به ـ فيقول : يا رب ، ما كان هذا حسن ظني بك ، فيقول الله تعالى : ملائكتي ، وعزتي وجلالي ، ما أحسن هذا عبدي ظنه بي يوماً ، ولكن انطلقوا به إلى الجنة لادّعائه حسن الظن (٤).

وروي أن الله تعالى يقول ـ حين يجمع بين الناس ، ولبعضهم على بعض حقوق ، وله قبله تبعات ـ : عبادي ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم ، فهبوا لبعضكم تبعات بعض ، وادخلوا الجنة جميعاً برحمتي (٥).

وبالجملة ان الله سبحانه وتعالى أمر بمكارم الأخلاق ، من العفو والحلم والكرم والتجاوز والعطف والرحمة والإغضاء ، ورغب في ذلك وأحب فاعله ، ومقت تاركه ، فهو سبحانه أحق بأن يعمل بما أمر به واحبه ، أفيأمر بهذه الخصال الحميدة الجميلة ، ولا يعمل بها؟ حوشي من ذلك ، وجل وعلا.

__________________

١ ـ الفتح ٦ : ٤٨.

٢ ـ فقه الرضا (ع) : ٣٦٠ ، عدة الداعي : ١٣٥.

٣ ـ عدة الداعي : ١٣٢.

٤ ـ عدة الداعي : ١٣٥.

٥ ـ عدة الداعي ١٣٦.

٢٥٦

ولقد أحسن من قال هذه الأبيات في هذا المعنى :

أيا رب هب أني أسأتُ وأذنبتُ

ألم يكفني قولي فعلتُ وأخطأتُ

أما جاز في شرع السموّ بأنكم

تعفون عني إذ عرفتُ وأقررتُ

فقد قلت هذا القول مني لدونكم

فغضّ عن الذنب الجموح بما قلتُ

وليس كريم من رضى إذ منحته

وفائي ولكن من تغاضى وقد خنتُ

فما زال حسن العفو منكم سجية

على سفه التكرار منّي وإن تُبتُ

إذا جاءك العبد المطيع لخشية

من النارأو بخل تَقَضّى به الوقتُ

عمدت إلى درع من الحلم صاغه

رجائي بعفو منكم فتدرّعتُ

فأطفأت نار الخوف ثَمَّ ببرد ما

ظننت بكم فيما رجوتُ وأمَّلت

إذا كانت الذات القديمة عفوها

قديم وماصرت وكان وقد صرت

فسوف ارجّيهِ وإن بَعُدَ المدى

عليّ وإن حلت ذنوبي إذا متُ

ولو لم يكن من ذاتك العفو شاهداً

أمرت به بين الورى كنت قد خفتُ

ولكن وزنت العفو منكم بأخذكم

على الجُرم فاسترجحتُه فترجّحتُ

فلي الفخر في الدنيا وإن كنت ابقاً

إذا كنتَ لي مولىَ سعدتُ وأسعدتُ

وكيف أرى ناراً وقد ظفرت يدي

بمن قال : كن ، من غير ما لم يكن ، كنتُ

وشيمته عفو وحلم ونائل

ولطف وإحسان رأيتُ وشاهدتُ

فأنت غنائي إن قضمت من الحصا

شِقاً في اختيارٍ منكم أوتنعّمتُ

وقال آخر :

يارب إن عظمت ذنوبي كثرة

فلقد علمت بأن عفوك أعظم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً

فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

إن كان لا يرجوك إلاّ محسن

فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ!؟

ما لي إليك وسيلة إلا الرجا

وجميل عفوك ثم إني مسلمُ

وقال آخر :

من لي سواك فأدعوه وآمله

وغير نعماك أرجوها وأرتقب

أو ليتني نعماً جَلَّت مواهبها

أضاء لي عندها المعروف والحسب

أخرجتني بعظيم اللطف من عدم

معرّضاً لثواب منك يكتسب

رفعتني بعد ماقد كنتُ منخفضاً

فصرت بين الورى تسمو بي الرتب

٢٥٧

فلا أطيق لما أوليت من نعم

شكراً ولكنني أبكي وأنتحب

ذلاً وخوفاً من التقصير يا ملكي

فهب ، وشيمة أهل الفضل أن يهبوا

لكنّ قلبي بما أجريتَ معترف

فرضاًعليه يراه لازماً يجب

فاصفح إلهي ، فهذا الظن فيك على

حسناك حتى يزول الهم والكرب

وقال اخريخاطب الله تعالى :

أجلُكَ عن تعذيب مثلي على ذني

ولا ناصر لي غيرنصرك ياربي

أنَا عبدك المحقور في عظم شأنكم

من الماء قد أنشأت أصلي ومن ترب

ونقلتني من ظهرآدم نطفة

أجدّ وفي قعرحريج (١) من الصلب

وألقيتني من ضيقِ قعر بِمَنِّكُمْ

وإحسانكم أهوي إلى الواسع الرحب

فحاشاك في تعظيم شأنك والعلى

تعذب محقوراً بإحسانكم ربي

لأنا رأينا في الأنام معظّماً

تجلى عن المحقورفي القتل والضرب

وأرفده مالاً ولوشاء قتله

لقطعه بالسيف إرباً على إرب

وأيضاً إذا عذبت مثلي وطائعاً

تُنَعِّمَه فالعفوفيكم لمن تحبي

فإني متى مازنته بعقابكم

وأخذِكُمُ بالجرِم مِنّيَ يَرجُح بي

فما هو إلا لي فمنذ رأيته

لكم شيمة أعددته المحوَ للذنب

وأطمعتني لما رأيتك غافراً

ووهاب قد سميتَ نفسك في الكَتب

فإن كان شيطاني أعان جوارحي

عصتكم ، فمن توحيدكم ماخلا قلبي

فتوحيد كم فيه وآل محمد

سكنتم به في حبّة القلب واللب

وجيرانكم هذي الجوارح كلها

وأنتم فقد أوصيت بالجار ذي الجنب

وأنصار أبنا العُرب تحمي نزيلها

وجيرانها والتابعين من الخطب

فلم لا ارجّي فيك ياغاية المنى

حمىً مانعاً ، إذ صح هذا من العرب

يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه الحسن بن أبي الحسن الديلمي ـ أعانه الله على طاعته وتغمده الله برأفته ورحمته ـ إني حيث ذكرت ما ذكرت من التخويف والترهيب ، اقتضت الحال ذكر أسباب الترغيب ، وماجاء ، في ذلك من سعة رحمة الله ، وعظيم كرمه ، وواسع حلمه وعفوه ، ونتيجة الظن به ، لينبسط الرجاء

__________________

١ ـ الحريج : من الحرج وهو الضيق « الصحاح ـ حرج ـ ١ : ٣٠٥ ».

٢٥٨

بذلك ، كما اشتد الخوف.

والذي امركم به ـ أيها الاخوان ـ أن يشتد خوفكم ، ويعظم حذركم ، فإن ذلك أدعى للنجاة. وأضرب لكم مثل رجلين توجها في طريق فسألا عنها ، فقال لهما قوم : إنها كثيرة المرعى والكلأ ، غزيزة الماء ، عظيمة الأمن ، وقال آخرون : بل هي طريق موحش ، قليل الماء والكلأ والمرعى ، مخوف شديد الخطر ، فأخذ أحدهما بقول منشهد بالمخافة ، فتزوّد وأكثرمن الزاد والماء والعدد ، وما يؤنسه ، وكل ما تحصل به السلامة والأمن. وسكن الآخر واطمأن إلى قول من أخبره بسلامة الطريق وأمنها ، وكثرة كلئها ومرعاها. فلما سارا فيها ، وجدها الذي تزود على ما حذرها ، ففاز بالنجاة والسلامة بكثرة الأزواد ، وهلك وعطب الذي لم يتزود ، وندم حيث لم تنفعه الندامة.

ولو قدرنا أنهما لووجدا الطريق على ما وصفها الواصفون لها ، بالأمن وكثرة الماء والمرعى ، اكان يضر الذي عمل بالحزم واحتاط لنفسه بالزاد؟

فتيقظوا ـ رحمكم الله ـ وتفكروا في المثل ، وانظروا فيه ، فإنه عبرة لأولي الألباب ، وتبصرة لمن أناب وعرف الصواب.

وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « غضوا أبصاركم ، واحفظوا ألسنتكم ، وحصنوا فروجكم ، وكفوا أيديكم ، واعلموا أن الأيام صحائف أعمالكم ، فلا تخلدوا إلى الأيام ونعيمها ، ورب مستدرج بالإحسان إليه ، مفتون بحسن القول فيه ، مغرور بالستر عليه ».

واعلموا ـ أيدكم الله ـ أن العقل لوترك من هوى صادٍّ ، ومألفٍ معتادٍ ، وأنفة من إنقياد ، لساق المرء إلى الرشاد ، وهجم به على الصلاح والسداد ، ولكَن تعوق عن إدراك الحق أمور يجب أن يحذرها العاقل النحرير :

منها : ترك التعلم ، وتقليد الاباء والمربّين ، واتباع السادة المنعمين.

ومنها : النشوء بين أهل بلدتهم ، واتباعهم في فاسد معتقدهم.

ومنها : محبة العز والقدرة ، واتباع عالي الكلمة والامرة ، وهذا مما تميل إليه الطباع ، وتشتهيه النفوس ، وقد يكون هذا من وجهين :

أحدهما : الانضمام إلى ذي سلطان لعزّه ، والأخذ بمذهبه لعلو أمره وشأنه.

والاخر : تقدم يحصل للأنسان في مذهب باطل ، يتّبعه عليه من الضعفة قوم

٢٥٩

لا بصيرة لهم ، فيصير رئيساً عليهم ، ويصعب عليه مفارقة عز التقدم عليه (١).

ومنها : محبة أسهل المذاهب ، ذي الرُخَّص في ارتكاب الفواحش واللذات ، استصعاباً للعلم ، واستنثّقالاً للعمل ، وميلاً إلى الراحة ، ورغبة في الاباحة ، ولهذا يسرع كثير من الناس إلى مذاهب الغلاة والمسقطين للتكليف والأعمال ، وقد جذبهم إلى ذلك انضمامهم في المَوَدّات والمخالطات ، فبادر نحوهم الراغب في هذا الشأن ، وانضم إليهم كل فقيرمحتاج ، قليل الدين.

ومنها : اتباع الأكثر ، والكون ، في جملة السواد الأعظم ، استيحاشاً من القلة ، وهذا مما ضلت به الحشوية.

ومنها : الإشتغال باُمور الدنيا عن الدين ، والإنقطاع إلى مخالطة التجار والمتكسبين ، حتى تلهي الإنسان دنياه عن النظر في الآخرة ، فلا يجعل لنفسه وقتاً من زمانه يهتم فيه لأمر دينه.

ومنها : عدم مجالسة العلماء ، وترك الإطلاع في الدلائل العقليات ، واستماع أقوال الجاهلية الأغنياء ، والإقتصار على الحكايات والخرافات.

ومنها : إن الجاهل يرى التقليد في الدين ، أروح له من طلب العلوم والبحث فيها ، وهذا يورث العمى والصمم.

ومنها : قبول قول احاد أخبار السمع ، التي لاتوجب علماً ولا عملاً ، حتى تألفه النفس ، ويميل إليه الطبع ، فلا يكاد الإنسان يرتاح إلا إليه ، ولا يعتمد إلا عليه.

ومنها : محبة المذهب الغريب.

ومنها : الأخذ بالقول المستطرف العجيب ، لا سيما إذا كان مصوناً بين أهله ، مكتوماً عند العاملين به ، حتى يظن المعتمد عليه أنه قد ظفر بالبغية ، ووجد الدرة المكنونة ، وهذا يحول بين المرء والرشاد ، ويسوقه إلى الضلال والفساد ، فإن اجتمع له مع هذا الجهل سببان أو اسباب ، عظمت به المحنة والرزية ، وتعذر عليه الصواب. ثم إن العادة هي الآفة الكبرى ، والداهية العظمى ، وهي الطبع الثاني ، والخلق الثابت.

فاحترز ـ يا أخي ـ من هذه الأخطار ، وفقك الله وسددك ، وهداك وأرشدك ، ولا تأنس بشيء منها عن ادراك الحقائق ، وكن فطناً متيقظاً حذراً متحفظاً

__________________

١ ـ كذا ولعلها زائدة.

٢٦٠