كتاب اللّامات

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي

كتاب اللّامات

المؤلف:

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي


المحقق: الدكتور مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٧

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزّجاجي ، رحمة الله عليه : هذا كتاب مختصر في ذكر اللامات ومواقعها في كلام العرب وكتاب الله عزّ وجلّ ، ومعانيها وتصرّفها والاحتجاج لكلّ موقع من مواقعها ، وما بين العلماء في بعضها من الخلاف ، وبالله التوفيق.

فاللامات إحدى وثلاثون لاما :

١ ـ لام أصلية

٢ ـ لام التعريف

٣ ـ لام الملك

٤ ـ لام الاستحقاق

٥ ـ لام كي

٦ ـ لام الجحود

٧ ـ لام إنّ

٨ ـ لام الابتداء

٩ ـ لام التعجّب

٣

١٠ ـ لام تدخل على المقسم به

١١ ـ لام تكون جواب القسم

١٢ ـ لام المستغاث به

١٣ ـ لام المستغاث من أجله

١٤ ـ لام الأمر

١٥ ـ لام المضمر

١٦ ـ لام تدخل في النفي بين المضاف والمضاف إليه

١٧ ـ لام تدخل في النداء بين المضاف والمضاف إليه

١٨ ـ لام تدخل بين الفعل المستقبل ، لازمة في القسم ولا يجوز حذفها

١٩ ـ لام تلزم إنّ المكسورة إذا خفّفت من الثقيلة

٢٠ ـ لام العاقبة ، ويسميها الكوفيون لام الصيرورة

٢١ ـ لام التبيين

٢٢ ـ لام لو

٢٣ ـ لام لولا

٢٤ ـ لام التكثير

٢٥ ـ لام تزاد في عبدل وما أشبهه

٢٦ ـ لام تزاد في لعلّ

٤

٢٧ ـ لام إيضاح المفعول من أجله

٢٨ ـ لام تعاقب حروفا وتعاقبها

٢٩ ـ لام تكون بمعنى إلى

٣٠ ـ لام الشرط

٣١ ـ لام توصل الأفعال إلى المفعولين ، وقد يجوز وصل الفعل بغيرها

٥

باب ذكر اللّام الأصليّة

اعلم أنها تكون في الأسماء والأفعال والحروف ، وتكون فاء وعينا ولاما ؛ فكونها فاء قولك : لعب ولهو ولجام وما أشبه ذلك ، كما قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(١) وكذلك ما أشبهه. وكونها عينا قولك : بلد وسلام ، كما قال تعالى : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ)(٢). وكذلك السّلم كما قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها)(٣). وكونها لام الاسم (٤) قولك : خطل وجبل وإبل ووصل وحبل ، وكذلك ما أشبهه. فهذا كونها في الأسماء. / وكونها في الأفعال في هذه المواقع كقولك : لعب الرجل ، وسلس الشيء ، وفلق ، ووصل ، وعجل. فقد بان لك وقوعها في المواقع الثلاثة في الأسماء والأفعال ، وهي أكثر من أن تحصى وأبين

__________________

(١) سورة محمد ٤٧ : ٣٦.

(٢) الآية : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ.) الحشر ٥٩ : ٢٣.

(٣) الآية : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.) الأنفال ٨ : ٦١. والسلم : الصلح ، يفتح ويكسر ، ويؤنث ويذكر.

(٤) في الأصل : (لام الفعل) ، وهو سهو من الناسخ.

٦

من أن تخفى. فأمّا كونها في الحروف فإنّ الحروف لا تقدّر بأمثلة الأفاعيل ، ولكنها قد جاءت فيها أولا ووسطا وآخرا ، ولا يحكم عليها فيها بالزيادة إلا بدليل ؛ فكونها أولا قولهم : لم ولن ولكن. وكونها آخرا قولهم : هل وبل ، وهي التي تقع للإضراب كقولك : ما خرج زيد بل عمرو ، قال الله عزّ وجلّ : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)(١). فأما قولهم : ألم وألمّا ، فإنما هي لم ولمّا ، ولكن الألف تزاد في أوّلهما تقريرا وتوبيخا واستفهاما ؛ فالتقرير قولك : ألم تخرج؟ ألم تقصد زيدا؟ قال الله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ)(٢) ، فهذا تقرير. والتوبيخ مثل قولك : ألم تذنب؟ ألم تسفه على فلان فاحتملك.

فأما (ليس) ففيها خلاف ؛ فالفرّاء وجميع الكوفيين يقولون هي حرف ، والبصريون يقولون هي فعل ودليل الكوفيين على أنه حرف أنه ليس على وزن شيء من الأفعال لسكون ثانيه ، وأنه لم يجىء منها اسم فاعل ولا مفعول ولا لفظ المستقبل ؛ فلم يقل منها : يليس ، ولا. لايس ، ومليس ، كما قيل : باع يبيع ، فهو بائع ومبيع ،

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ : ١٤.

(٢) تتمة الآية : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.) يس ٣٦ : ٦٠.

٧

وكال يكيل فهو كايل ومكيل. وقال البصريون : أما الدليل على أنها فعل فهو اتصال المضمر المرفوع به ، ولا يتصل إلا بفعل ، كقولك : لست ولسنا ولستم ولستنّ ولستما وما أشبه ذلك ، فهو كقولك : ضربت وضربنا وضربتم وضربتنّ وضربتما وما أشبه ذلك. وانستار المضمر الفاعل فيه كقولك : زيد ليس ذاهبا ، وعبد الله ليس راكبا ، فهذا هو الدليل على أنه فعل. فأما العلّة في امتناعه من التصرّف فهو أنه لمّا وقع بلفظ الماضي نفيا للمستقبل ، فقيل : ليس زيد خارجا غدا ، استغني فيه عن لفظ المستقبل ، ولما استغني فيه عن المستقبل لم يبن منه اسم الفاعل ولا المفعول ، فهذه علّة امتناعه من التصرّف. / وعلّة أخرى وهي أنه لمّا نفي بها ضارعت حروف المعاني النافية فمنعت من التصرّف لذلك. وقد يكون من الأفعال ما لا يتصرّف ولا يحكم عليه بأنه ليس بفعل لامتناعه من التصرّف ؛ ألا ترى أن العرب قالت : يذر ويدع ، ولم يستعملوا منه الماضي ، ولا اسم الفاعل والمفعول به ، وكذلك عسى في قولهم : عسى زيد أن يركب ، وفي قول الله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(١) و (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ

__________________

(١) الآية : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ ...) الإسراء ١٧ : ٧٩ وانظر مغني اللبيب ١ : ١٦٥.

٨

بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)(١) ، هو فعل غير متصرّف ولم يستعمل منه يفعل ولا فاعل ، وكذلك نعم وبئس ، هما فعلان غير متصرّفين ، فكذلك ليس هي بهذه المنزلة في امتناعها من التصرّف.

وأمّا سكون ثانية فإن من العرب من يفرّ من الضمّ والكسر إلى السكون تخفيفا فيقول في عضد : عضد ، وفي فخذ : فخذ (٢). ولا يفرّون من الفتح إلى السكون. قال سيبويه : «قلت للخليل : ما الدليل على أن الفتحة أخفّ الحركات؟ قال : قول العرب في عضد : عضد ، وفي كبد : كبد ، ولم يقولوا في جمل : جمل ، ولا في قمر : قمر. فدلّ ذلك على أنّ الفتحة أخفّ الحركات.» ومع ذلك فإنّ الضمة والكسرة تخرجان بتكلّف واستعمال للشفتين ، والفتحة تخرج مع النفس بلا علاج. ومن كان هذا من لغته في الأسماء فإنه يقول أيضا في الأفعال : ضرب زيد ، وهو يريد : ضرب زيد ، وعصر

__________________

(١) الآية : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.) المائدة ٥ : ٥٢ والآية في الأصل المخطوط : وعسى الله ...

(٢) قال سيبويه : «هذا باب ما يسكّن استخفافا وهو في الأصل عندهم متحرك.

وذلك قولهم في فخذ فخذ ، وفي كبد كبد ، وفي عضد عضد ، وفي الرجل رجل ... وهي لغة بكر بن وائل وأناس كثير من تميم» الكتاب ٢ : ٢٥٧.

٩

الثوب ، وهو يريد عصر ، قال الشاعر :

لو عصر منه البان والمسك انعصر (١)

وكان أصل ليس ليس على وزن فعل فأسكن من هذه اللغة ، ولزمها السكون لمّا لم تتصرّف ، ولم تستعمل على الأصل ، كما لم يستعمل قام وباع وما أشبه ذلك على الأصل.

وأما كون اللّام وسطا في موقع عين الفعل في حروف المعاني فقولهم : ألا ، وهي التي تقع افتتاحا لكلام ، كقوله تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.)(٢) وكقول الشاعر وهو الشمّاخ :

ألا ناديا أظعان ليلى تعرّج

يهيّجن شوقا ليته لم يهيّج (٣)

__________________

(١) من رجز لأبي النجم ، وقبله :

هيّجها نضح من الطلّ سحر

وهزّت الريح الندى حين قطر

وهو من شواهد الكتاب ٢ : ٢٥٨. وقال الأعلم : «الشاهد في تسكين الثاني من عصر طلبا للاستخفاف ، وهي لغة فاشية في تغلب بن وائل فاستعمل لغتهم ، ووصف شعرا يتعهد بالبان والمسك ويكثر فيه منهما حتى لو عصرا منه لسالا». وانظر الشاهد أيضا في كتاب الإنصاف المسألة ١٤ ص ٥٧.

(٢) سورة هود ١١ : ١٨.

(٣) الشماخ : هو معقل بن ضرار ، من مخضرمي الجاهلية والاسلام ، شهد القادسية ، وكان من أرجز الناس على البديهة. والبيت في ديوانه ص : ٥.

١٠

وكقول الآخر :

/ ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر

وإن كان حيّانا عدى آخر الدّهر (١)

وكقول ذي الرّمة :

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (٢)

ومن ذلك قوله تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ)(٣) ، معناه ـ والله أعلم ـ ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فالمنادى مضمر في

__________________

(١) قالوا : العدى ، بالكسر : الغرباء ، وبالكسر والضم : الأعداء. والبيت للأخطل (نقائض جرير والأخطل : ٢٨) وفي اللسان (مادة : عدا) أن ابن الأعرابي فسّر العدى في قول الأخطل بالتباعد. والبيت من شواهد الإنصاف (المسألة : ١٤) وشرح المفصّل ٢ : ٢٤.

(٢) ذو الرمة هو غيلان بن عقبة (١١٧ ه‍) شاعر اشتهر بحبه لميّة. والبيت في ديوانه ص : ٢٠٦ وهو من شواهد ابن عقيل ١ : ١١٧ والمغني ١ : ٢٦٨ وشرح شواهده للسيوطي ٢ : ٦١٧ و ٦١٩.

(٣) الآية : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ. أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ.) النمل ٢٧ : ٢٤ ـ ٢٥. والشاهد هنا بقراءة التخفيف. وقد استشهد ابن هشام بقراءة التشديد في المغني ١ : ٧٧.

١١

النيّة (١) ويا حرف النداء ، وألا تنبيه وافتتاح كلام ، وموقع اللّام منها موقع عين الفعل. ومما أضمر فيه المنادى قول الشاعر :

يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصالحين على سمعان من جار (٢)

قال سيبويه : (يا) لغير اللعنة ، ولو كان واقعا عليها لنصبها لأنه نداء مضاف. ومن قرأ : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) بفتح أوله والتشديد فهي مركّبة من حرفين أن ولا ، تقديره أن لا يسجدوا ، ثم أدغمت النون في اللام التي بعدها (٣) فاللام على هذا التقدير أول كلمة ، ويسجدوا في موضع نصب بأن ، وعلامة النصب سقوط النون. وهي نظير قوله تعالى : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(٤) في الفتح والتشديد والعمل.

__________________

(١) قال ابن هشام : إذا ولي (يا) ما ليس بمنادى كالفعل في ألا يا اسجدوا ... قيل هي للنداء والمنادى محذوف ، وقيل هي لمجرد التنبيه لئلا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلها. وقال ابن مالك : إن وليها دعاء أو أمر فهي للنداء ، لكثرة وقوع النداء قبلهما ، وإلا فهي للتنبيه. وانظر المغني ١ : ٤١٣ و ٤١٤.

(٢) البيت من شواهد الكتاب ١ : ٣٢٠ والإنصاف ، المسألة ١٤ ص : ٥٥ والعيني ٤ : ٢٦١ وانظر رغبة الآمل ٧ : ٢١٦ والمغني ١ : ٤١٤ وشرح شواهد المغني ٢ : ٧٦٦ وشرح المفصل ٢ : ٢٤.

(٣) انظر تخريج ابن هشام لهذا الوجه في المغني ١ : ٧٨.

(٤) سورة النمل ٢٧ : ٣١ وانظر المغني ١ : ٧٧.

١٢

وقد تكون اللام ثانية في حروف المعاني مشدّدة في قولهم إلّا في الاستثناء ، كقولك : جاء القوم إلّا زيدا ، ومررت بأصحابك إلّا بكرا ، قال الله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ)(١) و (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)(٢) وقرأ عبد الله بن عامر (ما فعلوه إلا قليلا منهم) (٣) بالنصب ، وذلك أنّ (إِلَّا) إذا كان ما قبلها من الكلام موجبا كان ما بعدها منصوبا منفيا عنه ما أثبت لما قبلها ، وإذا كان ما قبلها منفيا جاز فيما بعدها البدل ممّا قبلها ، والنصب على أصل الاستثناء. هذا مذهب البصريين ولا يجوّزون غيره. قال سيبويه : إلّا في الاستثناء بمنزلة دفلى ، فإن سمّيت بها لم تصرف

__________________

(١) الآية : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ، فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ...) البقرة ٢ : ٢٤٩ والآية من شواهد المغني ١ : ٧٣ و ٢ : ٤٧٧ و ٧٥٤. وقد قرأها ابن مسعود وغيره برفع قليل كما في البحر المحيط ٢ : ٢٦٦. وانظر معاني القرآن للفراء ١ : ١٦٦.

(٢) الآية : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.) النساء ٤ : ٦٦ والآية من شواهد المغني ١ : ٧٣ و ١٧٠ و ٢ : ٦٠٨. وقال سيبويه : «ومن قال ما أتاني القوم إلا أباك ، لأنه بمنزلة قوله : أتاني القوم إلا أباك ، فانه ينبغي له أن يقول : ما فعلوه إلا قليلا منهم» الكتاب ١ : ٣٦٠ وانظر الرماني النحوي : ٢٣٣ و ٣٦٥ و ٣٦٩.

١٣

المسمّى به في معرفة ولا نكرة. يعني أن (إِلَّا) كلمة واحدة مؤنّثة ، فالألف التي في آخرها ألف التأنيث ، بمنزلة الألف التي في دفلى ، فلذلك لم تصرف المسمى بها. وأما الفرّاء فعنده أن اللام في إلّا في الاستثناء أول الكلمة ، وموقعها موقع فاء الفعل ، وهي عنده ـ أعني إلّا ـ مركّبة من حرفين من : إنّ ولا ، فإذا نصب / بها فقال : جاء القوم إلّا زيدا ، فالناصب عنده إنّ ، و (لا) ملغاة ، كأنه قال : قام القوم إنّ زيدا لا ، أي لم يقم ، فقيل له : فأين الخبر؟ فقال : اكتفي بالخلاف من الخبر ؛ وذلك أن ما بعد إلا مخالف أبدا لما قبلها. وإذا رفع بها فقال : قام القوم إلّا زيد ، فالرافع عنده لا ، و (أَنِ) ملغاة ، كأنه قال : قام القوم لا زيد وهذا تحكّم منه ، وإلغاء إنّ وقد بدىء بها ما لا يعقل في كلام العرب ولا يعرف له نظير ؛ وذلك أن العرب قد أجمعوا على أن الملغى لا يبتدأ به (١) ، ولا يجوز أن تقول : ظننت

__________________

(١) لعل الأدق أن يقول : إن أكثر النحويين البصريين على أن الملغى لا يبتدأ به.

وذلك لأن الإجماع لم ينعقد على ذلك ؛ فقد خالف الكوفيون وغيرهم. قال ابن عقيل في شرحه على الألفية بصدد ظنّ وأخواتها : «وإن تقدمت امتنع الإلغاء عند البصريين ... فان جاء في لسان العرب ما يوهم إلغاءها متقدّمة أوّل على إضمار ضمير الشأن كقوله :

أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل

فالتقدير : ما إخاله لدينا منك تنويل ؛ فالهاء ضمير الشأن ، وهي المفعول الأول ، وجملة

١٤

زيد منطلق ، على إلغاء الظن وقد بدأت به. وكذلك موقع إنّ في إلّا إن كانت كما زعم مركّبة من حرفين. فإلغاؤها غير جاتز. والرفع بها خطأ ، لتقدّم إنّ وإجماع العرب والنحويين على إجازة : ما قام القوم إلّا زيد. وقول الله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)(١) فالرفع يدلّ على فساد ما ذهب إليه الفرّاء (٢). وقد أجاز الفراء أيضا الرفع بعد إلّا في الموجب ، فأجاز : قام القوم إلّا زيد ، وانطلق أصحابك إلّا بكر ؛ قال : أرفعه على إلغاء إنّ والعطف بلا. وقد بيّنت لك فساد هذا الوجه ، وهو لحن عند البصريين ، وقد استعمله كثير من الشعراء

__________________

لدينا منك تنويل في موضع المفعول الثاني. أو على تقدير لام الابتداء كقوله :

كذاك أدّبت حتى صار من خلقي

أني وجدت ملاك الشيمة الأدب

التقدير : أني وجدت لملاك الشيمة الأدب ، فهو من باب التعليق وليس من باب الالغاء.

وذهب الكوفيون ، وتبعهم أبو بكر الزبيدي وغيره إلى جواز إلغاء المتقدّم ، فلا يحتاجون إلى تأويل البيتين.» ١ : ٨٨ ـ ٨٩.

(١) انظر الحاشية ٢ ص : ١٣.

(٢) قال الفراء : «والوجه في إلّا أن ينصب ما بعدها إذا كان ما قبلها لا جحد فيه ، فاذا كان ما قبل إلا فيه جحد جعلت ما بعدها تابعا لما قبلها ، معرفة كان أو نكرة ... وقال الله تبارك وتعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) لأن في (فَعَلُوهُ) اسما معرفة فكان الرفع الوجه في الجحد الذي ينفي الفعل عنهم ويثبته لما بعد إلّا. وهي في قراءة أبيّ (ما فعلوه إلا قليلا منهم) كأنه نفى الفعل وجعل ما بعد إلّا كالمنقطع عن أول الكلام ...» معاني القرآن ١ : ١٦٦.

١٥

المحدثين ، وكثيرا ما نراه في شعر أبي نواس ومن هو في طبقته. وأحسبهم تأوّلوا هذا المذهب.

وأما كلّا فهي أيضا حرف واحد ، واللّام فيها مكرّرة مشدّدة وهي ردع وزجر.

فهذه مواقع اللّامات الأصليّة في الأسماء والأفعال والحروف. ومهما ورد منها مما لم نذكره فلن يخرج عن قياس ما أصّلناه ، فتدبّره فإنه راجع إليه إن شاء الله.

١٦

لام التعريف

اعلم أنّ الألف واللام اللتين للتعريف في قولك : الرجل ، والغلام ، والثوب ، والفرس ، وما أشبه ذلك ، للعلماء فيها مذهبان :

أمّا الخليل فيذهب إلى أنّ الألف واللام كلمة واحدة مبنيّة من حرفين ، بمنزلة من ولم وإن وما أشبه ذلك ؛ فيجعل الألف أصلية من بناء الكلمة ، بمنزلة الألف في إن وأن ، واستدلّ على ذلك بقول الشاعر :

/ دع ذا وعجّل ذا وألحقنا بذك

بالشحم إنّا قد مللناه بجل (١)

قال : أراد أن يقول : ألحقنا بالشحم ، فلم تستقم له القافية ، فأتى

__________________

(١) «وقال الخليل : ومما يدلّ على أن (ال) مفصولة من الرجل ولم يبن عليها ، وأن الألف واللام فيها بمنزلة قد قول الشاعر : دع ذا ...

قال : هي هاهنا كقول الرجل وهو يتذكر : قدي قد فعل. ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيء مما كان من الحروف الموصولة ... ولو لا أن الألف واللام بمنزلة قد وسوف لكانتا بناء بني عليه الاسم لا يفارقه ، ولكنهما جميعا بمنزلة هل وقد وسوف ، تدخلان للتعريف وتخرجان.» الكتاب ٢ : ٦٤ واستشهد سيبويه بهذا الرجز ثانية منسوبا إلى غيلان في الكتاب ٢ : ٢٧٣. وفي الأشموني ص ٨٣ : وألحقنا بذا ال بالشحم ...

١٧

باللام ثم ذكر الألف مع اللام في ابتداء البيت (١) الثاني فقال : الشحم ، فدلّ ذلك على أنّ الألف من بناء الكلمة. قال : وهو بمنزلة قول الرجل إذا تذكّر شيئا : قدي ، ثم يقول : قد كان كذا وكذا ؛ فيردّ (قد) عند ذكر ما نسيه. فهذا مذهب الخليل واحتجاجه. وأما غيره من علماء البصريين والكوفيين فيذهبون إلى أنّ اللّام للتّعريف وحدها ، وأنّ الألف زيدت قبلها ليوصل إلى النطق باللّام لمّا سكنت ؛ لأن الابتداء بالسّاكن ممتنع في الفطرة ، كما أنّ الوقف على متحرّك ممتنع. والقول ما ذهب إليه العلماء ، ومذهب الخليل فيما ذكره ضعيف ، والدليل على صحّة قول الجماعة وفساد قول الخليل هو أنّ اللّام قد وجدت في غير هذا الموضع وحدها تدلّ على المعاني ، نحو : لام الملك ، ولام القسم ، ولام الاستحقاق ، ولام الأمر ، وسائر اللامات التي عددناها في أول الكتاب ، ولم توجد ألف الوصل في شيء من كلام العرب تدلّ على معنى ، ولا وجدت ألف الوصل في شيء من كلام العرب تكون من أصل الكلمة في اسم ولا فعل ولا حرف فيكون هذا ملحقا به. وكيف تكون ألف الوصل من أصل الكلمة

__________________

(١) يريد : الشطر الثاني.

١٨

وقد سمّيت وصلا ، ومع ذلك فإنّ الخليل نفسه قال : إنّما سمّيت ألف الوصل بهذا الاسم لأنّها وصلة لّلسان إلى النطق بالسّاكن. وقال غيره : إنّما سمّيت ألف الوصل لاتصال ما قبلها بما بعدها في وصل الكلام وسقوطها منه. فقد بان لك مذهب الخليل واحتجاجه ومذهب العلماء واحتجاجهم.

ونقول في هذا الفصل ما قاله المازنيّ (١) ، قال : إذا قال العالم المتقدّم قولا ، فسبيل من بعده أن يحكيه ، وإن رأى فيه خللا أبان عنه ودلّ على الصّواب ، ويكون الناظر في ذلك مخيّرا في اعتقاد أيّ المذهبين بان له فيه الحق.

فإن قال قائل : فلم وجب سكون لام المعرفة عندكم ، وقد زعمتم أنّها حرف دالّ على معنى بنفسه؟ قيل / له : أمّا دلالته على المعنى بنفسه مفردا من غير الألف التي قبلها فليست زعما ، بل هي حقيقة توجد ضرورة ، لأنّا إذا قلنا : قام القوم ، وخرج الغلام ، وما أشبه ذلك في جميع الكلام سقطت الألف من اللّفظ لوصل الكلام ،

__________________

(١) وهو أبو عثمان ، بكر بن عثمان أستاذ المبرد. مات سنة ٢٤٩ وقيل قبل ذلك.

وتجد ترجمته في طبقات الزبيدي : ١٤٣ ، وإنباه الرواة ١ : ٢٤٦ ، ومعجم الأدباء ٧ : ١٠٧.

١٩

ودلّت اللام على التّعريف ، ولو كانت الألف من بناء الكلمة لأخلّ معناها بسقوطها. وأما وجوب سكونها فإنّما وجب ذلك ، لأن اللّامات التي تقع أوائل الكلم غيرها ذهبت بالحركات ؛ فذهبت لام الابتداء ولام المضمر بالفتح ، ولام الأمر ولام كي بالكسر ، ولم يبق غير الضمّ أو السكون ، فاستثقل في لام التعريف الضمّ لأنها كثيرة الدور في كلام العرب ، داخلة على كل اسم منكور يراد تعريفه ، وليس كذلك سائر اللامات ، لأنّ لكل واحد منها موقعا معروفا ، ومع ذلك فإنّها قد تدخل على مثل : إبل وإطل ، فلو كانت مضمومة لثقل عليهم الخروج من ضمّ إلى كسرتين ، وقد تدخل على مثل : حلم وعنق ، فكان يثقل عليهم الجمع بين ثلاث ضمّات لو كانت مضمومة. ولو كانت مكسورة لثقل عليهم الخروج من كسر إلى ضمّتين ، ألا ترى أنه ليس في كلامهم مثل : فعل ، بكسر الفاء وضمّ العين ، استثقالا للخروج من الكسر إلى الضمّ ، ولو كانت مفتوحة أشبهت لام التوكيد والابتداء والقسم ، فلمّا لم يمكن تحريكها بإحدى هذه الحركات لما ذكرنا ألزمت السكون وأدخلت عليها ألف الوصل كما فعل ذلك في الأسماء والأفعال إذا سكنت أوائلها ، وهذا بيّن واضح.

٢٠