أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

فخرجت إليه ، فقلت : ادخل أبا حزرة ، فدخل وهو يقول : (١)

إنّ الذي بعث النبىّ محمدا

جعل الخلافة للإمام (٢) العادل

وسع البريّة (٣) عدله ووفاؤه

حتى ارعوى وأقام ميل المائل

إنى لأرجو منك خيرا عاجلا

والنفس مولعة بحبّ العاجل

فلما مثل بين يديه قال له : اتّق الله يا جرير ، ولا تقل إلا حقا ، فأنشأ يقول (٤) :

كم باليمامة من شعثاء أرملة

ومن يتم ضعيف الصوت والنّظر

ممن يعدّك تكفى فقد والده

كالفرخ في العشّ لم يدرج (٥) ولم يطر

إنا لنرجو ـ إذا ما الغيث أخلفنا ـ

من الخليفة ما نرجو من المطر

أتى الخلافة إذا كانت له قدرا (٦)

كما أتى ربّه موسى على قدر

هذى الأرامل قد قضّيت حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذّكر

فقال : يا جرير ، لقد وليت هذا الأمر ، وما أملك إلا ثلاثمائة [درهم] (٧) ، فمائة أخذها عبد الله ، ومائة أخذتها أم عبد الله ، يا غلام ، أعطه المائة الثالثة.

فقال : والله يا أمير المؤمنين ، إنها لأحبّ مال كسبته إلىّ. ثم خرج ، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال : ما يسوءكم ، خرجت من عند أمير يعطى الفقراء ، ويمنع الشعراء ، وإنى عنه لراض ، ثم أنشأ يقول :

رأيت رقى الشيطان لا تستفزّه

وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا

ولما ولى ابن الزبير وفد إليه نابغة بنى جعدة ، فدخل عليه المسجد الحرام ، ثم أنشده :

حكيت لنا الفاروق لما وليتنا

وعثمان والصدّيق فارتاح معدم

وسوّبت بين الناس في الحق فاستووا

فعاد صباحا حالك اللّون (٨) مظلم

__________________

(١) ديوانه : ٤١٥.

(٢) في قصص العرب : في إمام عادل.

(٣) في قصص العرب : وسع الخلائق.

(٤) ديوانه : ٢٧٥.

(٥) يدرج : يمشى.

(٦) في قصص العرب والديوان :

نال الخلافة أو كانت له قدرا

(٧) من م ، وقصص العرب.

(٨) في م : حالك الليل.

(٢٦ ـ أحكام ـ ٣)

٤٠١

أتاك أبو ليلى يجوب به الدّجى

دجى الليل جوّاب الفلاة عثمثم (١)

لتجبر منا جانبا دعدعت به

صروف الليالى والزمان المصمّم

فقال له ابن الزبير : هوّن عليك أبا ليلى ، فالشعر أدنى وسائلك عندنا ، أما صفوة مالنا فلآل الزبير ، وأما عفوته فإن بنى أسد وتميما شغلاها عنك ، ولكن لك في مال الله سهمان : سهم برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ، ثم أخذ بيده ، ودخل دار المغنم (٢) فأعطاه قلائص سبعا ، وجملا رحيلا ، وأوقر له الركاب برّا وتمرا ، فجعل النابغة يستعجل ، ويأكل الحبّ صرفا.

فقال ابن الزبير : ويح أبى ليلى! لقد بلغ به الجهد! فقال النابغة : أشهد ، لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما وليت قريش فعدلت ، ولا استرحمت فرحمت ، وحدثت فصدقت ، ووعدت فأنجزت ، فأنا والنبيون فرّاط القاصفين (٣).

قال الزبير بن بكار : فكأن الفارط الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرّشاء والدّلاء. والقاصف : الذي يتقدم لشراء الطعام.

المسألة الثامنة ـ في تحقيق القول فيه :

أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحدّ ، وتجاوزت المعتاد ، فبذلك يضرب الملك الموكّل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم (٤) :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيّم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا (٥)

إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت

كأنه منهل بالرّاح معلول

فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكلّ بديع. والنبي صلى الله عليه يسمع ولا ينكر ، حتى في تشبيه (٦) ريقها بالرّاح.

__________________

(١) عثمثم : جمل قوى شديد. والبيت في اللسان ـ عثم.

(٢) في م : دار النعم.

(٣) فراط جمع فارط ، أى متقدمون إلى الشفاعة. وقيل إلى الحوض. والقاصفون : المزدحمون (النهاية).

(٤) ديوانه : ٦.

(٥) في م : إذ رحلت.

(٦) في م : تشبيهه.

٤٠٢

وقد كانت حرمت قبل إنشاده لهذه القصيدة ، ولكن تحريمها لم يمنع عندهم طيبها ، بل تركوها على الرغبة فيها والاستحسان لها ، فكان ذلك أعظم لأجورهم ، ومن الناس قليل من يتركها استقذارا لها ، وإنها لأهل لذلك عندي ، وإنى لأعجب من الناس في تلذذهم بها واستطابتهم لها ، وو الله ما هي إلا قذرة بشعة كريهة من كل وجه ، والله يعصم من المعاصي بعزّته.

وبالجملة ، فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه ، فذلك مذموم شرعا. قال النبي صلى الله عليه وسلم (١) : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه (٢) خير له من أن يمتلئ شعرا. والله أعلم لا ربّ غيره ولا معبود إلا إياه.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٧٦٩.

(٢) يريه من الورى ، وهو داء يفسد الجوف.

٤٠٣

سورة النمل

[ويقال الهدهد. فيها ست عشرة آية]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قد بينا فيما سلف أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة. وأنه قال : إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا علما. والأول أصح.

فإن قيل : فما معنى قوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ).

قلنا ، وهي :

المسألة الثانية ـ أراد بالإرث هاهنا نزوله منزلته في النبوة والملك ، وكان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا وأنثى ، فخصّ سليمان بالذكر ، ولو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ، فخصه بما كان لداود ، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٢) : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ القول في منطق الطير ، وهو صوت تتفاهم به في معانيها على صيغة واحدة ، بخلاف منطقنا ، فإنه على صيغ مختلفة ، نفهم به معانيها.

قال علماؤنا : وفي المواضعات غرائب ؛ ألا ترى أنّ صوت البوق تفهم منه أفعال مختلفة من حلّ وتر حال ، ونزول وانتقال ، وبسط وربط ، وتفريق وجمع ، وإقبال وإدبار ، بحسب المواضعة والاصطلاح.

__________________

(١) آية ١٦.

(٢) من الآية السابقة.

٤٠٤

وقد كان صاحبنا مموس (١) الدريدى يقرأ معنا ببغداد ، وكان من قوم كلامهم حروف الشفتين ، ليس لحروف الحلق عندهم أصل.

فجعل الله لسليمان معجزة فهم كلام الطير والبهائم والحشرات ؛ وإنما خصّ الطير لأجل سوق قصّة الهدهد بعدها. ألا تراه كيف ذكر قصة النمل معها ، وليست من الطير.

ولا خلاف عند العلماء في أنّ الحيوانات كلها لها أفهام وعقول.

وقد قال الشافعى : الحمام أعقل الطير. وقد قال علماء الأصوليين : انظروا إلى النملة كيف تقسّم كل حبّة تدّخرها نصفين لئلا ينبت الحب ، إلّا حبّ الكزبرة فإنها تقسم الحبة منه على أربع ، لأنها إذا قسمت بنصفين تنبت ، وإذا قسمت بأربعة أنصاف لم تنبت.

وهذه من غوامض العلوم عندنا ، وأدركتها النمل بخلق الله ذلك لها.

وقال الأستاذ أبو المظفر شاه نور الإسفراينى : ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم ، وخلق المخلوقات ، ووحدانية الإله ، ولكنا لا نفهم عنها ، ولا تفهم عنا ، أما أنّا نطلبها وهي تفرّ منا فبحكم الجنسية.

المسألة الثانية ـ روى ابن وهب عن مالك أنّ سليمان النبىّ مرّ على قصر بالعراق ، فإذا فيه كتاب (٢) :

خرجنا من قرى إصطخر

إلى القصر فقلناه

فمن سال عن القصر

فمبنيّا وجدناه

وعلى القصر نسر ، فناداه سليمان ، فأقبل إليه ، فقال : مذ كم أنت هاهنا؟ قال : مذ تسعمائة سنة. ووجدت القصر على هيئته.

قال القاضي : قرأت بمدينة السلام على أبى بكر النجيب بن الأسعد ، قال : أنبأنا محمد بن فتوح الرصافي ، أنبأنا الخطيب أبو بكر الحافظ ، حدثني أبو القاسم عبد الله بن محمد الرفاعي ، أنبأنا على بن محمد بن أحمد الفقيه بأصبهان ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أسيد ، حدثنا محمد بن زكريا (٣) الغلابي ، حدثنا عبيد الله بن على بن يحيى الإفريقى ، حدثنا عبد الملك بن حبيب ، عن مالك

__________________

(١) هكذا بالأصول وفي ا : الدربندى.

(٢) في م : مكتوب.

(٣) في م : بكر.

٤٠٥

ابن أنس ، وعن ربيعة بن أبى عبد الرحمن ، عن سعيد بن المسيّب : كان سليمان بن داود يركب الريح من إصطخر فيتغدّى ببيت المقدس ، ثم يعود فيتعشّى بإصطخر. فقال : إن ابن حبيب أدرك مالكا ، وما أراه ولا هذا الحديث إلّا مقطوعا. والله أعلم.

وروى مالك وغيره في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [نزل] (١) نبىّ من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ، ثم أمر ببيتها فأحرق ، فأوحى الله إليه فهلّا نملة واحدة (٢).

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٣) : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله : (يُوزَعُونَ) ؛ يعنى يمنعون ويدفعون ، ويرد أولهم على آخرهم ، وقد يكون بمعنى يلهمون من قوله (٤) : (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) ؛ أى ألهمنى. ويحتمل أن يرجع إلى الأول ، ويكون معناه ردّني.

المسألة الثانية ـ روى أشهب قال : قال مالك بن أنس : قال عثمان : ما يزع (٥) الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن. قال مالك : يعنى يكفّهم. قال ابن وهب مثله ، وزاد ثم تلا مالك : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ؛ أى يكفّون.

وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام ، فظنوا أنّ المعنى فيه أنّ قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه ، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة بقوام الحق (٦) ، لا زيادة عليها ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن الظلمة خاسوا (٧) بها ، وقصّروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نيّة منها ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ؛ فلذلك لم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا بالعدل ؛ وأخلصوا

__________________

(١) من م. والحديث في صحيح مسلم ١٧٥٩.

(٢) أى فهلا عاقبت نملة واحدة هي التي قرصتك لأنها الجانية ، وأما غيرها فليس لها جناية.

(٣) آية ١٧.

(٤) آية ١٩ من السورة نفسها.

(٥) في القرطبي : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن.

(٦) في م : الخلق. وفي القرطبي : قائمة لقوام الخلق.

(٧) خاس بالعهد : أخلف.

٤٠٦

النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور ؛ وقد شاهدتم منّا إقامة العدل والقضاء ـ والحمد لله ـ بالحق ، والكفّ للناس بالقسط ، وانتشرت الأمنة ، وعظمت (١) المنعة ، واتصلت في البيضة الهدنة ، حتى غلب قضاء الله بفساد الحسدة ، واستيلاء الظلمة.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٢) : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ رأيت بعض البصريين (٣) قد قال : إن النملة كان لها جناحان ، فصارت في جملة الطّير ؛ ولذلك فهم منطقها ؛ لأنه لم يعلم إلّا منطق الطير ؛ وهذا نقصان عظيم. وقد بينّا الحكمة في ذكر الطير ، خصوصا دون سائر البهائم والحشرات ، وما لا يعقل. وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ، ويخلق له فيه القول من النبات ؛ فكان كلّ نبات يقول له : أنا شجرة كذا ، أنفع من كذا ، وأضرّ من كذا ، وفائدتى كذا ، فما ظنّك بالحيوان!

المسألة الثانية ـ قوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). فانظر إلى فهمها بأنّ جند سليمان لم يكن فيهم من يؤذى نملة مع القصد إلى ذلك ، والعلم به ، تقية لسليمان ، لأن منهم التقىّ والفاجر ، والمؤمن والكافر ؛ إذ كان فيهم الشياطين.

وقد أخبر الله عن حيش محمّد بمثله في قوله (٤) : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ). وهذا من فضائل محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بينا ذلك في كتاب المشكلين ، وفي معجزات النبي من كتاب «أنوار الفجر».

وقد انتهى الجهل بقوم إلى أن يقولوا : إنّ معناه : والنمل لا يشعرون ، فخرج من خطاب المواجهة إلى خطاب الغائب لغير ضرورة ولا فائدة إلا إبطال المعجزة لهذا النبي الكريم ، والله ولىّ التقويم. كما انتهى الإفراط بقوم إلى أن يقولون : إنه كان من كلام النملة له أن

__________________

(١) في ا : وعصمت.

(٢) آية ١٨.

(٣) في م : بعض المقصرين.

(٤) سورة الفتح ، آية ٢٥.

٤٠٧

قالت : يا نبيّ الله ؛ أرى لك ملكا عظيما ، فما أعظم جندك؟ قال لها : تسخير الريح. قالت له : إنّ لله أعلمك أنّ كل ما أنت فيه في الدنيا ريح. وما أحسن الاقتصاد ، وأضبط السداد للأمور والانتقاد!

الآية الخامسة ـ قوله تعالى (١) : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

فيها ثلاث مسائل (٢) :

المسألة الأولى ـ القول في التبسّم : وهو أوّل الضحك ، وآخره بدوّ النواجذ ؛ وذلك يكون مع القهقهة ، وجلّ ضحك الأنبياء التبسّم.

المسألة الثانية ـ من الضحك مكروه ، لقوله (٣) : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

ومن الناس من كان لا يضحك ؛ اهتماما بنفسه وفساد حاله في اعتقاده من شدة الخوف ، وإن كان عبدا طائعا. ومن الناس من يضحك ، وإنما قال الله في الكفار : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) ؛ لما كانوا عليه من النفاق ، يعنى ضحكهم في الدنيا ـ وهو تهديد لا أمر بالضّحك.

وقالت عائشة : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وكان رفاعة طلّقها فبتّ طلاقها ، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وقالت : يا رسول الله ؛ والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة ـ لهدبة أخذتها من جلبابها ، وأبو بكر الصديق وخالد جالسان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة ليؤذن له ، فطفق خالد ينادى : يا أبا بكر ، انظر ما تجهر به هذه [المرأة] (٤) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم. ثم قال : لعلّك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة ... الحديث.

__________________

(١) آية ١٩.

(٢) في ا : مسألتان.

(٣) سورة التوبة ، آية ٨٣.

(٤) من م.

٤٠٨

واستأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته ؛ فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب ، فأذن له النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فدخل ، والنبىّ صلى الله عليه وسلم يضحك. فقال : أضحك الله سنّك يا رسول الله ، بأبى أنت وأمى! فقال : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي ، فلما سمعن صوتك تبادرن الحجاب ... وذكر الحديث.

وروى عبد الله بن عمر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما كان بالطائف قال : إنا قافلون (١) غدا إن شاء الله. فقال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نبرح حتى نفتحها. فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم : فاغدوا على القتال. قال : فغدوا ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وكثرت الجراحات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّا قافلون غدا إن شاء الله. [قال] (٢) : فسكتوا. قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو هريرة (٣) : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت وأهلكت ، وقعت على أهلى في رمضان. قال : أعتق رقبة. قال : ليس لي مال. قال : فصم شهرين متتابعين. قال : لا أستطيع. قال : فأطعم ستين مسكينا. قال : لا أجد. قال : فأتى [رسول الله] (٤) بعرق تمر ، والعرق : المكتل. فقال : أين السائل؟ تصدّق بهذا. قال : أعلى أفقر منّى! والله ما بين لابتيها (٥) أهل بيت أفقر منا. فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال : فأنتم (٦) إذا.

ولما سأله الناس المطر فأمطروا ، ثم سألوه الصحو ضحك (٧).

المسألة الثالثة ـ قال علماؤنا : إن قيل : من أى شيء ضحك سليمان؟

قلنا : فيه أقوال :

أصحّها أنه ضحك من نعمة الله عليه في تسخير الجيش وعظيم (٨) الطاعة ، حتى لا يكون اعتداء.

ولذلك قال : (أَوْزِعْنِي ، أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ). وهو حقيقة الشكر. والله أعلم.

__________________

(١) قافلون : راجعون.

(٢) من م.

(٣) صحيح مسلم : ٧٨١.

(٤) من م.

(٥) لابتا المدينة : حرتان تكتنفانها (القاموس).

(٦) في مسلم : ثم قال : اذهب فأطعمه أهلك.

(٧) في م : فضحك.

(٨) في م : وعظم.

٤٠٩

الآية السادسة ـ قوله تعالى (١) : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب تفقّده قولان :

أحدهما ـ أنّ الطير كانت تظلّ سليمان من الشمس حتى تصير عليه صافّات ، كالغمامة ، فطار الهدهد عن موضعه ، فأصابت الشمس سليمان ، فتفقّده حينئذ.

الثاني ـ أنّ الهدهد كان يرى تحت الأرض الماء ، فكان ينزل بجيشه ، ثم يقول للهدهد : انظر بعد الماء من قربه ، فيشير له إلى بقعة ، فيأمر الجن فتسلخ الأرض سلخ الأديم ، حتى تبلغ الماء ، فيستقى ويسقى.

المسألة الثانية ـ قال سليمان : ما لي لا أرى الهدهد. ولم يقل : ما للهدهد لا أراه!

قال لنا أبو سعيد محمّد بن طاهر الشهيد : قال لنا جمال الإسلام وشيخ الصوفية أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن : إنما قال : [ما لي لا أرى الهدهد] (٢) لأنه اعتبر حال نفسه ؛ إذ علم أنه أوتى الملك العظيم ، وسخّر له الخلق ، فقد لزمه حقّ الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العمل. فلما فقد نعمة الهدهد توقّع أن يكون قصّر في حق الشكر ، فلأجله سلبها ، فجعل يتفقّد نفسه ، فقال : ما لي!

وكذلك تفعل شيوخ الصوفية إذا فقدوا آمالهم تفقّدوا أعمالهم. هذا في الآداب ، فكيف بنا اليوم ، ونحن نقصّر في الفرائض!

المسألة الثالثة ـ قال علماؤنا : هذا يدلّ من سليمان على تفقده أحوال الرعية ، والمحافظة عليهم ، فانظروا إلى الهدهد ، وإلى صغره ؛ فإنه لم يغب عنه حاله ، فكيف بعظائم الملك؟

ويرحم الله عمر ، فإنه كان على سيرته قال : لو أن سخلة (٣) بشاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر ، فما ظنّك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعيّة ، وتضيع الرعيان!

__________________

(١) آية ٢٠.

(٢) من م.

(٣) السخلة : ولد الشاة ما كان.

٤١٠

المسألة الرابعة ـ قال ابن الأزرق لابن عباس ـ وقد سمعه يذكر شأن الهدهد هذا : قف يا وقاف. كيف يرى الماء تحت الأرض ، ولا يرى الحبّة في الفخ.

فقال له ابن عباس بديهة : إذا نزل القدر غشى البصر. ولا يقدر على هذا الجواب إلّا عالم القرآن.

وقد أنشدنى محمد بن عبد الملك التنيسى الواعظ ، عن الشيخ أبى الفضل الجوهري في هذا المعنى :

إذا أراد الله أمرا بامرىء

وكان ذا عقل وسمع وبصر (١)

وحيلة يعملها في دفع ما

يأتى به مكروه أسباب القدر

غطّى عليه سمعه وعقله

وسلّه من ذهنه سلّ الشعر

حتى إذا أنفذ فيه حكمه

ردّ عليه عقله ليعتبر

الآية السابعة ـ قوله تعالى (٢) : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ هذه الآية دليل على أنّ الطّير كانوا مكلّفين ، إذ لا يعاقب على ترك فعل إلّا من كلّف ذلك الفعل ، وبهذا يستدلّ على جهل من يقول : إن ذلك إنما كان من سليمان استدلالا بالأمارات ، وإنه لم يكن للطير عقل ، ولا كان للبهائم علم ، ولا أوتى سليمان علم منطق الطّير.

وقاتلهم الله ، ما أجرأهم على الخلق فضلا عن الخالق!

المسألة الثانية ـ كان الهدهد صغير الجرم ، ووعد بالعذاب الشديد لعظيم الجرم.

قال علماؤنا : وهذا يدلّ على أن الحدّ على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد ، أما إنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة على ما بيناه في أحكام استيفاء القصاص.

__________________

(١) في القرطبي : ونظر.

(٢) آية ٢١.

٤١١

الآية الثامنة ـ قوله تعالى (١) : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).

وهذا دليل على أن الصغير يقول للكبير ، والمتعلم للعالم : عندي ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك وتيقّنه. وقد بيناه في آداب العلم.

الآية التاسعة ـ قوله تعالى (٢) : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال علماؤنا : هي بلقيس بنت شرحبيل ملكة سبأ ، وأمها جنية (٣) بنت أربعين ملكا. وهذا أمر تنكره الملحدة (٤) ويقولون : إن الجنّ لا يأكلون ولا يلدون ـ وكذبوا لعنهم الله أجمعين. ذلك صحيح ونكاحهم مع الإنس جائز عقلا. فإن صحّ نقلا فبها ونعمت ، وإلّا بقينا على أصل الجواز العقلي.

المسألة الثانية ـ روى الترمذي وغيره عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبأ : هو رجل ولد له عشرة أولاد ، وكان لهم خبر فسمى البلد باسم القبيلة ، أو ذكر أنه جاء من القبيلة.

ويحتمل أن يكون سمّى البلد باسم القبيلة.

روى الترمذي وغيره عن فروة بن مسيك المرادي ، قال : أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ؛ ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم. فأذن لي في قتالهم وأمرنى.

فلما خرجت من عنده سأل عنّى ما فعل القطيفي؟ فأخبر بأنى قد سرت. قال : فأرسل في أثرى فردّنى ، فأتيته ، وهو في نفر من أصحابه ، فقال : ادع القوم ، فمن أسلم منهم فاقبل منه ، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث لك.

وأنزل الله في سبأ ما أنزل. فقال رجل : يا رسول الله ؛ ما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ فقال : ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب (٥) فتيا من منهم ستة ، وتشاءم

__________________

(١) آية ٢٢.

(٢) آية ٢٣.

(٣) انظر القرطبي صفحة ١٨٣ جزء ١٣ إذ قال : كانت أم بلقيس من الجن يقال لها عجمة بنت شيصان!

(٤) في م : السحرة.

(٥) في م : وله عشر من الولد.

٤١٢

منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسّان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار. فقال رجل : يا رسول الله ؛ وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة.

وروى في هذا عن ابن عباس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم حديث آخر.

المسألة الثالثة ـ روى في الصحيح عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال ـ حين بلغه أن كسرى لما مات ولّى قومه بنته : لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.

وهذا نصّ في أن المرأة لا تكون خليفة ، ولا خلاف فيه.

ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ؛ ولم يصح ذلك عنه ؛ ولعله كما نقل عن أبى حنيفة أنها [إنما] (١) تقضى فيما تشهد فيه ، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ، ولا بأن يكتب لها منشور (٢) بأنّ فلانة مقدمة على الحكم ، إلا في الدماء والنكاح ، وإنما ذلك كسبيل (٣) التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.

وهذا هو الظنّ بأبى حنيفة وابن جرير.

وقد روى أن عمر قدّم امرأة على حسبة السوق ، ولم يصح ؛ فلا تلتفتوا إليه ؛ فإنما هو من دسائس (٤) المبتدعة في الأحاديث.

وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعرى مع أبى الفرج ابن طرار شيخ الشافعية ببغداد في مجلس السلطان الأعظم عضد الدولة ، فما حل ونصر ابن طرار لما ينسب إلى ابن جرير ، على عادة القوم في التجادل على المذاهب ، وإن لم يقولوا بها استخراجا للأدلة وتمرّنا في الاستنباط للمعاني ؛ فقال أبو الفرج بن طرار : الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أنّ الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها ، وسماع البينة عليها ، والفصل بين الخصوم فيها ، وذلك يمكن (٥) من المرأة ، كإمكانه من الرجل.

فاعترض عليه القاضي أبو بكر ، ونقض كلامه بالإمامة الكبرى ؛ فإنّ الغرض منها

__________________

(١) من م.

(٢) في القرطبي : مسطور.

(٣) في القرطبي : وإنما سبيل ذلك التحكم والاستنابة في القضية الواحدة.

(٤) في م : وساوس.

(٥) في م : ممكن.

٤١٣

حفظ الثغور ، وتدبير الأمور ، وحماية البيضة ، وقبض الخراج ، وردّه على (١) مستحقيه ؛ وذلك يتأتّى من المرأة كتأتّيه من الرجل.

فقال له أبو الفرج بن طرار : هذا هو الأصل في الشرع ، إلا أن يقوم دليل على منعه.

فقال له القاضي أبو بكر : لا نسلّم أنه أصل الشرع.

قال القاضي عبد الوهاب : هذا تعليل للنقض ، يريد : والنقض لا يعلّل. وقد بينا فساد قول القاضي عبد الوهاب في أصول الفقه.

قال الفقيه القاضي أبو بكر رحمه الله : ليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء (٢) ، فإن المرأة لا يتأتّى منها أن تبرز إلى المجالس ، ولا تخالط الرجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير ، لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها ، وإن كانت متجالّة (٣) برزة لم يجمعها والرجال مجلس تزدحم فيه معهم ، وتكون منظرة لهم ، ولم يفلح قط من تصوّر هذا ، ولا من اعتقده.

الآية العاشرة ـ قوله تعالى (٤) : (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ).

لم يعاقبه ، لأنه اعتذر له ، ولا أحد أحبّ إليه العذر من الله ، ولذلك بعث النبيين مبشّرين ومنذرين.

وكذلك يجب على الوالي أن يقبل عذر رعيته ، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ، ولكن له أن يمتحن ذلك إذا تعلّق به حكم من أحكام الشريعة ، كما فعل سليمان ؛ فإنه لما قال له [الهدهد] (٥) : (٦) (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) لم يستفزه الطمع ، ولا استجرّه حبّ الزيادة في الملك إلى أن يعرض له ، حتى قال (٧) : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، حينئذ غاظه ما سمع ، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر ، وتحصيل علم ما غاب من ذلك ، حتى يغيّره بالحق ، ويردّه إلى الله تعالى.

__________________

(١) في م : إلى.

(٢) في م : بمتقن.

(٣) تجالت المرأة : أسنت وكبرت (النهاية).

(٤) آية ٢٧.

(٥) من م.

(٦) آية ٢٣ من السورة.

(٧) آية ٢٤ من السورة.

٤١٤

ونحو منه ما يروى أن عمر بن الخطاب سأل عن إملاص المرأة ، وهي التي يضرب بطنها فتلقى جنينها ، فقال : أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئا؟ قلت : أنا ـ يعنى المغيرة بن شعبة ـ فقال : ما هو؟ قلت : سمعت النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول : فيه غرّة عبد أو أمة. فقال : لا تبرح حتى تجيء بالمخرج من ذلك.

فخرجت ، فوجدت محمد بن مسلمة ، فجئت به ، فشهد.

وكان هذا تثبّتا من عمر احتجّ به لنفسه.

وأما المغيرة فتوقّف فيما قال لأجل قصة أبى بكرة ، وهذا كلّه مبيّن في أصول الفقه.

المسألة الثانية ـ لو قال له سليمان : سننظر في أمرك لاجتزأ به ، ولكن الهدهد لما صرح له بفخر العلم ، (١) (فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ـ صرّح له سليمان بأنه سينظر ، أصدق أم كذب ـ فكان ذلك كفؤا لما قاله.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (كِتابٌ كَرِيمٌ).

فيه ستة أقوال :

الأول ـ لختمه ، وكرامة الكتاب ختمه.

الثاني ـ لحسن ما فيه من بلاغة وإصابة معنى.

الثالث ـ كرامة صاحبه ؛ لأنه ملك.

الرابع ـ كرامة رسوله ؛ لأنه طائر ؛ وما عهدت الرسل منها.

الخامس ـ لأنه بدأ فيه ببسم الله.

السادس ـ لأنه بدأ فيه بنفسه ، ولا يفعل ذلك إلا الجلّة.

__________________

(١) آية ٢٢ من السورة.

(٢) آية ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠.

٤١٥

وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه : لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ؛ إنى أقرّ لك بالسمع والطاعة ما استطعت ، وإنّ بنىّ قد أقرّوا [لك] (١) بذلك.

وهذه الوجوه كلّها صحيحة. وقد روى أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان.

المسألة الثانية ـ الوصف بالكريم (٢) في الكتاب غاية الوصف ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وأهل الزّمان يصفون الكتاب بالخطير ، وبالأثير ، وبالمبرور ، فإن كان لملك قالوا : العزيز ، وأسقطوا الكريم غفلة ، وهو أفضلها خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد اتصف (٣) به القرآن أيضا ، فقال (٤) : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

فهذه عزته ، وليست لأحد إلّا له ، فاجتنبوها في كتبكم ، واجعلوا بدلها العالي ، توفية لحق الولاية ، وحياطة للديانة.

المسألة الثالثة ـ هذه البسملة آية في هذا الموضع بإجماع ، ولذلك إنّ من قال : إن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ليست آية من القرآن كفر ، ومن قال : إنها ليست بآية في أوائل السور لم يكفر ، لأنّ المسألة الأولى متفق عليها ، والمسألة الثانية مختلف فيها. ولا يكفر إلا بالنص ، أو ما يجمع عليه.

الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (٥) : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ).

في هذا دليل على صحة المشاورة إمّا استعانة بالآراء ، وإما مداراة للأولياء.

ويقال : إنها أول من جاء أنه شاور ، وقد بينا (٦) المشورة في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته ، وقد مدح الله الفضلاء بقوله (٧) : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ).

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (٨) : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) من م.

(٢) في ا : بالكرم.

(٣) في م ، والقرطبي : فقد وصف.

(٤) سورة فصلت ، آية ٤١ ، ٤٢.

(٥) آية ٣٢.

(٦) صفحة ٢٩٧.

(٧) سورة الشورى ، آية ٣٨.

(٨) آية ٣٥.

٤١٦

المسألة الأولى ـ يروى أنها قالت : إن كان نبيّا لم يقبل الهديّة ، وإن كان ملكا قبلها.

وفي صفة النبي محمد أنه يقبل الهديّة ، ولا يقبل الصدقة. وكذلك كان سليمان ، وجميع الأنبياء يقبلون الهديّة.

وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردّها علامة على ما في نفسها ، لأنه قال لها في كتابه : (أَلَّا (١) تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). وهذا لا تقبل فيه فدية ، ولا تؤخذ عنه هدية.

وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة من قبول الهدية بسبيل ، وإنما هي رشوة ، وبيع الحق بالمال (٢) هو الرشوة التي لا تحلّ.

وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل واحد ، وعلى كل حال.

المسألة الثانية ـ وهذا ما لم تكن من مشرك ، فإن كانت من مشرك ، ففي الحديث : نهيت عن زبد (٣) المشركين.

وفي حديث آخر : لقد همت ألا أقبل هديّة إلا من ثقفىّ أو دوسىّ.

والصحيح ما ثبت عن عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها.

ومن حديث أبى هريرة : لو دعيت إلى كراع (٤) لأجبت ، ولو أهدى إلىّ ذراع أو كراع لقبلت.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ـ في الصيد : هل معكم من لحمه شيء؟ قلت : نعم. فناولته العضد.

وقد استسقى في دار أنس فحلبت له شاة وشيب (٥) وشربه.

وأهدى أبو طلحة له ورك أرنب وفخذيها فقبله.

__________________

(١) آية ٣١.

(٢) في م ، والقرطبي : بالباطل.

(٣) الزبد : الرفد والعطاء. قال الخطابي : يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا ، لأنه قد قبل هدية غير واحد من المشركين ، أهدى له المقوقس مارية والبغلة ، وأهدى له أكيدر رومة فقبل منهما (النهاية).

(٤) الكراع من الدابة : مستدق الساق.

(٥) شيب : خلط. (٢٧ ـ أحكام ـ ٣)

٤١٧

وأهدت (١) أم حفيد إليه أقطا وسمنا وضبّا ، فأكل النبىّ صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن ، وترك الضبّ.

وقال في حديث بريرة : هو عليها صدقة ولنا هديّة ، وكان الناس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة.

الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (قالَ : يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ...).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ ما الفائدة في طلب عرشها؟

قيل فيه أربع فوائد :

الفائدة الأولى ـ أحبّ أن يختبر صدق الهدهد.

الثانية ـ أراد أخذه قبل أن تسلم ، فيحرم عليه مالها.

الثالثة ـ أراد أن يختبر عقلها في معرفتها به.

الرابعة ـ أراد أن يجعله دليلا على نبوّته ، لأخذه من ثقاتها دون جيش ولا حرب.

المسألة الثانية ـ قد ثبت أن الغنيمة ـ وهي أموال الكفّار ـ لم تحلّ لأحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما قصد بالإرسال إليها إظهار نبوّته ، ويرجع إليها ملكها بعد قيام الدليل على النبوة به عندها.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

في تسميته خمسة أقوال لا تساوى سماعها ، وليس على الأرض من يعلمه.

ولقد قال ابن وهب : حدثني مالك في هذه الآية : قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ، قال : كانت باليمن ، وسليمان عليه السلام بالشام،

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٥٤٤.

(٢) آية ٣٨ ، ٣٩.

٤١٨

أراد مالك أنّ هذه معجزة ، لأنّ قطع المسافة البعيدة بالعرش في المدّة القصيرة لا يكون إلّا بأحد الوجهين : إما أن تعدم المسافة بين الشام واليمن. وإما أن يعدم العرش باليمن ، ويوجد (١) بالشام ، والكلّ لله سبحانه مقدور عليه هيّن ، وهو عندنا غير متعيّن.

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ لما صان الله بالقصاص في أهبها الدماء ، وعليها تسلط علم الأعداء ، شرع القسامة (٣) بالتهمة حسبما بيّناه في سورة البقرة ، واعتبر فيها التهمة ، وقد حبس النبىّ صلى الله عليه وسلم فيها في الدماء والاعتداء ، ولا يكون ذلك في حقوق المعاملات.

المسألة الثانية ـ اعتبر كثير من العلماء قتيل المحلة في القسامة ، وبه قال الشافعى لأجل طلب اليهود ، ولحديث سهل بن أبى حثمة في الصحيح (٤) : أن نفرا من قومه أتوا خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا ، فقالوا للذي وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا. قالوا : ما قتلناه ولا علمنا قاتله.

وقال عمر ـ حين قدع عبد الله بن عمر اليهود : أنتم عدوّنا وتهمتنا.

وفي سنن أبى داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لليهود ـ وبدأ بهم : أيحلف منكم خمسون رجلا. فأبوا ، فقال للأنصار : أتحلفون؟ قالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله. فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهود ، لأنه وجد بين أظهرهم. وقد بيناه في مسائل الخلاف.

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٥) : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

وقد تقدم بيانه.

__________________

(١) في م : ويجدد.

(٢) آية ٤٩.

(٣) القسامة : الأيمان تقسم على الأولياء في الدم. كما تقدم.

(٤) صحيح مسلم ١٢٩١.

(٥) آية ٩١.

٤١٩

سورة القصص

[فيها ثمان آيات]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قوله : (فارِغاً) فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ فارغا من كلّ شيء ، إلّا من ذكر موسى عليه السلام.

الثاني ـ فارغا من وحينا ، يعنى بسببه (٢).

الثالث ـ فارغا من العقل ، قاله مالك : يريد امتلأ ولها ، يروى أنها لما رمته في البحر جاءها الشيطان فقال لها : لو حبسته فذبح فتولّيت دفنه ، وعرفت موضعه! وأما الآن فقد قتلته أنت. وسمعت ذلك ، ففرغ فؤادها مما كان فيه من الوحى ، إلّا أنّ الله ربط على قلبها بالصبر.

المسألة الثانية ـ قد بينّا أنّ هذه الآية من أعظم آي القرآن فصاحة ، إذ فيها أمران ونهيان وخبران وبشارتان.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ).

وقد قدمنا (٤) القول في اللقيط في سورة يوسف عليه السلام ، وهذه اللام لام العاقبة ، كما قال الشاعر :

وللمنايا تربّى كلّ مرضعة

ودورنا لخراب الدّهر نبنيها

__________________

(١) آية ١٠.

(٢) في ا : يعنى نسيته.

(٣) آية ٨ ، وكان حقها أن تكون قبل.

(٤) صفحة ١٠٦٧.

٤٢٠