رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٢

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٢

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-090-0
الصفحات: ٤١٠

وأما الشيخ في النهاية فعبارته فيها صريحة في النجاسة (١) وإن أتى بعدها بما ربما ينافيها (٢). لكنها مؤوّلة بتأويلات غير بعيدة تركن النفس إليها بعد إرادة الجمع بينه وبين العبارة الصريحة في النجاسة.

وعلى تقدير مخالفة هؤلاء المذكورين لا يمكن القدح في الإجماعات المستفيضة المحكية بخروجهم البتة ، كما مرّ غير مرّة.

وحيث قد عرفت انحصار أدلة نجاسة الكفّار في الإجماع وفحوى الأخبار المزبورة ظهر لك وجه قوّة القول بطهارة من عدا الخوارج والغلاة والنواصب من فرق المسلمين ـ إلّا أن ينكر ضروريا من الدين على وجه يلحق بالكافرين ـ سواء كان جاحد النص أو غيره. وهو المشهور بين الأصحاب.

لأصالة الطهارة وعموماتها. مع عدم جريان شي‌ء من الدليلين المخرجين عنهما هنا ، لفقد الإجماع في محل النزاع سيّما مع شهرة الطهارة ، وعدم الأولوية ، إذ ليسوا ـ لشرف الإسلام ـ أمرّ من أهل الذمة.

هذا ، مع لزوم الحرج على تقدير النجاسة ، والإجماع على عدم احتراز الأئمة عليهم‌السلام والأصحاب عنهم في شي‌ء من الأزمنة على حدّ يظهر عدم كونه من جهة التقية.

مضافا إلى النصوص المستفيضة بل المتواترة الحاكمة بحلّ ما يوجد في أسواق المسلمين والطهارة (٣) ، مع القطع بندرة الإمامية في جميع الأزمنة سيّما في أزمنة صدور تلك النصوص ، وأنه لا ينعقد لخصوصهم سوق يكون الأحكام المزبورة واردة عليه ، فهو من أقوى الأدلة على طهارة هؤلاء الكفرة وإن كانوا في المعنى أنجس من الكلاب الممطورة.

__________________

(١) النهاية : ٥٨٩.

(٢) قال : ويكره أن يدعو الإنسان أحدا من الكفار إلى طعامه ، فيأكل معه. فإن دعاه فليأمره بغسل يديه ، ثمَّ يأكل معه إن شاء.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٩٠ أبواب النجاسات ب ٥٠.

٨١

خلافا للشيخ فحكم بنجاسة المجبرة (١) ، وللسيّد رحمه‌الله فحكم بنجاسة المخالفين (٢) ، لإطلاق الكفر عليهم في كثير من الأخبار (٣).

وهو كما ترى ، فإنه أعم من الحقيقة ، مع أنّ أمارات المجازات من عدم التبادر أو تبادر الغير وصحة السلب موجودة. وعلى تقديرها فلا دليل على النجاسة كلية ، وإن هو إلّا مصادرة محضة ، لفقد الإجماع وما مضى من الأولوية.

مضافا إلى معارضتها بكثير من المعتبرة الدالّة على إسلامهم من حيث الشهادتين ، ففي الخبر : « الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكحة والمواريث وعلى ظاهره عامة الناس » (٤).

وقريب منه آخر : « الإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح » (٥).

والمعتبرة بمعناهما مستفيضة (٦) وفيها الصحيح والحسن ، لكن ليس فيها أن الإسلام هو الشهادتان وإن كان يظهر منها بنوع من التأمل.

فإذا ثبت إسلامهم ثبت طهارتهم ، للخبر : أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمّر؟ فقال : « بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإنّ أحبّ دينكم إلى الله تعالى الحنيفية السهلة‌

__________________

(١) انظر المبسوط ١ : ١٤.

(٢) كما نقله عنه في روض الجنان : ١٦٣.

(٣) منها ما رواه في الكافي ١ : ١٨٧ / ١١ وص ٤٣٧ / ٧ ، والمحاسن : ٨٩ / ٣٤ ، الوسائل ٢٨ : أبواب حدّ المرتد ب ١٠ ح ١٣ ، ٤٣ ، ٤٨.

(٤) الكافي ٢ : ٢٥ / ١.

(٥) الكافي ٢ : ٢٦ / ٥.

(٦) انظر الكافي ٢ : ٢٤ ، ٢٥ كتاب الايمان والكفر ب ١٤ ، ١٥.

٨٢

السمحة » (١).

وأمّا الحجّة على نجاسة الفرق الثلاث (٢) ومن أنكر ضروري الدين فهو الإجماع المحكي عن جماعة (٣). ويدخل في الأخير المجسمة الحقيقية ، لقولهم بالحدوث الباطل بالضرورة من الدين.

ولولاه لكان القول بالطهارة متعينا ، للأخبار المزبورة الحاكمة بإسلام من صدر عنه الشهادتان ، المستلزم للطهارة ، للرواية المتقدمة.

(و) التاسع : (كل مسكر) مائع بالأصالة ، كما عن المنتهى والتذكرة والمدنيّات والذكرى والبيان وظاهر المقنعة والناصريات والنهاية ومصباح الشيخ والغنية والمهذّب والوسيلة (٤) ، لتعبيرهم بالشراب المسكر.

وعن الأكثر ـ ومنهم الشيخ في المبسوط والجمل ـ الإطلاق (٥). وليس في محلّه ، للأصل ، واختصاص المثبت للنجاسة بالأشربة المائعة خاصة.

والحجة في نجاسة الخمر منها بعد الإجماعات المستفيضة المحكية عن السرائر والنزهة والخلاف والمبسوط والناصريات والغنية والتذكرة (٦) : الصحاح المستفيضة. ونحوها في الاستفاضة غيرها من المعتبرة في نفسها والمنجبر قصور أسانيدها بالشهرة العظيمة.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٩ / ١٦ ، الوسائل ١ : ٢١٠ أبواب الماء المضاف ب ٨ ح ٣.

(٢) أي : الخوارج والغلاة والنواصب.

(٣) منهم : العلامة في المنتهى ١ : ١٦٨ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ١٦٣ ، والسبزواري في الذخيرة : ١٥٢.

(٤) المنتهى ١ : ١٦٨ ، التذكرة ١ : ٧ ، حكاه عن المدنيات في كشف اللثام ١ : ٦٥ ، الذكرى : ١٤ ، البيان : ٩١ ، المقنعة : ٧٣ ، الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٨١ ، النهاية : ٥١ ، مصباح المتهجد : ١٣ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٠ ، المهذّب ١ : ٥١ ، الوسيلة : ٧٤.

(٥) المبسوط ١ : ١١ ، ٣٦ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٧١ ، وحكاه عن الأكثر في كشف اللثام ١ : ٤٦.

(٦) السرائر ١ : ٧٠ ، ١٧٨ ، نزهة الناظر : ١٧ ، الخلاف ٢ : ٤٨٤ ، المبسوط ١ : ٣٦ ، الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٨١ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٠ ، التذكرة ١ : ٧.

٨٣

ففي الصحيح : عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجرّي ويشرب الخمر فيردّه ، أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال : « لا يصلّي فيه حتى يغسله » (١).

والصحيح : عن آنية أهل الذمة والمجوس ، فقال : « لا تأكلوا في آنيتهم ، ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر » (٢).

والصحيح : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك » (٣).

وليس شي‌ء منها ـ كما ضاهاها ـ يقبل الحمل على التقية ، لاتفاق العامة على أكل الجرّي وطهارة أهل الكتاب وحلّ النبيذ مع تصريحها بمخالفتهم في الأمور المزبورة ، فليس حملها عليها إلّا غفلة واضحة ، بل يتعين حمل ما خالفها عليها (٤) ، سيّما مع ندرة القائل بها منّا (٥) ، وشذوذها عند أصحابنا وقلّة عددها بالإضافة إلى ما مضى.

وأما نجاسة سائر الأشربة المسكرة فكأنه لا فارق بينها وبين الخمر. وعن الناصريات : إنّ كلّ من حرّم شربها نجّسها (٦). وعن الخلاف والمعتبر : الإجماع على نجاستها (٧).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٤ ، الاستبصار ١ : ٣٩٣ / ١٤٩٨ ، الوسائل ٣ : ٤٦٨ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٥ ، الوسائل ٣ : ٤١٩ أبواب النجاسات ب ١٤ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٧ / ١٤ ، التهذيب ١ : ٢٨١ / ٨٢٦ ، الاستبصار ١ : ١٩٠ / ٦٦٩ ، الوسائل ٣ : ٤٦٨ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٢.

(٤) انظر الوسائل ١ : ١٤٥ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٢ ، وج ٣ ص ٤٧١ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ١٠ إلى ١٤.

(٥) وهو العماني كما حكاه عنه في المختلف : ٥٨ ، والصدوق في الفقيه ١ : ٤٣ ، ويظهر أيضا من المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١ : ٣١٢.

(٦) الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٨١.

(٧) الخلاف ٢ : ٤٨٤ ، المعتبر ١ : ٤٢٤.

٨٤

والنصوص بنجاسة النبيذ مستفيضة (١) ، وربما ظهر من الصحيح الأخير المتقدم تفسيره بمطلق المسكر ، فيستفاد منها بمعونته نجاستها بأجمعها ، مضافا إلى المرسل : « لا تصلّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر ، واغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كلّه ، فان صلّيت فيه فأعد صلاتك » (٢).

ونحوه الموثق : « لا تصلّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسل » (٣).

ويعضده المعتبرة الناصة على شمول الخمر لجميعها ، ففي الصحيح : « الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر » (٤).

وفي خبر آخر : « الخمر من خمسة أشياء : من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل » (٥).

ونحوهما في روايات ثلاث أخر معتبرة (٦).

وفي المروي عن علي بن إبراهيم ، عن مولانا الباقر عليه‌السلام : « وإنما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر والتمر ، فلمّا نزل تحريمها خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقعد في المسجد ثمَّ دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها كلّها » ثمَّ قال : « هذه خمر فقد حرّمها الله تعالى ، وكان أكثر شي‌ء‌

__________________

(١) منها ما رواه في الوسائل ٣ : ٤٧٠ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٦ و٨.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٨ / ٨١٨ ، الاستبصار ١ : ١٨٩ / ٦٦١ ، الوسائل ٣ : ٤٦٩ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٣.

(٣) التهذيب ١ : ٢٧٨ / ٨١٧ ، الاستبصار ١ : ١٨٩ / ٦٦٠ ، الوسائل ٣ : ٤٧٠ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٧.

(٤) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ / ٤٤٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٩ أبواب الأشربة المحرمة ب ١ ح ١.

(٥) الكافي ٦ : ٣٩٢ / ٢ ، الوسائل ٢٥ : ٢٧٩ أبواب الأشربة المحرمة ب ١ ح ٢.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٢٨٠ أبواب الأشربة المحرمة ب ١ الأحاديث ٣ ، ٤ ، ٦.

٨٥

اُكفئ من ذلك يومئذ من الأشربة الفضيخ ، ولا أعلم أكفئ من خمر العنب شي‌ء إلّا إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ، فأمّا عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شي‌ء » (١).

وذهب جماعة من أهل اللغة إلى ما تضمنته هذه الروايات (٢).

وفي الخبر (٣) : « ما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (٤).

وإطلاق الخمر عليه يلازم الدلالة على النجاسة ، إمّا لاقتضائه كونه حقيقة فيه ، أو اشتراكه معه في أحكامه. ولكن المناقشة فيه بتبادر الحرمة منها خاصة ممكنة.

ثمَّ إن المشهور بين الأصحاب (٥) أن في حكم الخمر العصير العنبي إذا غلى واشتد ، ولعلّه إمّا لكونه خمرا حقيقة ، كما حكي عن جماعة من فقهاء العامة والخاصة كالبخاري والصدوقين والكليني (٦). أو لإطلاق لفظ الخمر عليه في النصوص الملازم لكونه حقيقة فيه أو مشتركا معها في الأحكام التي النجاسة‌

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٨٠ ، الوسائل ٢٥ : ٢٨٠ أبواب الأشربة المحرمة ب ١ ح ٥.

(٢) انظر القاموس ٢ : ٢٣ ، والمصباح المنير : ١٨٢ ، ومجمع البحرين ٣ : ٢٩٢.

(٣) في « ل » : الصحيح.

(٤) الكافي ٦ : ٤١٢ / ٢ ، التهذيب ٩ : ١١٢ / ٤٨٦ ، الوسائل ٢٥ : ٣٤٢ أبواب الأشربة المحرمة ب ١٩ ح ١.

(٥) كما ادعاه جماعة ، وعن كنز العرفان ٢ : ٣٠٤ دعوى الإجماع عليه ، وهو الحجة ، المعتضدة بما في المتن من الأدلة ، مضافا إلى الرضوي : « واعلم أنّ أصل الخمر من الكرم إذا أصابته النار أو غلى من غير أن تصيبه النار فهو خمر ولا يحل شربه إلّا أن يذهب ثلثاه على النار ويبقى ثلثه » فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٨٠ وهو سندا كالموثقة ، وأظهر منها دلالة ، لما فيه من عدم اختلاف النسخة ، وبالجملة : القول بالنجاسة في غاية القوة. منه عفى عنه.

(٦) حكاه عنهم الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك ( المخطوط ) وقال فيها : لعلّ المأخذ هو الأخبار التي رواها في الكافي ٦ : ٣٩٣ في باب أصل تحريم الخمر ، ورواه الصدوق في العلل : ٤٧٦ أيضا ، إذ ظهر من تلك الأخبار أن العصير بمجرّد الغليان يدخل في حدّ الخمر حقيقة .. إلى آخر ما قال. وانظر أيضا المقنع للصدوق : ١٥٣ نقلا عن رسالة أبيه ، وصحيح البخاري ٧ : ١٣٧ ، ١٣٩.

٨٦

منها ، ففي الموثق المروي في التهذيب : عن الرجل من أهل المعرفة يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه يشربه على النصف ، فقال : « خمر لا تشربه » (١).

إلّا أنه مروي في الكافي وليس فيه لفظ الخمر (٢) ، لكن احتمال السقوط أولى من احتمال الزيادة وإن كان راوي الأول أضبط جدا. لكن في الاكتفاء بمثل هذا الاحتمال في تخصيص الأصول والعمومات إشكال. بل ربما انسحب الإشكال على تقديره أيضا ، بناء على التأمل في تبادر النجاسة من علاقة الشباهة قطعا ، سيّما بملاحظة سياق الخبر وتفريع حرمة الشرب فيه على الإطلاق المزبور خاصة.

فانحصر دليل النجاسة في كلام الجماعة. والاستناد إليه في إثباتها يتوقف على ثبوت الحقيقة منه. وعلى تقديره فشمول ما دلّ على إطلاق الخمر لمثله محل نظر ، لعدم التبادر.

فإذا الطهارة أقوى ، وفاقا لجماعة من متأخري أصحابنا (٣). إلّا أن الاحتياط المصير إلى الأوّل إن لم يحصل له الإسكار ، وإلّا فالقول بنجاسته متعيّن جدا ، لعموم ما تقدّم.

(و) العاشر : (الفقّاع) بالإجماع كما عن الانتصار والخلاف والغنية والمنتهى ونهاية الإحكام وظاهر المبسوط والتذكرة (٤) ، مع التأيد بإطلاق الخمر عليه في المعتبرة المستفيضة التي كادت تبلغ التواتر ، بل في بعضها : « إنه الخمر بعينها » (٥).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٢٢ / ٥٢٦ ، الوسائل ٢٥ : ٢٩٣ أبواب الأشربة المحرمة ب ٧ ح ٤.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢١ / ٧.

(٣) منهم المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣١٢ ، صاحب المدارك ٢ : ٢٨٩ ، السبزواري في الكفاية : ١٢.

(٤) الانتصار : ١٩٧ ، الخلاف ٢ : ٤٩٠ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٠ ، المنتهى ١ : ١٦٧ ، نهاية الإحكام ١ : ٢٧٢ ، المبسوط ١ : ٣٦ ، التذكرة ١ : ٧.

(٥) الوسائل ٢٥ : ٣٥٩ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٧.

٨٧

وعليه يمكن الاستدلال بها على نجاسته جدا.

هذا مضافا إلى النص الصريح فيها ، ولا يضر قصور سنده بعد الانجبار بعمل الأصحاب ، وفيه : « لا تشربه فإنه خمر مجهول ، فإذا أصاب ثوبك فاغسله » (١).

والمرجع فيه العرف والعادة ، فحيثما ثبت إطلاق الاسم فيهما حكم بالنجاسة.

(و) اعلم أن الأظهر الأشهر بين قدماء الطائفة (في عرق الجنب من الحرام) مطلقا ، حين الجنابة كان أم بعدها ـ وربما خص بالأول ـ هو النجاسة ، بل عدّه في الأمالي من دين الإمامية (٢) ، وصرّح بالإجماع في الخلاف شيخ الطائفة (٣) ، وهو الظاهر من عبارة ابن زهرة (٤). ونحوها عبارة سلّار (٥) ، إلّا أن اختياره الطهارة بعد الحكاية بلا فاصلة يعيّن إرادته منها الشهرة العظيمة.

للنصوص المستفيضة ، منها الرضوي : « إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه ، وإن كانت من حرام فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل » (٦).

ونحوه المروي في الذكرى عن زياد الكفرثوثي (٧) ، وفي البحار عن مناقب ابن شهرآشوب نقلا من كتاب المعتمد في الأصول عن علي بن مهزيار (٨) ، وفيهما : « إن كان من حلال فصلّ فيه ، وإن كان من حرام فلا تصلّ‌

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٧ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٤ ، الاستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٣ ، الوسائل ٢٥ : ٣٦١ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٧ ح ٨.

(٢) أمالي الصدوق : ٥١٦.

(٣) الخلاف ١ : ٤٨٣.

(٤) انظر الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥١.

(٥) المراسم : ٥٦.

(٦) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٤.

(٧) الذكرى : ١٤ ، الوسائل ٣ : ٤٤٧ أبواب النجاسات ب ٢٧ ح ١٢ ، البحار ٧٧ : ١١٨ / ٧.

(٨) المناقب ٤ : ٤١٤ ، البحار ٧٧ : ١١٧ / ٥ ، المستدرك ٢ : ٥٦٩ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٥.

٨٨

فيه ».

ونحوهما خبر آخر مروي في البحار (١).

وقصور أسانيدها منجبر بالشهرة العظيمة بين القدماء والإجماعات المحكية ، والدلالة وإن لم تكن ناصة بالنجاسة إلّا أنّ الملازمة بينها وبين عدم جواز الصلاة المصرّح به فيها هنا ثابتة ، بناء على عدم القائل بما فيها خاصة من القائلين بالطهارة ، والقول به خاصة دون الأحكام الأخر المترتبة على النجاسة إحداث قول في المسألة.

هذا مضافا إلى التأيد بالروايات الواردة في الحمّام الناهية عن غسالته معلّلة باغتسال الزاني فيها والجنب عن حرام (٢). فتأمل.

وكيف كان : فخلاف المتأخرين ومصيرهم إلى الطهارة ضعيف ، وأدلتهم من الأصل والعمومات بما تقدّم مخصّصة.

(و) نحوه في النجاسة (عرق الإبل الجلّالة) في الأظهر الأشهر بين قدماء الطائفة ، بل ربما يستشعر الإجماع عليه من عبارة ابن زهرة (٣) ، ومن عبارة سلّار الشهرة العظيمة (٤) ، للصحيحين : « فإن أصابك من عرقها شي‌ء فاغسله » (٥).

والثاني منهما عام للإبل وغيرها (٦). وبه صرّح بعض الأصحاب (٧) وحكى عن النزهة (٨). خلافا للأكثر فخصّوا الحكم بالأوّل.

__________________

(١) البحار ٧٧ : ١١٨ / ٦ ، المستدرك ٢ : ٥٦٩ أبواب النجاسات ب ٢٠ ذيل الحديث ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٨ أبواب الماء المضاف ب ١١.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥١.

(٤) المراسم : ٥٦.

(٥) الكافي ٦ : ٢٥١ / ٢ ، التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٧ ، الوسائل ٣ : ٤٢٣ أبواب النجاسات ب ١٥ ح ٢.

(٦) الكافي ٦ : ٢٥٠ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٨ ، الوسائل ٣ : ٤٢٣ أبواب النجاسات ب ١٥ ح ١.

(٧) انظر كشف اللثام ١ : ٥٠.

(٨) نزهة الناظر : ١٩.

٨٩

وبهما يخصّ أدلة الطهارة التي تمسّك [ بها ] (١) الجماعة المتأخرة البالغين حدّ الشهرة. لكنها بالإضافة إلى شهرة القدماء مرجوحة. وعلى فرض التساوي فترجيحها عليها يحتاج إلى دلالة واضحة ، وهي منتفية. والأصل والعمومات بالصحيحين المرجّحين لشهرة القدماء مخصّصة ، وهما أدلة خاصة ، وتلك عامة ، والخاص مقدّم بالضرورة. فالمرجّح مع الشهرة القديمة البتة ، مضافا إلى المخالفة للتقية ، لتصريحهم بالطهارة كما حكاه بعض الأجلة (٢).

(و) الأظهر طهارة (لعاب المسوخ) (٣) عدا الخنزير (وذرق الدجاج) غير الجلّال ، وفاقا للأشهر ( سيّما ) (٤) بين من تأخر ، للأصل ، والعمومات ، وخصوص النصوص في الأول في بعضها كالعقرب والفأرة والوزغة والعاج ونحوها (٥) ، وخصوص الخبر في الثاني : « لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب » (٦).

خلافا للمراسم والوسيلة والإصباح في الأول فالنجاسة (٧). وليست مستندة إلى دلالة واضحة ، وعلى تقديرها فهي لما تقدّم من الأدلة غير مكافئة ، سيّما مع اعتضادها بالشهرة العظيمة ، بل والضرورة في بعض أفرادها كالزنبور ونحوه ممّا يوجب القول بوجوب التحرز عنه مخالفة الطريقة المستمرة بين المسلمين في الأعصار السابقة واللاحقة ، مضافا إلى استلزامه العسر والحرج المنفيين في الشريعة السهلة السمحة.

__________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه لاقتضاء السياق.

(٢) قال المحقق في المعتبر ١ : ٤١٤ بعد نقل قول سلّار باستحباب غسل الثوب : وهو مذهب من خالفنا. ولم نعثر على غيره نسب التصريح بالطهارة إلى العامة.

(٣) قد وردت روايات في بيان أنواع المسوخ في الوسائل ٢٤ : ١٠٤ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٢.

(٤) ليست في « ش ».

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٨ أبواب الأسئار ب ٩ ، الوسائل ٢ : ١٢٢ أبواب آداب الحمام ب ٧٢.

(٦) التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣١ ، الاستبصار ١ : ١٧٧ / ٦١٨ ، الوسائل ٣ : ٤١٢ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٢.

(٧) المراسم : ٥٥ ، الوسيلة : ٧٨ ، ونقله عن الإصباح في كشف اللثام ١ : ٤٩.

٩٠

فأبواب المناقشات في هذا القول مفتوحة. كانفتاحها في القول بنجاسة عينها ولعابها كما عن المبسوط في موضعين منه (١) ، مدّعيا في أحدهما الإجماع. وهو غريب. ولا يبعد جعله أمارة لإرادته الخباثة من النجاسة لا المعنى المتعارف بين المتشرعة.

ويقربه المحكي عن اقتصاده من أنّ غير الطير على ضربين : نجس العين ونجس الحكم ، فنجس العين هو الكلب والخنزير ، فإنّه نجس العين نجس السؤر نجس اللعاب ، وما عداه على ضربين : مأكول وغير مأكول ، فما ليس بمأكول كالسباع وغيرها من المسوخات مباح السؤر وهو نجس الحكم (٢).

انتهى.

فيحتمل إرادته من النجاسة فيما مضى ما فسّرها به هنا. ويؤيده حكمه في الخلاف بجواز التمشط بالعاج واستعمال المداهن منه مدّعيا عليه الإجماع (٣).

وللصدوقين (٤) ، والشيخين (٥) في الثاني فنجّسوه ، للخبر : عن ذرق الدجاج تجوز فيه الصلاة؟ فكتب : « لا » (٦).

وفيه ـ مع الضعف والإضمار وكونه مكاتبة محتملة لأجلها الحمل على التقية ـ : قصور الدلالة ، إلّا على تقدير الملازمة بين نفي جواز الصلاة معه والنجاسة. وهي منتفية ، لانتفائها في مواضع كثيرة. إلّا أن ينجبر بعدم القول بالفرق بينه وبينها هاهنا.

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٦٦ ، وج ٦ : ٢٨٠.

(٢) الاقتصاد : ٢٥٤.

(٣) الخلاف ١ : ٦٧.

(٤) الصدوق في المقنع : ٥ ، ولم نعثر على من نقله عن والده بل إنما نسبوه إلى الصدوق خاصة ، انظر كشف اللثام ١ : ٥٠ ، مفتاح الكرامة ١ : ١٥٣.

(٥) المفيد في المقنعة : ٧١ ، الطوسي في المبسوط ١ : ٣٦.

(٦) التهذيب ١ : ٢٦٦ / ٧٨٢ ، الاستبصار ١ : ١٧٨ / ٦١٩ ، الوسائل ٣ : ٤١٢ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٣.

٩١

وكيف كان : لا ريب في قصوره عن المقاومة لما مرّ من الأدلة بالضرورة ، فينبغي طرحه ، أو حمله على الجلّال ، لعدم خلاف في نجاسة ذرقه كما في التنقيح (١) ، بل عليها الإجماع في المختلف (٢). ويؤيده عموم ما دلّ على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه مطلقا ، كما مضى (٣).

(و) في نجاسة (الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة اختلاف) بين الطائفة : فبين حاكم بنجاسة الأربعة ، كما عن موضع من المبسوط وموضع من النهاية (٤) ، مع حكمه بكراهة الرابع في الموضع الآخر من الأول (٥) ، وكراهة الثالث في الموضع الآخر من الثاني (٦) ، أو الأخيرين خاصة ، كما عن المراسم والمقنعة (٧). أو الأوّلين كذلك ، كما عن الحلبيين (٨). أو هما مع الرابع مكرها للثالث ، كما عن القاضي (٩). وعن الغنية الإجماع على القول الثالث.

(والكراهية) في الجميع (أظهر) وفاقا لعامة من تأخر ، للأصول والعمومات فيها أجمع.

وخصوص النصوص في الأول الدالة على قبولها التذكية ، منها الصحيح : عن الصلاة في جلود الثعالب ، قال : « إن كانت ذكية فلا بأس » (١٠) ولو كان نجس العين لما قبل التذكية.

والنصوص المستفيضة في الثالث ، منها الصحاح وغيرها ، فمن الاولى‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ١ : ١٤٦.

(٢) المختلف : ٥٥.

(٣) في ص ٦٠.

(٤) المبسوط ١ : ٣٧ ، النهاية : ٥٢.

(٥) المبسوط ١ : ٣٧.

(٦) النهاية : ٦.

(٧) المراسم : ٥٦ ، المقنعة : ٧٠.

(٨) أبو الصلاح في الكافي : ١٣١ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥١.

(٩) انظر المهذّب ١ : ٥١ ، ٥٢.

(١٠) التهذيب ٢ : ٢٠٦ / ٨٠٩ ، الاستبصار ١ : ٣٨٢ / ١٤٤٧ ، الوسائل ٤ : ٣٥٧ أبواب لباس المصلي ب ٧ ح ٩.

٩٢

الصحيح : عن الفأرة تقع في السمن والزيت ثمَّ تخرج منه حيا ، فقال : « لا بأس بأكله » (١).

وفي الصحيح : « لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضأ منه » (٢).

ونحوه الخبر من الثاني المروي عن قرب الإسناد (٣).

وفي آخر منه : عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيا هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ؟ قال : « يسكب منه ثلاث مرّات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمَّ تشرب منه وتتوضأ منه ، غير الوزغ فإنه لا ينتفع بما وقع فيه » (٤).

وخصوص الصحيح في الرابع : عن الوزغ يقع في الماء فلا يموت فيه ، أيتوضأ منه للصلاة؟ قال « لا بأس » (٥).

والمراد بعدم الانتفاع بما وقع فيه في الخبر السابق ـ ونحوه الرضوي (٦) ـ الكراهة ، أو المنع منه في مثل الشرب من جهة السّمّية لا النجاسة.

ولا معارض لهذه الأدلة سوى المرسل في الأوّلين : هل يجوز أن يمسّ الثعلب والأرنب أو شيئا من السباع حيا أو ميتا؟ قال : « لا يضره ولكن يغسل يده » (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦١ / ٤ ، التهذيب ٩ : ٨٦ / ٣٦٢ ، الوسائل ٢٤ : ١٩٧ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٤٥ ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٨ ، التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٣ ، الاستبصار ١ : ٢٦ / ٦٥ ، الوسائل ١ : ٢٣٩ أبواب الأسآر ب ٩ ح ٢.

(٣) قرب الإسناد : ١٥٠ / ٥٤٢ ، الوسائل ١ : ٢٤١ أبواب الأسآر ٩ ح ٨.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٩٠ ، الاستبصار ١ : ٤١ / ١١٣ ، الوسائل ١ : ٢٤٠ أبواب الأسآر ب ٩ ح ٤.

(٥) التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦ ، الاستبصار ١ : ٢٣ / ٥٨ ، الوسائل ١ : ٢٣٨ أبواب الأسآر ب ٩ ح ١.

(٦) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٣ ، المستدرك ١ : ٢٢٣ أبواب الأسآر ب ٧ ح ٢.

(٧) الكافي ٣ : ٦٠ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٦٢ / ٧٦٣ ، الوسائل ٣ : ٣٠٠ أبواب غسل المس ب ٦ ح

٩٣

وهو ـ مع إرساله وعدم مكافأته لما مرّ ـ دالّ بظاهر إطلاقه على نجاسة السباع أيضا ، ومع ذلك شامل لحالتي الملاقاة برطوبة وبدونها جدّا ، ولا قائل بالإطلاقين قطعاً.

والنصوص في الثالث ، أجودها سندا ودلالة الصحيح : عن الفأرة الرطبة قد وقعت على الماء تمشي على الثياب ، أيصلّى فيها؟ قال : « أغسل ما رأيت من أثرها ، وما لم تره فانضحه بالماء » (١).

وهي ـ مع قصور سند أكثرها ودلالته ـ ضعيفة أجمع عن المكافأة لما مرّ من وجوه عديدة ، فلتحمل على الاستحباب. ومع ذلك محتملة للحمل على التقية ، لحكاية نجاسة الفأرة في المنتهى عن بعض العامة (٢).

وأما حكاية الإجماع المتقدمة عن الغنية فهي بمصير عامة المتأخرين إلى الطهارة موهونة ، ومع ذلك فغايتها أنها رواية صحيحة لا تعارض ـ كسابقتها ـ شيئا من الأدلة السابقة.

__________________

٤.

(١) التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦١ ، الوسائل ٣ : ٤٦٠ أبواب النجاسات ب ٣٣ ح ٢.

(٢) المنتهى ١ : ١٦٥.

٩٤

(وأمّا أحكامها فعشرة :)

(الأوّل)

(كل النجاسات يجب) شرعا (إزالة قليلها وكثيرها عن الثوب والبدن) للصلاة والطواف الواجبين ، وشرطا لهما ، مطلقا إجماعا ، إلّا من الإسكافي في دون سعة الدرهم من النجاسات ـ عدا الحيض والمني ـ فلم يوجب الإزالة حاكما بالطهارة (١). ويدفعه إطلاق المستفيضة الآمرة بغسل النجاسات (٢) الشامل لما ذكره وغيره. كدفعها المحكي في السرائر عن بعض الأصحاب من نفي البأس عمّا يترشح على الثوب أو البدن من النجاسات مطلقا (٣) ، أو مقيدا بالبول خاصة عند الاستنجاء كما عن ميافارقيات السّيد (٤). مضافا إلى اندفاعهما ولا سيّما الأخير بالخصوص بالصحيح وغيره : عن رجل يبول بالليل ، فيحسب أن البول أصابه ولا يستيقن ، فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا يتنشّف؟

قال : « يغسل ما استبان أنه قد أصابه وينضح ما يشك فيه من جسده وثيابه ، ويتنشّف قبل أن يتوضأ » (٥).

وبالجملة : لا ريب في وجوب الإزالة مطلقا (عدا الدم فقد عفى عمّا دون الدرهم) البغلي (سعة) لا وزنا (في الصلاة) خاصة ، إجماعا كما عن المعتبر والمنتهى ونهاية الإحكام والمختلف والتذكرة (٦) ، للنصوص المستفيضة الآتية.

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ٥٩.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٢٨ أبواب النجاسات ب ١٩.

(٣) السرائر ١ : ١٨٠.

(٤) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٨٨.

(٥) التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٤ ، الوسائل ٣ : ٤٦٦ أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٢.

(٦) المعتبر ١ : ٤٢٩ ، المنتهى ١ : ١٧٢ ، نهاية الإحكام ١ : ٢٨٥ ، المختلف : ٦٠ ، التذكرة ١ : ٨.

٩٥

وموردها العفو عن الثوب خاصة ، ولذا حكي الاقتصار عليه عن جماعة (١). ولكن المحكي عن المنتهى نسبة إلحاق البدن به إلى أصحابنا (٢) ، مشعرا بالإجماع عليه ، فهو الحجّة إن تمَّ ، لا الاشتراك في العلّة وهي حصول المشقة في الإزالة ، فإنّها مستنبطة لا إشعار عليه في شي‌ء من المعتبرة.

ولا الرواية : إني حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : « إن اجتمع منه قدر حمصة فاغسله وإلّا فلا » (٣).

لقصور سندها أوّلا. ومخالفتها الإجماع ثانيا من حيث جعل المعيار قدر الحمصة ولا قائل به من الأصحاب إن أريد به سعة ، وكذلك إن أريد به وزنا ، لزيادة سعته من سعة الدرهم لو أشيع في البدن أو الثوب بكثير جدا ولا قائل به من الأصحاب أيضا.

إلّا أن يجاب عن القصور بالانجبار بالعمل ، والدلالة بقراءة الحمصة بالخمصة بالخاء المعجمة ، وهو (٤) ما انخفض من راحة الكف ، كما سيأتي نقل تقدير الدرهم به سعة عن بعض الأجلة (٥) ، لكنه يتوقف على القرينة على هذه النسخة وهي مفقودة.

فإذا المستند إنما هو حكاية الإجماع المستشعر بها عن عبارة العلّامة إن تمَّ ، وإلّا فمقتضى الأصل المستفاد من النصوص المعتبرة المستفيضة عدم العفو ووجوب الإزالة. لكن الظاهر تماميته ، فقد صرّح به المرتضى في الانتصار (٦) ، ولم نر فيه مخالفا ، وكيف كان فالاحتياط مطلوب فيها البتة.

__________________

(١) منهم الصدوق في الفقيه ١ : ٤٢ ، المفيد في المقنعة : ٦٩ ، الطوسي في المبسوط ١ : ٣٥ ، سلّار في المراسم : ٥٥.

(٢) المنتهى ١ : ١٧٣.

(٣) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤١ ، الاستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١٣ ، الوسائل ٣ : ٤٣٠ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٥.

(٤) في « ش » و « ل » زيادة : سعة.

(٥) وهو الحلّي في السرائر ١ : ١٧٧.

(٦) الانتصار : ١٣.

٩٦

ثمَّ إن المراد بالبغلي هو الكبير الوافي المضروب من درهم وثلث على المستفاد من أكثر الأصحاب ، بل حكي اتفاقهم عليه (١) ، وعليه نص الرضوي : « إن أصاب ثوبك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف ، والوافي ما يكون وزنه درهما وثلثا ، وما كان دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ولا بأس بالصلاة فيه » إلى آخره (٢).

وربما ظهر من الحلّي مغايرة الوافي للبغلي (٣).

واختلفوا في سعته ، فبين من قدّره بما يقرب سعته من سعة أخمص الراحة وما انخفض منها كما عن الحلّي (٤) ، وبسعة الدينار كما عن العماني (٥) ، وبسعة العقد الأعلى من الإبهام كما عن الإسكافي (٦) ، وحكي اعتبار سعة العقد الأعلى من السبابة ومن الوسطى (٧).

ولا دليل على شي‌ء منها وإن كان الأول منسوبا إلى الأشهر بين أصحابنا (٨). وربما يستشهد للثاني بالخبر المروي عن مسائل علي بن جعفر : « وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله ولا تصلّ فيه حتى تغسله » (٩) ولا حجة فيه من حيث السند ، مع إجمال سعة الدينار.

والأوفق بالقواعد الأخذ بالأقل من المقادير ، وقوفا فيما خالف الأصل المتقدم على المتيقن ، إلّا أن الأخير ضعيف جدّا تشهد القرائن الحالية بفساده قطعاً. بل وربما لا يبعد ترجيح الأول ، لإخبار الحلّي عن رؤيته كذلك وهو‌

__________________

(١) انظر الحدائق ٥ : ٣٣١.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٥ ، المستدرك ٢ : ٥٦٥ أبواب النجاسات ب ١٥ ح ١.

(٣) السرائر ١ : ١٧٧.

(٤) السرائر ١ : ١٧٧.

(٥) نقله عنه في المختلف : ٦٠.

(٦) حكاه عنه في المختلف : ٥٩.

(٧) كما حكاه الفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٥٢.

(٨) كشف اللثام ١ : ٥٢.

(٩) مسائل علي بن جعفر : ١٧٣ / ٣٠٥ ، الوسائل ٣ : ٤٣٢ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٨.

٩٧

حجة ، وليس من باب الشهادة ليعتبر فيها التعدد ، ومع ذلك فهو معتضد بالشهرة المحكية.

واختلفوا أيضا في وجه التسمية بالبغلي ، فعن المعتبر والتذكرة : إنه النسبة إلى قرية بالجامعين (١) ، قيل : فعلى هذا فالغين مفتوحة واللام مشددة (٢).

وفي الذكرى : إنه البغلي بإسكان الغين ، وهو منسوب إلى رأس البغل ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية ووزنه ثمانية دوانيق ، قال : والبغلية كانت تسمى قبل الإسلام الكسروية ، فحدث لها هذا الاسم في الإسلام والوزن بحاله وجرت في المعاملة مع الطبرية وهي أربعة دوانيق ، فلمّا كان زمن عبد الملك جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق ، قال : وهذه التسمية ذكرها ابن دريد ، وحكى النسبة إلى قرية بالجامعين قولا ، واستدل له بأن هذه الدراهم لا بدّ من تقدمها على الإسلام ليحمل عليها الأخبار ، وأجاب بما أشار إليه آنفا من أنها متقدمة وإنما الحادث التسمية (٣).

وعن المهذّب البارع ردّ ما في الذكرى بأن المسموع من الشيوخ فتح الغين وتشديد اللام ، واتباع المشهور بين الفقهاء أولى من اتباع المنقول عن ابن دريد (٤). ولا ثمرة في هذا الاختلاف.

وربما يستشكل في حمل إطلاق النصوص على البغلي ، بناء على ما يستفاد من الذكرى وغيره إطلاق الدرهم عليه وعلى غيره من الطبرية وغيرها وأنه ترك في زمن عبد الملك ، وهو متقدم على زمان صدور الروايات. وهو كذلك لو لا الفقه الرضوي المتقدم المعتضد بفتوى الأصحاب ، ورواية العامة ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، فتدبّر.

(ولم يعف عمّا زاد عنه) إجماعا ، للعمومات ، وصريح النصوص‌

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٣٠ ، التذكرة ١ : ٨.

(٢) انظر المهذب البارع ١ : ٢٣٩ ، والمدارك ٢ : ٣١٤.

(٣) الذكرى : ١٦.

(٤) المهذّب البارع ١ : ٢٣٩ ، ٢٤٠.

(٥) انظر سنن البيهقي ٢ : ٤٠٤.

٩٨

الآتية.

(و) في العفو (عمّا بلغ قدر الدرهم) حال كونه (مجتمعا روايتان ، أشهرهما) وأظهرهما (وجوب الإزالة) ففي الصحيح : « يغسله ـ أي الدم ـ ولا يعيد صلاته ، إلّا أن يكون قدر الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة » (١).

ونحوه المرسل لجميل : « لا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم » (٢).

ونحوهما الرضوي المتقدم (٣).

وهذه الأخبار ـ مع اعتبار أسانيدها واعتضادها بالعمومات والشهرة العظيمة ـ واضحة الدلالة.

والروايات الثانية مع قصور أسانيدها ـ ولو بالإضافة إلى الروايات السابقة في بعضها ـ وقلّة عددها ، وندرة القائل بها ـ إذ لم ينقل إلّا عن الديلمي والمرتضى (٤) ـ غير واضحة الدلالة ، فإنّ إحداها الخبر : « في الدم يكون في الثوب : « إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلّى فليعد صلاته » الحديث (٥).

وليس فيها الدلالة إلّا من جهة مفهوم العبارة الثانية ، وهو معارض بمفهوم العبارة الاولى ، والترجيح معها ـ دون نية ـ لاعتضادها بالمعاضدات السابقة.

وما يقال في ترجيح العكس من أصالة البراءة غفلة واضحة ، كيف لا؟! وهي بالعمومات الدالّة على وجوب الإزالة ، واستصحاب شغل الذمة اليقيني بالعبادة المستدعي للبراءة اليقينية مخصّصة ، وعلى تقدير بقائها فلا ريب في‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤٠ ، الاستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١١ ، الوسائل ٣ : ٤٢٩ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥٦ / ٧٤٢ ، الاستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١٢ ، الوسائل ٣ : ٤٣٠ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٤.

(٣) في ص : ٩٢.

(٤) الديلمي في المراسم : ٥٥ ، حكاه عن المرتضى في المدارك ٢ : ٣١٢.

(٥) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٣٩ ، الاستبصار ١ : ١٧٥ / ٦١٠ ، الوسائل ٣ : ٤٣٠ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٢.

٩٩

عدم مكافاتها لشي‌ء من المعاضدات المتقدمة ، فضلا عن جميعها ، ولا سيّما الشهرة. وبالجملة : لا حجة في مثل هذه الرواية.

نعم في الحسن : قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ، قال : « إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ ، وإن لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ، وما لم يزد على قدر الدرهم فليس بشي‌ء رأيته أو لم تره ، فإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه » (١).

ودلالته غير صريحة ، وغايتها العموم القابل للتخصيص بما تقدم بحمل ما لم يزد وما ليس بأكثر من الدرهم على خصوص الناقص عنه.

هذا مع أنّ هذا الخبر مروي في الكافي والفقيه ـ اللذين هما أضبط من التهذيب الذي روي فيه كما مرّ ـ بإسقاط الواو في « وما لم يزد » وزيادة : « وما كان أقل من ذلك فليس بشي‌ء » بعد قوله : « ما لم يزد على مقدار الدرهم » وسبيله حينئذ سبيل الرواية السابقة.

ولعل ترك ذكر الواسطة بين الأقل والأكثر في الروايتين لأجل ندرتها وغلبة تحقق الأمرين ، فليس فيهما على هذا ذكر حكمها لو لم نقل بدلالتهما على عدم العفو عنها ، فالاستناد إليهما لا وجه له أصلا.

(ولو كان) مقدار الدرهم فصاعدا (متفرقا لم تجب إزالته) مطلقا وإن زاد الجميع عن مقدار الدرهم وتفاحش ، وفاقا للطوسي والحلّي وابن سعيد (٢) والتلخيص ، وفي الذكرى إنه المشهور (٣) ، لظاهر المرسل الذي مرّ (٤) ، إلّا أن في السند مع الإرسال علي بن حديد. ودعوى الجبر بالشهرة المحكية مدفوعة‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٩ / ٣ ، الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٤ / ٧٣٦ ، الاستبصار ١ : ١٧٥ / ٦٠٩ ، الوسائل ٣ : ٤٣١ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٦ بتفاوت يسير.

(٢) الطوسي في المبسوط ١ : ٣٦ ، الحلي في السرائر ١ : ١٧٨ ، ابن سعيد في الجامع للشرائع : ٢٣.

(٣) الذكرى : ١٦.

(٤) راجع ص : ٩٤.

١٠٠