الأساس في التفسير - ج ٥

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٥

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٢

٣
٤

كلمة في قسم المئين :

مع أن تقسيم القرآن إلى أربعة أقسام : قسم الطوال ، وقسم المئين ، وقسم المثاني ، وقسم المفصل قد ورد في حديث حسن ـ كما رأينا ـ فإننا لا نعلم أن أحدا قد حدد قسم المئين وقسم المثاني ، إن هناك تحديدا لقسم الطوال ، ولقسم المفضل ، على خلاف في قسم المفصل ، وواضح أن قسم المثاني ينتهي حيث ابتدأ قسم المفصل ، كما أنه من الواضح أن قسم المئين يبدأ حيث انتهى قسم الطوال ، وقسم الطوال ينتهي بسورة (براءة). وإذن فقسم المئين يبدأ بسورة يونس فأين ينتهي؟.

إن هناك علامتين بارزتين تدلاننا على أنه ينتهي بسورة القصص :

العلامة الأولى : أن سورة القصص وسورة النمل ـ قبلها ـ وسورة الشعراء ـ قبلهما ـ تكاد تشكل زمرة واحدة من قسم واحد ؛ إذ الثلاثة مبدوءة بالطاء والسين ، وسورة الشعراء مئتان وسبع وعشرون آية ، وسورة النمل ثلاث وتسعون ، وسورة القصص ثمان وثمانون آية ، فهي قريبة من المئة التي أخذ قسم المئين اسمه منها ، والسورة التي تأتي بعد سورة القصص هي سورة العنكبوت ، وآياتها تسع وستون ، فهي بداية قسم المثاني والله أعلم.

العلامة الثانية : إنه منذ سورة آل عمران لم نعد نرى الأحرف (الم) تتصدر سورة بشكل منفرد. رأينا (المص) ورأينا (المر) ولأول مرة بعد سورة آل عمران ، ولآخر مرة تأتي (الم) بداية لأربع سور هي : العنكبوت ، والروم ، ولقمان ، والسجدة ، مما يمكن أن يستأنس به بأن سورة العنكبوت بداية قسم جديد هو قسم المثاني. وبالتالي فإن سورة القصص هي نهاية قسم المئين.

فقسم المئين يبدأ بسورة يونس ، وينتهي بسورة القصص. والله أعلم

ومن خلال تتبع المعاني نجد أن قسم المئين يتألف من ثلاث مجموعات :

المجموعة الأولى : هي يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم.

والمجموعة الثانية : هي الحجر ، والنحل ، والإسراء ، والكهف ، ومريم.

والمجموعة الثالثة : هي طه ، والأنبياء ، والحج ، والمؤمنون ، والنور ، والفرقان ،

٥

والشعراء ، والنمل ، والقصص.

وسنرى كيف أن المعاني هي التي حددت بداية المجموعات ونهايتها ، وهي التي عرفتنا أن هذا القسم ينقسم إلى ثلاث مجموعات.

ولقد رأينا في قسم الطوال أن المعاني في سورة البقرة تسلسلت على طريقة ، ثم جاءت السور اللاحقة ففصلت في معان وردت في سورة البقرة على نفس التسلسل الذي جاء في سورة البقرة على غير تعاقب ، ففصلت آل عمران في مقدمة سورة البقرة ، وفصلت النساء والمائدة والأنعام في المقطع الأول من القسم الأول ، وفصلت سورة الأعراف في المقطع الثاني من القسم الأول ، وكان تفصيل هذه السور لمحاورها تفصيلا له ولامتداداته من سورة البقرة ، ولذلك فإن سورتي الأنفال وبراءة فصلتا في آية فريضة القتال والآيتين بعدها من سورة البقرة بعد عشرات الآيات.

وإذن فالسور التي جاءت بعد سورة البقرة من قسم الطوال فصلت في معان من سورة البقرة على ترتيب ما ، وإن قسم المئين يأتي بعد ذلك لتفصل كل مجموعة من مجموعاته في سورة البقرة من بدايتها على ترتيب ، وكل ذلك سنراه تفصيلا بإذن الله.

لقد فصلت سورة آل عمران في مقدمة سورة البقرة نوع تفصيل. وفي المجموعة الأولى من قسم المئين تأتي سورة يونس لتفصل في مقدمة سورة البقرة تفصيلا آخر.

وفصلت سور : النساء والمائدة والأنعام في المقطع الأول بعد المقدمة نوع تفصيل ، وتأتي في المجموعة الأولى من قسم المثاني : سور هود ، ويوسف ، والرعد ، لتفصل في المقطع الأول تفصيلا آخر.

وكما أن سورتي الأنفال وبراءة فصلتا في محور بعيد من المقطع الثاني في سورة البقرة فإن سورة إبراهيم هنا تفصل في محور بعيد من المقطع الثاني في سورة البقرة.

ثم تأتي المجموعة الثانية من قسم المئين لتفصل في سورة البقرة من بدايتها إلى نهايتها ، بتفصيلها محاور من سورة البقرة تختلف أو تتفق مع ما فصلته سور أخرى ، ولكن على حسب ترتيب ورودها في سورة البقرة دون اشتراط التعاقب

٦

إن مجموعة ما عند ما تفصل في سورة البقرة فإنها تفصل في محاور على ترتيب سورة البقرة ، ولكن ليس شرطا أن تكون هذه المحاور وراء بعضها مباشرة في سورة البقرة. فقد يكون هناك فاصل بين المحور والمحور ، ولكن من الملاحظ أن مجموعة ما عندما تفصل في محاور متعددة فإن هذه المحاور من سورة البقرة تربطها مع بعضها روابط متينة في عالم المعنى ، وسنرى ذلك بشكل واضح أثناء التفصيل ـ إن شاء الله ـ وههنا سنقدم نموذجا :

لقد كان أكثر ما انصب عليه تفصيل سورة آل عمران من مقدمة سورة البقرة هو توضيح صفات المتقين والكافرين. وسنرى أن سورة يونس سينصب تفصيلها على الآية الأول من مقدمة سورة البقرة (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

ولقد انصب تفصيل سورة النساء على الآيات الخمس الآتية بعد مقدمة سورة البقرة وخاصة على التقوى من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وسنرى أن سورة هود سينصب تفصيلها على قوله تعالى : (اعْبُدُوا) من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وأن سورة يوسف سترينا مصداق قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

فسورتا : هود ويوسف تفصلان في الآيات الخمس التي فصلت فيها سورة النساء ، ولكنهما تركزان على نقاط بعينها ، بينما ركزت سورة النساء على نقاط أخرى ، وسورة الرعد تفصل في نفس المحور الذي فصلت فيه سورة المائدة ، مع تركيزها على نقاط بعينها.

ثم تأتي سورة إبراهيم فتفصل في آية بعيدة في سورة البقرة هي : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ). ولو أنك أتيت إلى محاور هذه المجموعة كلها من سورة البقرة ووضعتها بجانب بعضها لرأيت أنك أمام موضوع متكامل.

٧

فمع أن سورة البقرة لها سياقها ، وتترابط آياتها ببعضها ترابطا واضحا فإن المجموعات التي تفصل في محاور من سورة البقرة تربط المعاني في سورة البقرة إلى بعضها برباط جديد ، لتريك أن هناك صلات بين آيات سورة البقرة ذات الموضوع الواحد ولو تباعد ما بين هذه الآيات.

وهذه قضايا تظهر للإنسان من خلال التتبع والتأمل ، ولذلك نذكرها هنا لمجرد الإشارة إليها ، وسيأتي التفصيل إن شاء الله تعالى

تأتي المجموعة الأولى من قسم المئين موطأة لمعاني المجموعة الثانية ، وتأتي المجموعة الثانية وتبدأ بسورة الحجر التي تكاد أن تكون عرضا سريعا لكل الأوليات ، ثم تأتي سور المجموعة الثانية لتفصل في معان من سورة البقرة لم تأت سور من قبل تفصلها ، وبذلك يوضع في قسم المئين أساسان يوطان المجموعة الثالثة.

ثم تأتي المجموعة الثالثة في قسم المئين فتكمل بناء القسم في تفصيلها لمحاورها من سورة البقرة تفصيلا يكمل عمل المجموعتين السابقتين.

وتتشابه المجموعات الثلاث في هذا القسم في أن كلا منها تفصل في محاور من سورة البقرة من الابتداء حتى الانتهاء ، كما تشابه في أن كلا منها تنطلق انطلاقات متشابهة في تاكيد الإيمان بالقران ، ثم تسير في طريق تعميق الالتزام ، ثم تصل إلى الوعظ والتذكير ، ثم إن هذه المجموعات الثلاث كل منها يكمل الآخر ؛ ومن ثم كانت قسما واحدا

وهذا أوان عرض المجموعة الأولى من قسم المئين وهي سور : يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم.

وسنرى بعد عرضها ما الذي دلنا على أنها مجموعة متكاملة ضمن قسم المئين

٨

٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

١٠

كلمة في سورة يونس ومحورها :

يلاحظ أن أول آية في سورة يونس هي قوله تعالى (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ثم يأتي قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) وفي الآية (٣٨) نجد قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). ألا ترى أن هذا يقابل قوله تعالى في سورة البقرة (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ثم نجد قوله تعالى في سورة يونس الآية : ٥٧) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ألا ترى أن هذا يقابل قوله تعالى في خاتمة الآية الأولى من سورة البقرة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وإذا نظرت إلى ما ختمت به سورة يونس وهي قوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

فأنت ترى ـ ابتداء ـ أن محور سورة يونس هو قوله تعالى في سورة البقرة (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فإذا كانت سورة آل عمران قد فصلت مقدمة سورة البقرة كلها ، فإن سورة يونس تفصل الآية الأولى من سورة البقرة ، ويكون مجىء (الر) في السور الأولى من هذه المجموعة فيه إشارة إلى نوع جديد من التفصيل ، فالسورة إذا تقرر كيف أن هذا القرآن لا ريب فيه ، وتناقش المرتابين الذين هم أحد اثنين : إما مستغربون أن ينزل الله وحيا ، أو متهمون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذب. وترد على هؤلاء وهؤلاء ، ولكن لا بطريقة البشر في الرد ، إنها ترد بأسلوب هو وحده كاف ليدل على أن الريب في غير محله ، ثم تقرر السورة كيف أن القرآن هدى ، ثم تختم السورة بالتذكير والتلخيص لمضمونها كله.

فالسورة تتألف من مقدمة هي آية واحدة تشعر بموضوع السورة كله ، ثم يأتي جسم السورة وهو يتألف من ثلاثة أقسام ينتظمها محور السورة العام.

إنه ليس من المصادفة أن تكون سورة يونس على مثل هذا الترابط مع أول آية من سورة البقرة لو لا أن ما اتجهنا إليه في الربط بين سور القرآن كان صحيحا :

إن أول سورة البقرة هو : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) تأمل هذه

١١

الآية ، وتأمل المسرى العام لسورة يونس من خلال تأمل الآيات التالية :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ)

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ..)

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) لاحظ كلمة (لا رَيْبَ فِيهِ)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ....)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لاحظ كلمة (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) لاحظ كلمة (فِي شَكٍ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)

لاحظ كلمة (فِي شَكٍ)

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ)

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ...)

لو أنك نظرت هذه الآيات بتأمل لوجدتها : إما أنها تتحدث عن الشك وتزيل أسبابه ، أو أنها تتحدث عن هداية القرآن والاهتداء به ، وكل ذلك مرتبط بقوله تعالى من سورة البقرة : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)

إنه بسورة يونس يبدأ التفصيل الثاني لسورة البقرة بتفصيل أول آية فيها ، ولكن ـ كما رأينا من قبل ـ أن السورة عادة لا تفصل محورها فقط بل تفصل محورها وامتداداته وارتباطاته من سورة البقرة نفسها ، وهذا الذى نراه في سورة يونس.

ولقد فطن الألوسي إلى مجموعة روابط تربط بين سورة يونس وسورة براءة التي سبقتها فقال : (ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٢

وهذه ابتدئت به ، وأيضا أن في الأولى بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية وقال جل وعلا (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) على أحد الأقوال. وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) وفي قوله سبحانه : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) إلى أن قال سبحانه : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) وأيضا في الأولى براءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه ، وفي هذه براءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عملهم ، ولكن من دون أمر بقتال ، بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل ، كما قيل على ضد ما في الأولى ، وهذا نوع من المناسبة أيضا ، وذلك في قوله تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ))

كما فطن صاحب الظلال رحمه‌الله إلى الصلة بين بداية سورة يونس وخاتمتها فقال :

(والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها. فيجىء في المطلع قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ* أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) .. ويجىء في الختام : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) .. فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام. كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام)

١٣

القسم الأول من سورة يونس

ويمتد حتى نهاية الآية (٥٦) حيث يأتي بعد ذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ...) وهذا القسم يتألف من آية هي مقدمة السورة ، ومقطعين يناقشان الريب في القرآن :

المقطع الأول بدايته : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) فهذا المقطع يناقش الكافرين بأصل الوحي

والمقطع الثاني بدايته : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ..) فهذا المقطع يناقش المكذبين بالقرآن ، فالقسم بمجموعة يناقش الريب في القرآن ، فهو إذن يصب في تفصيل قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)

فهذا القسم في السورة يؤكد أن هذا القرآن لا ريب فيه ، ثم يأتي القسم الثاني ليؤكد أن هذا القرآن هدى ويجب أن يهتدى به

تبدأ السورة بآية تدل على مضمون السورة وهي : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) فالآية الأولى في السورة تذكر حكمة الكتاب ، وذلك يؤكد أنه لا ريب فيه ، وأنه هدى يجب أن يهتدي الناس به ، فهذه الآية التي هي مقدمة السورة تشير إلى مضمون السورة ، كما أنها في محلها تحقق ما يسمى في علم البلاغة (ببراعة الاستهلال) على أعظمه وأروعه ، ولله ولكتابه المثل الأعلى ، وتنزه كتابه وكلامه أن يشبه كلام البشر.

وسنعرض مقدمة السورة مع المقطع الأول من القسم الأول معا وهذا أوان الشروع في ذلك

١٤

مقدمة السورة والمقطع الأول من القسم الأول

المقدمة آية واحدة ثم يأتي المقطع ويستمر حتى نهاية الآية (٣٧) وهذا هو مع المقدمة :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ

١٥

آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ

١٦

الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً

١٧

فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى

١٨

تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧))

ملاحظة حول طريقتنا في تفسير ما سيأتي من القرآن :

في ما مر معنا من التفسير حرصنا أن نأتي بالمعاني العامة للآيات المفسرة ، ثم نتبعها بالتفسير الحرفي ، وكان ذلك يضطرنا إلى التكرار ، وقد ألجأنا إلى ذلك حرصنا على عرض معاني ما نفسره متسلسلا ؛ لتأكيد وحدة المقطع ، أو القسم ، أو المجموعة ، ونعتقد أن ما مر كان كافيا لتأكيد ما أردناه ، ولذلك ورغبة في الاختصار فإننا لن نسير بعد الآن على مبدأ ذكر المعنى العام ثم المعنى الحرفي ، بل سنكتفي بذكر المعنى الحرفي.

كلمة بين يدي الآيات :

إن الناس الذين ينكرون الوحي إنما يفعلون ذلك لأن تصوراتهم عن أمور كثيرة مغلوطة ومن ثم ، وهذه الآيات تناقش هؤلاء فإنها تصحح كل المفاهيم التي تؤدي إلى إنكار الوحي ، وهذا شىء لا بد من تذكره لإدراك الصلة بين الآيات.

قلنا : إن القسم الأول من سورة يونس يناقش المرتابين في هذا القرآن ، ويؤكد أن هذا القرآن لا ريب فيه ، وقلنا : إن المقطع الأول من القسم الأول يناقش الذين ينكرون أصل الوحي ، وههنا نقول : إن مناقشة المنكرين لأصل الوحي إنما كانت كجسر يوصل إلى مناقشة المرتابين في القرآن ، لذلك نجد في هذا المقطع قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ

١٩

آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) كما نجد أن المقطع قد ختم بقوله تعالى (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

فهذا يؤكد أن مناقشة المنكرين لأصل الوحي إنما هو جسر لإقامة الحجة على المرتابين في هذا القرآن

المعنى الحرفي لمقدمة السورة وللمقطع الأول من القسم الأول فيها :

(الر) قد تقدم الكلام عن هذه الحروف أكثر من مرة وأقوى الأقوال فيها : أنها تدل على اسم من أسماء الله ، أو صفة من صفاته ، أو أنها أسماء للسور التي استهلت بها ، أو أنها إشارة إلى التحدي والإعجاز ، أو أنها للتنبيه بين يدي المعاني ، أو أنها مفاتيح لجرس السورة ونغمتها ، أو أنها مفاتيح لفهم الوحدة القرآنية ، أو أنها إشارة إلى وجود نسبة معينة لهذه الحروف في سورها ولا يمنع أن يكون ذلك كله مرادا من الاستفتاح بها. والله أعلم. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات القرآن المحكم البين الحكمة ، فالقرآن حكيم لاشتماله على الحكمة ، والقرآن محكم لخلوه عن الكذب والافتراء والزيادة والنقصان ، هذه الآية هي مقدمة هذه السورة ، وفيها إشارة إلى الحكمة والإحكام في القرآن ، فهو حكيم في اختيار ألفاظه ، حكيم في ترتيب كلماته ، حكيم في ترتيب آياته في السورة الواحدة ، حكيم في ترتيب سوره في المجموعة أو القسم أو فيه كله ، حكيم فيما تضمنه من معان وتوجيهات ، وتربية وتشريع وتعليم ، محكم في هذا كله لا يمكن نقضه ، ولا يمكن أن يوجد فيه خلل ، فكما أن في هذا الكون حكمة لأنه خلق الله الحكيم ، ففي هذا القرآن حكمة لأنه كلام الله الحكيم ، وكما أن الحكمة في هذا الكون لا يحيط بها إلا خالقها ، فالحكمة في هذا القرآن لا يحيط بها إلا منزل هذا القرآن ، وإنما يرى الخلق منها بقدر نور بصائرهم ، وإذ كان القرآن حكيما فذلك دليل على أنه من عند الله ، وذلك يقتضي من الخلق أن يهتدوا ، وهذا هو مضمون السورة التي جاءت الآية الأولى فيها مقدمة لها. ثم يبدأ المقطع الأول وتعرض الآية الأولى منه عجب الكافرين أن ينزل الله وحيا ، ويبعث رسولا مع تعجيبها من هذا العجب فتقول (أَكانَ

٢٠