الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

محمّد أمين زين الدين

الاسلام ينابيعه. مناهجه. غاياته

المؤلف:

محمّد أمين زين الدين


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: رابطة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة
المطبعة: سپهر
الطبعة: ٠
ISBN: 964-6177-75-1
الصفحات: ٣٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لامناص لنا من أن ننتظر وراء الموت منقلباً يكون هو النهاية ، مادام الدين حقاً لامراء فيه ، ومادامت عقائده وهداياته صحيحة لا يسمو اليها ريب ، ومادام وجود الغاية الصحيحة هو الفارق بين الفعل العابث والفعل الحكيم.

نعم. وهذا ما عرفه منكروا البعث أنفسهم ، فإنهم لما أنكروا البعث أنكروا الدين ورفعوا حدوده وأبطلوا أحكامه.

وقد يقول أحد إن الدين انما هو شريعة شرعها الله للمجتمع الانساني ، وحكمة الله من هذه الشريعة هي إقامة المجتمع على أمتن الاسس وأحكم القواعد ، ورفعه الى اكرم مقامات الفضيلة وأكبر درجات الانسانية ، وهذه الغاية الخطيرة دنيوية خالصة يفيدها المجتمع في حياته هذه متى سار على هدى الله الذي شرع واتبع وصاياه التي امر بها. أما من يتردى مع هواه من الأفراد فيصدف عن أحكام الله ويتبع مساخطه ، أما هذا المتردي فيكفيه ببؤرته التي ينحدر اليها عقاباً وهواناً ، ويبعده عن الهدف الانساني الأعلى حرماناً.

قد يقول هذا احد لينكر ان الجزاء ضرورة لن تتم الشريعة إلا بها ، ولن تنهض الحكمة إلا عليها ، ولرد هذه الشبهة يكفينا أن نتذكر ان الوجهة الاجتماعية ليست هي الناحية الوحيدة التي يستهدفها دين الإسلام ، بلى هي من الأهداف المهمة فيه وفي كل دين حق ، ولكنها ليست كل ما هنالك. فقد عرفنا فيما تقدم كيف يتعهد الدين كل نواحي الانسان وكيف يسع كل جهاته تقويماً وكل صلاته إحكاماً وكل صفاته إعلاءً.

ومن ظواهر الانسان أن آماله أوسع من حياته ، وهو يعلم بذلك

٣٠١

حق العلم حين يفكر في تسلسل آماله وتعقد أسباب الحصول عليها. ومعنى ذلك أن كثيراً من هذه الآمال سوف لايتحقق له لا في حاضره ولا في مستقبله ، وهي حقيقة يصعب على الانسان جداً أن يذعن بها وأن يقر عليها ، ونتيجة ذلك أن ينطلق في شهواته انطلاقا قويا لا يقبل الحدود ، ليحقق لنفسه أوفر قسط يمكنه من الآمال. أن ينطلق هذه الانطلاقة الشديدة إذا هو لم يعتقد البعث ولم يخش أمامه جزاءً ولم يحذر من ورائه رقيباً.

ومظالم العباد بعضهم بعضاً ، والدماء التي يسفكها السافكون بغير حق ، والحقوق التي يغتصبها الغاصبون بغير عدل ، والحرمات التي ينتهكها الظالمون دون مبرر ، هذه الأمور التي اهتم الشرع بها فوضع لكل حادثة منها حداً ، وجعل على كل من يتعدى ذلك الحد حداً ؟ كيف تصان هذه الحدود وكيف تستوفى هذه المظالم اذا نحن لم ننتظر للعدل الأعلى يوماً ، ولم نتوقع لاستيفاء التبعات موقفاً ؟ ويد العدالة في هذه الحياة الدنيا قد لا تستطيع أن تنال الظالم بشيء وقد لا تملك أن تدينه بتبعة.

وبعد فما أنكل الأفراد من عامة الناس عن إلتزام القانون والقيام بحدوده والمحافظة على تعاليمه متى علموا ان الغاية فيه انما تخص المجتمع أو تخص النوع ، ولا غاية فيه للأفراد ولا رعاية لآحادهم وما اقصر القانون في الملاحظة اذا كان يهدر الفرد إهداراً تاماً لمصلحة المجتمع أو لمصلحة النوع.

وأخيراً فما أبعد القوانين عن غاياتها اذا لم تكلأها عين حارسة على

٣٠٢

التنفيذ ، وعقوبة محذورة على المخالفة ، ما ابعد القوانين عن غاياتها اذا لم تكن لها تلك الرقابة الحازمة من بين يديها ، وهذه القوة المرهوبة من خلفها. ان أحكامها لولا هاتان ستنقلب نصائح خاوية ، وإن حكمتها ستتحول فلسفة صامتة. وكم في العالمين من يؤمن بالمثالية لأنها مثالية ، ومن يحذر الاسفاف لأنه اسفاف ؟

نعم لابد لاحترام القانون من الجزاء.

ولابد للحث على عمل الصالحات من المكافأة.

ثم لامحيص من يوم للدينونة تقاس فيه الأعمال وتنال فيه الغايات وتستوفى فيه التبعات :

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (١).

* * *

كما يحتكم الطفل الصغير في ما بيديه من اللعب ، وكما يقيس الأشياء ما يجهل منها بما يألف ، يستحب بعض الناس أن يحتكم ، ويؤثر أن يقيس !.

إن هؤلاء لازالوا أطفالا وان كبروا وشاخوا ، وحلومهم وأقيستهم لم تبرح بعد أطفال الحلوم وأطفال الأقيسة ...

وقد تناول هذا الفريق عقيدة البعث فيما تناوله من الأمور ، فلم يبتعد عن هذه الحدود ، ولم يتنكب عن هذه الخطة.

__________________

١ ـ الأعراف ، الآية ٨ ـ ٩.

٣٠٣

قالوا : نجد الأنام يموتون ثم لا يعودون الى الحياة ، ومن مات من الأنام رمّت عظامه وتوزعت اشلاؤه حتى تصبح العين منه أثراً ، وحتى يعود الأثر عدماً.

وإذن فلا حياة بعد الموت ولا اجتماع للاجزاء بعد التفرق.

بعيد. بعيد ، ومحال محال أن يحدث ذلك وأن يتحقق. لاننا لم نبصر بمثله أبداً ، ولم نعهد وقوعه في سوالف القرون :

( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) (١).

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ... ) (٢).

بعيد ومحال أن نبعث بعد الموت ، وكيف حياة الأجسام وقد عادت هباءً ؟ وكيف تأليف ذراتها وقد ذهبت في فجاج الأرض أشتاتاً ؟ ومن هذا العليم بموضع كل ذرة القدير على ردّ كل هباءة ، الخبير بحصة كل عضو منها عند التركيب وبمكان كل واحدة منها قبل التفرق ؟

من هذا القادر المحيط ليرد الأجزاء المتباعدة جسماً ، ويعيد الجسم التالف حياً ؟ :

( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ ) (٣).

ويفتنون في احتجاجهم كثيراً ويذهبون بعيداً إذ يقولون :

__________________

١ ـ المؤمنون ، الآية ٨٢ ـ ٨٣.

٢ ـ سبأ ، الآية ٧ ـ ٨.

٣ ـ الم السجدة ، الآية ١٠.

٣٠٤

( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (١).

وكأنهم في قولتهم هذه يحذرون موتة ثانية فهم ينكرون من أجلها حياة ثانية ! وحجتهم هذا التعجيز التافه : فأتوا بآبائنا.

أتدّعون أن الموتى ينشرون لحياة ثانية ، ينشرون بعد موتتهم الاولى ؟

أتقولون هذا جادين غير هازلين ؟.

إن هذه دعوى غير عسيرة البرهان. فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين.

أحيوا لنا من غير من أسلافنا لنعرف مبلغكم من الصدق.

وقد جمع القرآن كثيراً من أقاويلهم وعرض انواعاً من حجاجهم. ولعله انما عني بذلك ليرى الانسان سقطته في التفكير إذا جمح به التعصب.

متى كان الألف قاعدة ثابتة تحكم بموجبها الأشياء وتناط بها صحة العقائد ؟!

ثم متى كان الاستبعاد دليلا على الاستحالة ؟!

لقد كان المرء جنيناً في بطن امه ، وكان قبل ذلك نطفة وعلقة. افليس من المضحك ان يقول وهو في تلك الادوار ـ ولنفرضه هناك عاقلا له رأي وله قول ـ أليس من المضحك ان يقول في تلك الأدوار : ليس لي مستقبل يأتي وراء هذا الحاضر ، لأني لم أجد اثراً لهذا المستقبل ؟.

* * *

__________________

١ ـ الدخان ، الآية ٣٥ ـ ٣٦.

٣٠٥

( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ) (١) بعد تمزقها بالموت وصيرورتها رميماً فهو لهذا الحسبان ينكر البعث ويحيل وجوده ويجحد توابعه ؟

إن كان هذا هو حسبانه وهذه هي تعلته فقد اخطأه الوهم وأضله التعليل.

ولم لا نجمع عظامه ؟ ولم يخال هو ذلك ؟ ولم ينكر قدرتنا عليه ؟.

( بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) (٢).

أرأيت البنان بدقة تركيبها وبراعة تصويرها ، حتى لاتجدها في انسان تشبهها في انسان آخر ؟ أرأيت البنان بخطوطها ومدوراتها ومميزاتها ؟ إننا قادرون على أن نسويها بعد العدم ونضم اجزائها بعد التفرق ، حتى ليست تختلف عن وجودها الأول في مادة ولا في شكل ولا في مقدار.

هكذا يجيبه القرآن على حسبانه.

إنها دعوى تقرع بدعوى. ولكن دعوى القرآن ليست مجردة عن الدليل ، فلقد علم الانسان بفطرته أن له خالقاً سوّاه بعد العدم فلن يشك أبداً في قدرة ذلك الموجد ، وليس أدل على القدرة من الإيجاد ، إذن فلا مسرب لذلك الوهم الى يقينه ، وإن ذهب وهمه الى فهو وهم زائل غير مستقر ، تذهب به وبآثاره لفتة واحدة لمظاهر القدرة الموجودة ، فليس وهما ثابتاً يوجب الحيرة للانسان ، ولم يكن هو العلة المباشرة لإضلاله.

__________________

١ ـ القيامة الآية ٣.

٢ ـ القيامة الآية ٤.

٣٠٦

( بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ) (١) لهذه البغية ينكر الانسان النشور وينكر الجزاء وينكر توابعهما ولوازمهما. يريد لينطلق في فجوره ، ويمعن في غروره فلا يلذ له ان تقيد إرادته شريعة أو تحول دون شهواته عقيدة. يريد ليندفع مسعوراً منهوماً فلا يلقى أمامه رقيباً من دين ، ولا يخشى من ورائه حسيباً من جزاء ، فهو يختلق الوهم ويجحد البعث ، وإذا لم يكن بعث فلا جزاء ولا حظر ولا خشية ولا رقابة. من أجل هذا القصد ينكر الانسان النشور وما يتبع النشور ... ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (٢).

يسأل هكذا كمن لا يعنيه من أمر القيامة شيء ، وكأن مواقف هذا اليوم العظيم وشدائده إنما اعدت لسواه ، أو كأنه خرافه يسأل عنها للتندر ، ويتعمد ذكرها لِلَّمْزِ.

هذه خطة المرء حين تناول عقيدة البعث في التفكير.

وحين فلسف إنكاره فهل ارتفع عن هذه الحطة ؟.

الواقع أنه لم يستطع ذلك وان ادعاه وأصر عليه وأمعن في إصراره.

أنكر الروح لينكر بقاءها بعد الحياة ثم عودتها الى الجسم بعد الموت.

وانكر اتساع العناصر الموجودة في الكون لحياة اخرى بعد انقضاء الحياة الاولى.

وأحالها لأوهام دارت على لسان القديم وعدّلت في فكرة الجديد.

صنع كل هذا ليبث أن موت الانسان هو منقلبه الأخير. ثم أخرسه أن

__________________

١ ـ القيامة الآية ٥.

٢ ـ القيامة الآية ٦.

٣٠٧

قام العلم. العلم التجريبي الحديث يذري شبهاته واحدة واحدة.

أما بعد فان الدلائل التي أثبتت ضرورة وجود الدين ، أثبتت ضرورة النشور وضرورة الجزاء ، لأن الدين لن يكون صحيحاً اذا لم تتحقق له غاية.

وان الشواهد الكثيرة التي أبانت صدق الإسلام أبانت كذلك صدق هذه الدعوى ، لأنها اصل من اصوله وركن من اعظم اركانه.

وإن الكتاب الذي دل باعجازه على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى صدق دعوته دلّ باعجازه ايضاً على صحة هذه العقيدة لأنه اعلن بها في اكثر سوره ولمح اليها في اغلب آياته.

* * *

ويحاول بعض الكتاب ان يقلل من جدوى هذه العقيدة ، عقيدة الجزاء الأخروي. يحاول ان يقلل من جدواها ، ومراده بالطبع ان يتخذ من ذلك وسيلة لانكارها.

يقول : « إن الدوافع التي يستعين بها هذا الضمان اقل تأثيراً من الدوافع التي يتأثر بها السلوك من ناحية رقابة الرأي العام ، لأنه يعتمد على جزاء وعقاب مؤجلين ، وقد يتعرضان للشك في قيام الميزان الذي سيحاسب الناس به ».

كذا يقول هذا الكاتب ، وهو يفرض شيئاً غير ما تفرضه الأديان في عقيدة الجزاء ، وغير ما يفرضه دين الإسلام منها بالخصوص.

ان الإسلام يفرضها عقيدة يقينية ثابتة راسخة لابد من الاستيقان بها ، ولابد من الايمان الموطد المؤكد قبل التوجه لأي عمل تأمر به الشريعة ،

٣٠٨

وقبل العزيمة على أيِّ سلوك ينصح به الدين ..

عقيدة يقينية ثابتة ، جحودها يوجب الكفر ، والامتراء بها يقتضي الخروج عن الدين واستحقاق العذاب المهين. ونصوص القرآن والسنة تتعهد تنمية هذه العقيدة وترسيخها وتوجيه المشاعر والعواطف نحوها ، وهي تكرر هذا وتفتنّ في تكراره وفي ربط الأحاديث به عند ذكر كل حكم وعند تقديم كل إنذار. فلن يغفل المسلم أبداً ولن يشك ولن يجحد. واذا كان العقاب مؤجلا فان فكرة هذا العقاب ورقابة المحاسب العظيم الذي لا يغفل لحظة ، ودقة الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، والضمير اليقظ الواعي الذي ايقظته هذه العقيدة وأرهفت حسّه واطلقت حكمه ، كل هذه تراود فكرة المسلم في كل آن وتحاسب ارادته عن كل خطوة.

فمتى تكون الغفلة إذن ، ومتى يكون الشك ؟.

* * *

وطرائق القرآن في الاستدلال على هذه العقيدة هي طرائقه في الاستدلال في كل موضع ، وحججه عليها هي حججه في الاشراق وقوة العرض وبداهة المقدمات ، والقرآن حين يحتج لإثبات أمر لا يبقى فيه منفذاً للشك ولا مورداً للانتقاض.

والباب الطبيعي الذي ينفذ منه العقل الى هذه العقيدة ، والسند القوي الذي يتكيء عليه في تثبيتها هو فكرة الغاية .. الغاية التي بها يفترق الفعل الحكيم عن الفعل العابث.

ينظر الانسان في كل ما حوله من اشياء هذا الكون الفسيح الأطراف البعيد الاكناف ، في كل ما حوله مما دق حتى انحسر عنه البصر لضآلته ، أو

٣٠٩

عظم حتى عجزت الرؤية أن تحيط به لترامي أبعاده ، مما قرب حتى كاد القرب أن يدمجه في حدود الرائي ، أو بعد حتى أوشك البعد أن يلحقه بالوهم.

في كل موجود يزحم هذا الفضاء الرحب ، وفي كل قانون يحكم هذي الموجودات المتنوعة.

ينظر الانسان في كل هذه فلا يلفي إلا شيئاً يتجه إلى غاية ... إلى غاية عتيدة أعدت هي له وأعدّ هو لها منذ التكوين :

( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (١).

فلماذا يجهد الانسان أن ينكر الارتباط بالغاية حين يعود به التفكير الى ذاته ؟ ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ) (٢) أيحسب هذا لنفسه وحده دون بقية موجودات الكون. ودون سائر منشآت الطبيعة. أن يترك سدى هكذا مهملاً دون غاية ولا نظام ولا رابط ولا ضابط ؟!.

لقد وجد الانسان واستقام كيانه والتأمت عناصره على أدق حكمة وأتم وضع وأحسن تصوير ، وهو غير مختار في شيء من ذلك ، ولا محيص من أن تكون لوجوده هذا المتقن غاية لأن الغاية ـ كما قلناه مكرراً ـ هي الفارق بين العبث والحكمة. ولا محيص من الطريق التي يسلكها الى تلك الغاية ، وقد استوفينا شرح هذا في مستهل الكتاب فليعد إليه القاريء إذا شاء. وحركة الانسان هذه التي نريد أن ننزهها عن العبث اختيارية ولا شك ،

__________________

١ ـ الاحقاف ، الآية ٣.

٢ ـ القيامة ، الآية ٣٦.

٣١٠

فغايتها غاية اختيارية ولا شك ايضاً ، والسبيل المؤدية الى الغاية سبيل اختيارية.

واذن فلا محيد من الجزاء ، ولا محيد عن البعث ولا محيد عن اليوم الذي يلقى فيه كل أحد جزاء ما عمل.

أيحسب الانسان أن يترك سدى ؟ هذا هو مساق البرهان في هذه الآية ، استفهام فيه معنى الانكار ، وطيّ له دلالة النشر ، وإن بعض منكري النشور ليذهب هذا المذهب ، ويعتبره رأياً ويتخذ الايمان به عقيدة ، ويصر على التمسك به ويتهالك في الدفاع عنه ولكن الآية الكريمة تسمي ذلك حسباناً ، وتخرجه مخرج التردد والريبة ، فما كان للانسان وهو المفكر العاقل أن تتردى به الأوهام الى هذا الحضيض ، ولئن زعم هذا زاعم فان كل صامت وناطق في الوجود يرد عليه هذا الزعم.

هذه كبرى القياس كما يقول الأساتذة المنطقيون ، وهي مطوية يدل عليها الانكار ، أما بقية المقدمات التي يفتقر اليها تقويم الدليل فهي جلية وهي ليست موضعاً للجدل.

وبمثل هذا الايجاز وبنظير هذا التخريج يعرض القرآن دليل الغاية هذا في سورة ( المؤمنون ) فيقول :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (١).

أما في سورة الروم فانه يذكره في شيء من التفصيل ، فقد قال في معرض الحديث عن غفلة أكثر الناس :

__________________

١ ـ المؤمنون ، الآية ١١٥.

٣١١

( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (١).

هذا القانون العام المتبع في السموات وفي أجرامها ومداراتها ، وفي الأرض وطبقاتها وعناصرها ، في كل ما تقله الأرض وما تظله السماء من حي وجامد ونبات ، هذا القانون الذي لا يستثنى منه شيء من هذا العالم الكبير ، قانون الارتباط بالغاية والاتجاه إليها ، ألم يتفكر هؤلاء الغافلون عن الآخرة ، الجاحدون للنشور ، ألم يتفكروا في أنفسهم أنهم أشياء كهذه الأشياء يعمهم ما يعمها من حكم ، ويشملهم ما يشملها من قانون ؟ اولم يتفكروا ان فاطر هذه المنشآت الحكيمة يمتنع عليه أن يخلق الانسان بلا غاية وأن يتركه سدى دون وجهة ، لأنه حكيم يمتنع عليه العبث ، كريم لا يجوز عليه البخل ، عدل يستحيل منه الظلم ؟ أولم يتفكروا في ذلك لعلهم ينتبهون من الغفلة ويقلعون عن الجحود.

وفي سورة (ص) يعرض القرآن هذا الدليل ايضاً إلا أنه هاهنا اوفى شرحاً وأكثر تفصيلا من هذه ومن تلك.

( ... إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

١ ـ الروم ، الآية ٧ ، ٨.

٣١٢

الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (١).

سبيل الله واضحة المعالم ممهدة المسالك ، وهي مؤدية بسالكها الى الفوز ولا شك. أما الذين يضلون عن هذه السبيل فانهم يستحقون العذاب الشديد ، واستحقاقهم ذلك ليس لضلالهم عن السبيل فحسب ، بل لانهم نسوا يوم الحساب ، ونسيان يوم الحساب خطيئة من شأنها انها تضاعف الخطايا وتضخم عليها الجزاء.

هؤلاء ناسون ليوم الحساب لامنكرون ، غير ان نسيانهم إياه نسيان عملي ، والنسيان العملي ليوم الحساب هو الخطر الماحق الذي يصاب به المكبون على الآثام المولعون بالاجرام.

هم ناسون له في العمل ، ولعلهم ذاكرون له في الشعور والعقيدة ، وما كان يوم الحساب لينسى ، وما كان يوم الحساب ليغفل ، وإن قانون الارتباط بالغاية ليذكر من نسي وينبه من غفل.

فالسماء والأرض وما بينهما من موجودات لم تخلق جميعها ولم تترتب طرائقها ولم تقم حركاتها ، ولم تجعل قوانينها ، لم يوجد جميع ذلك فيها ولا في أبعاضها إلا بالحق. إلا لغاية ، والحكمة والقصد والاتقان والارتباط بالهدف الأعلى امور بادية في كل وجه وعلى كل شيء ، فلا ينبغي ان تنكر ، ولا ينبغي ان يغفل عنها ، وليس للانسان بمفرده سبيل غير هذه السبيل.

بلى هنا من ينكر ذلك ... من ينكر الارتباط بالحكمة والارتباط بالهدف ... من يقول ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا

__________________

١ ـ ص ٣٦ ـ ٣٨.

٣١٣

الدهر.

حياة وموت ...

هذا هو القانون ، وهذه هي الغاية.

كما تستودع البذرة في الأرض فتنمو ثم تفرع وتثمر ، ثم تموت وتعود هشيماً ، يزرع الانسان كذلك نطفة ، ثم يولد طفلاً ، وينمو ويشب ، ويقترن ويلد ، ثم يموت ويصبح رميماً ، وينتهي خبره ويَمَّحى أثره.

ثم لاشيء. ثم لاغاية غير هذه الغاية.

هنا من يقول ذلك. والقرآن الكريم يدعوه ظناً هنا ، ويدعوه ظناً كذلك في آيات اخرى ذكره فيها ، يدعوه ظناً ، إذ ليست له حرمة العلم ، وليست له حرمة الفكر الصحيح ، وليست لقائله حرمة المفكر الحرّ.

وما رأي يعصب صاحبه عينيه عن النور ليرى ، ويغلق فكره عن البرهنة ليخال ؟!.

ليس هذا ضلالا في العمل ، وإنما هو ضلال في العقيدة وتبلد في الشعور.

هو كفر ، وويل للذين كفروا من النار.

ليس من الحكمة أن ينشأ موجود لا لغاية. وليس من الحق أن يترك الانسان لا لرشد ، وليس من العدل أن يجعل المؤمنون العاملون للصالحات والكافرون المفسدون في الأرض سواء في العقبى ، سواء في الجزاء.

إن الله خلق هذين الفريقين من الناس على السواء ، وآتاهما التكاليف الموجبة للسعادة والفوز على السواء ، وأتاح لهما الفرص الكافية لبلوغ الغاية على السواء ، فآمن المؤمنون بربهم واتبعوا مرضاته عن بينة ، وجحد

٣١٤

الجاحدون به وارتكبوا مساخطه عن بيّنة ، وليس من العدل ولا من الحكمة أن يكونا سواءً في الجزاء.

* * *

ودليل القدرة.

القدرة المطلقة المهيمنة التي لا يعروها وهن ، ولا يقفها حد ، ولا يتناهى بها أمد ، والتي ابتدأت الأشياء لا من شيء ، وصورتها لا على مثال ، ثم لم يعجزها كون ، ولم تستظهر بوزر ، ولم تستعن بآلة ولا باجالة فكر ولا بسابق تجربة.

القدرة التي ليس كائن اولى بها من كائن ، ولا مكان ادنى اليها من مكان ولا حين انسب بها من حين ، ولا معقد ابطأ عليها من بسيط.

القدرة الكاملة الشاملة ، وما هذه السماوات بمالها من نُظُم وتدبير ، وما هذه الأرض بما فيها من خلق وتقدير ، وما هذه المنشآت الكونية بما فيها من بداعة التكوين وبراعة التصوير ، ما هذه المخلوقات العجيبة الا ظل من ظلالها وقبس من شعاعها.

هذه القدرة الفائقة الغالبة لا يمكن البتة ان تعجز عن إعادة الحياة بعد الموت.

لا يمكن ذلك مطلقاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ

٣١٥

شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١).

ان الادلة مبثوثة في كل وجهة وان الدلالة مستبينة لكل ناظر فعلامَ الشك اذن ، وفيم الجدل ؟!.

وانه لاسفاف في الحكم وسفه في الرأي ومناقضة في القياس ان يحس المرء دلائل هذه القدرة ملء الاكوان وملء الامكان ثم يرتاب ويتردد !!.

وما خلق الناس وما اعادة الحياة ازاء قوة قدرت الافلاك وانشأت الأملاك ؟ ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (٢).

اجل وما حياة بعد موت ، بل وما حياة قبل موت إزاء هذه القدرة المهيمنة المسيطرة ؟.

انها كلمة من كلماتها ، واشعاعة من اشعاعاتها :

( مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (٣).

والكون كله كلمة وإشعاعة !!

كلمة تصدر من قائلها فلا تتخلف ، ويمتنع ان تتخلف :

( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (٤).

ما أقلق فاء الجواب هنا ، وما أجمل موقعها في الوقت ذاته.

ما أحرج موقفها ، إنها تروم أن تعيق المعلول عن علته فلا تملك !.

__________________

١ ـ الاحقاف : ٣٣.

٢ ـ المؤمن : ٥٧.

٣ ـ لقمان : ٢٨.

٤ ـ النحل : ٤٠.

٣١٦

وما أجمل موقعها ، انها توضح في التابع مفهوم التبعية ، وتعلن فيه سمة الخضوع والانقياد.

لامحيد للتابع من أن يخضع.

ولامحيد له من أن يتأخر عن متبوعه قيد خطوة.

إن هذا التأخر شعار العبودية الذاتية ، ولابد من اعلان هذه ، ولابد من الاعتراف بها.

وصور هذا الدليل في الكتاب الكريم متشابهة متقاربة ، فالصورة السابقة التي عرضها في سورة الاحقاف هي ذات الصورة التي يظهرها في سورة سبأ ، والتي يقدمها في سورة الاسراء ، ولا اختلاف بينها إلا في شيات يوجبها العرض ، وسمات يستدعيها السياق.

أما في سورة يس فانه يتحدث عن الانسان هذا الخصيم المبين الذي يغفل حتى عن نفسه وهو يجادل عن هواه ، يتحدث عن هذا المخلوق المتهافت فيقول :

( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١).

__________________

١ ـ يس ، ٧٨ ـ ٨٣.

٣١٧

هكذا يبتديء العرض. يحيي العظام من أنشأها أول مرة. من أنشأها من نطفة ، فهل يشك أحد في استطاعته ؟

وقدرة هذا الخالق مطلقة عامة لا تحصرها حدود ولا تقام حولها سدود ، فهو بكل خلق عليم ، بكل خلق ، وبكل مخلوق. فلا تغيب عن علمه ذرة من هذا الرميم. من هذا الرميم الذي كان قبل قليل عظاماً ، وكان قبل هذا جسماً ، وكان حياً وكان انساناً ناطقاً ، وكان قبل كل أولئك تراباً.

لاتغيب عن علمه مواضع هذه الذرات كلها من السموات أو من الأرض بعد الانفصال ، ولا تغيب عن علمه مواضعها من الكائن قبل التحلل ... فهل يشك الانسان بعد ؟ ..

والشجرة الخضراء التي تقطر بالماء كيف يجعل منها ناراً محرقة تأكل اليابس والرطب ؟.

أليس هذا أمراً عجباً ؟!

ألا يدل على قدرة فائقة تأمر فلا تعصى ، وتقدر فلا تخالف ؟!.

والسموات والارض هذان الينبوعان العظيمان للمدهشات ؟!. وما فتيء العلم يكشف كل يوم من عجائبهما جديداً ثم يتطلع الى خفي. السماوات والأرض وعوالمهما التي لاتحد ، وعجائبهما التي لاتحصى ألا يقبلهما هذا الانسان اللجوج دليلا واحداً على قدرة جبارة وعلم محيط ؟

أليس القادر على انشاء هذه المنشآت قادراً على اعادة الحياة بعد الموت ؟

كيف يعيى وكيف يعجز ؟

٣١٨

وكيف يؤوده وجود أو حفظ موجود ؟.

وإنما هي إرادة.

وإنما هي اشراقة.

وانما هي زجرة ، زجرة واحدة ، فاذا كل شيء قائم. واذا كل شيء شاخص. واذا كل شيء مستنير ! :

( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ).

( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ).

وفي سورة الواقعة بسط لهذا الدليل واستعرض لبعض مجالي القدرة العظيمة : ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * ...

أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ؟.

أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ؟.

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ؟

أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ؟ ) (١).

إن هذه كلها مجالي لقدرة لا تتناهى وأدلة على قادر لا يحد علمه ولا يضعف سلطانه.

وفي سورة الرعد وفي سورة المؤمنون وفي مواضع أخرى عديدة تذكر هذه البرهنة بين إجمال وتفصيل.

__________________

١ ـ الواقعة ٥٧ ـ ٧٢.

٣١٩

والنشأة الأولى ؟.

إنها لهي موضع الغرابة ، وإنها لهي مثار العجب ، فلينكرها من يولع بالانكار.

هي أحق بالاستغراب وأدعى للتعجب ، فهي أحرى بالجحود إذا لم يكن له محيص من الجحود.

إنسان ينشأ من لاشيء ... !

من تراب ... !

من نطفة ... !

من جرثومة مَنَوِيَّةٍ صغيرة لا تدرك بالطرف.

لا تدرك إلا بمجهر.

إلا بآلة تضاعف حجمها أضعافاً كثيرة.

تلتقي ببويضة اكبر منها في الجرم ، اكبر منها كثيراً فان العين المجردة تستطيع ان تراها (١) تلتقيان في قرار مكين ، فتتحدان وتتطوران ، وتقع

__________________

١ ـ فالخلية المنوية البشرية تتراوح في الطول بين خمسين وستين ميكرون ( والميكرون ) جزء من الف جزء من الملمتر ، فلا تراه العين المجردة مطلقاً. واما بويضة المرأة فيمكن رؤيتها بالعين المجردة ولكن بصعوبة ). الزواج المثالي تأليف الاستاذ فان دفلد ، وتعريب الدكتور محمد فتحي ص ٢٣٤.

وفي ص ٢٣٧ من المصدر نفسه : ( ويقذف في كل جماع في المهبل = = ما يتراوح عدده بين ٢٠٠ مليون و ٥٠٠ مليون خلية منوية تموت جميعاً عدا خلية واحدة تسبب الحمل ، ويحدث هذا دائما في كل جماع الا اذا تكررت مرات الجماع بسرعة بعد قذف منوي سابق ).

وفي كتاب الوراثة والبيئة تاليف الدكتور علي عبد الواحد وافي ص١٥ :

٣٢٠