أعلام الدين في صفات المؤمنين

الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي

أعلام الدين في صفات المؤمنين

المؤلف:

الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٢
ISBN: 4-5503-75-2
الصفحات: ٥٣٢

يخسر المبطلون.

ياموسى ، ألق كفّيك ذلاً بين يدي كفعل العبد المستصرخ إلى سيده ، فإنك إذا فعلت ذلك رُحمت ، وأنا أكرم القادرين العائذين.

يا موسى ، سلني من فضلي ورحمتي ، فإنهما بيدي لايملكهما غيري ، وانظر حين تسألني كيف رغبتك فيما عندي ، لكل عامل جزاء ، وقد يجزى الكفور بما سعى.

يا موسى ، طب نفساً عن الدنيا وانطو عنها فإنها ليست لك ولست لها ، مالك ولدار الظالمين! إلا العامل فيها بالخير ، فإنها لنعمت الدار.

يا موسى ، ما امرك به فاسمع ، ومهما أراه فاصنع ، خذ حقائق التوراة إلى صدرك ، وتيقظ بها في ساعات الليل والنهار ، ولاتمكّن أبناء الدنيا من صدرك ، فيجعلونه وكراً كوكر الطير.

يا موسى ، الدنيا وأهلها فتن ـ بعضهم لبعض ـ فكل مزيّن له ما هو فيه ، والمؤمن زينت له الآخرة فهو ينظر إليها فما يفتر ، قد حالت شهوتها بينه وبين لذة العيش ، فأدلجته بالأسحار ، كفعل السابق إلى غايته يظل كئيباً ويمسي حزيناً ، فطوبى له ، لوقد كشف الغطاء ، ماذا يعاين من السرور!

يا موسى ، الدنيا لعقة ليست بثواب للمؤمنين ولاجزاء فاجر ، فالويل الطويل لمن باع ثواب معاده بلعقة لم تبق ولعقة لم تدم ، فكذلك فكن ـ كما أمرتك ـ فلكل أمر رشاد.

يا موسى ، إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجلت عقوبته ، وإذا رأيت الفقرمقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، ولاتكن جباراً ظلوماً ، ولا تكن للظالمين قريباً.

ياموسى ، صرخ الكتاب إليك صراخاً بما أنت إليه صائر ، فكيف ترقد على هذا العيون؟

أم كيف يجد قوم لذة العيش؟ لولا التمادي في الغفلة ، والتتابع في الشهوة ، ومن دون هذا يجزع الصديقون ، فادعني بالقلب النقي ، واللسان الصادق التقي ، وكن كما أمرتك ، وأطع أمري ، ولا تستطل على عبادي بما ليس منك مبتدأه ، وتقرّب إلي فإني منك قريب ، فإني لم أسألك ما يؤذيك ثقله ولاحمله ، إنما سألتك أن تدعوني فاُجيبك ، وأن تسألني فأعطيك ، وأن تقرب إلي بما منّي أخذت تأويله وعلي تمام تنزيله.

٢٢١

يا موسى ، انظر إلى الأرض فإنها عن قريب قبرك ، وارفع رأسك إلى السماء فإن فوقك ملكاً عظيماً ، وابك على نفسك ما كنت في الدنيا ، وتخوّف العطب والمهالك ، ولا تغرنِّك زينة الدنيا وزهرتها ، ولا ترض بالظلم ، ولاتكن ظالماً فإني للظالمين رصيد حتى آخذ منهم للمظلوم.

يا موسى ، إن للحسنة عشرة أضعاف ، ومن السيئة الواحدة الهلاك ، لاتشرك بي ، لايحل لك أن تشرك بي ، قارب وسدّد ، وادع دعاء الطامع الراغب فيما عندي ، النادم على ما قدمت يداه ، فإن سواد الليل يمحوه النهار ، وكذلك السيئة تمحوها الحسنة ، وغشوة الليل تأتي على ضوء النار ، وكذلك السيئة تأتي على الحسنة الجليلة فتسوّدها (١).

أحمد بن الحسن الميثمي ، عن رجل من أصحابه قال : قرأت جواباً من أبي عبدالله إلى رجل من أصحابه : « أما بعد ، فإني اُوصيك بتقوى الله ـ عز وجل ـ فإن الله قد ضمن لمن اتقاه ، أن يحوله عما يكره إلى ما يحب ، ويرزقه من حيث لايحتسب [ فإياك أن تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم ويأمن العقوبة من ذنبه ، فإنّ ] (٢) الله جل وعز لايخدع عن دينه (٣) ، ولا ينال ما عنده إلاّ بطاعته ، إن شاء الله » (٤).

عن أبي حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ قال : كان يقول : « إن أحبكم إلى الله ـ جل وعز ـ أحسنكم عملاً ، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عنده رغبة ، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله ، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقاً ، وإن أرضاكم عند الله أشبعكم على عياله ، وإن أكرمكم على الله جل وعز أتقاكم لله » (٥).

عبد الله بن سليمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال (٦) أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ليأتين على الناس زمان يظرف فيه الفاجر ، ويقرب فيه الماجن ،

__________________

١ ـ الكافي ٨ : ٤٢ / ٨ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٤٢.

٢ ـ أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٣ ـ في الكافي وتنبيه الخواطر : جنته.

٤ ـ الكافي ٨ : ٤٩ / ٩ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٤٦.

٥ ـ الكافي ٨ : ٦٨ / ٢٤ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٤٦.

٦ ـ في الأصل زيادة : لي.

٢٢٢

ويضعف فيه المنصف. قال : فقيل له : متى يا أمير المؤمنين؟ فقال : « إذا اتخذت الأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، والعبادة استطالة ، والصلة مناً. فقيل : متى ذلك ، يا أمير المؤمنين؟ فقال : إذا تسلطن النساء ، وتسلطن ألأماء ، واُمّر الصبيان » (١).

عن سعيد بن المسيب قال : كان علي بن الحسين ـ صلوات الله عليه ـ يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الاخرة ـ بهذا الكلام ـ في كل جمعة ، في مسجد الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وحفظ عنه وكُتب ، كان يقول :

« ايّها الناس ، اتقوا الله ، واعلموا أنكم إليه ترجعون ، فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.

ويحك ، يا ابن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه ، ابن آدم ، إن أجلك أسرع شيء إليك ، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكأن قد أوفيت أجلك ، وقبض الملك روحك ، وصيرت إلى قبرك وحيداً ، فردّ إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكان ـ ناكر ونكير ـ لمساءلتك وشديد امتحانك ، ألا وإن أول مايسألانك عن ربك الذي كنت تعبد ، وعن نبيك الذي أُرسل إليك ، وعن دينك الذي كنت تدين به ، وعن كتابك الذي كنت [ تتلوه ، وعن إمامك الذي كنت ] (٢) تتولاه ، ثمعن عمرك فيما أفنيته ، ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته ، فخذ حذرك وانظر لنفسك ، وأعدّ الجواب قبل الإمتحان والمسألة والاختبار ، فإن تكن مؤمناً عارفاً بدينك ، متّبعاً للصادقين ، موالياً لأولياء الله ، لقّاك الله حجتك ، وأنطق لسانك بالصواب ، وأحسنت الجواب ، وبشرت بالجنة والرضوان من الله ـ جل وعز ـ واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان. وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ، ودحضت حجتك ، وعييت عن الجواب ، وبشرت بالنار ، فاستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم (٣) وتصلية جحيم.

واعلم ـ ابن ادم ـ أن من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة ، ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ، يجمع الله تعالى فيه الأولين

__________________

١ ـ الكافي ٨ : ٦٩ / ٢٥ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٤٧.

٢ ـ ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٣ ـ الحميم : الماء الحار الشديد الحرارة ، يسقى منه أهل النار ، أويصب على أبدانهم « مجمع البحرين ـ حمم ـ ٦ : ٥٠ ».

٢٢٣

والاخرين ، يوم ينفخ في الصور ، وتبعثر فيه القبور ، ذلك يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ، ذلك يوم لاتقال فيه عثرة ، ولا يؤخذ من أحد فدية ، ولا تقبل منه معذرة ، ولا لأحد فيه مستقل لقدمه (١) ، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات ، فمن كان من المؤمنين عمل مثقال ذرة من خير وجده ، ومثقال ذرة من شر وجده.

فاحذروا ـ أيها الناس ـ من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عز وجل عنها ، وحذركموها في كتابه الصادق والبيان الناطق ، ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره ، عندما يدعوكم الشيطان الرجيم اللعين إليه ، من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا ، فإن الله جل وعز يقول : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) (٢).

فأشعروا قلوبكم (٣) خوف الله عز وجل ، وتذكروا بما قد وعدكم الله عز وجل في مرجعكم إليه ، من حسن ثوابه ، كما خوفكم شديد العقاب ، فإنه من خاف شيئاً حذره ، ومن حذر شيئاً تركه ، ولا تكونوا من الغافلين المائلين إلى زهرة الحياة الدنيا [ الذين مكروا السيئات فإن الله عز وجل يقول في محكم كتابه : ] (٤) ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لايشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوّف فإن ربكم لرؤوف رحيم ) (٥).

فاحذروا ما حذركم الله ، بما فعل بالظلمة في كتابه ، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب ، تالله لقد وعظكم الله بغيركم ، فإن السعيد من وعظ بغيره ، ولقد أسمعكم الله ـ جل وعز ـ في كتابه ، بما فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم ، حيث قال تبارك وتعالى : ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) (٦) وإنما عنى بالقرية أهلها ، حيث قال : ( وأنشأنا بعدها قوما اخرين ) (٧) وقال عز وجل ( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ) (٨) يعني يرهبون ، قال : ( لاتركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه

__________________

١ ـ في الكافي : مستقبل توبة.

٢ ـ الأعراف ٧ : ٢٠١.

٣ ـ في ألأصل : أقاربكم ، وما أثبتناه من الكافي.

٤ ـ ما بين المعقوفين أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٥ ـ النحل ١٦ : ٤٥ ـ ٤٧.

٦ ، ٨ ـ الأنبياء ١٦ : ٤٥ ـ ٤٧.

٢٢٤

ومساكنكم لعلكم تسئلون ) (١) فلما أتاهم العذاب ( قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ) (٢) وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إن أتعظتم وخفتم.

ثم رجع القول من الله ـ عز وجل ـ في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال عز وجل : ( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين ) (٣) فإن قلتم ـ أيها الناس ـ : إن الله عز وجل إنما عنى بهذا أهل الشرك ، فكيف ذلك؟ وهو يقول : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين ) (٤)

واعلموا ـ عباد الله ـ أن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ، وانما تنصب لأهل الاسلام ، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ إن الله عز وجل لم يحب هذه الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ، ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنما خلق الله الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيهم أحسن عملاً لآخرته ، وأيم الله ، لقد ضرب لكم الأمثال ، وصرف الآيات لقوم يعقلون ، ولا قوة إلا بالله.

فازهدوا فيما زهدكم الله ـ عز وجل ـ فيه من عاجل الحياة الدنيا ، فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول وقوله الحق : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أفهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أونهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) (٥).

وكونوا ـ عباد الله ـ من القوم الذين يتفكرون ، ولا تركنوا إلى الدنيا ، فإن الله ـ جل وعز ـ قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( ولا تركنوا إلى الذين ظلَموا فتمسكم النار ) (٦).

ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ، ركون من اتخذها دار قرار ومنزل

__________________

١ ـ ٢ ـ الانبياء ٢١ : ١٣ ـ ١٥.

٣ ـ الانبياء ٢١ : ٤٦.

٤ ـ الأنبياء ٢١ : ٤٧.

٥ ـ يونس ١٤ : ١٠.

٦ ـ هود ١١ : ١١٣.

٢٢٥

استيطان ، فإنها دار بلغة ، ومنزل قلعة (١) ، ودار عمل ، فتزودوا الأعمال الصالحة ، قبل أن تفرق بينكم أيامها وينزل بكم حمامها ، وقبل الإذن من الله بخرابها ، فكان قد أخربها الذي عمّرها أول مرة وهو يرثها ، فنسأل الله ـ لنا ولكم ـ العون على الزاد بالتقوى ، والزهد في الدنيا ، وجعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل الحياة الدنيا ، الراغبين في الآخرة ، فإنما نحن به وله ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين » (٢).

* * *

__________________

١ ـ منزل قُلعة : أي ليس بمستوطن ، ومجلس قلعة : إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة « الصحاح ـ قلع ـ ٣ : ١٢٧١ ».

٢ ـ الكافي ٨ : ٧٢ / ٢٩ ، تنبيه الخواطر ٢ : ٤٧.

٢٢٦

وفيما أنزل الله على عيسى بن مريم عليه السلام من الوعظ :

يا عيسى ، إني أنا ربك ورب آبائك ، اسمي واحد ، وأنا الأحد الصمد ، المتفرد بخلق كل شيء ، وكلّ شيء من صنعي ، وكل إلي راجعون.

يا عيسى ، كن إليّ راغباً ، ومني راهباً ، ولن تجد مني ملجأ إلا إلي.

يا عيسى ، اُوصيك وصية المتحنن عليك بالرحمة ، حتى حقت لك مني الولاية بتَحَرِّيك منّي المسرة ، وبوركت كبيراً وبوركت صغيراً حيث ما كنت ، أشهد أنك عبدي ابن أمتي ، أنزلني من نفسك كهمّك ، واجعل ذكري لمعادك ، وتقرب إليَّ بالنوافل ، وتوكل عليَ اكفك ، ولا تركن إلى غيري فأخذلك.

يا عيسى ، اصبر على البلاء ، وارض بالقضاء ، وكن كمسرتي فيك ، فإن مسرتي أن اطُاع فلا اعُصى.

يا عيسى ، أحي فكري بلسانك ، وليكن ودي في قلبك.

يا عيسى ، تيقّض في ساعة الغفلة ، واحكم لي بلطيف الحكمة.

يا عيسى ، كن راغباً راجياً راهباً ، وأمت قلبك بالخشية.

يا عيسى ، راعِ الليل لتحرّي مسرّتي ، وأضم نهارك ليوم حاجتك عندي.

يا عيسى ، نافس في الخير جهدك ، لتعرف بالخير حيث ما توجهت.

يا عيسى ، احكم في عبادي بنصحي ، وقم فيهم بعد لي ، فقد أنزلت عليك شفاءاً لما في الصدور من مرض الشيطان.

يا عيسى ، لاتكن جليساً لكل مفتون.

يا عيسى ، حقاً أقول : ما آمنت لي خليقة إلا خشعت لي ، وما خشعت لي إلاّ أوجبت لها ثوابي ، وأشهدك أنها آمنة من عقابي ، ما لم تغير أو تبدل سنتي.

يا عيسى ـ بنَ البتول البكر ـ إبك على نفسك ، بكاء من قد ودع الأهل وقلا الدنيا ، وتركها لأهلها ، وصارت رغبته فيما عند إلهه.

يا عيسى ، كن مع ذلك تلين الكلام ، وتفشي السلام ، يقظان إذا نامت عيون الأنام ، حذاراً للمعاد والزلازل الشداد وأهوال يوم القيامة ، حيث لا ينفع أهال ولا ولد ولا مال.

٢٢٧

يا عيسى ، اكحل عينك بميل الحزن إذا ضحك البطالون.

يا عيسى ، كن خاشعاً صابراً ، فطوبى لك إن نالك ما وعد الصابرون.

يا عيسى ، رح من الدنيا يوماً فيوماً ، وذق ما قد ذهب طعمه ، فحقاً أقول ما أنت إلاّ بساعتك ويومك فرح من الدنيا بالبلغة ، وليكفك الخشن الجشب ، فقد رأيت إلى ما تصير ، وهو مكتوب ما أخذت وكيف أتلفت.

يا عيسى ، ابك على نفسك في الخلوات ، وانقل قدميك إلى مواقيت الصلوات ، وأسمعني لذاذة نطقك بذكري ، فإن صنعي إليك حسن.

يا عيسى ، كم من اُمة قد أأهلكتها بسالف ذنوب قد عصمتك منها.

يا عيسى ، ارفق بالضيف ، وارفع طرفك الكليل إلى السماء ، وادعني فإنّي قريب ، ولا تدعني إلا متضرعاً إليّ وهمّك هم واحد ، فإنك متى تدعني كذلك اُجبك.

يا عيسى ، إني لم أرض بالدنيا ثواباً لمن كان قبلك ، ولا عقاباً لمن انتقمت منه.

يا عيسى ، إنك تفنى ، وأنا أبقى ، ومنّي رزقك ، وعندي ميقات أجلك ، وإليّ إيابك ، وعليّ حسابك ، فسلني ولا تسل غيري ، فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة.

يا عيسى ، ما أكثر البشر ، وأقل عدد من صبر! الأشجار كثيرة وطيّبها قليل ، فلا تغرَّنك شجرة حتى تذوق ثمرتها.

يا عيسى ، لا يغرنك المتمرد علي بالعصيان ، يأكل رزقي ويعبد غيري ، ثم يدعوني عند الكرب فاُجيبه ، ثم يرجع إلى ما كان عليه ، فعليّ يتمرد ، أم بسخطي يتعرض! فبيحلفت ، لآخذنه أخذة ليس له منها منجا ، ولا دوني ملجأ ، أين يهرب من سمائي وأرضي.

يا عيسى ، قل لظلمة بني إسرائيل : لا تدعوني والسحت تحت أحضانكم ، الأصنام في بيوتكم ، فإنّي اليت أن اُجيب من دعاني ، وأن أجعل إجابتي إياهم لعناً لهم حتى يتفرقوا.

يا عيسى ، كم أطيل النظر ، وأحسن الطلب ، والقوم في غفلة لا يرجعون ، تخرج الكلمة من أفواههم لا تعبأ (١) قلوبهم ، يتعرضون لمقتي ويتحببون إلى المؤمنين.

يا عيسى ، ليكن لسانك في السر والعلانية واحداً ، وكذلك فليكن قلبك

__________________

١ ـ في الكافي وتنبيه الخواطر : لاتعيها.

٢٢٨

وبصرك ، واطو قلبك ولسانك عن المحارم ، وكف طرفك عما لاخير فيه ، فكم ناظر نظرة قد زرعت في قلبه شهوة ، ووردت به موارد حياض الهلكة.

يا عيسى ، كن رحيماً مترحّماً ، وكن كما تشاء أن تكون العباد لك ، وأكثر ذكر الموت ومفارقة الأهلين ، ولا تله فإن الله ويفسد صاحبه ، ولا تغفل فإن الغافل منّي بعيد ، واذكرني بالصالحات أذكرك.

يا عيسى ، تب إليّ بعد الذنب ، وذكر بي الأوّابين ، وآمن بي ، وتقرب إلى المؤمنين ، ومُرهم يدعوني معك ، وإياك ودعوة المظلوم ، فإني اليت على نفسي أن أفتح لها باباً من السماء بالقبول ، وأن اجيبه ولو بعد حين.

يا عيسى ، إعلم أن صاحب السوء يغوي ، وان قرين السوء يُردي ، وإعلم من تقارن ، واختر لنفسك أعواناً من المؤمنين.

يا عيسى ، تب إليّ فإني لا يتعاظمني ذنب أن اغفره ، وأنا أرحم الراحمين ، اعمل لنفسك في أيام مهلتك ، قبل حلول أجلك ، وقبل أن لا يعمل لها غيرك واعبدني ليوم هو كألف سنة مما تعدون ، أجزي بالحسنة أضعافها ، فإن السيئة توبق (١) صاحبها ، وامهد لنفسك في مهلة ، ونافس في العمل الصالح ، فكم من مجلس قد نهض أهله وهم مجارون من النار.

يا عيسى ، ازهد في الفاني المنقطع ، وطأ رسوم من كان قبلك ، فادعهم وناجهم هل تحس منهم أحداً؟ فخذ موعظتك منهم ، واعلم أنك ستلحقهم في المتلاحقين.

يا عيسى ، قل لمن تمرد عليّ بالعصيان ، وعمل بالإدهان : ليتوقع عقوبتي ، وينتظر إهلاكي إياه ، سيصطلم مع الهالكين.

طوباك يا ابن مريم طوباك ، إن أخذت بأدب إلهك الذي يتحنّن عليك مترحّما ، وبدأك بالنعم منه متكرماً ، وكان لك في الشدائد ، لأتعصه ـ يا عيسى ـ فإنه لا يحل لك عصيانه ، قد عهدت إليك كما عهدت إلى من كان قبلك ، وأنا على ذلكمن الشاهدين.

يا عيسى ، اغسل بالماء منك ما ظهر ، وداو بالحسنات منك ما بطن ، فإنك إليَّ راجع.

__________________

١ ـ في الأصل : توثق ، وما أثبتناه من الكافي ، وأوبقه : أهلكه « الصحاح ـ وبق ـ ٤ : ١٥٦٢ ».

٢٢٩

يا عيسى ، أعطيتك ما أنعمت به عليك فيضاً [ من ] (١) غير تكدير ، وطلبته منك قرضاً لنفسك ، فإن بخلت به عليها تكون من الهالكين.

يا عيسى ، تزيَّن بالدين ، وحب المساكين ، وامش على الأرض هوناً ، وصل على البقاع فكلها طاهر.

يا عيسى ، ما خير في لذاذة لا تدوم ، وعيش عن صاحبه يزول!

يا عيسى بن مريم ، لورأت عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ، ذاب قلبك وزهقت نفسك شوقاً إليه ، وليس كدار الآخرة دار تجاور فيها الطيبين ، وتدخل عليهم الملائكة المقربون ، وهم مما يأتي يوم القيامة من أهوالها آمنون ، دار لايتغتر فيها النعيم ، ولا يزول عن أهلها (٢) ، يا بن مريم ، إن كنت لها من ألعالمين مع آبائك آدم وإبراهيم في جنات ونعيم ، لا تبغي بها بدلاً ولا تحويلاً كذلك أفعل بالمتقين.

يا عيسى ، اهرب إليّ مع من هرب ، من نار ذات لهب ، ونار ذات أغلال وأنكال ، لايدخلها روح ولا يخرج منها غم أبداً ، قطع كقطع الليل المظلم ، من ينج منها يفز ، ومن لم ينج من أنكالها هلك مع الهالكين ، هي دار الجبارين ، والعتاة الظالمين ، وكل فظ غليظ ، وكل مختال فخور.

يا عيسى ، بئست الدار لمن ركن إليها ، وبئس ألقرار دار الظالمين ، إني اُحذرك نفسك فكن بي خبيراً.

يا عيسى ، كن حيث ما كنت مراقباً لي ، واشهد على أنّي خلقتك ، وأنّك عبدي ، وأنّي صورتك ، والى الأرض أهبطتك.

يا عيسى ، لا يصلح لسانان في فم واحد ، ولا قلبان في صدر واحد ، وكذلك الأذهان.

يا عيسى ، لا تصحبن عاصياً ، ولا تصحبنّ لاهياً (٣) ، وافطم نفسك عن الشهوات الموبقات ، وكل شهوة تباعدك منّي فاهجرها ، وأعلم أنك مني بمكان (٤)

__________________

١ ـ أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٢ ـ في الكافي وتنبيه الخواطر زيادة : يا ابن مريم نافس فيها مع المتنافسين ، فإنها اُمنية المتمنين ، حسنة المنظر ، طوبى لك.

٣ ـ في الكافي وتنبيه الخواطر : لا تستيقظن عاصياً ولا تستنبهن لاهياً.

٤ ـ في الأصل : بمعنى ، وما أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٢٣٠

الرسول الأمين ، فكن منّي على حذر ، واعلم أن دنياك مؤديتك إليَّ وأنّي آخذك بعلمي ، فكن ذليل النفس عند ذكري ، خاشع القلب حين تذكرني ، يقظان عند نوم الغافلين.

يا عيسى ، هذه نصيحتي إياك ، وموعظتي لك ، فخذها منّي ، فإنّي رب العالمين.

يا عيسى ، إذا صبرعبدي في جنبي ، كان ثواب عمله عليّ ، وكنت عنده حين يدعوني ، وكفى بي منتقماً ممن عصاني ، أين يهرب مني الظالمون!

يا عيسى ، أطب الكلام ، وكن حيث ما كنت عالماً.

يا عيسى ، وافض الحسنات إليَّ حتى يكون لك ذكرها عندي ، وتمسك بوصيتي فإنها شفاء للصدور.

يا عيسى ، لا تأمن إذا مكرت مكري.

يا عيسى ، حاسب نفسك بالرجوع إليَّ حتى تتنجّز [ ثواب ] (١) ما عمله العاملون ، أولئك يؤتون أجرهم وأنا خير المؤتين.

يا عيسى ، أَحبكم إليّ ، أطوعكم لي ، وأشدكم خوفاً مني (٢).

يا عيسى ، تيقّظ ولا تأيس من روحي ، وسبّحني بطيب الكلام وقدّسني (٣).

يا عيسى ، كيف يكفر العباد بي!؟ ونواصيهم بيدي ، وفي قبضتي ، وتقلّبهم في الأرض بعلمي ، يجهلون نعمتي ، ويتولون عدوي ، كذلك يهلك الكافرون.

يا عيسى ، الدنيا سجن ضيق نتن الريح ، وحسن فيها ما قد ترى [ مما ] (٤) يتذابح عليه الجبارون ، فإياك والدنيا ، فكل نعيمها يزول ، وما نعيمها الا قليل.

يا عيسى ، ابغني عند وسادك تجدني ، وادعني وأنت لي محب فإني أسمع السامعين ، أستجيب للداعين إذا دعوني.

يا عيسى ، خفني ، وخَوِّف بي عبادي ، [ لعل ] (٥) المذنبين أن يتوبوا عمّا هم عاملون به ، فلا يهلكون إلا وهم يعلمون.

__________________

١ ـ أثبتناه من الكافي.

٢ ـ في الأصل وتنبيه الخواطر : لي ، وما أثبتناه من الكافي.

٣ ـ في الكافي وتنبيه الخواطر : وسبّحني مع من يسبَحني وبطيب الكلام فقدسني.

٤ ، ٥ ـ أثبتناه من الكافي.

٢٣١

يا عيسى ، ارهبني رهبتك من السبع والكلب والموت الذي أنت لاقيه ، فكل هذا أنا خلقته ، فإياي فارهبون.

يا عيسى ، إن الملك لي وبيدي ، وأنا الملك ، فإن تطعني أدخلك جنتي في جوار الصالحين.

يا عيسى ، إني إذا غضبت عليك لم ينفعك رضى من رضي عنك وإن رضيت عنك لم يضرّك غضب المغضبين (١).

يا عيسى ، اذكرني في نفسك ، أذكرك في نفسي ، واذكرني في ملئك ، أذكر كفي ملأ خير من الآدميين.

يا عيسى ، ادعني دعاء الغريق الحزين ، ليس له مغيث.

يا عيسى ، لا تحلف بي كاذباً ، فيهتز عرشي غضباً ، الدنيا قصيرة العمر ، طويلة الأمل ، وعندي دار خير مما تجمعون.

يا عيسى ، كيف أنتم صانعون إذا أخرجت لكم كتابا ينطق بالحق ، وأنتم تشهدون بسرائر قد كتمتوها ، وأعمال كنتم بها عاملين!

يا عيسى ، قل لظلمة بني إسرائيل : غسلتم وجوهكم ، ودنستم قلوبكم ، أبي تغترون! أم عليّ تجترون! تتطيّبون بالطيب لأهل الدنيا ، وأجوافكم عندي بمنزلة الجيفالمنتنة ، كأنكم أقوام ميتون.

يا عيسى ، قل لهم : قلموا أظفاركم من كسب الحرام ، وأصِمّوا أسماعكم عن ذكر الخنا ، وأقبلوا عليَّ بقلوبكم ، فإني لست اُريد صوركم.

يا عيسى ، افرح بالحسنة فإنّها لي رضا ، وابك على السيئة فإنها شين ، وما لاتحب أن يصنع بك ، فلا تصنعه بغيرك ، وإن لطم خدك الأيمن فاعطه الأيسر ، وتقرب إلي بالمودة جهدك ، وأعرض عن الجاهلين.

يا عيسى ، ذلَّ لأهل الحسنة ، وشاركهم فيها وكن عليهم شهيداً ، وقل لظلمة بني إسرائيل : الحكمة تبكي منكم فرقاً (٢) ، وأنتم بالضحك تهجرون. أتتكم براءتي أم لديكم أمان من عذابي! أم تعرضون لعقابي! فإني حلفت لأتركنكم مثلاً للغابرين.

ثم اُوصيك يا عيسى بن مريم البكر البتول ، اُوصيك بسيد المرسلين وحبيبي

__________________

١ ـ في الأصل : « يا عيسى إني إن أغضب على المتعصبين » وما اثبتناه من الكافي.

٢ ـ الفرق بالتحريك : الخوف والفزع « النهاية ـ فرق ـ ٣ : ٤٣٨ ».

٢٣٢

منهم ، أحمد ، صاحب الجمل الأحمر ، والوجه الأقمر ، المشرق بالنور ، الطاهر القلب ، الشديد البأس ، الحي المتكرم ، فإنه رحمة للعالمين ، وسيد ولد آدم يوم يلقاني ، أكرم السابقين عليّ ، وأقرب المرسلين عندي ، وهو العربي الأمي الديان بديني ، الصابر في ذاتي ، المجاهد المشركين بيديه عن ديني ، أن تخبر به بني إسرائيل ، وتأمرهم أن يصدّقوا به ، وأن يتبعوه وينصروه.

يا عيسى ، كل ما يقربك مني قد دللتك عليه ، وكل ما يباعدك مني قد نهيتك عنه ، فارتد (١) لنفسك.

يا عيسى ، إن الدنيا حلوة ، وإنما استعملتك فيها ، فجانب منها ما حذرتك ، وخذ منها ما أعطيتك عفواً.

يا عيسى ، انظر في عملك نظر العبد المذنب الخاطئ ، ولا تنظر في عمل غيرك بمنزلة الرب ، كن فيها زاهداً ، ولا ترغب فيها فتعطب.

يا عيسى ، اعقل وتفكر ، وانظر في نواحي الأرض ، كيف كان عاقبة الظالمين!؟

يا عيسى ، كلّ وصفي نصيحة لك ، فقل الحق وأنا الحق المبين ، فحقاً أقول : لئنأنت عصيتني بعد أن أنبأتك ، مالك من دوني ولي ولا نصير.

يا عيسى ، أذِلَّ قلبك بالحسنة ، وانظر إلى ما هو أسفل منك ولا تنظر إلى من هو فوقك ، واعلم أن رأس كل خطيئة أو ذنب هو حب الدنيا ، فلا تحبها فإني لا أحبها.

يا عيسى ، أطب لي قلبك ، وأكثر ذكري في الخلوات ، وأعلم أن سروري أنت ُبصبص (٢) إليّ ، كن في ذلك حياً ولاتكن ميتاً.

يا عيسى ، لاتشرك بي شيئاً ، وكن مني على حذر ، ولاتغتر بالنصيحة ، ولاتقنط نفسك ، فإن الدنيا كفيء زائل ، وما أقبل منها كما أدبر ، فنافس في الصالحات جهدك ، وكن مع الحق حيث ما كان ، وإن قطِعت وحرَقت بالنار فلا تكفر بي بعد المعرفة ، ولاتكن من الجاهلين ، فإن الشيء يكون مع الشيء.

__________________

١ ـ ارتد : اطلب « الصحاح ـ رود ـ ٢ : ١٤٧٨ ».

٢ ـ قال الطريحي في مجمع البحرين ـ بصص ـ ٤ : ١٦٤ : وفي الحديث القدسي « يا عيسى سروري أن تُبصبص إلي » أي تقبل إليَ بخوف وطمع ، ونقل الشهيد محمد بن مكي رحمه‌الله عن أبي جعفر أبن بابويه أن البصبصة : أن ترفع سبابتك إلى السماء وتحركها وتدعو.

٢٣٣

يا عيسى ، صب لي الدموع من عينيك ، واخشع لي قلبك.

يا عيسى ، استغفرني (١) في حالات الشدة ، فإني اُغيث المكروبين ، واُجيب المضطرين ، وأنا أرحم الراحمين (٢).

حفص بن غياث قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، فليأيس من الناس كلهم ، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله ـ عز وجل ـ فإذا علم الله ـ سبحانه عز وجل ـ ذلك من قلبه ، لم يسأله شيئاً إلا أعطاه ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإن للقيامة خمسين موقفاً ، كل موقف مقام ألف سنة ، ثم تلا : ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (٣) » (٤).

حفص ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال عيسى عليه‌السلام : اشتدت مؤونة الدنيا ومؤونة الآخرة ، أما مؤونة الدنيا فإنك لا تمد يدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه ، وأما مؤونة الأخرة فإنك لاتجد عليها إلا نفسك » (٥).

عبد الله بن مسكان ، عن حبيب ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « أما ـ والله ـ ما أحد من الناس أحب إلي منكم ، إن الناس سلكوا سبلاً شتى ، فمنهم من أخذ برأيه ومنهم من اتبع هواه ، ومنهم من اتبع الرواية ، وانكم أخذتم بأمر له أصل ، فعليكم بالورع والإجتهاد ، اشهدوا الجنائز ، وعودوا المرضى ، واحضروا مع القوم في مساجدهم للصلاة ، أما يستحي منكم الرجل أن يعرف جاره حقه ، ولا يعرف حق جاره (٦) » (٧).

مالك الجهني قال : قال لي (٨) : « يا مالك ، أما ترضون أن تقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، وتكفّوا ، وتدخلوا الجنة.

يا مالك ، إنه ليس من قوم إئتموا بإمام في الدنيا ، إلا جاء يوم القيامة يلعنهم ويلعنونه ، إلا أنتم ومن كان على مثل حالكم.

__________________

١ ـ في الكافي : استغث بي.

٢ ـ الكافي ٨ : ١٣١ / ١٠٣ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٣٨.

٣ ـ المعارج ٧٠ : ٤.

٤ ـ الكافي ٨ : ١٤٣ / ١٠٨ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٥.

٥ ـ الكافي ٨ : ١٤٤ / ١١٢ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٦ ـ في الأصل : ان لايعرف جاره حقه ، ولا يعرف حقه جاره ، وما أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٧ ـ الكافي ٨ : ١٤٦ / ١٢١ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٨ ـ المراد : أبو عبدالله عليه‌السلام.

٢٣٤

يا مالك ، والله إن الميت منكم على هذا الأمر لشهيد ، بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله عز وجل » (١).

مسعدة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إن رجلاً أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له : أوصني ، فقال له : فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً ، وفي كلها يقول الرجل : نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإني اُوصيك إذا هممت بأمر تدبر عاقبته ، فإن يك رشداً فأمضه ، وإن يك غياً فانته عنه » (٢).

مسعدة قال : سمعت أبا عبد الله صلى الله عليه وعلى ابائه ، يقول لأصحابه يوما : « لا تطعنوا في عيوب (٣) من أقبل عليكم بمودته ، فلا توقفوه على سيئة يخضع لها ، فإنها ليست من أخلاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا من أخلاق أوليائه » (٤).

وعنه عليه‌السلام : « إن المنافق لا يرغب فيما قد سعد به المؤمنون ، والسعيد يتعظ بموعظة التقوى وإن كان يراد بالموعظة غيره » (٥).

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلتان كثير من الناس فيهما مغبون (٦) : الصحة ، والفراغ » (٧).

أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « من عرّض نفسه للتهمة ، فلا يلومنَّ من أساء به الظن ، ومن كتم سرّه كانت الخيرة في يده » (٨).

علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « أخذ أبي عليه‌السلام بيدي ، ثم قال : يا موسى ، إن أبي محمد بن علي عليهما‌السلام أخذ بيدي ، كما أخذت بيدك ، وقال : إن أبي علي بن الحسين صلوات الله عليهما أخذ بيدي وقال لي : يا بني ، إفعل الخير إلى كل من طلبه منك ، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه ،

__________________

١ ـ الكافي ٨ : ١٤٦ / ١٢٢ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٢ ـ الكافي ٨ : ١٤٩ / ١٣٠ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٣ ـ في الأصل : عيون ، وما أثبتناه من الكافي.

٤ ـ الكافي ٨ : ١٥٠ / ١٣٢ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٥ ـ الكافي ٨ : ١٥١ ، تنجيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٦ ـ في الكافي : مفتون.

٧ ـ الكافي ٨ : ١٥٢ / ١٣٦ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٦.

٨ ـ الكافي ٨ : ١٥٢ / ١٣٧ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٧.

٢٣٥

وإن لم يكن بأهل كنت أهله ، وإن شتمك رجل عن يمينك [ ثم تحول الى يسارك ] (١) ، فاعتذر إليك فاقبل منه » (٢).

الحارث بن المغيرة قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « لآخذن البريء منكم بذنب السقيم ، ولم لا أفعل ويبلغكم عن الرجل ما يشينكم ويشينني ، فتجالسونهم وتحدثونهم ، فيمرّ المار فيقول : هؤلاء شر من هؤلاء ، فلو أنكم إذا بلغكم عنه ما تكرهون ، أمرتموهم ونهيتموهم كان أرضى لكم ولي » (٣).

طلحة بن زيد ، (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في قوله : ( فلما نسوا ما ذُكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ) (٥). قال : « كانوا ثلاثة أصناف : صنف ائتمروا وأمروا فنجوا ، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا قردة (٦) ، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا » (٧).

محمد بن مسلم قال : كتب أبو عبدالله عليه‌السلام إلى الشيعة : « ليعطفنَّ ذو الفضل منكم والنهى والرأي ، على ذي الجهل [ و ] (٨) طلاب الرئاسة ، أو لتصيبنكم لعنتي لكم جميعاً » (٩).

الحارث بن المغيرة قال : لقيني أبو عبدالله عليه‌السلام في طريق المدينة فقال : « من ذا ، حارث؟ » قلت : نعم ، قال : « لأحملنَّ ذنوب سفهائكم على علمائكم » فأتيته واستأذنت عليه فدخلت فقلت ، لقيني من ذلك أمر عظيم ، فقال : « ما يمنعكم ـإذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون ، وما يدخل علينا به الأذى ـ أن تأتوه فتؤنبوه

__________________

١ ـ أثبتناه من الكافي وتنبيه الخواطر.

٢ ـ الكافي ٨ : ١٥٢ / ١٤١ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٧.

٣ ـ الكافي ٨ : ١٥٨ / ١٥٠ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٧.

٤ ـ في الأصل طلحة بن يزيد ، وما أنبتناه هو الصواب ، وهو طلحة بن زيد أبو الخزرج النهدي الشامي ، ويقال : الخزري ، عامي المذهب ، عده الشيخ في رجاله من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، اُنظر « رجالالنجاشي : ١٤٦ ، رجال الشيخ ١٢٦ / ٣ و ٢٢١ / ٢ ، معجم رجال الحديث ٩ : ١٦٣ ».

٥ ـ الأعراف ١٦٥ : ٧.

٦ ـ في الكافي وتنبيه الخواطر : ذراً.

٧ ـ الكافي ٨ : ١٥٨ / ١٥١ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٧.

٨ ـ أثبتناه من الكافي.

٩ ـ الكافي ٨ : ١٥٨ / ١٥٢ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٧.

٢٣٦

وتعذلوه ، وتقولوا له قولاً بليغاً؟ » فقلت له : جعلت فداك إذن لا يطيعونا ، ولا يقبلون منّا ، فقال : « اهجروهم واجتنبوا مجالستهم » (١).

قال بعض أهل العلم والدين والزهد : يا أيها الناس ، اعملوا على مهل ، وكونوا من الله عز وجل [ على وجل ] (٢) ، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ، ولاتركنوا إلى الدنيا فإنها غرارة خدّاعة ، قد تزخرفت لكم بغرورها ، وفتنتكم بأمانيها ، [ وتزيّنت ] (٣) لخطابها كالعروس المُتحلّية ، العيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها عاكفة ، والنفوس لها عاشقة ، فكم من عاشق لها قتلت ، ومطمئن لها خذلتّ ، فانظروا إليها بعين الحقيقة ، فإنها دار دام ما كثرت بوائقها ، وذمّها خالقها ، جديدها يبلى ، وملكها يفنى ، وعزيزها يذل ، وكثيرها يقل ، وحيّها يموت ، وخيرها يفوت.

فاستقيظوا من غفلتكم ، وانتبهوا من رقدتكم ، قبل أن يقال : فلان عليل أو مدنف ثقيل ، فهل على الدواء من دليل ، أم هل على طبيب من سبيل؟ فيدعى لك الأطباء ، ولا يرجى لك شفاء ، ثم يقال : فلان أوصى ، وماله أحصى ، ثم يقال : قد ثقل لسانه ، فلم يكلّم إخوانه ، ولا يعرف جيرانه ، وعرق عند ذلك جبينك ، وتتابع أنينك ، وبليت نفسك ، وطبقت جفونك ، وصدقت ظنونك ، وتلجلج لسانك ، وبكى إخوانك ، وقيل لك : هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان فمنعت الكلام فلا تنطق ، وختم على لسانك فلم ينطلق ، ثم حل بك القضاء ، وانتزعت نفسك من الأعضاء ، ثم عرج بها إلى السماء ، فاجتمع عند ذلك إخوانك ، واُحضرت أكفانك ، فغسلوك وكفنوك ، فانقطع عوّادك ، واستراح حسادك ، وانصرف أهلك إلى مالك ، وبقيت مرتهناً بأعمالك (٤).

وقال بعضهم لبعض الملوك : أحق الناس بذم الدنيا وقلاها ، من بسط له فيها واعطي حاجته منها ، لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله تجتاحه (٥) ، أوعلى نفسه فتعفيه أوعلى جمعه فتفرقه ، أو تأتي على سلطانه فتهدمه من القواعد ، أوتدب إلى جسمه فتسقمه ، أو

__________________

١ ـ الكافي ٨ : ١٦٢ / ١٦٩ ، تنبيه الخواطر ٢ : ١٤٧.

٢ ، ٣ ـ ما بين المعقوفين أثبتناه من تنببه الخواطر.

٤ ـ تنبيه الخواطر ١ : ١٤١.

٥ ـ في تنبيه الخواطر : فتحوجه.

٢٣٧

تفجعه بشيء هو مكين (١) به من أحبائه ، فالدنيا أحق بالذم ، هي الآخذة ما تعطي ، الراجعة فيما تهب ، بينا هي تضحك صاحبها ، إذ أضحكت منه ، وبينا هي تبكي له ، إذأبكت عليه ، وبينا هي تبسط كفه بالإعطاء ، إذ بسطتها بالاسترداد ، وتعقد التاج على الرأس ، وتعفره غداً في التراب ، سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بتي ، تجد (٢) في الباقي من الذاهب خلفاً ، وترضى بكل من كل بدلاً (٣).

وكتب الحسن البصري الى عمر بن عبد العزيز : أما بعد ، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة ، وإنما أنُزل آدم عليه‌السلام إليها عقوبة ، فاحذرها ـ يا أميرالمؤمنين ـ فإن المراد منها تركها ، والغنى منها فقرها ، لها في كل حين قتيل ، تذل مَن أعَزَّها ، وتفقر من جمعها ، هي كالسم يأكله من لايعرفه ، وهي جيفة ، وكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً ، فيصبر على حدة الدواء ، مخافة طول البلاء ، فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة ، التي قد زينت بخدعها ، وقتلت بغرورها ، وتحلت بآمالها ، وتشوفت لخطابها ، فأصبحت كالعروس المنجلية ، فالعيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة ، فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الاخرعلى الأول مزدجر ، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها يدّكر.

فعاشق لها مدلّهُ (٤) قد ظفر منها بحاجته ، فاغتر وطغى ونسي المعاد ، فشغل بها لبه ، حتى زلت عنها قدمه ، عظمت ندامته ، وكبرت حسرته ، واجمعت عليه سكرات الموت بألمها ، وحسرات الفوت بغصم كا ، ومن رغب فيها لم يدرك منها ما طلب ، ولم يروح نفسه من التعب ، فخرج بغير زاد ، وقدم على غير مهاد ، فاحذرها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون منها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته (٥) إلى مكروه ، السار فيها لأهلها غارّ ، والنافع منها غداً ضار ، وقد وصل الرخاء منها في البلاء ، وجعل البقاء فيها إلى فناء ، فسرورها مشوب بالأحزان ، لا يرجع فيها ما ولى وأدبر ، ولايدرى ما هو آت فينتظر ، أيامها الكاذبة ، وامالها باطلة ، وصفوها كدر ، وعيشها نكد ،

__________________

١ ـ في تنبيه الخواطر : ظنين.

٢ ـ في الأصل زيادة : فإن.

٣ ـ تنبيه الخواطر ١ : ١٤١.

٤ ـ التَدَلّه : ذهاب العقل من الهوى « لسان العرب ـ دله ـ ١٣ : ٤٨٨ ».

٥ ـ في الأصل : أسخطته ، وما أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٢٣٨

ابن ادم فيها على خطر ، وإن عقل فنظر ، وهو من النعماء على خطر ، ومن البلاء على حذر.

فلو كان الخالق (١) لم يخبر عنها خبرا ، ولم يضرب لها مثلاً ، لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من الله ـ عز وجل ـ زاجر وفيها واعظ ، ما لها عند الله ـ جل ثناؤه ـ قدر ، وما نظر إليها منذ خلقها ، ولقد عرضت على نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله بمفاتيحها وخزائنها ـ لا تنقصه عند الله جناح بعوضة ـ فأبى أن يقبلها ، وكره أن يخالف على الله أمره ، أو يحب ما أبغض خالقه ، أويرفع ما وضع ، فزواها عن الصالحين اختياراً ، وبسطها لأعدائه اغتراراً ، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه اكرم بها ، ونسي ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه حين شد الحجر على بطنه ، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة ابن مريم عليه‌السلام كان يقول : إدامي الجوع ، وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ، وصلائي (٢) في الشتاء مشارق الأرض ، وسراجي القمر ، ودابتي رجلاي ، وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض ، وليس لي زوجة تفتنني ، ولا ولد يحرسني ، وإني لأصبح واُمسي وليس في الأرض أحد أغنى مني (٣).

وقال وهب بن منبه : لما بعث الله موسى وهارون إلى فرعون ، قال لهما : ولا يروعكما بأسه ، فإن ناصيته بيدي ، ولا يعجبكما ما مُتّع به من زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ، فلو شئت زينتكما بزينة يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عنها ، لكني أرغب بكما عن ذلك ، فأزوي الدنيا عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي ، أني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي غنمه عن مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سلوكها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن موارد العرة (٤) ، وماذاك لهوانهم عليّ ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفوراً ، إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخشوع ، والخوف الذي يثبت في قلوبهم ، فيظهر على أجسادهم ، فهو شعارهم ودثارهم الذي يستشعرون ، ونجاتهم التى بها

__________________

١ ـ في الأصل زيادة : يحبها.

٢ ـ الصلاء : الإستدفاء ، والمعنى انه يتحرى مشارق الشمس على الأرض يستدفئ بها من البرد ، اُنظر « القاموس المحيط ـ صلي ـ ٤ : ٣٥٢ ».

٣ ـ تنبيه الخواطر ١ : ١٤٢.

٤ ـ العرّ : الجرب « الصحاح ـ عرر ـ ٢ : ٧٤٢ ».

٢٣٩

يفوزون ، ودرجاتهم التي إياها يأملون ، ومجدهم الذي به يفخرون ، وسيماهم التي بها يعرفون ، فإذا لقيتهم يا موسى فاخفض لهم جناحك ، وألِن لهم جانبك ، وذلّل لهم قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، ثم أنا الثائر لهم يوم القيامة (١).

وقال بعض الحكماء : الأيام سهام والناس أغراض ، ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها ، حتى تستعرض جميع اجزائهم ، فكم بقاء سلامة من لا تزال السهام ترميه حتى يضمنه ، فلو كشف لك ـ أيها الانسان ـ عما أحدثت الأيام من النقص فيك ، لا يستوحش من كل يوم يأتي عليك ، وإنها لأمر من العلقم ، وقد أعيت الواصف لعيوبها (٢) بظاهرأفعالها ، وما تأتي به من العجائب أكثر مما تحيط به المواعظ ، فنستوهب الله تعالى رشد الصواب وحسن المآب (٣).

وخطب عمر بن عبد العزيز فقال : أيها الناس ، إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم لحمقى ، وإن كنتم تكذبون به فإنكم لهلكى ، إنما خلقتم لنعيم الأبد إن أطعتم ، ولجحيم الأبد إن عصيتم ، وانكم من دار إلى دار تنقلون ، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه ومقيمون فيه » (٤).

ويقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه الحسن بن أبي الحسن الديلمي ـ جامع هذا الكتاب ، ـ اعلام الدين وصفات المؤمنين ـ أعانه الله على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته : إنه يجب على أهل العقل والفهم والأدب والمعرفة ، أن يعلموا أن الدنيا قد أهانها الله » ، حيث لم يصفها لأوليائه ، ولم يضن بها على أعدائه ، وإنها عنده لحقيرة يسيرة ، فينبغي لأهل هذه الأوصاف ، أن يأكلوا قصداً ، ويلبسوا قصداً ، وينفقوا قصداً ، ويقدموا فضلاً يكون لهم ، فينظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية ، وإلى الآخرة بأنها باقية ، ويعلموا أنهم راحلون عنها ، ومحاسبون عليها ، فيخرجوا منها قلوبهم قبل أن تخرج منها أبدانهم ، فإنها سريعة الفناء ، قريبة الانقضاء ، ينظر إليها الناظر فيحسبها ساكنة مستقرة ، وهي سائرة سيراً عنيفاً ، ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن ، متحرك في الحقيقة ، ساكن

__________________

١ ـ تنبيه الخواطر ١ : ١٤٣.

٢ ـ في الأصل : بعيوبها ، وما أثبتناه من تنبيه الخواطر.

٣ ـ تنبيه الخواطر ١ : ١٤٤ ، باختلاف يسير.

٤ ـ تنبيه الخواطر ١ : ١٤٤.

٢٤٠