القرآن في الاسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

القرآن في الاسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المترجم: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: سازمان تبليغات اسلامى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٨

والرياضية والفلسفية والادبية وسائر العلوم التي يمكن ان يصل اليها الفكر الإنساني ، يحث على تعلمها لنفع الإنسانية واسعاد القوافل البشرية.

نعم ، يدعو القرآن الى هذه العلوم شريطة ان تكون سبيلاً لمعرفة الحق والحقيقة ومرآة لمعرفة الكون التي في مقدمتها معرفة الله تعالى.

واما العلم الذي يشغل الإنسان عن الحق والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل ، قال تعالى : ( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا هم عن الاخرة هم غافلون ) (١).

وقال : ( افرأيت من اتخذ الهه هواه واضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ) (٢).

القرآن الكريم بترغيبه الى تعلم مختلف العلوم ، يعلم دورة كاملة من المعارف الالهية وكليات الاخلاق والفقه الإسلامي.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الروم : ٧.

(٢) سورة الجاثية : ٢٣.

١٤١

العلوم الخاصة بالقرآن :

يتدارس المسلمون علوما موضوعها القرآن الكريم نفسه. ويرجع تاريخ ظهور هذه العلوم الى اوائل عصر النزول ، وقد نضجت مسائلها وبلغت المرحلة المطلوبة لطول البحث فيها واصبحت بحيث وضع لها المحققون الرسائل والكتب الكثيرة (١).

وهذه العلوم بصورة عامة تنقسم الى فئتين : ما يبحث فيه عن الالفاظ ، وما يبحث فيه عن المعاني.

العلوم الباحثة في الفاظ القرآن هي فنون التجويد والقراءة : وهي :

فن في كيفية تلفظ الحروف والعوارض التي تطرأها عند الافراد والتركيب ، كالادغام والابدال واحكام الوقف والابتداء ونظائرها.

ــــــــــــــــــ

(١) وضعنا فهرساً عاماً باسم « معجم المؤلفات القرآنية » للكتب والرسائل التي دونت حول القرآن وعلومه على ترتيب العلوم ، يعرف من خلاله الجهد الكبير المبذول حول هذا الكتاب السماوي الذي عني به من شتى الجهات عناية فائقة لم تنلها سائر كتب الاديان ، المترجم.

١٤٢

وفن في ضبط وتوجيه القراءات السبع والقراءات الثلاث الاخرى وقراءات الصحابة وشواذ القراءات الاخرى.

وفن في عدد السور والآيات والكلمات والحروف ، وضبط اعداد جميع السور والآيات والكلمات والحروف.

وفن في خصوص ضبط رسم القرآن وما فيه من الاختلاف مع رسم الخط المعروف المعمول به.

واما العلوم التي تبحث في معاني القرآن فهي :

فن يبحث عن كليات المعاني كالتنزيل والتأويل والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

وفن يبحث في آيات الاحكام ، وهو في الحقيقة فرع من الابحاث الفقهية.

وفن يبحث عن معاني القرآن ، وهو المعروف بـ « التفسير ».

وقد الف علماء الإسلام والمحققين في كل هاتيك العلوم كتبا ورسائل كثيرة.

العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها :

لا شك ان العلوم الدينية التي يتداولها المسلمون اليوم

١٤٣

انما يرجع تاريخ نشأتها الى عصر البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم.

لقد تداول الصحابة والتابعون هذه العلوم في القرن الاول الهجري بصورة غير منظمة بسبب المنع الذي واجه تدوين العلم بكل فروعه ، وكانت طريقة التلقي والمدارسة هي الحفظ والاخذ الشفوي ، الا مدونات قليلة جداً في الفقه والتفسير والحديث.

وفي اوائل القرن الثاني الهجري عندما ارتفع المنع (١) بدأ المسلمون بتدوين الحديث اولا ، ثم وضعوا المؤلفات في بقية فروع العلم واوجدوا الانظمة الخاصة للتأليف والتصنيف ، فكانت نتيجة المساعي : فن الحديث ، وعلم الرجال والدراية ، وفن اصول الفقه ، وعلم الحديث ، وعلم الكلام ، وغيرها.

وحتى الفلسفة المنقولة من اليونانية الى العربية في بداية امرها والتي بقيت على شكلها اليوناني لفترة غير قصيرة ، فان البيئة اثرت فيها مادة وصورة ، وتحولت من شكلها البدائي الى شكل يغايره كل المغايرة. واحسن شاهد لذلك المسائل الفلسفية المتداولة بين المسلمين اليوم ، فانك لا ترى مسألة فلسفية في المعارف الالهية الا ويمكن ان تجد متنها وبراهينها

ــــــــــــــــــ

(١) ارتفع المنع باجماع المؤرخين على يد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز بين سنتي ٩٩ ـ ١٠١.

١٤٤

وادلتها المقامة لها في طيات الآيات القرآنية والاحاديث المروية.

ويمكن اعادة هذا القول في العلوم الادبية ايضا ، فان امثال الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع واللغة وفقهها والاشتقاق بالرغم من انها تشمل اللغة العربية بصورة عامة ، الا ان الذي دفع الناس الى مدارستها والبحث فيها والفحص عنها انما هو كلام الله المجيد الذي له الحلاوة التامة وحسن الاسلوب في التعبير والاعجاز في الفصاحة والبلاغة ، فانجذبت اليه القلوب وكان السبب في السير وراء معرفة خصائصه والفحص عن الشواهد والنظائر له ومعرفة وجوه الفصاحة والبلاغة فيه والاسرار الكامنة تحت جمله والفاظه ، وبالتالي لهذه العوامل وجدت العلوم اللسانية التي ذكرناها.

كان ابن عباس من كبار مفسري الصحابة ، وكان يستشهد في التفسير بالشعر العربي ، وكان يأمر بجمع الشعر وحفظه ويقول : الشعر ديوان العرب.

بمثل هذه العناية والاهتمام ضبط النثر العربي وشعره ، وبلغت الحالة الى ان العالم الشيعي خليل بن احمد الفراهيدي البصري (١) الف في اللغة كتاب العين ووضع علم العروض

ــــــــــــــــــ

(١) الخليل بن احمد ، ابو عبد الرحمن الفراهيدي ، من ائمة اللغة والادب ، وهو واضع علم العروض واستاذ سيبويه النحوي ،

١٤٥

لمعرفة الاوزان الشعرية. وهكذا وضع العلماء الاخرون في هذين العلمين ايضا المؤلفات القيمة.

وعلم التاريخ ايضا من مشتقات علم الحديث ، ففي اوله كان مجموعة من قصص الانبياء والامم ، وبدأ من سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم اضيف اليه تاريخ صدر الإسلام ، وفيما بعد اصبح بصورة تاريخ عام للعالم ، وكتب المؤرخون امثال الطبري والمسعودي واليعقوبي والواقدي ، مؤلفاتهم التاريخية.

ويمكن القول بصراحة بأن القرآن هو الدافع الاول لاشتغال المسلمين بالعلوم العقلية من طبيعية ورياضية بشكل النقل والترجمة من اللغات الاخرى في البداية ، ثم استقلوا في الاشتغال بها والابتكار في موضوعاتها والتفريغ في مسائلها والتحقيق في مباحثها الهامة.

ترجمت العلوم بتشجيع من الخلافة في ذلك اليوم من اليونانية والسريانية والهندية الى العربية ، ثم وضعت تلك العلوم المترجمة في متناول ايدي المسلمين بمختلف جالياتهم ، واخذت دائرة التحقيق العلمي تتسع حتى اصبحت بشكل عميق ودقيق جداً.

ــــــــــــــــــ

وكتابه « العين » مشهور في اللغة ، مات بالبصرة سنة ١٧٠ ( الاعلام للزركلي ).

١٤٦

ان مدنية الإسلام التي شملت قطعة عظيمة من المعمورة بعد رحلة الرسول ، وكان لها الحكم المطلق ، والتي امتدت حتى هذا اليوم الذي يعيش فيه اكثر من ستمائة مليون مسلم ، هذه المدنية هي اثر واحد من آثار القرآن الكريم ( مع العلم اننا نحن الشيعة نعارض دائماً سياسة الخلفاء والملوك حيث تساهلوا في نشر التعاليم الدينية وتطبيق قوانين الإسلام تطبيقا كاملا ، مع هذا نعتقد ان ضوء الإسلام المنتشر بهذا المقدار في ارجاء المعمورة انما هو اشراقة من اشراقات القرآن العظيم ).

من الواضح البديهي ان هذا التحول العظيم الذي هو حلقة مهمة من حلقات حوادث العالم ، سيؤثر تأثيراً مباشراً في الحلقات المستقبلة. ومن هنا يأتي الاعتقاد بأن احدى علل التحول العلمي الهائل الذي نشاهده اليوم هي من تأثير القرآن الكريم.

ان تجلية هذا الموضوع بشكل اوضح واعمق يحتاج الى دراسة واسعة ، ولكن طريقة الاختصار التي التزمنا بها في هذا الكتاب لا تعطينا الفرصة الكاملة لهذه الدراسة .. فإلى الكتب المعنية بذلك ...

١٤٧
١٤٨

( الفصل الخامس )

نزول القرآن وانتشاره

* كيف نزلت الآيات؟

* حول اسباب النزول

* ترتيب نزول السور

* جمع القرآن في مصحف

* اهتمام المسلمين بالقرآن

* القرآن مصون من التحريف

* قراءة القرآن وحفظه وروايته

* طبقات القراء

* عدد الآيات

* اسماء السور

* خط القرآن واعرابه

١٤٩
١٥٠

كيف نزلت الآيات؟

لم تنزل سور القرآن واياته دفعة واحدة. وبالاضافة الى اتضاح الموضوع من التاريخ الذي يشهد بالنزول طيلة ثلاث وعشرين سنة ، فان الآيات نفسها شاهدة على ذلك ، قال تعالى : ( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً ) (١).

وفي القرآن الناسخ والمنسوخ بلا شك ، وفيه ايضا ايات تدل على قصص واحداث لا يمكن جمعها في زمن واحد لنذهب الى وحدة زمن النزول.

والآيات والسور القرآنية لم تنزل قطعاً على الترتيب الذي نقرآه في القرآن اليوم ، بأن تكون اولاً سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ثم سورة النساء وهكذا .. لانه بالاضافة الى الشواهد التاريخية على ذلك فان مضامين الآيات نفسها تشهد عليه ، لان بعض السور والآيات لها مضامين تناسب اوائل زمن البعثة وهي واقعة في اواخر القرآن كسورة العلق والنون ، وبعضها تناسب ما بعد الهجرة واواخر عصر الرسول وهي واقعة في اواخر القرآن كسورة البقرة وآل عمران والنساء والانفال والتوبة.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : ١٠٦.

١٥١

ان اختلاف مضامين السور والآيات وارتباطها الكامل بالاحداث والحوادث التي وقعت طيلة ايام الدعوة ، يفرض علينا القول بأن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة عصر الدعوة النبوية.

فمثلاً الآيات التي تدعو المشركين الى الإسلام ونبذ عبادة الاوثان تناسب مع عصر قبل هجرة الرسول من مكة حيث ابتلي الرسول بالوثنيين ، واما ايات القتال وآيات الاحكام فقد نزلت في المدينة المنورة حيث اخذ الإسلام ينتشر واصبحت المدينة تشكل حكومة اسلامية كبرى.

بعد البحث السابق :

بناءً على البحث السابق تنقسم الآيات والسور القرآنية الى اقسام حسب اختلاف محل النزول وزمانه واسبابه وشروطه ، وهي :

١ ـ بعض السور والآيات مكية وبعضها مدنية ، فان ما نزل قبل هجرة الرسول من مكة يعتبر مكياً ، وهو القسم الاكبر من السور وعلى الاخص السور القصيرة ، وما نزل بعد هجرة الرسول يسمى مدنياً ولو كان نزولها خارج المدينة وحتى لو كان في مكة نفسها.

٢ ـ بعض السور والآيات نزلت في السفر وبعضها في

١٥٢

الحضر ، وهكذا تنقسم الى ما نزل بالليل او النهار ، او ما نزل في الحرب او في السلم ، او ما نزل في الارض او في السماء ، او ما نزل بين الناس او في حال الانفراد. وسنبحث عن فائدة معرفة هذه الاقسام في فصل « اسباب النزول ».

٣ ـ نزلت بعض السور مكرراً كما يقال في سورة الفاتحة حيث نزلت في مكة والمدينة ، كما ان بعض الآيات نزلت مكرراً كآية ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) حيث تكررت في سورة الرحمن ثلاثون مرة ، وآية ( ان في ذلك لاية وما كان اكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم ) حيث كررت في سورة الشعراء ثمان مرات. وقد تكررت بعض الآيات في اكثر من سورة واحدة كآية ( ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين ) حيث كررت في ست سور مختلفة.

وهكذا نجد جملة خاصة هي آية كاملة في مكان وجزء آية في مكان آخر ، نحو ( الله لا اله الا هو الحي القيوم ) فجعلت في اول سورة آل عمران آية كاملة ، وفي سورة البقرة جزء من آية الكرسي.

ولكن مع هذا كله اكثر السور والآيات نزلت مرة واحدة فقط.

وعلة هذا الاختلاف هي اختلاف ما يقتضيه البيان ، ففي موضع يقتضي تكرار الجملة للتنبيه مثلا ، وفي موضع لا يقتضي ذلك.

١٥٣

ويشبه هذا الاختلاف الاختلاف الموجود بين السور والآيات في الطول والقصر ، فإلى جانب سورة الكوثر اقصر السور نجد سورة البقرة اطولها ، كما نرى آية ( مدهامتان ) اقصر آية الى جانب آية الدين ـ وهي الآية ٢٨٢ من سورة البقرة ـ اطول آية في القرآن.

كل هذه الاختلافات لمقتضيات بيانية ، وربما نجدها في آيتين متصلتين ايضا ، كالايتين ٢٠ و ٢١ من سورة المدثر مثلا ، فان الاولى جملة واحدة والثانية اكثر من خمس عشرة جملة.

ومن وجوه الاختلاف ايضا ما نجده عند المقارنة بين السور والآيات في الايجاز والاطناب ، كما يتبين ذلك عند مقابلة امثال سورة الفجر وسورة الليل بأمثال سورة البقرة والمائدة ، والغالب في السور المكية الايجاز كما ان الغالب في السور المدنية الاطناب.

ومن هذا القبيل ما يقال بأن اول ما نزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو سورة العلق او خمس ايات الاولى منها بالقياس الى آخر ما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو قوله تعالى : ( واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) (١).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ٢٨١.

١٥٤

أسباب النزول :

لقد قلنا ان كثيراً من السور والآيات ترتبط بالحوادث والاحداث التي وقعت ايام الدعوة كسورة البقرة والحشر والعاديات (١) ، او نزلت لحاجات ضرورية من الاحكام والقوانين الإسلامية كسورة النساء والانفال والطلاق واشباهها (٢).

هذه القضايا التي سببت نزول السور او الآية هي المسماة بــ « اسباب النزول » ، ومعرفتها تساعد الى حد كبير في معرفة الآية المباركة وما في معرفة الآية المباركة وما فيها من المعاني والاسرار.

ومن هنا اهتم جماعة من محدثي الصحابة والتابعين

ــــــــــــــــــ

(١) نزلت سورة البقرة في السنة الاولى من الهجرة ، وكثير من آياتها في تقريع اليهود الذين كانوا يقفون دون التقدم الإسلامي ، وبقية آياتها في تشريع بعض الاحكام كتغير القبلة وتشريع الصوم والحج وغيرها. وسورة الحشر نزلت في خصوص جلاء يهود بني النضير ، وسورة العاديات نزلت في خصوص اعراب وادي يابس او غيرهم.

(٢) سورة النساء تتحدث عن احكام الزواج وارث المرأة ، وسورة الانفال تتحدث عن غنائم الحرب والاسراء ، وسورة الطلاق تتحدث عن خصوص احكام الطلاق.

١٥٥

بأحاديث اسباب النزول ، فنقلوا احاديث كثيرة من هذا القبيل.

هذه الاحاديث من طرق اهل السنة كثيرة جدا ربما تبلغ عدة الاف حديثا ، واما من طريق الشيعة فهي قليلة وربما لا تبلغ الا عدة مئات. ويلاحظ ان كل هذه الاحاديث ليست مسندة وصحيحة ، بل فيها المرسل الضعيف ايضا ، والنظر والتأمل فيها يدعو الإنسان الى الشك فيها ، لانها :

اولاً ـ سياق كثير منها يدل على ان الراوي لا ينقل السبب من طريق المشافهة والتحمل والحفظ ، بل ينقل قصة ما ثم يحمل الآيات عليها حملاً ويربطها ربطاً ، وفي الحقيقة سبب النزول الذي يذكره انما هو سبب اجتهادي نظري وليس بسبب شاهده بالعيان وضبطه بحدوده الدقيقة.

والشاهد على ما نقول التناقض الكثير في هذه الاحاديث ، ونعني به ان الآية الواحدة يذكر فيها عدة احاديث في اسباب النزول يناقض بعضها بعضا ولا يمكن جمعها بشكل من الاشكال ، حتى في بعض الآيات يذكر عن شخص واحد ـ كابن عباس مثلاً ـ اسباباً للنزول لا يمكن الجمع بينها.

ان ورود هذه الاحاديث المتناقضة المتهافتة لا يمكن حمله الا على احد محملين : اما ان نقول ان اسباب النزول هذه نظرية اجتهادية وليست بنقلية وكان كل محدث يحاول ان

١٥٦

يربط بين قصة ما والآية ربطاً لا حقيقة له في الخارج ، او نقول بأن هذه الاحاديث كلها او جلها مدسوسة ليس لها نصيب من الواقع.

مع ورود هذه الاحتمالات تسقط احاديث أسباب النزول عن الاعتبار ، ولهذا لا يمكن الاطمئنان حتى على الاحاديث التي اسانيدها صحيحة ، لان صحة السند يرفع الكذب عن رجال السند او عدم تضعيفهم ، ولكن احتمال الدس او اعمال النظر الخاص يبقى بحاله.

وثانياً ـ ثبت تاريخياً ان الخلافة كانت تمنع عن كتابة الحديث ، وكلما كانوا يعثرون على ورقة او لوحة كتب فيها الحديث كانت تحرق ، وبقي هذا المنع الى اخر القرن الاول الهجري ، اي لمدة تسعين سنة تقريباً.

هذا المنع فتح للرواة طريق النقل بالمعنى ، وكان نصيب الحديث تغييرات كلما حدث راو الى راو اخر حتى اصبحت الاحاديث تروى على غير وجوهها. وهذا واضح بين لمن راجع قصة ورد فيها احاديث بطرق مختلفة ، فان الإنسان ربما يشاهد حديثين في قصة واحدة لا يمكن اجتماعها في نقطة من النقاط. وشيوع النقل بالمعنى بهذا الشكل المريب هو احد الاشياء التي تسبب عدم الوزن لاحاديث اسباب النزول وقلة اعتبارها.

١٥٧

ان شيوع الدس في الحديث والكذب على الرسول ودخول الاسرائيليات في الروايات وما صنعه المنافقون وذوو الاغراض بالاضافة الى النقل بالمعنى وما قيل في الوجه الاول .. كل هذه العوامل قللت من قيمة احاديث اسباب النزول واسقطها عن الاعتبار.

المنهج الذي لا بد ان يتخذ في اسباب النزول :

لقد ذكرنا في الفصول السابقة ان الحديث يحتاج الى التأييد القرآني ، وعلى هذا يجب عرض الحديث على القرآن كما ورد في احاديث عن الرسول واهل بيته عليهم‌السلام.

وعليه سبب النزول الوارد حول آية من الآيات لو لم يكن متواتراً او قطعي الصدور يجب عرضه على القرآن ، فما وافق مضمونه مضمون الآية يؤخذ به ويعمل عليه وما خالف يطرح. ومعنى هذا ان الحديث هو الذي يعرض دائما على القرآن لا القرآن يعرض على الحديث.

وهذه الطريقة تسقط اكثر احاديث اسباب النزول عن الاعتبار ، الا ان الباقي منها يكسب كل الاعتبار والوثوق.

وليعلم ان الاهداف القرآنية العالية التي هي المعارف

١٥٨

العالمية الدائمة ( كما سنفصل ذلك فيما سيأتي ) لا تحتاج كثيراً او لا تحتاج ابدا الى اسباب النزول.

ترتيب نزول السور :

لا شك ان السور والآيات القرآنية لم تثبت في القرآن على ترتيب نزولها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعلماء الإسلام الماضون وخاصة اهل السنة منهم ـ كانوا يعتمدون في ترتيب السور والآيات على ما جاء في الاثر ، ومن جملة الاثار المذكورة بهذا الشأن حديث مروى عن ابن عباس انه قال : (١).

كانت اذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما شاء ، وكان او ما نزل من القرآن :

١ ـ اقرأ باسم ربك

٢ ـ ثم « ن »

٣ ـ ثم ايها المزمل

٤ ـ ثم يا أيها المدثر

٥ ـ ثم تبت يدا ابي لهب

٦ ـ ثم اذا الشمس كورت

ــــــــــــــــــ

(١) الاتقان ١ / ١٠ ، نقلاً عن فضائل القرآن لابن ضريس

١٥٩

٧ ـ ثم سبح اسم ربك الاعلى

٨ ـ ثم والليل اذا يغشى

٩ ـ ثم والفجر

١٠ ـ ثم والضحى

١١ ـ ثم الم نشرح

١٢ ـ ثم والعصر

١٣ ـ ثم والعاديات

١٤ ـ ثم انا اعطيناك

١٥ ـ ثم الهاكم التكاثر

١٦ ـ ثم أرأيت الذي يكذب

١٧ ـ ثم قل يا أيها الكافرون

١٨ ـ ثم الم تر كيف فعل ربك

١٩ ـ ثم قل اعوذ برب الفلق

٢٠ ـ ثم قل اعوذ برب الناس

٢١ ـ ثم قل هو الله أحد

٢٢ ـ ثم والنجم

٢٣ ـ ثم عبس

٢٤ ـ ثم انا انزلناه في ليلة القدر

٢٥ ـ ثم والشمس وضحاها

٢٦ ـ ثم والسماء ذات البروج

٢٧ ـ ثم والتين

٢٨ ـ ثم لايلاف قريش

١٦٠