فضائل القدس

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

فضائل القدس

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: الدكتور جبرائيل سليمان جبّور
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: منشورات دار الآفاق الجديدة
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٦٨

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى أستاذي الكريم

الدّكتور فيليب حتيّ

أهدي جهدي في هذا الكتاب

رعيا لذكراه واعترافا بفضله عليّ

٥
٦

المقدمة

إن مخطوطة كتاب «فضائل القدس» الذي ألفه ابن الجوزي لمن المخطوطات النادرة وهي في حوزة جامعة برنستون ، وكانت قد اشترتها مع كتب أخرى من عائلة مراد البارودي في بيروت من زمن بعيد ولا يزال بعض محققي كتب ابن الجوزي ينقلون عن بروكلمن أنها في مكتبة البارودي. وقد بحثت قبل الإقدام على نشرها في فهارس المكتبات العالمية التي أمكنني الاطلاع عليها فلم أجد ذكرا لنسخة أخرى إلا في موضعين. الواحد في كتاب عبد الحميد العلوجي «مؤلفات ابن الجوزي» حيث يذكر وجود نسخة في مكتبة جار الله رقم ٥٨٦ دون أن يذكر أي شيء آخر عنها (١) ولعله نقل خبره هذا عن مصدر قبل منتصف هذا القرن لأنه ليس لهذه المكتبة من وجود الآن.

والموضع الثاني هو كتاب بروكلمن تاريخ الآداب العربية وملحقه ففيه أن هناك نسخة في مكتبة بارودي وأخرى في مكتبة برلين (٢) ولم أستطع أثناء هذه السنوات الأربع الأخيرة أن أحصل على صورة من الأخيرة أما مخطوطة

__________________

(١) العلوجي. مؤلفات ابن الجوزي (بغداد ، ١٩٦٥) ص ١٢٩.

(٢) راجع كتاب كارل بروكلمن تاريخ الادب العربي بالالمانية (برلين ١٩٠٢) ج ١ ص ٥٠٦ والملحق (ليدن ، ١٩٣٧) ج ١ ٩٢٠ حيث يذكر مخطوطة فضائل القدس في مكتبة بارودي في بيروت. وليس غريبا ان تكون نسخة برلين مأخوذة عنها.

٧

مكتبة بارودي فهي المخطوطة نفسها التي اشترتها جامعة برنستون وهي نفسها التي نحققها.

وكنت نشرت منذ نحو ثلاث سنوات في نشرة معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية التمس فيها اعلامي عما إذا كان أحد يعرف عن وجود نسخة أخرى في بلد ما كي أطلع عليها قبل النشر فلم يرد لي أي نبأ من أحد عن وجود شيء. وكنت مزمعا على نشر هذه المخطوطة سنة ١٣٩٧ ه‍. بمناسبة مرور ثمانمئة سنة هجرية على وفاة مؤلفها العالم الشهير ابن الجوزي فحالت الاضطرابات في لبنان دون ذلك. وقد لا حظت حين قابلت بينها وبين ما أخذه عنها ابن فضل الله العمري في كتابه «مسالك الابصار في ممالك الامصار» الجزء الذي حققه ونشره أحمد زكي باشا إن ما نقله العمري لا يختلف عما هو فيها وذلك في كل المواضع المتفرقة ما عدا ذكر رجال السند فقد كان العمري يهملهم ويكتفي إمّا بالراوية الأخير أو بالراوية الأول. وهذا الاتفاق التام يدل على أن نسخة برنستون أصيلة قديمة جدا لم تتعرض لأي تغيير منذ زمن العمري أي منذ نحو سبعمئة سنة. ونسخة برنستون هي فيما يظهر من ورقها وخطها قديمة جدا تكاد تكون من عصر المؤلف ، ولهذا فقد رأيت أن أقدم على نشرها برغم أنها مبتورة في آخرها ينقصها بضع ورقات لا تزيد عن ثلاث أو أربع.

أما المخطوطة فكتاب صغير يحتوي على اثنتين وستين صفحة من الورق القديم الصقيل بمقياس ٧ ، ١٥ س. م في ٦ ، ١١ والكتابة في الصفحة بمقياس ١١ طولا في ٤ ، ٨ عرضا. ويوجد في كل صفحة ثلاثة عشر سطرا دون استثناء والخط فيها نسخي قديم وفيه بعض الشكل ، وقد اضيفت إلى حركات الشكل حركات أخرى في عصر متأخر. والخط واضح تماما إلّا في بعض الصفحات التي كادت تمحى فيها الكلمات بسبب الرطوبة.

وقد يبدو لأول وهلة أن المخطوطة موجز أو مختصر لكتاب أكبر كما

٨

ألف ابن الجوزي أن يفعل في بعض كتبه لا سيما وأن بعض فصولها لا تتجاوز الصفحتين. ولكن الواقع فيما يلوح لي هو غير ذاك إذ لم يرد أي ذكر لكتاب آخر باسم فضائل القدس بين كل كتبه في جميع الاصول التي ذكرت كتبه ، زد على هذا أن ابن الجوزي كان يسمي الموجز مختصرا حين يختصر بعض كتبه فعنده مثلا مختصر لقط الجمان ومختصر تقويم اللسان ومختصر المنتظم وهلم جرا ولم يذكر هذا الكتاب في أي أصل من الأصول باسم «مختصر فضائل القدس» بل «فضائل القدس». ويشار إليه أنه مجلد واحد أو في جزء واحد. والنص في هذه المخطوطة يتفق مع الأبواب المذكورة في المقدمة وهو من النصوص المسندة المعنعنة ـ وهو أمر راعاه ابن الجوزي في كثير من كتبه التي لها علاقة بالحديث وببعض أمور الدين. وقد اقتضاه الإسناد الطويل أن يقصر عليه نحو ربع المادة في هذا الكتيب ، ولو أهمله لما بقي من الكتاب شيء كثير.

وقد اتّبع الناسخ الاصطلاحات المختصرة للعبارات المألوفة في الأحاديث المسندة فكتب «ثنا» معجمة أحيانا ومهملة أحيانا أخرى بدلا من «حدثنا» وكتب «أنبا» معجمة أو مهملة بدلا من «أنبأنا» وقد يكتب أحيانا حدثني أو حدثنا أو أنبأنا دون اختصار. وقد رأيت أن اثبتها كاملة كلها تسهيلا على القارىء.

كذلك يكتب الناسخ ابراهيم واسحاق واسماعيل وثلاث وثمانين دون ألف في الوسط ويكتب سليمان والنعمان أحيانا بألف وأحيانا دون ألف ويكتب التوراة بياء بدل الالف ويكتب ابن في جميع حالاتها دون الألف المهموزة بهمزة الوصل حتى في مثل «ابن عباس» حيث لم يذكر الاسم الأول. ويهمل النقط في التاء المربوطة والياء الاخيرة حتى في مثل كلمة نبيّ أو انصاريّ ، ويهمل الهمزة أحيانا في أواخر الكلمات مثل جاء والفرّاء وايلياء. واحيانا في أوساطها مثل «جاءك». ويخففها ويكتبها بصورة ياء

٩

في مثل «الملائكة» و «ببنائه». وقد رأيت تسهيلا على القارىء وتجنبا لإصلاحها في الهوامش ، أن أصلحها كلّها في المتن دون أن أشير إلى ذلك في الهامش. وهكذا فقد اثبتّ الالف في وسط الاسماء واثبتها في همزة ابن في كل المواضع حتى في المواضع التي تقع «ابن» فيها بين علمين ، لأني من الذين يرون أن ترسم الكلمة على اعتبار أنها مبدوء بها موقوف عليها وأرى أن حذفها كان اصطلاحا لضبط القراءة ولم يعد له مبرّر الآن. وكنت كتبت مقالا في مجلة المقتطف (٣) في همزة ابن وفي المواضع التي اصطلح الكتّاب أن يثبتوها فيها وهي أكثر من المواضع التي اصطلحوا على حذفها فيها. وأدعو الآن إلى اثباتها في كل المواضع كهمزة «اسم» التي لم تحذف إلا في عبارة «بسم الله الرحمان الرحيم». واثبت النقط في التاء المربوطة وفي الياء الواقعة في أواخر الكلم ، واثبت الهمزة في آخر الكلمة وفي وسطها حيث حذفت أو خفّفت بياء دون أن أشير في أي حالة إلى ذلك في الهامش ، غير أني كنت إذا عثرت على خطأ أو بدا لي اصلاح كلمة أو تغيير ما غير ما ذكرت ، أشير في الهامش إلى ما فعلت. ويمكن للقارىء الكريم أن يرى شكل الخط وبعض الامثلة على اصطلاحات الناسخ التي أشرت اليها وذلك في الراموزين الواضحين من النسخة الخطية المنشورين في أول هذا الكتاب.

وقد عارضت بعض ما في المخطوطة بما في بعض كتب ابن الجوزي الأخرى ، وبما في كتب مؤلفين بحثوا في مثل مواضيعها وبما في كتب الدين المختلفة التي عرضت لبيت المقدس وأمر بنائه وبما في كتب التفسير والحديث وشرحت بعض الأمور المتعلقة برجال السند المذكورين ومكانتهم وتاريخهم.

وأشعر أني بغنى عن الإشارة إلى المواضع التي طرقها ابن الجوزي في كتابه هذا «فضائل القدس» فقد كفاني هو نفسه مؤونة ذلك حين ذكرها

__________________

(٣) المقتطف ج ٨٧ سنة ١٩٣٥ ص ٥١٨.

١٠

مفصّلة في أول الكتاب فلا حاجة لتكرارها. ولكني لا أرى بدّا من الملاحظة أن القدس وقد كانت القبلة الأولى في الاسلام وكان مسجدها المسجد الذي تمّ الاسراء اليه وقد شهد فتحها الخليفة عمر ابن الخطاب صار لها فضل على كثير من المدن وأصبحت محط أنظار العالم الاسلامي. وقد حاول الامويون منذ عهد معاوية ابن أبي سفيان أن يؤكدوا على فضلها وأهميتها وقد روي عنه «أنه قام على منبر بيت المقدس يقول : ما بين حائطي هذا المسجد أحب إلى الله تعالى من سائر الأرضين» (٤). وبنى الخليفة عبد الملك قبة الصخرة في بيت المقدس تثبيتا لأهميته الدينية. وللشاعر الفرزدق في فائيته المشهورة التي مطلعها :

عزفت بأعشاش وما كدت تعزف

وانكرت من حدراء ما كنت تعرف

قوله :

وبيتان بيت الله نحن ولاته

وبيت بأعلى إيلياء مشرّف

وعندما انتزع مدينة القدس الصليبيون من العرب ثم أعادها صلاح الدين أخذ المؤلفون يكثرون من وضع الكتب في فضلها ومكانتها وفضل غيرها من الأماكن المقدسة في الإسلام. ولما كان ابن الجوزي قد بلغ في الربع الأخير من القرن السادس للهجرة مكانة كبرى في العلم والفضل والمعرفة سأله أحد المقدسيين أن يذكر له فضائل بيت المقدس فكتب كتابه هذا وجعل أكثره مسندا كما لو كان يكتب كتابا يروي فيه الحديث النبوي وقد رجع بالفعل في بعض أخباره مسلسلة حتى تصل إلى النبي وفي بعضها الآخر حتى تصل إلى الامام علي وفي البعض إلى أبي هريرة أو إلى سعيد ابن المسيب أو إلى كعب الاحبار أو إلى ابن عباس. وقد نقلها عن شيوخه وعن بعض

__________________

(٤) ابن الفركاح ٧٤.

١١

الكتب. وكان شيخه أبو المعمر المبارك ابن أحمد الانصاري (٥) صاحب الأثر الاكبر في هذه الاخبار فقد روى عنه في أكثر من عشرين موضعا. يليه خاله الشيخ محمد ابن ناصر (٦) ثم الشيخ هبة الله ابن محمد ابن الحصين (٧). ويكتفي في بعض المواضع بالقول : وقال علماء السير أو أهل السير أو قال الزهري دون عنعنة أو إسناد وقد يقع البخاري أحيانا في سلسلة الإسناد إذا كان حديثا نبويا كما أنه يهمل الرواة مطلقا في بعض الاحيان كما فعل في اخباره عن فتح عمر لبيت المقدس وعن أخذ الفرنجة لمدينة القدس.

وكتب بعد ابن الجوزي عن فضائل القدس كثيرون منهم بهاء الدين ابن عساكر في كتابه «الجامع المستقصى في فضائل المسجد الأقصى» ، ومنهم أمين الدين ابن هبة الله الشافعي وله «كتاب الأنس في فضائل القدس». ومنهم برهان الدين الفزاري المعروف بابن الفركاح وله كتاب «باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس» ، ومنهم شهاب الدين أحمد ابن

__________________

(٥) كان من القرّاء والحفاظ وله معجم في مجلد ، ابن العماد الحنبلي ٤ : ١٥٤ والذهبي ٤٩٤ وقد توفي ٥٤٩ ه‍.

(٦) توفي سنة ٥٥٠ ه‍. وهو ابو الفضل محمد ابن ناصر ابن محمد ابن علي ابن ناصر السلامي الداري خال ابن الجوزي. كان شافعيا من اصل فارسي ثم تحول الى المذهب الحنبلي وكان في عصره من اشهر محدثي بغداد وقد درس ابن الجوزي الحديث عليه ثلاثين سنة ٥٢١ ـ ٥٥٠ ه‍ وزعم انه لم يستفد من احد من شيوخه كما استفاد منه. سبط ابن الجوزي ٨ : ١٣٨ ، الذهبي (تذكرة) ٤ : ٨١ ، وقال عنه ابن العماد الحنبلي ٤ : ١٥٥ محدث العراق ... كان ثقة ثبتا حسن الطريقة متدينا فقيرا متعففا نظيفا نزها. وقال عنه ابن رجب (الذيل ١ : ٢٢٥ كان في اول الامر اميل الى الادب وكان ابن الجواليقي [من شيوخ ابن الجوزي ايضا] اميل الى الحديث وكان الناس يقولون يخرج ابن ناصر لغوي بغداد وابن الجواليقي محدثها فانعكس الامر فصار ابن ناصر محدث بغداد وابن الجواليقي لغويها.

(٧) احد محدثي بغداد ولد سنة ٤٣٢ وتوفي سنة ٥٢٥ وقال عنه ابن العماد الحنبلي كان دينا صحيح السماع (٤ : ٧٧) ونعته بمسند العراق وكان من تلامذته الوزير ابن هبيرة وابن عساكر. وكان عمر ابن الجوزي خمس عشرة سنة حين توفي ابن الحصين ويظهر انه نقل عنه بعض الحديث قبل وفاته .. راجع سبط ابن الجوزي ٨ : ٢١٣ وانظر الذهبي (تذكرة) ٨ : ٢١٣.

١٢

محمد المقدسي وله كتاب «مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام» وكذلك كتب الحسين ابن أحمد الحسيني كتاب «الروض المغرس في فضائل البيت المقدس» وكتب مجير الدين عبد الرحمان العليمي الحنبلي «كتاب الانس الجليل بتاريخ القدس والخليل» وكتب آخرون قبلهم وبعدهم كتبا أخرى وبعضهم ينقل عن البعض الآخر ولا يرى في ذلك بأسا إذ كانت جلّ غايتهم ابراز أهميّة هذا البلد المقدس. وكان من الذين أخذوا عن كتاب ابن الجوزي هذا الجغرافي الشهير ابن فضل الله العمري فقد نقل عنه فقرات بالحرف الواحد كما سيجيء معنا في هوامش النص. وكذلك فعل السيوطي.

ويكفي أن نقرأ في الأخبار التي تناقلوها ما ذكره مثلا ابن الفقيه ـ قبل ابن الجوزي لندرك تلك الأهمية قال : تزف الكعبة يوم القيامة إلى بيت المقدس ويقال لها مرحبا بالزائر والمزور ، وتزف مساجد الله عز وجل إلى بيت المقدس ... وينفخ في الصور يوم القيامة بها ، ويحشر الله عز وجل الخلائق اليها. وتزف الجنة عند بيت المقدس ... وباب السماء مفتوح على بيت المقدس» (٨). أو ما ذكر في كتاب العقد لابن عبد ربه قبل ابن الجوزي أيضا ... ينصب الصراط المستقيم ببيت المقدس ، ويؤتى بجهنم ـ نعوذ بالله منها ـ إلى بيت المقدس ، وتزف الجنة يوم القيامة زفا مثل العروس إلى بيت المقدس ، وتزف الكعبة بحاجها إلى بيت المقدس ، ويقال لها مرحبا مرحبا بالزائرة والمزورة ، ويزف الحجر إلى بيت المقدس (٩) ... أو ما ورد في الأحاديث التي رويت عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : «الانهار كلها والسحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» (١٠).

__________________

(٨) ابن الفقيه ٩٤.

(٩) ابن عبد ربه ٦ : ٢٦٥.

(١٠) ابن الجوزي ص ٥٧ من مخطوطة فضائل القدس.

١٣

ومع أن كثيرا من هذه الأحاديث والأخبار لا تثبت أمام النقد العلمي وقد نقل بعضها عن أشخاص مثل كعب الاحبار وأبي هريرة ولهذا فقد لا يقبلها العلماء النقاد من المحدّثين فان مجرد تناقلها على ألسنة الرواة وتدوينها في أمثال هذه الكتب التي ذكرنا كان له وقع وتأثير كبير في النفوس. وكان للخيال فيما بعد دوره في هذه الروايات فذكر ابن الفركاح مثلا عن أبي ادريس الخولاني أنه قال : «يحوّل الله تعالى صخرة بيت المقدس يوم القيامة مرجانة بيضاء بعرض السماء والأرض ثم يضع عليها عرشه ويضع ميزانه ويقضي بين عباده ويصيرون منها إلى الجنة والنار» (١١).

وكان ابن الجوزي لا يزال حيا حين استرد المسلمون القدس من أيدي الصليبيين فأورد الخبر بعد خبر استيلاء الصليبيين عليها واستغاثة المسلمين بأهل بغداد. ومن الغريب أنه لم يطل في أخباره لا هنا ولا هناك واكتفى بالقول عن الاسترداد : «وما زالت بيت المقدس مع الكفار إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة فقصده صلاح الدين النائب هناك عن أمير المؤمنين الناصر لدين الله بعد أن ملك ما حوله ، فوصل الخبر الينا في سابع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة أن يوسف ابن أيوب الملقب بصلاح الدين فتح بيت المقدس وخطب فيه بنفسه وصلىّ فيه» (١٢). ولم يزد على ذلك ، وكم كنا نود لو زاد وتوسع لأنه معاصر لتلك الاحداث. ومن يدري فلعل غمرة الفرح حالت دون ذلك.

ويظهر من الاخبار أن ابن الجوزي لم يزر بيت المقدس في حياته ولو كان فعل لكان أطال في وصفه ولكان وصفه أدق وأوفى. وقد عرض لفضائل القدس ومكانتها ولم يذكر شيئا يفيد أنه رآها وسنرى من

__________________

(١١) ابن الفركاح ٦٤.

(١٢) انظر ص ٤٩ من المخطوطة.

١٤

أخباره عند بحثنا في حياته أن رحلاته اقتصرت على الحجاز وبعض مدن العراق.

وأودّ أن أشير في الختام إلى أني حاولت التعريف في الهامش ببعض الشخصيات التي وردت اسماؤها في الكتاب وببعض الرجال غير المشهورين الذين نقل عنهم اخباره ، واهملت التعريف بالمشهورين. مع الاعتراف بأنه يصعب في كثير من الحالات التفريق بين بعض المشهورين وغير المشهورين. وكذلك قابلت بين بعض النصوص في هذا الكتاب وبين ما في كتب أخرى مختلفة ممّا يمكن أن تكون أصلا لهذه النصوص في فضائل الاماكن المقدسة واخبارها. وعلقت بعض التعليقات هنا وهناك. وذكرت المآخذ التي رجعت اليها في حواشي كل صفحة بشكل موجز اقتصر في أكثر الاحيان على الاسم المشهور وأفردت في آخر الكتاب جدولا مفصلا لأصحاب المآخذ وكتبهم وسنة طبعها قبالة كل اسم موجز ورد في الهوامش.

واني آمل أن أكون وفقت في ذلك والا فحسبي أني بذلت ما أمكنني من جهد وارضيت ضميري في ما حاولت من عمل.

  بعد ان تم طبع الكتاب وصلت الي صوره مخطوطة برلين المسوبة لابن الجوزي كما أشرت في هذه المقدمة ، وقد تبين لي ان المخطوطة هذه ليست مخطوطة فضائل القدس ، ولا هي لابن الجوزي ، وانما في كتاب باعث النفوس الى زيارة القدس المحروس تأليف ابراهيم ابن عبدالرحمن الانصاري الفزاري المعروف بان الفر كاح نسخ سنة ١١٣٢ ه. وقد طبع ، وهو من الاصول التي رجعنا اليها عند تحقيق فضائل القدس. ويظهر ان الصفحة التي كان عليها اسم المؤلف سقطت فظن احد المتأخرين ان الكتاب لابن الجوزي فاضاف صفحة بدلها نسب الكتاب فيها خطأ لابن الجوزي ، ونقل برو كامن ما على الورقة الاول دون ان بدرس متن الكتاب والنصوص التي تؤيد انه كتاب باعث النفوس ، وقد وردت الي مع المخطوطة نشرة تفيد ان آلورت قد نبه الى خطأ برو كامن.

١٥
١٦

حياة ابن الجوزي

اسمه ونسبه :

إذا كان هناك بين رجال القرن السادس للهجرة من يستطيعون أن يرجعوا بأنسابهم في سلسلة متصلة الحلقات إلى أحد من الصحابة ، فعبد الرحمان ابن الجوزي هو فيما يزعم المؤرخون واحد من هؤلاء ، وقد ورد نسبه متسلسلا بحلقات من عشرين جيلا متصلا بالخليفة الراشد أبي بكر الصدّيق. فهو : عبد الرحمان ابن علي ابن محمد ابن علي ابن عبيد الله ابن عبد الله ابن حمادي ابن أحمد ابن محمد ابن جعفر الجوزي ابن عبد الله ابن القاسم ابن النضر ابن القاسم ابن محمد ابن عبد الله ابن عبد الرحمان ابن القاسم ابن محمد ابن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي (١).

وكنيته أبو الفرج ، ولقبه جمال الدين ، وجده الاكبر جعفر الجوزي منسوب فيما يقول سبطه إلى محلة بالبصرة تسمىّ محلّة الجوزة ، أو إلى فرضة فيها يقال لها جوزة (٢) ، بينما يزعم ابن خلكان أن جوزة فرضة على شاطىء

__________________

(١) ابن رجب (الذيل) ١ : ٣٩٩ وابن الفرات ، المجلد ٤ ج ٢ ، ص ٢١٠ وسبط ابن الجوزي ٨ : ٣١٠ وابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٢٩ ووردت سلسلة نسبه في مصادر اخرى وفي موضع اخر من مرآة الزمان مختلفة عما هي ها هنا حيث سقطت بعض الاسماء.

(٢) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٠٩ ، ٣١٠ وابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٣٠.

١٧

دجلة قريبا من بغداد (٣).

ويتفرد الذهبي بقوله : وعرف جدهم بالجوزي بجوزة كانت في داره بواسط لم يكن في واسط جوزة سواها (٤).

مولده

ولد ابن الجوزي كما ذكر سبطه بدرب حبيب في بغداد سنة ٥١٠ ه‍. تقريبا (٥). زعم أنه سأل جده عن تاريخ مولده فقال : ما أحققه. ولكن في سنة عشرة [كذا] وخمسمئة تقريبا (٦). ويظهر أن الذين أرّخوا ولادته بعد ذلك لم يتفقوا على تحديد سنتها ، فقد جارى ابن العماد الحنبلي سبط ابن الجوزي ، ولكنه قال سنة ٥١٠ أو قبلها (٧). بينما جعلها ابن خلكان سنة ٥٠٨ بالتقريب ، ثم قال : وقيل عشر وخمسمئة (٨). ونقل ابن الفرات عن ابن خلكان ثم زاد : وقال اليغموري ويقال سنة عشر ويقال غير ذلك (٩).

كذلك نقل ابن الساعي رواية السبط وقال : سئل عن مولده فلم يحققه وقال هو في سنة عشر وخمسمائة أو نحوها (١٠).

ونرى أن رواية السبط أقرب إلى الحقيقة ، ذلك لأنه أقرب الناس إليه ،

__________________

(٣) ابن خلكان ١ : ٥٠٠.

(٤) الذهبي «تذكرة» ٤ : ١٣١.

(٥) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٠٩ ، ٣١٢ قال : «وفيها ولد جدي رحمه الله على وجه الاستنباط لا على وجه التحقيق».

(٦) سبط ابن الجوزي ٨ ، ٣١٢ قال : «وسألت عن مولده غير مرة وفي كلها يقول : ما أحققه ، ولكن يكون تقريبا في سنة عشرة وخمسماية تقريبا».

(٧) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٢٩ وكذلك فعل الذهبي «تذكرة» ٤ : ١٣١.

(٨) ابن خلكان ١ : ٥٠٠.

(٩) ابن الفرات المجلد ٤ ج ٢ ص ٢١٩.

(١٠) ابن الساعي ٩ : ٦٧.

١٨

وأقدم من ذكر مولده. وقد أشار فوق ذلك في مواضع أخرى من كتابه إلى سني عمر جده حين تيتم ، وانها كانت ثلاثا (١١). وكان قد ذكر في في موضع آخر أن والد جده توفي سنة ٥١٤ ه‍. فاصبح من المحتم أن تكون ولادة ابن الجوزي في آخر سنة ٥١٠ ه‍. إن لم يكن في أوائل سنة ٥١١. لا سيما وأن هناك من يذكر أنه وجد بخط ابن الجوزي تصنيف له في الوعظ ذكر فيه أنه صنفه سنة ٥٢٨ ه‍. وله من العمر سبع عشرة سنة (١٢).

كما أن ابن رجب أشار إلى بعض الروايات التي ذكرت مولده ثم قال : وهذا يؤذن أن مولده بعد العشرة (١٣).

بغداد في عهده

وكانت بغداد في ذلك العهد قد فقدت نفوذها السياسي في العالم الاسلامي ، وأمست مركزا لخلافة دينية لبني العباس ليس أكثر ، يسيطر عليها السلاطين من السلاجقة الاتراك. وقد زارها ابن جبير في ذلك العهد فقال : هذه المدينة العتيقة ، وان لم تزل حاضرة الخلافة العباسية ، ومثابة الدعوة الامامية القرشية الهاشمية. قد ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا شهير اسمها (١٤). وقد تعرضت في عهد ابن الجوزي لمحن عظيمة ذكر بعضها سبطه في مرآة

__________________

(١١) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣١٠ وانظر ايضا ابن خلكان ، بيروت تحقيق احسان عباس ، ١٩٦٨ ج ٣ : ١٤٢.

(١٢) ابن الجوزي ، «مناقب الامام». ص ١.

(١٣) ابن رجب (الذيل) ١ : ٤٠٠ بل ان هناك اشارة في كتابه المنتظم تلمح الى انه ولد بعد سنة ٥١٠ او في اخرها على الاقل حيث يقول عن الزلزال الذي اصاب بغداد سنة ٥٢٩ ثم ارتجت يوم الثلاثاء النصف من الليل حتى تفرقعت السقوف وانتثرت الحيطان وكنت في ذلك الزمان صبيا وكان نومي ثقيلا لا انتبه الا بعد الانتباه الكثير. ج ١٠ : ٤٦ ـ ٤٧.

(١٤) ابن جبير ٩٦.

١٩

الزمان بتسلسلها الزمني ، وذكر بعضها الآخر ابن العماد الحنبلي. فقد صادفت سنة ولادته حريقها الشهير سنة ٥١٠ ه‍ (١٥). ثم حدث في سنة رضاعته أي سنة ٥١١ أن أصابها زلزال عظيم يوم عرفة ، كانت الحيطان بسببه تذهب وتجيء (١٦). وفي سنة ٥١٥ احترقت دار السلطنة كلها ببغداد وذهب ما قيمته ألف ألف دينار (١٧). وفي سنة ٥١٧ كانت فتنة دبيس الأسدي وطغيانه وتمرده والقتال بينه وبين المسترشد (١٨). ثم وقع زلزال آخر سنة ٥٣٨ (١٩). وهاجت في السنة نفسها فتنة كبيرة بين الحنابلة والأشعرية (٢٠). وبعد ذلك بست سنوات أي في سنة ٥٤٤ حدثت زلزلة عظيمة ، انهدمت بسببها أماكن كثيرة ، وهلك تحت الأبنية خلق كثير (٢١). ثم كان الطوفان العظيم سنة ٥٥٤ ، فغرق به قسم كبير من بغداد تحت الماء ، وغرقت مقبرة الامام أحمد ابن حنبل ، وهدمت المنازل في قسم كبير من أحيائها ، ومنها الحي الذي كانت فيه دار ابن الجوزي ، وغرقت كتبه (٢٢). ثم كان عام ٥٧٤ عام الوبا والجوع ، زعم سبط ابن الجوزي أن الناس أكلوا أولادهم ، وماتوا على الطريق (٢٣). وكانت المحنة فوق هذا على من أسماهم ابن العماد بالرافضة قال : فأحرقوا كتبهم ، وانقمعوا حتى صاروا في ذلة اليهود ، وهذا شيء لم يتهيأ ببغداد من نحو مئتين وخمسين سنة (٢٤).

__________________

(١٥) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٠٩.

(١٦) سبط ابن الجوزي ٨ : ٣٠٩ وابن العماد الحنبلي ٤ : ٣٠.

(١٧) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٤٧.

(١٨) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٥٣.

(١٩) سبط ابن الجوزي ٨ : ١١١.

(٢٠) ابن العماد الحنبلي ٤ : ١١٨.

(٢١) سبط ابن الجوزي ٤ : ١١٧.

(٢٢) سبط ابن الجوزي ٨ : ١٤٣ وابن العماد الحنبلي ٤ : ١٦٩ وقال عن المقبرة وكانت آية عجيبة.

(٢٣) سبط ابن الجوزي ٨ : ٢٢٤.

(٢٤) ابن العماد الحنبلي ٤ : ٢٤٦.

٢٠