الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ ، فِى مَعٰادِنِ الْكَرٰامَةِ ، وَمَمٰاهِدِ السَّلٰامَةِ ، قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرٰارِ ، وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصٰارِ. دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغٰائِنَ ، وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوٰائِرَ. أَلَّفَ بِهِ إِخْوٰنًا ، وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرٰانًا ، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ. كَلٰامُهُ بَيٰانٌ ، وَصَمْتُهُ لِسٰانٌ.

قوله عليه‌السلام : «مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ ، وَمَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ» الظاهر أنّ المراد من المستقر والمنبت : الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة.

أو أن يكون المراد من الأوّل : المدينة المنورّة ، وقد سماّها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الطيّبة كما جاء في الخبر ، وأنّها تنفي الخبث كما تنفي النّار خبث الفضّة (٢).

ومن الثاني مكة المكّرمة لكونها أمّ القرى ، ومقصد خلق الله ، ومحل كعبته ، وقد قال الله تعالى : «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» (٣).

قوله عليه‌السلام : «فِى مَعٰادِنِ الْكَرٰامَةِ» وهي جمع معدن ، والمراد منه أي الرّسالة ، أو ما هو أعمّ منها ومن غيرها.

قوله عليه‌السلام : «وَمَمٰاهِدِ السَّلٰامَةِ» والمماهد ، جمع ممهد كمقعد اسم مكان : ما يُمْهد ، أي يبسط فيه الفراش ونحوه المتّصفة بالخلوّ من الأدناس والأرجاس والبراءة من العيوب الظاهرة والباطنة.

قال إبن ميثم البحراني : وهي كناية من مكّة والمدينة وما حولها ، فإنّها

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٤١ ، الخطبة ٩٦.

٢ ـ صحيح مسلم : ج ٢ ، ص ١٠٠٦ ، ح ٤٩٠.

٣ ـ آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧.

٨١

محلّ لعبادة الله والخلوة به التي هي مهاد السلامة من عذابه ، وإنّما كانت كذلك لكونها دار القشف خالية عن المشتهيّات والقينات الدنيويّة.

ويحتمل أن يريد بمماهد السلامة : ما تقلّب فيه ، ونشأ عليه من مكارم الأخلاق الممهّدة للسلامة من سخط الله (١).

قوله عليه‌السلام : «قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرٰارِ» أي صرف الله سبحانه أفئدتهم إليه من باب التوفيق واللطف والعناية بهم ، فصاروا مصدّقيه ، وملازميه ، ومن هنا وَفَدَ الأسود بن ربيعة علىٰ النبيّ وقال : جئت لأقترب إلى الله تعالى بصحبتك ، فسماّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المقترب.

وقال أبو طالب فيه :

وإنّ عليه في العباد محبّةً

ولا حيف في من خصّه الله بالحبّ

وقال أيضاً

لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمد

وأحببته حبّ الحبيب المواصل

وجدت بنفسي دونه فحميته

ودافعت عنه بالذري والكو اهل

فإذا تأملت قليلاً في أشعار أبي طالب في مدائح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجدت أن ذلك الشيخ المبجّل كيف يصف إبن أخيه ، وهو شابّ مستجير به ، معتصم بظلّه من قريش ، قد ربّاه في حجره غلاماً ، وعلى عاتقه طفلاً ، وبين يديه شاباً ، يأكل من زاده ويأوي إلى داره ، فهو مذعن بأمره ونبوّته ، وإنّ له مكاناً جليلاً ، وأمراً عظيماً ، ومنزلة رفيعة.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لإبن ميثم : ج ٢ ، ص ٤٠١.

٨٢

قوله عليه‌السلام : «وَثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصٰارِ» ثنيت أي : رفعت ، والأزمّة : كالأئمّة ، جمع زمام ، أي الشدّة ، والمراد عطفت إليه شدّة البصائر والقلوب إليه ، وهذا كناية عن إلتفات الأمة إليه وتلقّيهم له بقلوبهم ومحبّة الأبرار له صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه‌السلام حيث قال : «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (١) أي أسكنت بعض ولدي وهو إسماعيل ومن ولد منه.

وفي مجمع البيان : روي عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : نحن بقيّة تلك العترة ، وقال : كانت دعوة إبراهيم عليه‌السلام لنا خاصّة (٢).

وروى العيّاشي في تفسيرة عن الباقر عليه‌السلام قال : نحن هم ، ونحن بقيّة تلك الذريّة (٣).

وفي تفسير العيّاشي (٤) والقمّي : عن الباقر عليه‌السلام نحن والله بقيّة تلك العترة (٥).

وفي الإحتجاج : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : والأفئدة من الناس تهوي إلينا ، وذلك دعوة إبراهيم عليه‌السلام حيث قال : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا (٦).

وجاء في بصائر الدرجات : عن الصّادق عليه‌السلام في حديث : فاجعل

__________________

١ ـ إبراهيم : ٣٧.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٣١٨ ، س ٢٦.

٣ ـ تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ٢٣١ ، ح ٣٥.

٤ ـ تفسير القمي : ج ١ ، ص ٣٧١ ، س ٢٠.

٥ ـ تفسير العيّاشي : ج ٢ ، ص ٣٢ ، ح ٣٦.

٦ ـ الإحتجاج : ج ١ ، ص ٢٣٥ ، إحتجاجه عليه‌السلام على الناكثين بيعته.

٨٣

أفئدة من الناس تهوي إلينا (١).

وفي الكافي : عن الباقر عليه‌السلام قال : ولم يعن البيت فيقول : «إليه» فنحن والله دعوة إبراهيم عليه‌السلام (٢).

وكان الجلف البدوي ينظر إلى وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول : والله ما هذا وجه كذّاب. وكان عظيماً مهيباً في النفوس ومحبوباً في القلوب.

وقال عروة بن مسعود الثقفي ـ لقريش ـ : والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي والله ما رأيت ملكاً قط يعظّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمّد محمّداً ، يقتتلون على وضوئه ، ويتبادرون لأمره ، ويخفضون أصواتهم عنده ، وما يحّددون النظر إليه تعظيماً له.

ولما دخل أبوسفيان ـ عام الفتح ـ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورأى أيدي المسلمين تحت شعره يستشفون بالقطرات من وضوئه ، قال : تالله ما رأيت كاليوم كسرى وقيصر (٣).

قوله عليه‌السلام : «دَفَنَ اللهُ بِهِ الضَّغٰائِنَ» الضغائن : جمع ضغينة ، وهى الحقد ، أي أخفى بوجوده صلوات الله عليه الأحقاد الجاهليّة بعد أن كانت ظاهرة علانيّة وكانت بين الأوس والخزرج ضغائن من حروب فأخمدت بوجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و «دفنها» أكمنها وأخفاها.

قوله عليه‌السلام : «وَأَطْفَأَ بِهِ الثَّوٰائِرِ» الثوائر : جمع ثائرة ، وهي العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضرّه إن لم يقتله ، فاستعار لفظ الإطفاء لإزالة العدوان بين العرب بالتأليف بين قلوبهم كما قال سبحانه في إظهار

__________________

١ ـ بصائر الدرجات : ص ١٤٩ ، ح ٢.

٢ ـ الكافي : ج ٨ ، ص ٣١١ ـ ٣١٢ ، ح ٤٨٥.

٣ ـ المغازي للواقدي : ج ٢ ، ص ٨١٦ ، وفتوح البلدان للبلاذري : ص ٥١.

٨٤

المنّة على عبادة : «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا» (١).

وفي الخبر قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على يد من سواهم يسعى بذمّتهم أدناهم ، ويردّ على أقصاهم (٢).

قوله عليه‌السلام : «أَلَّفَ بِهِ إِخْوٰاناً» أي آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض ، وآخى بين المهاجرين والأنصار كما آخىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قوله عليه‌السلام : «وَفَرَّقَ بِهِ أَقْرٰاناً» بواسطة مخالفتهم في الدين كما قطع بين حمزة وأبي لهب. ولقد جمع الوليد بن المغيرة قريشاً وقال : إنّ النّاس يأتوكم أيّام الحج فيسألونكم عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فتختلف أقوالكم فيه فماذا تقولون لهم؟ فقام أبوجهل ، وقال : أنا أقول : إنّه مجنون ، وقال أبولهب : أنا أقول : إنّه شاعر ، وقال عقبة بن أبي معط : أنا أقول : إنّه كاهن ، فقال الوليد : وأنا أقول : إنّه ساحر لأنّه يفرّق بين المرء وأخيه وزوجته وبنيه (٣).

قوله عليه‌السلام : «أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ ، وَأَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ» فكم من أذلّاء صاروا بالإيمان به أعزّاء كسلمان الفارسي ، وكم من جبابرة أعزّاء صاروا بالكفر به أذّلاء كأبي لهب وأمثالهم.

قوله عليه‌السلام : «كلٰامُهُ بَيٰانٌ»كلامه بيان للأحكام ، وأنّ ما يقول لا يكون من تلقاء نفسه ، بل إنّما هو وحي يوحى إليه كما قال تعالى : «وَمَا يَنطِقُ

__________________

١ ـ آل عمران : ١٠٣. ٢

٢ ـ سنن إبن ماجة : ج ٢ ، ص ٨٩٥ ، ح ٢٦٨٣.

٣ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٧١.

٨٥

عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ» (١). وفي الخبر جاء مجوسي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أعفى شاربه وأحفى لحيته فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أمرك بهذا؟ قال : ربّي. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكنّ ربّي أمرني أن أحفي شاربى وأعفي لحيتي (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَصَمْتُهُ لِسٰانٌ» أي أنّ سكوته كلام وبيان ، فحينذٍ لا يخلو من فائدة من وجهين :

الوجه الأوّل : إن سكوته عن بعض المطالب الذي لا ينبغي القول فيه : يكون إفهاماً للناس بعدم جواز خوضهم فيما لا يعنيهم.

الوجه الثاني : أنّ سكوته في مقام التقرير حجّة كقوله وفعله. فإن الصحابه إذا عملوا عملاً جائزاً ولم ينهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك بل سكت عنهم ، فإنّ سكوته صلى‌الله‌عليه‌وآله حينئذٍ دليل على جواز ذلك العمل.

* * *

__________________

١ ـ النجم : ٣ ـ ٤.

٢ ـ الطبقات الكبرىٰ : ج ١ ، ص ٣٤٧ ، ذكر أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شاربه.

٨٦

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صٰادِعاً ، وَبِذِكْرِهِ

نٰاطِقاً ، فَأَدّىٰ أَمِينًا ، وَمَضىٰ رَشِيدًا.

قوله عليه‌السلام : «وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صٰادِعاً» أي أرسله إلى خلقه مجاهراً وإمتثالاً لقوله سبحانه : «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (٣). فعن أبي عبيدة ، أنّ عبد الله بن مسعود قال : مازال النبيّ مستخفياً حتّى نزل : «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ» (٤) فخرج هو وأصحابه (٥).

وقال عبيد الله بن علي الحلبي : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة ، منها : ثلاث سنين مختفياً خائفاً لا يظهر حتّى أمره الله عزّوجلّ أن يصدع بما أمره به ، فأظهر حينئذٍ الدعوة (٦).

قوله عليه‌السلام : «وَبِذِكْرِهِ نٰاطِقاً» قال الله تعالى : «هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ» (٧) قال الواحدي : نزلت سورة الكافرون في رهط من قريش ، قالوا : يا محمّد هلمّ إتّبع ديننا ، ونتّبع دينك ، تعبد آلهتنا ، ونعبد

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٤٥ ، الخطبة ١٠٠.

٢ ـ الفتح : ٢٩.

٣ ـ الحجر : ٩٤.

٤ ـ الحجر : ٩٤.

٥ ـ الدر المنثور : ج ٤ ، ص ١٠٦.

٦ ـ إكمال الدين وإتمام النعمة : ص ٣٤٤.

٧ ـ الجاثية : ٢٩.

٨٧

إلٰهَك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً ممّا بأيدينا قد شركناك فيه وأخذنا بحظّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يدك قد شركت في أمرنا وأخذت بحظّك ، فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره ، فأنزل الله تعالى : «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» (١) (٢).

قوله عليه‌السلام : «فَأَدّىٰ أَمِينًا» الأمين : فعيل من الأمانة ، فهو إمّا بمعنى مفعول : أي مأمون من أمنه ـ كعلمه ـ إذا إستأمنه ، أو بمعنى فاعل من أمن هو ككرم فهو أمين ، والمراد في الألواح ، وكمال إستعداد نفسه الطاهرة لأسرار الله وعلومه ، وحكمه ، وحفظه لها عن ضياعها ، وصيانتها عن تدنّسها بأذهان غير أهلها ، وعدم تطرّق تبديل أوزيادة أونقصان إليها.

بيد أنّ من شأن الأمين قوّته على ضبظ مايستأمن عليه ، وإستعداده له وحفظه وصيانته عن التلف والأدناس والتبديل والزيادة والنقصان ، ولهذا السرّ كانت العرب تسمّيه بالأمين قبل مبعثه لما شاهدوه من أمانته وشهّر بهذا الاسم قبل نبوّته ، وبعد بعثته أخبر عنه تعالى فقال : «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَمَضىٰ رَشِيدًا» أي مضى إلى الحقّ رشيداً ، حيث أدّى ما كان عليه من قبل الله تعالى بجعل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وليّاً ووصيّاً من بعده كما جاء في الأخبار المستفيضة الصحيحة في ذيل الآية : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ» (٤).

__________________

١ ـ الكافرون : ١ ـ ٦.

٢ ـ أسباب النزول : ص ٣٤٢.

٣ ـ الشعراء : ١٠٧ ، والدخان : ١٨.

٤ ـ المائدة : ٦٧.

٨٨

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

أَمّٰا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتٰاباً ، وَلٰا يَدَّعِى نُبُوَّةً وَلٰا وَحْيًا. فَقٰاتَلَ بِمَنْ أَطٰاعَهُ مَنْ عَصٰاهُ ، يَسُوقُهُمْ إِلىٰ مَنْجٰاتِهِمْ ، وَيُبٰادِرُ بِهِمُ السّٰاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ ، يَحْسَرُ الْحَسِيرُ ، وَيَقِفُ الكَسِيرُ ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتّىٰ يُلْحِقَهُ غٰايَتَهُ ، إِلّٰا هٰالِكًا لٰا خَيْرَ فِيهِ ، حَتّىٰ أَرٰاهُمْ مَنْجٰاتَهُمْ ، وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ ، فَاسْتَدٰارَتْ رَحٰاهُمْ ، وَاسْتَقٰامَتْ قَنٰاتُهُمْ.

قوله عليه‌السلام : «أَمّٰا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ» قال الله تعالى : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتٰاباً» لم تكن العرب لتعرف القراءة والكتابة وتدوين الأحداث الإجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة وغير ذلك في زمن الجاهليّة بل كان الشعر والأخبار والقصص التي تروى شفاهة هي سجل العرب وديوان معارفهم وثقافتهم التاريخيّة ، فغالبية الناس آنذاك لم تكن لهم كتب يدرسونها والذي كان بأيديهم من التوراة والإنجيل لم يكن هو المنزل من السماء لمكان التحريف والتغيير الذي وقع فيهما كما يشهد له قوله تعالى : «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٥٠ ، الخطبة ١٠٤.

٢ ـ الجمعة : ٢.

٨٩

عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (١). قال الطبرسي في ذيل هذه الآية قيل : نزلت في جماعة من أحبار اليهود كتبوا بأيديهم ما ليس في كتاب الله من نعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره ، وأضافوه إلى كتاب الله.

وقيل : نزلت في اليهود والنصارى الذين حرّفوا التوراة والإنجيل ، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وألحقوا به ما ليس منه ، وأسقطوا منه الدين الحنيف (٢).

وقال وهب : أوّل من خطّ بالقلم كان إدريس عليه‌السلام (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَلٰا يَدَّعِى نُبُوَّةً» لما شاع خبر بعثة النبيّ وقرب ظهوره سمّى قوم أبناءهم «محمّداً» طمعاً في النبوّة لما سمعوا أن اسم النبيّ الآتي هو «محمّد» فهؤلاء. كمايلى أسماءهم :

محمّد بن سفيان بن مجاشع في بني تميم ، ومحمّد بن احيحة ، ومحمّد الجشمي في بني سواءة ، ومحمّد بن حمران الجعفي ، ومحمّد الاسيدى ، ومحمّد بن خزاعة السلمى ، ومحمّد بن مسلمة ، ومحمّد بن الفقيمى ، ومحمّد بن برء البكري (٤).

بيد أن نظير ذلك قد وقع قبل ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وآله لموسى عليه‌السلام ووقع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام المهدي الثاني عشر من أئمّة اثنى عشر. هذا وجماعة من الناس اُتوا بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وادّعوا النبوّة كذباً ، منهم : مسيلمة بن حنيفة ، وسجاج

__________________

١ ـ آل عمران : ٧٨.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١ ـ ٢ ، ص ٤٦٤ ، في شأن النزول.

٣ ـ المعارف لإبن قتيبة : ص ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

٤ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٣٤.

٩٠

التي تزوجها مسيلمة من بني يربوع ، وأسود بن كعب من عنس ، وطلحة بن خويلد من أسد بن خزيمة لكنه رجع إلى الاسلام بعد (١).

وقال الشيخ المفيد بإسناده عن عمر بن أبان : كان خمسة من الأنبياء سريانيّون : آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وإبراهيم عليه‌السلام ، وخمسة عبرانيّون : اسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وداود ، وعيسى عليهم‌السلام ، وخمسة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَلٰا وَحْيًا» الوحي في اللغة : هو الكلام الخفي ، وهو الإشارة السريعة ، أوهو القاء ما يريد الموحي إلقاءه لدى الطرف الآخر ، من إعلام ، وأوامر ، وإرشادات ، والنصح وغير ذلك سواء عن طريق الإشارة ، أوالكتابة ، أو الرمز ، أوالمحادثة.

وقد اتخذت كلمة الوحي معنى اصطلاحيّاً قرآنيّاً كغيرها من الكلمات العربيّة ، الّتي نقلت من إستعمالها العام إلى إستعمالها الشرعي الخاص ، فأصبح لفظ الوحي إسماً لما يلقىٰ للأنبياء والرسل من كلام الله ومن قوله سبحانه وتعالى.

قوله عليه‌السلام : «فَقٰاتَلَ بِمَنْ أَطٰاعَهُ مَنْ عَصٰاهُ» أي قاتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل المدينه من الأنصار والمهاجرين أهل مكة واليهود وغيرهم.

وقيل : بعد مضيّ سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل يقوله : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (٣) فقلّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عنقه سيفاً بدون غمدوا أخذ يحارب به قومه حتّى يقولوا لا إلٰه إلّا الله.

__________________

١ ـ بهج الصباغة : ج ٢ ، ص ٢٠٩.

٢ ـ الإختصاص : ٢٦٤.

٣ ـ الحج : ٣٩.

٩١

وقال السروي نقل عن أهل السير : بأنّ جميع غزوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه تبلغ ست وعشرون غزوة ، وسراياه صلى‌الله‌عليه‌وآله تبلغ ست وثلاثون سريّة (١).

قوله عليه‌السلام : «يَسُوقُهُمْ إِلىٰ مَنْجٰاتِهِمْ» أي سوقهم إلى محل نجاتهم.

قوله عليه‌السلام : «وَيُبٰادِرُ بِهِمُ السّٰاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ» أي قبل الإستعداد ليوم القيامة تنزل بهم ، العذاب وقال الشيخ المفيد : لما عاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن يكرب ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أسلم يا عمرو يؤمّنك الله من الفزع الأكبر ، قال. يا محمّد وما الفزع الأكبر؟ فإنّي لا أفزع ، فقال : يا عمرو : إنّه ليس كما تظنّ وتحسب ، إنّ النّاس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميّت إلّا نشر ، ولا حيّ إلامات ، إلّا ماشاء الله ، ثم يصاح بهم صيحة أخرى ، فَيُنْشر من مات ، ويصفّون جميعاً ، وينشقّ السماء ، وتهدّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّاً ، وترمى النار بمثل الجبال شرراً ، فلا يبقى ذوروح إلّا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه ، إلّا ما شاء الله ، فأين أنت يا عمرو من هذا؟.

قال : ألا إني أسمع أمراً عظيماً. فآمن بالله ورسوله ، وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم. (٢)

قوله عليه‌السلام : «يَحْسَرُ الْحَسِيرُ» قال الجوهري : الحسرة : أشد التلهّف على الشيئ الفائت (٣). فالإنسان يحسر في يوم القيامة لماذا لم يأت بالأعمال الصالحة الحسنة اكثر ممّا أتى به ويفزع من أعماله القبيحة. حينما يخاطب

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٨٦.

٢ ـ الإرشاد : ص ٨٤.

٣ ـ الصحاح : ج ٢ ، ص ٦٣٠ ، مادة «حسر».

٩٢

بقوله تعالى «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا» (١) فلما ينظر إلى صحيفة أعماله يقول : «مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَيَقِفَ الكَسِيرُ» أي من كان كسيراً لا يتمكّن من السير المتعارف فلابدّ أن يقف. قال تعالى : «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتّىٰ يُلْحِقَهُ غٰايَتَهُ» أي من لم يكن صاحب معرفة ولا يقبل الإسلام بمجرّد الدعوة إليه. بل لابد من المدارة معه حتّى يعرف الحق بالتأمّل والهدوء.

قوله عليه‌السلام : «إلّٰا هٰالِكًا لٰا خَيْرَ فِيهِ» أي من لم يكن مؤمناً من الكفار والمشركين والمنافقين أي المستهزئين الذين قال الله فيهم : «إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ» وهم : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث ، وأبو زمعة ، والعاص بن وائل ، والحرث بن قيس ، وعقبة بن أبي معيط ، والأسود بن الحرث ، وأبوالبختري وأبوجهل ، وأبولهب ونظراؤهم ، فهداهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صراط الحق ، فأبوا أن يقبلوا عناداً وعتوّا.

وفي الخبر : مرّ الأسود بن عبد يغوث على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأومأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بطنه ، فاستسقى ومات حبناً (٥).

ومرّ عليه أبوزمعة ، فأشار صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عينه ، فعمي ، وكان يضرب رأسه على الجدار حتّى هلك.

ومرّ به الوليد بن المغيرة ، فأومأ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جرح اندمل في بطن رجله

__________________

١ ـ الإسراء : ١٤.

٢ ـ الكهف : ٤٩.

٣ ـ الصافات : ٢٤.

٤ ـ الحجر : ٩٥.

٥ ـ الحبن : داء البطن يعظم منه.

٩٣

من نبل ، فتعلّقت به شوكة فنن (١) فخدشت ساقه ، ولم يزل مريضاً حتّى مات.

وخرج العاص بن وائل من بيته ، فلفحته (٢) السموم ، فلمّا انصرف إلى داره لم يعرفوه ، فباعدوه فمات غمّاً وفي خبر فقتلوه.

ورمى الله أبالهب بالعدسة ، فتركه إبناه ثلاثاً لا يدفنانه ، وكانوا يتّقون العدسة ، فقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه (٣).

قوله عليه‌السلام : «حَتّىٰ أَرٰاهُمْ مَنْجٰاتَهُمْ ، وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ» أي حتّى أراهم منازلهم ومحل نجاتهم.

قوله عليه‌السلام : «فَاسْتَدٰارَتْ رَحٰاهُمْ» أي نفوذ أمرهم.

قوله عليه‌السلام : «وَاسْتَقٰامَتْ قَنٰاتُهُمْ» أي تمكّنهم.

* * *

__________________

١ ـ الفنن ـ محركة ـ الغصن.

٢ ـ لفحته النار : أي أحرقته.

٣ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٧٣ ـ ٧٥.

٩٤

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

حَتّىٰ بَعَثَ اللهُ مَحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ

شَهِيدًا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا. خَيْرَ الْبَرِيَّةِ

طِفْلًا ، وَأَنْجَبَهٰا كَهْلًا. أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ

شِيمَةً ، وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً.

قوله عليه‌السلام : «حَتّىٰ بَعَثَ اللهُ مَحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ شَهِيدًا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا» شهيد : فعيل بمعنى فاعل من شهد على الشيئ إطّلع عليه وعاينه ، فهو شهيد وشاهد ، والمراد هنا إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشهد على الاُمّة بما فعلته من خير أو من شرّ من طاعته أو عصيان قال تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا» (٢) وقال : «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ» (٣) وقال : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (٤) وقال : «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا» (٥) فرسول الله يشهد على كلّ اُمّة بما فعلت ويدل عليه.

ما روي أنّ الأُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم‌السلام فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبيّنة عليه على أنّهم قد بلّغوا ، وهو أعلم للحجّة على الجاحدين وزيادة لخزيهم ، فيؤتى باُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيشهدون. فيقول

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٥١ ، الخطبة ١٠٥.

٢ ـ الأحزاب : ٤٥.

٣ ـ النحل : ٨٩.

٤ ـ البقرة : ١٤٣.

٥ ـ النساء : ٤١.

٩٥

الأُمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى عند ذلك بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويُسئل عن أُمّته فيزكّيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله تعالى : «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (١) ومن الحكمة في ذلك ، تمييز أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الفضل عن ساير الأُمم حيث يبادرون إلى تصديق الله وتصديق الأنبياء والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق فلذلك تقبل شهادتهم على الأُمم ولا تقبل شهادة الأُمم عليهم (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : نحن الشهداء على الناس بما عندهم من الحلال والحرام وبما ضيّعوا منه (٣).

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل : بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي ، عن عليّ عليه‌السلام : إنّ الله تعالى إيّانا عنى بقوله : «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» (٤) فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء على خلقه وحجّته في أرضه ، ونحن الذين قال الله تعالى : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (٥) (٦).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما لكم في حياتي خيراً وفي مماتي خيراً ، قال : فقيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّا حياتك فقد علمناه ، فما لنا في وفاتك؟ فقال : أمّا في حياتي فإنّ الله عزّوجلّ ، قال : «وَمَا كَانَ اللهُ

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ أنوار التنزيل : ج ١ ، ص ٨٧ ، مع اختلاف يسير في بعض العبارة وتفسير النيسابوري في هامش ، تفسير الطبري ج ٧ ، ص ١٢.

٣ ـ تفسير نور الثقلين : ج ١ ، ص ١٣٣ ، وبصائر الدرجات : ص ١٠٢ ، ح ١.

٤ ـ البقرة : ١٤٣.

٥ ـ البقرة : ١٤٣.

٦ ـ شواهد التنزيل للحسكاني : ج ١ ، ص ٩٢ ، ح ١٢٩.

٩٦

لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (١) وأمّا في مماتي. فتعرض عليّ أعمالكم فأستغفر لكم (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا» أي يكون صلوات الله عليه مبشّراً لمن إتّبعه بالثواب ، ونذيراً لمن خالفه بالعقاب قال الله : «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا»أي خير الناس طفلاً وأفضل الخلق طفوليّةً بسلوكه ومشيه في صباه ، قال عكرمة : كان يوضع فراش لعبدالمطلب في ظلّ الكعبة ، ولا يجلس عليه اُحد إلّا هو إجلالاً له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج ، فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه ، فقال لهم عبدالمطلب : دعوا إبني ، فوالله إنّ له لشأناً عظيماً (٤).

وفي المناقب عن أبي طالب : لم أرمنه كذبة قط ، ولا جاهليّة قط ، ولا رأيته يضحك في غير موضع الضحك ، ولا يدخل مع الصبيان في لعب ، ولا إلتفت إليهم ، وكانت الوحدة أحبّ إليه (٥).

وقال المسعودي : قال أبوه عبدالله فيه :

الحمدلله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيّب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالبيت ذي الأركان (٦)

وفي المناقب : قال أبو طالب لأخيه عبّاس : يا عبّاس اُخبرك عن

__________________

١ ـ الأنفال : ٣٣.

٢ ـ الكافي : ج ٨ ، ص ٤٥٤ ، ج ٣٦١.

٣ ـ البقرة : ١١٩.

٤ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٣٥.

٥ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٣٧.

٦ ـ مروج الذهب : ج ٢ ، ص ٢٨٩.

٩٧

محمّد ، إنّى ضممته فما أُفارقه ساعة من ليل أونهار ، فلم أئتمن أحداً حتّى نوّمته في فراشي ، فأمرته أن يخلع ثيابه وينام معي ، فرأيت في وجهه الكراهيّة ، فقال : لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي ، فتعجّبت من قوله ، وصرفت بصري عنه حتّى دخل فراشه (١).

قال السروي نقلاً عن القاضي المعتمد في تفسيره : قال أبوطالب : لقد كنت كثيراً ما أسمع منه إذا ذهب من الليل كلاماً يعجبني ، وكنّا لا نسمّي على الطعام ، ولا على الشراب حتّى سمعته يقول : بسم الله الأحد ثم يأكلّ ، فإذا فرغ من طعامه ، قال : الحمد لله كثيراً ، فتعجبت منه ، وكنت ربّما أتيت غفلة ، فأرى من لدن راسه نوراً ممدوداً قد بلغ السماء ثم لم أرمنه كذبة قط ، ولا جاهليّة قط ، ولا رأيته يضحك في موضع الضحك ، ولا مع الصبيان في لعب ، ولا إلتفت إليهم ، وكان الوحدة أحب إليه والتواضع (٢).

وقال عمّه أبوطالب في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ولقد عهدتك صادقاً

في القول لا تتزيد

ما زلت تنطق بالصواب

وأنت طفل أمرد

قوله عليه‌السلام : «وَأَنْجَبَهٰا كَهْلًا» النجيب : الكريم ، النفيس في نوعه فعيل بمعنى فاعل ، من نجُبَ ـ كَكرُمَ ـ نجابة ، ورجل نجيب أي كريم بيّن النجابة ، ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال كهوليّته منبع كلّ كرم وفضل. والكهل من الرجال : الذي جاوز الثلاثين ، قاله الجوهري (٣).

وقال المسعودي : لمّا بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها تنازعوا في

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٣٦.

٢ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٣٧.

٣ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ١٨١٣ ، مادة «كهل».

٩٨

رفع الحجر ووضعه في محله فاتّفقوا أن يرضوا بأوّل من يطّلع عليهم من باب بني شيبة ، فكان أوّل من ظهر لأبصارهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك الباب ، وكانوا يعرفونه بالأمين ، لوقاره وهديه وصدق لهجته ، واجتنابه القاذورات والأدناس ، فحكموه فيما تنازعوا فيه ، وإنقادوا إلى قضائه ، فبسط ما كان عليه من رداء ، وقيل : كساء طاروني وأخذ عليه الصّلاة والسلام الحجر فوضعه في وسطه ، ثم قال لأربعة رجال من قريش وهم أهل الرياسة فيهم ، والزعماء منهم ، وهم : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، والأسود بن عبدالمطلب بن أسد بن عبدالعزّى بن قصيّ ، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمروبن مخزوم ، وقيس بن عدي السهمي : ليأخذ كلّ واحد منهم بجنب من جنبات هذا الرداء ، فشالوه حتّى إرتفع عن الأرض ، وأدنوه من موضعه ، فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجر ووضعه في مكانه وقريش كلّها حضور ، وكان ذلك أوّل ما ظهر من فعله وقضائه وأحكامه.

فقال قائل ممّن حضر من قريش متعجّباً من فعلهم وإنقيادهم إلى أصغرهم سنّاً : وإعجاباً لقوم أهل شرف ورياسة وشيوخ وكهول عمدوا إلى أصغرهم سنّاً وأقلّهم مالاً ، فجعلوه عليهم رئيساً وحاكماً!! أما واللات والعزى (١) ليفوقنّهم سبقاً وليقسمنّ بينهم حظوظاً وجدوداً ، وليكوننّ له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم (٢).

قوله عليه‌السلام : «أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً» أي خلقاً وطبيعة. قال السروي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الناس ، وأحلمهم ، وأشجعهم ، وأعدلهم وأعطفهم ،

__________________

١ ـ اللات والعزىٰ : صنمان كانا في الطائف ، وكانت تعبدهما ثقيف في الجاهليّة.

٢ ـ مروج الذهب : ج ٢ ، ص ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٩٩

لم تمس يده يد إمرأة لا تحلّ ، وأسخى الناس وكان يكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم ، ولا يجفو على أحد ، ولا لعن إمرأة ولا خادماً بلعنةٍ وما شتم أحداً يشتمة وغير ذلك من الأوصاف الحميدة والأخلاق الطيّبة (١).

قوله عليه‌السلام : «وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً» الديمة : المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق ، وأقلّه ثلث النهار أوثلث الليل ، وأكثر ما بلغ من العدّة قاله الجوهري (٢).

كني بذلك عن غاية جوده وكرمه ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أمسى آوى إلى البيت فلا يجد فيه شيئاً من فضّة أوذهب إلّا تصدّق به ، ولم يبت في بيته منه شيى. وكان يكرم من يدخل عليه حتّى ربّما بسط ثوبه ، ويؤثر الداخل بالوسادة النبيّ تحته.

وقال أبو طالب فيه :

وأبيض يستسقى الغمام بوجه

ثمال التيامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

* * *

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٤٥ ـ ١٤٧.

٢ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ١٩٢٤.

١٠٠