النّحو الوافي

عبّاس حسن

النّحو الوافي

المؤلف:

عبّاس حسن


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٥٧

١
٢

المسألة ٦٠ :

ظنّ وأخواتها (١)

الكلام عنوان على صاحبه ـ علمت الكلام عنوانا على صاحبه المجاملة حارسة للصّداقة ـ ظننت المجاملة حارسة للصداقة الوفاء دليل على النّبل ـ اعتقدت الوفاء دليلا على النبل ... الماء الجامد ثلج ـ صيّر البرد الماء ثلجا الجلد أسود ـ ردّت (٢) الشمس الجلد أسود الخشب مشتعل ـ تركت النار الخشب رمادا من النواسخ ما يدخل ـ فى الغالب ـ على المبتدأ والخبر فينصبهما معا (٣) ، ويغير اسمهما ؛ إذ يصير اسم كل منهما : «مفعولا به (٤)» للناسخ. (مثل : علم. ظنّ ـ اعتقد ـ صيّر ...) وغيرها من الكلمات التى تحتها خطّ فى الأمثلة المعروضة. وهذا هو : «القسم الثالث» من النواسخ. ويشتهر باسم : «ظنّ وأخواتها» وليس فيه حروف ؛ فكله أفعال ، أو أسماء تعمل عملها. وتنحصر هذه الأسماء فى مصادر تلك الأفعال ، وفى بعض المشتقات العاملة عملها.

__________________

(١) هما من النواسخ. ويلاحظ ما لا يصلح أن يدخل عليه الناسخ ، (وقد سبق بيانه وبيان معنى الناسخ ، وعمله ، وأقسامه ، وما يتصل بهذا ـ فى ج ١ ص ٤٠٢ م ٤٢ ـ باب : «كان وأخوتها». وتأتى له إشارة فى ص ٢٠).

(٢) صيرت.

(٣) وبالرغم من اعتبارهما مفعولين هما عمدتان ـ لا فضلتان كبقية المفعولات ـ كما سيجىء فى رقم ١ هامش ص ١٦٨ ، لأن أصلهما المبتدأ والخبر فيكون الثانى فى المعنى هو الأول ـ ولو تأويلا ـ والأول هو الثانى أيضا ؛ كالشأن فى المبتدأ والخبر دائما. وقد يدخل هذا الناسخ على غيرهما ، ـ كما سنعرف فى «ا» من ص ١١ ـ والمفعول الثانى هنا هو الذى تتم به الفائدة الأساسية ؛ لأنه الخبر فى الأصل ، فهو أهم.

وإنما كان دخول هذا النوع من النواسخ على المبتدأ والخبر أمرا غالبيا ، لأن منه ما قد يدخل عليهما ، وعلى غيرهما ، كالفعل : «حسب» ومنه ما لا يدخل إلا على غيرهما ؛ كأفعال التحويل الآتية ـ فى ص ٨ ـ. وللنحاة تعليل يسوغ الدخول على غيرهما ، سيجىء فى «ا» من ص ١١.

(٤) لاحظ ما يأتى فى «ج» من ص ١٢ ، لأهميته.

٣

فالفعل الماضى المتصرف (١) هنا ، لا ينفرد وحده بالعمل السالف ؛ وإنما يشابهه فيه ما قد يكون له من مضارع ، وأمر ، ومصدر ، واسم فاعل. واسم مفعول ، دون بقية المشتقات (٢) الأخرى. أما غير المتصرّف فعمله مقصور على صيغته الخاصة ؛ إذ ليس لها فروع ، ولا صيغ أخرى تتصل بها.

وقد ارتضى بعض النحاة تقسيم الأفعال العاملة هنا قسمين ؛ مراعيا الأغلب فى استعمالها (٣) ؛ هما : «أفعال قلوب» (٤) ، و «أفعال تحويل» (٥). ولا بد لكل فعل فى القسمين من فاعل (٦) ؛ ولا يغنى عنه وجود المفعولين أو أحدهما :

__________________

(١) الفعل الماضى المتصرف إما أن يكون تصرفه كاملا ؛ ـ فيكون له المضارع ، والأمر ، والمصدر ، واسم الفاعل ... وبقية المشتقات المعروفة ، كالفعل : «سمع» ـ وإما أن يكون تصرفه ناقصا ؛ فيكون له بعض تلك الأشياء فقط ؛ كالفعل : «كاد» ، من أفعال المقاربة. وكالفعل : «يدع». أما غير المتصرف مطلقا فهو الجامد الذى يلازم صيغة واحدة لا يفارقها ؛ كالفعل : «تعلّم» بمعنى. «اعلم» ، والفعل : «هب» ، بمعنى : ظنّ. وهما من أفعال هذا الباب القلبية ، وكالفعل «عسى» و «ليس» وهما من أخوات «كان».

(٢) رددنا فى مناسبات مختلفة ، أسماء المشتقات الاصطلاحية من المصدر ؛ وهى : اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، أفعل التفضيل ، المصدر الميمى ، اسم الزمان ، اسم المكان ، اسم الآلة. (ويدخل فى عداد المشتقات الأفعال بأنواعها الثلاثة). وهذه المشتقات قسمان :

قسم يعمل عمل فعله بشروط ؛ فيرفع الفاعل مثله ، أو نائب الفاعل ، وقد ينصب المفعول به ، كفعله أحيانا ، وهو : اسم الفاعل ، اسم المفعول ، الصفة المشبهة ، أفعل التفضيل ، المصدر الميمى. ويدخل فى هذا القسم : المصدر الأصلى أيضا (بالرغم من جموده ، فى الرأى الشائع) .. وقسم لا يعمل شيئا من عمل الفعل ؛ ويسمى : «المهمل». وهو اسم الزمان ، واسم المكان ، واسم الآلة. ولا دخل لهذا القسم المهمل بأحكام هذا الباب. بل إن بعض المشتقات العاملة لا دخل لها به ؛ فالصفة المشبهة الأصيلة خارجة من أحكامه ؛ لأنها تجىء من الفعل اللازم وحده ؛ فلا تنصب مفعولا به. أما غير الأصيلة فقد تنصب بالشروط والطريقة المذكورة فى بابها (ج ٣ ص ٢١١ م ١٠٤) وأفعل التفضيل خارج ؛ لأنه لا ينصب مفعولا به. والفعل الماضى الذى للتعجب خارج ؛ لأنه ينصب مفعولا واحدا. فالثلاثة لا تصلح لأحكام هذا الباب ، ـ كما سيجىء فى ص ٢٥ م ٦١ ـ.

(٣) راجع «ج» من ص ١٢ حيث تقسيم آخر ، وبيان عن سبب التقسيمين.

(٤) سميت بذلك لأن معانيها قائمة بالقلب ، متصلة به ، وهى المعانى النفسية التى تعرف اليوم : بالأمور النفسية ؛ ويسميها القدماء : الأمور القلبية ؛ لاعتقادهم أن مركزها القلب. ومنها : الفرح ـ الحزن ـ الفهم ـ الذكاء ـ اليقين ـ الإنكار ...

(٥) تدل على انتقال الشىء من حالة إلى حالة أخرى تخالفها. وتسمّى أيضا : «أفعال التصيير» ؛ لأن كل فعل منها بمعنى : «صيّر» ، أى : حوّل الشىء من حالته القائمة إلى أخرى تغايرها.

(٦) بخلاف «كان» وأخواتها من الأفعال الناسخة ؛ فإنها لا ترفع الفاعل ـ كما سبق ـ وهذا أحد وجوه الاختلاف بين النوعين.

٤

(أ) فأما أفعال القلوب (١) فمنها ما قد يكون معناه العلم. (أى : الدلالة على اليقين (٢) والقطع) ، ومنها ما قد يكون معناه الرّجحان (٣). ويشتهر من الأولى سبعة (٤) :

(١) علم (٥) ؛ مثل : علمت البرّ سبيل المحبة. وعلمت المحبة سبيل القوة.

(٢) رأى (٦) ؛ مثل : رأيت الأمل داعى العمل ، ورأيت اليأس رائد الإخفاق ، وقول الشاعر :

رأيت لسان المرء وافد (٧) عقله

وعنوانه ؛ فانظر بماذا تعنون

(٣) وجد ؛ مثل : وجدت ضعاف الأمم نهبا لأقويائها ، ووجدت العلم أعظم أسباب القوة.

(٤) درى ؛ مثل : دريت المجد قريبا من الدائب فى طلبه ، ودريت لذة إدراكه ماحية تعب السعى إليه.

__________________

(١) أفعال القلوب ثلاثة أنواع ؛ نوع لازم (لا ينصب المفعول به) مثل : فكّر ـ تفكر ـ حزن ـ جبن .... ونوع ينصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : خاف ـ أحب ـ كره .... ونوع ينصب مفعولين ؛ كأفعال هذا الباب المذكورة هنا ، بشرط أن تؤدى معنى معينا ؛ كما سنعرف.

(٢) هو : الاعتقاد الجازم الذى لا يعارضه دليل آخر يسلم به المتكلم. وقد يكون هذا الاعتقاد صحيحا فى الواقع أو غير صحيح.

(٣) الشك : ما ينشأ فى النفس من تعارض دليلين فى أمر واحد ؛ بحيث تتساوى قوتهما فى التعارض والاستدلال ؛ فلا يستطيع المرء ترجيح أحدهما على الآخر ؛ لعدم وجود مرجح. أما الرجحان أو الظن ، فهو ما ينشأ من تغلب أحد الدليلين المتعارضين فى أمر ؛ بحيث يصير أقرب إلى اليقين. فالأمر الراجح محتمل للشك واليقين ، لكنه أقرب إلى اليقين منه إلى الشك. وفى هذه الحالة يسمى المرجوح : «وهما».

(٤) قد يستعمل كل منها فى معان أخرى غير اليقين ؛ فينصب مفعولا واحدا ، أو لا ينصب. (وسنعرض لبعض هذا فى ص ١٢).

(٥ ، ٥) سيجىء فى الباب التالى : «أعلم وأرى» ـ ص ٥٥ ـ حكم الفعلين : «علم» و «رأى» إذا سبقتما همزة النقل ؛ (أى : همزة التعدية). ومما يتصل بمعنى الفعل «رأى» وباستعماله وروده فى الأساليب العالية بمعنى : «أخبرنى» ؛ نحو : أرأيتك هذا الكتاب هل عرفت قيمته؟ ... وقد أوضحنا هذا الأسلوب ، ونوع الكاف وحكمها ، بتفصيل واف يشمل معناه ، وصياغته ، وطريقة استعماله ...

(فى باب الضمير ص ٢١٥ ، م ١٩ من الجزء الأول). وستجىء له تتمة هامة فى ص ١٥.

(٦) رسول عقله ودليله. وبعد هذا البيت :

ويعجبنى زىّ الفتى وجماله

فيسقط من عينىّ ساعة يلحن

٥

(٥) ألفى (١) ؛ مثل : ألفيت الشدائد صاقلة للنفوس ، وألفيت احتمالها سهلا على كبار العزائم.

(٦) جعل ؛ مثل : جعلت (٢) الإله واحدا ، لا شكّ فيه.

(٧) تعلّم (٣) ؛ بمعنى «اعلم» : مثل : تعلّم وطنك شركة بين أبنائه ، وتعلّم نجاح الشركة رهنا بالإخلاص والعمل.

ويشتهر من الثانية ثمانية (٤) :

(١) ظن ؛ مثل : ظنّ الطيار النهر قناة ، وظن البيوت الكبيرة أكواخا.

(٢) خال (٥) ؛ مثل : خال المسافر الطيارة أنفع له ، وهو يخال الركوب فيها متعة.

(٣) حسب ؛ مثل : أحسب السهر الطويل إرهاقا ، وأحسب الإرهاق سبيل المرض ، وقول الشاعر :

لا تحسبنّ الموت موت البلى

وإنما الموت سؤال الرجال (٦)

__________________

(١) لا يستعمل هذا الفعل هنا إلا مزيدا بالهمزة.

(٢) أى : اعتقدت. ومن هذا ـ فى بعض الآراء ـ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أى : اعتقدوا. ـ انظر رقم ٤ فى الصفحة الآتية ـ :

ولهذا الفعل معان أخرى سيجىء بعضها (وقد أشرنا لها فى رقم ٢ من هامش ص ٩).

(٣) الفعل : «تعلم» بمعنى : «اعلم» ، فعل أمر جامد ـ عند فريق من النحاة ـ لا يجىء من صيغته الأصلية غير الأمر ، مع كثرة دخوله على مصدر مؤول ، أداته : «أنّ» المشددة أو المخففة الناسختين ، أو «أن» الداخلة على الفعل ؛ نحو : تعلم أن وطنك شركة .. وتعلم أن تنجح الشركة بالإخلاص (كما فى رقم ٣ من هامش ص ١١). ومتصرف عند فريق آخر يجرى عليه أحكام الفعل المتصرف. وقد شاع الرأى الأول فيحسن اتباعه ؛ توحيدا للتفاهم (وسيجىء إيضاح هامّ لمعناه فى رقم ٢ من هامش ص ١٨).

(٤) وقد يستعمل كل منها فى معان أخرى ؛ فينصب مفعولا واحدا ، أو لا ينصبه (كما سيجىء قريبا فى ج من ص ١٢ وما بعدها).

(٥) ومضارعها المسموع للمتكلم : إخال ـ بكسر الهمزة غالبا ، وهذا السماعىّ مخالف للقياس ـ فإن كان الفعل «خال» بمعنى : تكبر ، أو ظلع التى بمعنى : عرج .. فهو لازم.

(٦) بعد هذا البيت :

كلاهما موت. ولكنّ ذا

أفظع من ذاك ، لذل السّؤال

٦

(٤) زعم (١) ؛ مثل : زعمت الملاينة مرغوبة فى مواطن ، وزعمت التشدد مرغوبا فى أخرى.

(٥) عدّ ؛ مثل : عددت الصديق أخا. وقول الشاعر :

فلا تعدد المولى (٢) شريكك فى الغنى

ولكنما المولى شريكك فى العدم (٣)

(٦) حجا ؛ مثل : حجا السائح المئذنة برج مراقبة.

وقول الشاعر :

قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة

حتى ألمّت بنا يوما ملمّات

(٧) جعل ؛ مثل : جعل الصياد السمكة الكبيرة حوتا. وقوله تعالى فى المشركين : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ...)(٤)

(٨) هب ؛ مثل : هب مالك سلاحا فى يدك ؛ فلا تعتمد عليه وحده.

__________________

(١) كثر الكلام فى معنى : «زعم». وصفوة ما يقال : إنها قد تكون بمعنى اليقين أحيانا عند المخاطب ؛ كقول أبى طالب يخاطب الرسول عليه السّلام :

ودعوتنى وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت ، وكنت ثمّ أمينا

وقد تكون بمعنى الاعتقاد من غير دليل ؛ كقوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ...) إلخ. وقد تدل على الرجحان. وقد تستعمل للدلالة على الشك ، وهو الغالب فى استعمالها ، وقد تستعمل فى القول الكاذب ؛ فإذا قلت : «زعم فلان كذا» ، فكأنك قلت : كذب ، وردد كلاما غير صحيح. والقرينة هى التى تحدد المعنى المناسب للمقام من بين المعانى السالفة.

وزعم ـ كغيرها من الأفعال القلبية الناصبة للمفعولين ـ قد تنصب المفعولين مباشرة ، وقد تدخل على «أن» مع الفعل وفاعله ، أو «أنّ» مع معموليها ؛ فيكون المصدر المؤول فى الحالتين سادا مسد المفعولين ، ومغنيا عنهما ، وهذا هو الأغلب فى «زعم» ـ كما سيجىء فى رقم ٣ من هامش ص ١١ ـ وإليه تميل أكثر الأساليب الأدبية ؛ كقوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ....) وقول الشاعر :

وقد زعمت أنى تغيرت بعدها

ومن ذا الذى ـ يا عزّ ـ لا يتغير

(٢) الناصر ، أو الصديق.

(٣) الفقر الشديد.

(٤) وقيل : إن «جعل» هنا بمعنى : اعتقد ـ كما فى رقم ٢ من هامش الصفحة السالفة.

٧

وهذا الفعل دون بقية أفعال الرجحان ـ جامد ، ملازم صيغة الأمر (١).

* * *

(ب) وأما أفعال التحويل (أو : التّصيير) فأشهرها سبعة ، ولا تدخل على مصدر مؤول من «أنّ» مع معموليها ، أو «أن» والفعل وفاعله (٢) ...

(١) صيّر ؛ مثل : صيّر (٣) الصائغ الذهب سبيكة ، وصيّر السبيكة سوارا.

(٢) جعل ؛ مثل : جعل الغازل القطن خيوطا ، وجعل الحائك الخيوط نسيجا.

وقول الشاعر :

اجعل شعارك رحمة ومودة

إن القلوب مع المودة تكسب

(٣) اتّخذ ؛ مثل : اتخذ المهندسون الحديد والخشب باخرة ، واتخذ المسافرون الباخرة فندقا.

(٤) تخذ ؛ مثل : تخذت الحرارة الثلج ماء ، وتخذت الماء بخارا.

(٥) ترك ؛ مثل : ترك الموج الصخور حصى ، وتركت الشمس الحصى رمالا.

(٦) ردّ ؛ مثل : ردّ الأمل الوجوه الشاحبة مشرقة ، ورد النفوس اليائسة مستبشرة.

__________________

(١) هو فعل أمر ، بمعنى : «ظنّ» وهو بهذا المعنى فعل جامد ، لا يكون منه غير الأمر ، ودخوله على «أنّ» مع معموليها جائز ، نحو : هب أن الآمال محققة. فالمصدر المؤول من أن مع معموليها فى محل نصب ، سد مسد المفعولين. وهذا استعمال نادر فى الأساليب الرفيعة ، بالرغم من إجازته (انظر الخضرى والتصريح. ثم رقم ٣ من هامش ص ١١ الآتية).

(٢) انظر «ب» من ص ١١.

(٣) «صيّر» ، و «أصار» ، فعلان ، أصلهما قبل التعدية بالتضعيف والهمزة : «صار» الذى هو من أخوات «كان» ، نحو : صار الخشب بابا. وبعد تعديتهما ابتعدا عن عمل «كان» ، وانتقلا منه إلى نصب المفعولين ؛ نحو : صيّر الجوهرى الدر فصوصا ، وأصار الفصوص عقدا.

أما «صيّر» بمعنى : «نقل» فينصب مفعولا واحدا ، نحو : صيرت السائح إلى دار الآثار ، أى : نقلته.

٨

(٧) وهب ؛ مثل : وهبت الآلات الحديثة السنابل حبّا ، ووهبت الحبّ دقيقا ، ووهبت الدقيق عجينا (١).

وفيما يلى بيان موجز للأفعال السابقة (٢) ، وأنواعها المختلفة :

__________________

(١) وهب ، بمعنى : «صير» ـ فعل ماض جامد ، ولا يستعمل فى معنى التحويل إلا بصيغة الماضى. ومنه قولهم : «وهبنى الله فداء الحق» ، أى : صيرنى.

(٢) إلى ما سبق يشير ابن مالك باختصار ، قائلا :

انصب بفعل القلب جزأى ابتدا

أعنى : رأى ـ خال ـ علمت ـ ـ وجدا

ظنّ ـ حسبت ـ وزعمت ـ مع عد

حجا ـ درى ـ وجعل ؛ اللّذ كاعتقد

وهب ـ تعلّم ـ والّتى كصيّرا

أيضا ـ بها انصب مبتدا وخبرا

أى : انصب بفعل القلب جملة ذات ابتداء. وسرد فى الأبيات كثيرا من أفعال القلوب التى شرحناها ؛ منها ما يدل على اليقين ، ومنها ما يدل على الرجحان. وقبل سردها صرح بكلمة : «أعنى» ليدل على أن المقصود أفعال معينة ، دون غيرها ؛ فليس كل فعل قلبى ينصب مفعولين ـ كما أوضحنا فى رقم ١ من هامش ص ٥ ـ وطالب أن تنصب هذه الأفعال جزأى ابتداء (وهما : المبتدأ والخبر) كما أشار إلى أن «جعل» إذا كان من أفعال القلوب ـ أى : بمعنى الفعل : «اعتقد» ـ فإنه ينصب مفعولين مثله. وهو يختلف فى المعنى والعمل عن «جعل» الذى سبق الكلام عليه فى باب : «أفعال المقاربة والشروع» من الجزء الأول ، كما يختلف فى معناه عن «جعل» الذى هو من أفعال الرجحان ، والذى من أفعال التحويل والتصيير ؛ كما عرفنا فى الشرح.

والفعل : «اعتقد» معدود من أفعال كثيرة قد تنصب مفعولين ولم تذكر فى هذا الباب. منها :

تيقن ـ تمنى ـ توهم ـ تبين ـ شعر ـ أصاب

 ....

إلى غير هذا مما سرده صاحب الهمع (ج ١ ص ١٥١) ونقل بعضه الصبان هنا.

أما أفعال التحويل والتصيير فلم يذكرها ابن مالك ، واكتفى بأن يشير إليها بقوله :

 .... والّتى كصيّرا

أيضا بها انصب مبتدا وخبرا

أى : انصب ـ أيضا ـ مبتدأ وخبرا بالنواسخ التى مثل «صير» فى إفادة التحويل.

وقضنت ضرورة الشعر على الناظم بزيادة الألف فى آخر الفعلين : «وجد» ، «صير» ، وبتخفيف الدال فى الفعل : عد. أما كلمة : «اللذ» فى أبياته فهى لغة صحيحة فى «الذى».

٩

__________________

(١) وهذا الفعل يستعمل ـ أحيانا ـ فى القسم غير الصريح ، فيحتاج لجواب ، وتكسر بعده همزة «إنّ» ... ـ وقد أشرنا لهذا فى آخر الجزء الأول عند الكلام على كسر همزة «إن» ، وله إشارة تجىء فى ص ٤٦٠ ـ

١٠

زيادة وتفصيل :

(ا) ليس من اللازم ـ كما أشرنا (١) ـ أن يكون المفعولان أصلهما المبتدأ والخبر حقيقة ، بل يكفى أن يكون أصلهما كذلك ولو بشىء من التأويل المقبول ، كالشأن فى أفعال التحويل ، وكالشأن فى : «حسب» ؛ مثل : صيرت الفضة خاتما ؛ إذ لا يصح المعنى بقولنا : الفضة خاتم ؛ لأن الخبر هنا ليس المبتدأ فى المعنى ؛ فليست الفضة هى الخاتم ، وليس الخاتم هو الفضة ؛ إلا على تقدير أن هذه الفضة ستئول (٢) إلى خاتم. ومثل : حسبت المرّيخ الزّهرة ؛ إذ لا يقال : المرّيخ الزّهرة ؛ لفساد المعنى كذلك ؛ فليس أحدهما هو الآخر ، إلا على ضرب من التشبيه ، أو نحوه من التأويل السائغ ، المناسب للتعبير. فالأول (أى : التشبيه) قد جعل المفعول الثانى بمنزلة ما أصله الخبر ، وإن لم يكن خبرا حقيقيّا فى أصله.

هذا كلامهم. والواقع أنه لا داعى لهذا التمحل ، والتماس التأويل ؛ إذ يكفى أن يكون فصحاء العرب قد أدخلوا النواسخ على ما أصله المبتدأ والخبر حقيقة ، وعلى ما ليس أصله المبتدأ والخبر ، مما يستقيم معه المعنى.

(ب) ليس من اللازم أن تدخل أفعال هذا الباب القلبية على المبتدأ والخبر مباشرة ؛ فقد تدخل على «أنّ» مع معموليها ، أو : على «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فيكون المصدر المؤول سادّا مسد المفعولين (٣) ، مغنيا عنهما. مثل : علمت

__________________

(١) فى رقم ٣ من هامش ص ٣.

(٢) أى : ستتحول وينتهى أمرها فى المستقبل إليه.

(٣) وسنعود للكلام على هذا المصدر عند بحث الحكم الثالث من الأحكام التى تختص بها الأفعال القلبية (فى ص ٤٢) ، والأغلب فى «زعم» وفى «تعلم» بمعنى : «اعلم» دخولهما على «أن» مع معموليها ، أو «أن». والفعل مع فاعله (كما فى رقم ٣ من هامش ص ٦ وفى ١ من هامش ص ٧). والأغلب فى «هب» بمعنى «ظن» عدم دخوله عليهما ، برغم صحته كما سبق (فى رقم ١ من هامش ص ٨).

والأحسن الأخذ بالرأى السهل القائل : إن المصدر المؤول فى هذا الباب يسد مسد المفعولين ، دون الرأى القائل : إنه يسد مسد المفعول الأول ، وأن المفعول الثانى محذوف ، وتقديره : «ثابتا» ، أو ما يشبهه ؛ ففى نحو : وجدت أن الصبر أنفع فى الشدائد ـ يقدرون : وجدت نفع الصبر فى الشدائد ثابتا ... وهذا نوع من التضييق والإطالة لا داعى له.

١١

أن السباحة أسلم من الملاكمة ، وأظن أن العاقل يختار الأسلم. وقول الشاعر :

يرى الجبناء أن الجبن حزم

وتلك خديعة الطبع اللئيم

ومثل : دريت أن الكبر بغيض إلى النفوس الكبيرة ، ووجدت أن صغائر الأمور محببة إلى النفوس الصغيرة. ومثل : من زعم أن يخدع الناس فهو المخدوع ، ومن حسب أن يدرك غايته بالتمنى فهو مخبول (١).

أما أفعال التحويل فلا تدخل على «أنّ» ومعموليها ، ولا على «أن» والفعل مع فاعله.

(ح) جرى بعض النحاة على تقسيم الأفعال القلبية السابقة أربعة أقسام ، بدلا من اثنين :

فلليقين وحده خمسة : وجد ـ تعلم ، بمعنى : اعلم ـ درى ـ ألفى ـ جعل.

وللرجحان وحده خمسة : جعل ـ حجا ـ عدّ ـ زعم ـ هب ، بمعنى : ظنّ.

وللأمرين والغالب اليقين ، اثنان : رأى ـ علم.

وللأمرين والغالب الرجحان ، ثلاثة : ظنّ ـ خال ـ حسب.

لكن التقسيم الثنائى أنسب ؛ لأنه أدمج القسم الثالث فى الأول ، والرابع فى الثانى ؛ نظرا للغالب عليهما ، وتقليلا للأقسام (٢) ، واكتفاء بالإشارة إلى أن كل فعل قد يستعمل فى معنى آخر غير ما ذكر له ، مع ضرب أمثلة لذلك. فمن أفعال اليقين وألفاظه ما قد يستعمل فى الرجحان ؛ فينصب مفعولين أيضا ، وقد

__________________

(١) فى مثل قولهم : «غبت ، وما حسبتك أن تغيب» تكون الكاف حرفا محضا لمجرد الخطاب ومتصرفا. وليس اسما ضميرا ؛ إذ لو كان ضميرا لكان هو المفعول الأول للفعل «حسب» ومفعوله الثانى هو المصدر المؤول (أن تجىء) ويترتب على هذا أن يكون ذلك المصدر المؤول خبرا عن الكاف ، باعتبار أن أصلهما المبتدأ والخبر ؛ لأن مفعولى «حسب» أصلهما المبتدأ والخبر. وإذا وقع المصدر المؤول هنا خبرا عن الكاف أدى إلى الإخبار بالمعنى عن الجثة. وهو ممنوع عندهم فى أغلب الحالات إذا كان المراد الإخبار من طريق الحقيقة لا من طريق المجاز. أما من طريق المجاز فصحيح ـ كما سبق البيان فى الجزء الأول ص ٢١٧ م ١٩. باب : «الضمير» عند الكلام على «كاف الخطاب».

(٢) راجع الخضرى أول هذا الباب.

١٢

يستعمل فى بعض المعانى الأخرى ؛ فينصب مفعولا به واحدا ، أو لا ينصب ؛ فيكون لازما. كل ذلك على حسب معناه اللغوى الذى تدل عليه المراجع اللغويّة الخاصة ، وليس هنا موضع استقصاء تلك المعانى ؛ وإنما نسوق بعضها :

فمن الأمثلة : الفعل «علم» ؛ فإنه ينصب المفعولين حين يكون بمعنى : اعتقد وتيقن : ـ كما سبق ـ ؛ مثل : علمت الكواكب متحركة. وقد يكتفى بمفعول به واحد فى هذه الحالة ؛ بأن نأتى بمصدر المفعول الثانى ، وننصبه مفعولا به ، ونكتفى به ، بعد أن نجعله مضافا أيضا ، ونجعل المفعول الأول هو المضاف إليه. فنقول : علمت تحرّك الكواكب ، فيستغنى عن المفعول الثانى وعن تقديره. ومن النحاة من لا يقصر هذا الحكم على «علم» ؛ بل يجعله عامّا فى جميع أفعال هذا الباب ؛ فيجيز إضافة مصدر المفعول الثانى إلى المفعول الأول ، والاكتفاء بهذا المصدر مفعولا واحدا (١).

وقد يكون بمعنى : «ظن» فينصب مفعولين أيضا ؛ مثل : أعلم الجوّ باردا فى الغد. فإن كان بمعنى : «عرف» نصب مفعولا به واحدا (٢) :

__________________

(١) وهذا الرأى فيه اختصار محمود ، ولا ضرر فى الأخذ به أحيانا. وتفضيل أحدهما متروك للمتكلم ؛ ليختار منهما ما يناسب كلامه على حسب الدواعى البلاغية. ومن تلك الدواعى أن الإبانة قد تقتضينا ـ أحيانا ـ أن نصرح بالمفعولين منصوبين .... فإن لم يكن فى التصريح بهما زيادة إيضاح ، أو إزالة لبس عند السامع ، أو إتمام فائدة ـ فالاختصار أحسن.

(٢) فى بعض كتب اللغة ـ دون بعض ـ ما يدل على أن «المعرفة» مقصورة على العلم المكتسب بحاسة من الحواس ؛ جاء فى «المصباح المنير» ، مادة «عرف» ما نصه : (عرفته عرفة ـ بالكسر ـ وعرفانا ، علمته بحاسة من الحواس الخمس). وأيضا يرى كثير من النحاة فرقا بين «علم» التى بمعنى : «عرف» و «علم التى بمعنى : اعتقد» وأنهما فعلان غير متساويين لا فى المعنى ولا فى العمل ، وحجته : أن «العلم» الذى بمعنى : «المعرفة» يتعلق بنفس الشىء وذاته المادية ؛ تقول : «علمت القمر» ، كما تقول «عرفت القمر» كلاهما معناه منصب على ذاته المحسوسة وجرمه ، (أى : حقيقته المادية) وعلى هذا تكون «علم التى بمعنى : عرف» مختصة عندهم بما يسميه المناطقة : «الذات» أو : «الشىء المفرد» أى : «البسيط» وكلا الفعلين بهذا المعنى يتعدى لواحد.

أما «علم» الناصبة للمفعولين فمختصة بوصف الذات بصفة ما ، ولا شأن لها بالذات مباشرة ، مثل : علمت القمر متنقلا. أى : علمت اتصاف ذات القمر بالتنقل ، وليس المراد علمت ذات القمر وجرمه.

فالفعل «علم» بهذا المعنى مختص بما يسميه المناطقة : «الكليات».

على أساس ما سبق كله يكون القائل : «عرفت قدوم الضيف» مريدا عرفت القدوم ذاته ، دون ـ

١٣

مثل : علمت الخبر ؛ أى : عرفته (١). وإن كان بمعنى : «انشقّ» لم ينصب مفعولا به ؛ مثل : علم البعير (٢) ، أى : انشقت شفته العليا ...

والفعل : «رأى» ينصب المفعولين إذا كان بمعنى : اعتقد وتيقّن ، أو : بمعنى : «ظنّ». وقد اجتمع المعنيان فى قوله تعالى عن منكرى البعث ويوم القيامة : «إنهم يرونه بعيدا ، ونراه قريبا» (٣). فالفعل الأول بمعنى : «الظن» ، والثانى بمعنى : اليقين. وكلاهما نصب مفعولين. وكذلك إن كان معناه مأخوذا من : «الحلم» (أى : دالا على الرؤيا المنامية) نحو : كنت نائما ؛ فرأيت صديقا

__________________

ـ زيادة أخرى عليه ، فهو لا يريد وصف الضيف بالقدوم. بخلاف من يقول : علمت من الرسالة الضيف قادما ، فإنه يريد اتصاف الضيف بالقدوم ، ولا يريد أنه علم حقيقة القدوم المنسوب إلى الضيف ، بشرط أن يكون الفعل «علم» فى هذا المثال ناصبا مفعولين. وقال الرضى : لا فرق بين الفعلين فى المعنى ، وإنما الفرق فى العمل فالفعل «علم بمعنى عرف» ينصب مفعولا واحدا ، والآخر ينصب مفعولين ، بالرغم من تساويهما معنى ؛ لأن العرب هى التى فرقت بينهما فى العمل دون المعنى ، فلا اعتراض عليها.

غير أن كلامه هذا ـ مع قبوله والارتياح له ـ مناقض لما قرره فى هذا الشأن فى باب : «كان» ـ كما نصوا على ذلك ـ والحق أن الخلاف بين الآراء السابقة يسير ، يكاد يكون شكليا ، ذلك أن بين الفعلين (المتعدى لواحد والمتعدى لاثنين) فرقا فى المعنى الحقيقى لا المجازى ، وأنه لا مانع من استعمال أحدهما مكان الآخر مجازا لسبب بلاغى.

(١) وإلى هذا يشير ابن مالك فى بيت متأخر ، نصه :

لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

(«لعلم عرفان» ؛ أى العلم المنسوب للعرفان ، ولمعنى العرفان. «ظن تهمه» ؛ أى : الظن المنسوب معناه للتهمة ..) يريد : أن «علم» بمعنى عرف ـ والمصدر : العلم ؛ بمعنى : العرفان ـ يتعدى لمفعول واحد. ومثله : الفعل : «ظن» بمعنى : اتهم ـ والمصدر : الظن ؛ بمعنى : الاتهام ـ ومثال الأول : اقترب الشبح فعلمت صاحبه ؛ أى : عرفته. ومثال الثانى : اختفى القلم ، فظننت اللص ؛ أى : اتهمته.

(٢) فهو أعلم. والناقة علماء. (والفعل من بابى : فرح وضرب).

(٣) المراد بالبعد هنا : عدم حصول الشىء ، ونفى وقوعه. وبالقرب : حصوله ووقوعه. وعلى هذا جرت ألسنة العرب وأساليبهم الفصيحة.

١٤

مسرعا إلى القطار (١).

فإن كان معناه الفهم وإبداء الرأى فى أمر عقلىّ فقد ينصب مفعولا به واحدا ، أو مفعولين ، على حسب مقتضيات المعنى ؛ مثل : يختلف الأطباء فى أمر القهوة ؛ فواحد يراها ضارّة ، وآخر يراها مفيدة إذا خلت من الإفراط. أو : واحد يرى ضررها ، وآخر يرى إفادتها.

وكذلك ينصب مفعولا به واحدا إن كان معناه : أبصر بعينه ؛ مثل : رأيت النجم وهو يتلألأ. وقول الشاعر :

إنّ العرانين تلقاها محسّدة

ولن ترى للئام الناس حسّادا

أو : كان معناه أصاب : الرئة ؛ مثل انطلق السهم فرأى الغزال ؛ أى : أصاب رئته.

وقد أشرنا قريبا (٢) إلى أن الأساليب العالية يتردد فيها الماضى : «رأى» ـ دون المضارع ، والأمر ، والمشتقات الأخرى ـ مسبوقا بأداة استفهام. ومعناه : «أخبرنى» ؛ نحو : أرأيتك هذا القمر ، أمسكون هو؟ وينصب مفعولا به ، أو مفعولين ، على حسب المراد. وأوضحنا الأمر بإسهاب فيما سبق (٣).

كذلك يتردد فى تلك الأساليب وقوع المضارع : «أرى» مبنيّا للمجهول

__________________

(١) وفى هذا يقول ابن مالك :

ولرأى الرّؤيا انم ما لعلما

طالب مفعولين من قبل انتمى

(انم : انسب. انتمى : انتسب. والتقدير : انم للفعل : «رأى» الذى مصدره «الرؤيا» ما انتمى من قبل للفعل : «علم» طالب المفعولين لينصبهما. و «الرؤيا» هى المصدر الغالب لرأى الحلمية) أى : انسب للفعل : «رأى» الذى مصدره : «الرؤيا» المنامية ـ ما انتسب وثبت من قبل للفعل : «علم» الذى يطلب مفعولين ، ويتعدى إليهما بنفسه (لكن سنعرف فى ج من ص ٤١ أن «رأى» الحلمية لا يدخلها تعليق ولا إلغاء ، بخلاف : «علم»).

(٢) فى رقم ٥ من هامش ص ٥.

(٣) هذا الأسلوب يتطلب بيانا شافيا ، جليا ، يتعرض لنواحيه المختلفة ، كصياغته ، وتركيبه ، وإعرابه ، ومعناه .. وقد وفيناه حقه فى موضعه من الجزء الأول ، ص ٢١٥ م ١٩ ـ من الطبعة الثالثة ـ عند الكلام على الضمير وأنواعه ...

١٥

ـ غالبا ـ على حسب السماع ، وناصبا للمفعولين (١) ؛ لأن معناه : «أظنّ» الدال على الرجحان ؛ نحو : كنت أرى الرحلة متعبة ، فإذا هى سارّة.

__________________

(١) إذا كان المضارع «أرى» بمعنى : «أظن» ، ويعمل عمله ـ فكيف ينصب مفعولين مع رفعه نائب فاعل ، هو فى الأصل مفعول أيضا؟ أليس معنى هذا أنه ينصب من المفاعيل ثلاثة ، مع أن الفعل : «أظن» ينصب اثنين فقط؟

يجيب النحاة بإجابتين ؛ كل واحدة منهما وافية فى تقديرهم. وفى الأولى من التعارض والتكلف ما سنعرفه.

الأولى : أن هذا المضارع : «أرى» المبنى للمجهول ـ غالبا ، طبقا للسماع ـ قد يكون ماضيه هو «أرى» مفتوح الهمزة ، الناصب لثلاثة من المفاعيل ، والذى معناه : «أعلم» الدال على اليقين ـ وسيجىء الكلام عليه فى الباب التالى ص ٥٥ ـ ؛ مثل : أرى العالم الناس السفر للكواكب سهلا ؛ أى : أعلمهم السفر سهلا ... ومقتضى هذا أن يكون مضارعه ناصبا ثلاثة أيضا ، وليس ناصبا اثنين فقط. لكن السبب فى نصبه اثنين أنه ترك معنى ماضيه ، وانتقل إلى معنى آخر جديد ؛ إذ صار بمعنى : الفعل المضارع : «أظنّ» لا بمعنى الفعل المضارع : أعلم ويعلم وغيرهما مما فعله الماضى : «أعلم» الدال على اليقين. فلما ترك معناه الأصلى إلى معنى فعل آخر ، كان من الضرورى أن يترك عمله الأصلى ليعمل العمل المناسب للمعنى الجديد ؛ فينصب مفعولين لا ثلاثة. وعلى هذا يتعين أن يكون ضمير المتكلم فى المضارع المبنى للمجهول فاعلا. ، ولا يصح أن يكون نائب فاعل ؛ لأن اعتباره نائب فاعل يؤدى إلى اعتباره مفعولا به فى الأصل قبل أن ينوب عن الفاعل ؛ فينتهى الأمر إلى أن ذلك المضارع قد نصب من المفاعيل ثلاثة. وهذا مرفوض عندهم حتما. فالسبب فى تعدية المضارع المبنى للمجهول ـ سماعا ـ إلى مفعولين مع أن ماضيه : «أرى» الدال على العلم واليقين ، ينصب ثلاثة ـ هو استعماله بمعنى الفعل : «أظن» المتعدى لاثنين ، من باب الاستعمال فى اللازم ؛ لأن معنى : «أرى العالم الناس السفر سهلا» هو : «جعل العالم الناس ظانين السفر سهلا» وصحة هذا المعنى تستلزم صحة قولنا : ظن الناس السفر للكواكب سهلا. أما إن كان الفعل «أرى» مفتوح الهمزة (أى : غير مبنى للمجهول ، وهذا جائز) ومعناه : «أظن» فينصب مفعولين بغير حاجة لتأويل ، واضح التكلف والالتواء ، كالذى سبق.

الثانية : أن الفعل : «أرى» المضارع المبنى للمجهول سماعا ، ينصب ثلاثة من المفاعيل برغم أنه بمعنى : الظن ، وأن ماضيه بمعنى : «أظننت» وأول المفاعيل الثلاثة هو الذى صار نائب فاعل ، ويليه المفعولان المنصوبان. ويقولون : إن الفعل «أرى» المبنى للمجهول هو المضارع للفعل الماضى : «أريت» المبنى للمجهول أيضا ، بمعنى : «أظننت» كما سبق ، وإن العرب لم تنطق بالماضى «أريت» إلا مبنيا للمجهول ، ولم يعرف عنهم بناؤه للفاعل. كما لم يعرف عنهم أنهم قالوا : «أظننت» ببناء الماضى «أظننت» للمجهول مع أنه بمعنى الماضى «أريت». وفى هذه الاجابة بعض اليسر ومسايرة القواعد العامة ، وإن كانت ـ كالأولى ـ لا تخلو من تكلف ، والتواء. وخير منها أن نقول : (إذا كان ـ

١٦

ولا يكون معناه فى الفصيح الوارد : «أعلم» ؛ الدّال على اليقين ، بالرغم من أنّ الماضى : «أريت» المبنى للمجهول والمسند للضمير : «التاء» ـ لا يستعمل فى الأكثر إلا بمعنى : «أعلمت» المفيد لليقين ؛ مثل : أريت الخير فى مقاومة الباطل.

وكذلك يتردد فى بعض الأساليب المسموعة وقوع المضارع : «ترى» قد حذف آخره ، وقبله الحرف : «لا» ، أو : «لو» ، وبعده «ما» الموصولة فى الحالتين. ومعناه فيهما : «لا سيّما» ، مثل : كرّمت الضيوف ، لا تر ما علىّ ـ أو : كرّمت الضيوف لو تر ما علىّ. والمعنى ولا سيما علىّ (١) ...

والفعل : «وجد» قد يكون بمعنى : «لقى ، وصادف» ؛ فينصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : وجدت القلم. وقد يكون بمعنى «استغنى» ، فلا يحتاج لمفعول ؛ نحو : وجد الأبىّ بعمله.

والفعل : «درى» قد ينصب المفعولين كما سبق ، والأكثر استعماله لازما

__________________

ـ المضارع «أرى» المبنى للمجهول بمعنى : «أظن» فإنه يرفع نائب فاعل ، وينصب بعده مفعولين فقط).

وبهذا نستريح من الإطالة والإعنات والتأويل ، ولن يترتب على هذا الرأى ضرر لفظى أو معنوى.

وقد اتفق النحاة على أن نائب فاعله لا بد أن يكون ضميرا للمتكلم الواحد أو الأكثر ؛ نحو : شاع الحديث عن الحياة فى الكواكب ، وأرى المرّيخ مأهولا. أو نرى المريخ مأهولا. وقد يكون للمخاطب ؛ كقراءة من قرأ الآية الكريمة : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) بنصب كلمة : «الناس».

مما تقدم نعلم أنه لا بد للمضارع : «أرى» الذى سبق الكلام عليه ـ من نائب فاعل يكون ضميرا للمتكلم ـ فى الأغلب ـ ومن مفعولين منصوبين. أما الفعل : «أريت» الذى يتردد فى الأساليب الصحيحة أيضا بصيغة الماضى المبنى للمجهول ـ فقد يكون بمعنى : «أظننت» ، لكن الغالب فى استعماله أن يكون بمعنى : «أعلمت» أى : من مادة «العلم» لا من مادة الظن.

(راجع فى كل ما سبق : حاشية الخضرى ، والصبان ، والتصريح ، فى باب «إن وأخواتها» عند الكلام على المواضع التى يجوز فيها فتح همزة «أن» وكسرها ، ومنها : «إذا الفجائية». وبيت الشاعر :

وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا

 ....

إلخ. ثم راجع بعد ذلك المراجع السالفة فى باب «ظن» عند الكلام على «رأى» وأنواعها.

(١) سبق الكلام على معنى هذين الأسلوبين المسموعين ، وتفصيل إعرابهما ، وأحكامهما فى الموضع المناسب. وهو الجزء الأول ، باب الموصول ، ـ م ٢٨ ص ٣٦٣ من الطبعة الثالثة ـ عند الكلام على «لا سيما» والاقتصار فى الاستعمال على هذه أحسن.

١٧

مع تعديته إلى مفعوله بحرف الجر : «الباء» ؛ نحو : «دريت بالخبر السارّ. فإن سبقته همزة التعدية نصب بنفسه مفعولا آخر مع المجرور ؛ نحو : قد أدريتك بالخبر السارّ (١). وكذلك إن كان بمعنى : «ختل» (أى : خدع) نحو : دريت الصيد ؛ بمعنى : ختلته وخدعته.

والفعل : «تعلّم» ينصب المفعولين حين يكون جامدا بمعنى : «اعلم». فإن كان مشتقّا بمعنى : «تعلّم» نصب مفعولا به واحدا ؛ مثل : تعلّم فنون الآداب (٢).

والفعل : «ألفى» قد يكون بمعنى : «وجد» و «لقى» فينصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : غاب عصفورى ، ثم ألفيته.

ومن أفعال الرجحان ما قد يستعمل فى اليقين ؛ فينصب المفعولين أيضا. وقد يستعمل فى بعض المعانى اللغوية الأخرى ؛ فينصب بنفسه مفعولا واحدا ؛

__________________

(١) فإن وقعت همزة التعدية بعد أداة استفهام ، كما فى قوله تعالى : (الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ؟) (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟) فقيل إن الفعل فى الآية نصب ثلاثة مفاعيل ؛ أولها : الضمير «الكاف» ، وثانيها وثالثها معا الجملة الاسمية التى بعد الضمير ، فقد سدت مسد المفعولين الأخيرين. وقيل إن الفعل نصب بنفسه مفعولا واحدا هو الضمير ، وإن الجملة سدت مسد المفعول الآخر الذى يتعدى إليه الفعل «أدرى» بحرف الجر : «الباء» فالجملة فى محل نصب بإسقاط حرف الجر ، كما فى قولنا : «فكرت ، أهذا صحيح أم لا؟» وأصله : فكرت ، فى هذا ، أصحيح أم لا ... (راجع الخضرى فى هذا الموضع) وراجع أيضا «ح» من ص ٣٦.

(٢) بين الفعلين فرق فى اللفظ والمعنى والاستعمال ؛ فالفعل الأول : تعلم : بمعنى : «اعلم» فعل أمر جامد ؛ لا ماضى له ، ولا مضارع ، ولا مصدر ، ولا شىء من المشتقات فى الرأى الأقوى (كما أسلفنا فى رقم ٣ من هامش ص ٦). والغالب فى استعماله دخوله على «أنّ» مع معموليها ، أو «أن» والفعل مع فاعله ؛ نحو : تعلم أن احتمال الأذى فى سبيل الله لذة ... فالمصدر المؤول من «أنّ» مع معموليها سد مسد المفعولين. ومعناه مطلوب تحقيقه سريعا ، وتحصيل المراد منه فى المستقبل القريب الذى يشبه الحال ؛ وذلك بالإصغاء للمتكلم ، واستيعاب ما يريده فورا ، وتنفيذ ما يجىء بعد فعل الأمر بغير تمهل. أما الفعل الثانى فلفظه أمر أيضا ، ولكنه غير جامد ، فله ماض هو : «تعلّم» وله مضارع هو : «يتعلّم» وله مصدر ... وباقى المشتقات ... والغالب فى استعماله دخوله مباشرة على مفعوله الصريح. ويجوز دخوله على «أنّ» مع معموليها ، أو : «أن» مع الفعل وفاعله ؛ فيكون المصدر المؤول مفعوله. ومعناه مطلوب تحقيقه وتحصيله فى المستقبل ، ولكن مع تمهل وامتداد ، واتخاذ للوسائل المختلفة. الكفيلة بالوصول.

١٨

أو لا ينصبه ؛ وذلك على حسب ما ترشد إليه اللغة. ومن أمثلة ذلك الفعل : «خال» فمعناه اليقين فى نحو : إخال الظلم بغيضا إلى النفوس الكريمة. وكذلك الفعل «ظن» فى نحو : أظنّ الله منتقما من الجبارين. والفعل : «حسب» فى نحو : حسبت المال وقاية من ذل السؤال. فإن كان «حسب» (١) بمعنى : «عدّ» نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : حسبت النقود التى معى. أى : عددتها وإن كان معناه صار ذا بياض ، وحمرة ، وشقرة ـ كان لازما ؛ نحو : حسب الغلام ... و...

والفعل : «جعل» إن كان بمعنى : «أوجد» أو بمعنى : «فرض وأوجب» ـ نصب مفعولا به واحدا ؛ نحو : جعل الله الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وسائر المخلوقات ؛ أى : أوجدها وخلقها ، ونحو : جعلت للحارس أجرا (٢) ، بمعنى فرضت له ، وأوجبت علىّ ... والفعل : «هب» ينصب مفعولا به واحدا إن كان أمرا من الهبة ؛ نحو : هب بعض المال لأعمال البرّ (٣). أو أمرا من الهيبة ؛ نحو : هب ربّك فى كل ما تقدم عليه من عمل ... وهكذا (٤) ....

__________________

(١) الغالب فى الفعل : «حسب» بمعنى : «عدّ» ، فتح «السين» فى الماضى ، وضمها مضارعه.

(٢) قد يكون الفعل : «جعل» بمعنى : شرع. (وقد سبق الكلام عليه مع أفعال الشروع فى باب أفعال المقاربة ج ١ ص ٤٦٤ م ٥٠) وقد يكون بمعنى : اعتقد ، أو ظن ، أو «صيّر» ـ كما عرفنا فيما سبق.

(٣) وردت أمثلة صحيحة نصب فيها مفعولين بنفسه ؛ منها : انطلق معى ؛ أهبك نبلا. (المخصص ح ١٢ ص ٢٢٧). ولا مانع من محاكاتها وإن كانت قليلة ؛ إذ الكثير أن ينصب بنفسه مفعولا واحدا ، ويتعدى للآخر بحرف الجر. وقد صرح المغنى بأن هذا الفعل نصب المفعول الثانى بعد إسقاط حرف الجر : «اللام».

(٤) إن كان الفعل : «زعم» بمعنى : «كفل» ، أو : رأس (أى : شرف وساد) تعدى لواحد بنفسه ، أو بحرف الجر ، والمصدر : «الزعامة». وإن كان بمعنى : سمن أو هزل (أى : أصابه الهزال) لم ينصب بنفسه مفعولا.

وإن كان الفعل «حجا» بمعنى : قصد ، أو : رد ، أو : ساق ، أو : حفظ ، أو : كتم ، أو غلب فى المحاجة (وهى إقامة الحجة ، وإظهار البراعة وحدة الذكاء فى تقديمها) نصب مفعولا به واحدا ـ ....

١٩

شروط إعمالها :

يشترط لإعمال هذه النواسخ بنوعيها القلبىّ والتحويلىّ ، أن يكون المبتدأ الذى تدخل عليه صالحا للنسخ على الوجه الذى سبق تفصيله وتوضيحه عند بدء الكلام على النواسخ (١). وملخصه : أن النواسخ بأنواعها المختلفة لا تدخل على شىء مما يأتى :

(ا) المبتدأ الذى له الصدارة الدائمة فى جملته ؛ بحيث لا يصح أن يسبقه منها شىء. ومن أمثلته : أسماء الشرط ـ أسماء الاستفهام ـ كم الخبرية ـ المبتدأ المقرون بلام الابتداء ... (نحو : من يكثر مزحه تضع هيبته. من ذا الذى ما ساء قط؟ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. لكلمة حقّ فى وجه حاكم ظالم أفضل عند الله من اعتكاف صاحبها فى المسجد).

ويستثنى من هذا النوع الذى له الصدارة فى جملته ـ ضمير الشان (٢) فيجوز أن تدخل عليه النواسخ بأقسامها المختلفة ؛ نحو حسبته «الحقّ واضح».

لكن تختص النواسخ فى هذا الباب ـ دون غيرها من النواسخ ـ بجواز دخولها على المبتدأ الذى هو اسم استفهام ، أو المضاف إلى اسم استفهام. وإذا دخلت على أحدهما وجب تقديمه عليها ؛ نحو : أيّا ظننت أحسن؟ وغلام أىّ حسبت أنشط؟

ولا تدخل على أحدهما «كان» ولا «إن» ولا أخواتهما ؛ منعا للتعارض ؛ إذ الاسم فى بابى «كان» و «إنّ» وأخواتهما لا يصح تقديمه على الناسخ. فلو وقع الاسم أحدهما لامتنع تقديمه على الناسخ ؛ تطبيقا لهذا الحكم ، مع أن الاستفهام لا بد أن يتقدم (٣).

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٤٠٢ م ٤٢ من هذا الكتاب ؛ حيث التفصيل والبيان الذى لا غنى عنه.

(٢) سبق شرحه فى ج ١ ص ١٧٧ باب : الضمير وأنواعه.

(٣) أما الخبر فيجوز أن يكون اسم استفهام ، أو مضافا إلى اسم استفهام فى البابين ، ولا يجوز أن يكون جملة إنشائية ؛ ويجوز تقديمه فى بابى : «ظن» و «كان» بشرط ألا يوجد مانع يمنع من ـ

٢٠