الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦

رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» (١) فلمّا نزلت «يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» نادى : الصّلاة جامعة فاجتمع الناس إليه ، فقال : من أولى منكم بأنفسكم؟ فضجّوا بأجمعهم : الله ورسوله. فأخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعادي من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فإنّه منّي وأنا منه ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنه لانبي بعدي ، وكان آخر فريضة فرضها الله تعالى على أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم أنزل تعالى على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (٢) فقبلوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كل ما أمرهم من الفرائض في الصّلاة والزكاة والصوم والحج وصدّقوه على ذلك ... وفي ذيله لم يصدّقوا له في فريضة الولاية التي هي أعظم الفرائض ، وبها إكمال الدين (٣).

وفي رواية عن الصّادق عليه‌السلام : نعطي حقوق الناس بشهادة شاهدين ، وما أعطي أمير المؤمنين عليه‌السلام حقّه بشهادة عشرة آلاف نفس يعني ـ يوم الغدير ـ والغدير في وادي الأراك على عشرة فراسخ من المدينة ، وعلى أربعة أميال من الجحفة ، عند شجرات خمس دوحات عظام ، وقد أنشد الكميّت عند الإمام الباقر عليه‌السلام :

ويوم الدوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لوأطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

فلم أرمثلها خطراً منيعا

ولم أر مثل هذا اليوم يوماً

ولم أر مثله حقّاً اُضيعا (٤)

__________________

١ ـ المائدة : ٦٧.

٢ ـ المائدة : ٣.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ج ١ ، ص ٤٣٦ ، ح ٨.

٤ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ٣ ، ص ٢٦.

٦١

وأخرجه الصفّار عن أبي أسامة : قال : كنت عند أبي عبدالله عليه‌السلام وعنده رجل من المغيريّة ، فسأل عن شيئ من السنن ، فقال : ما من شيئ يحتاج إليه ولد آدم إلّا وقد خرجت فيه السنّة من الله ومن رسوله ولو لا ذلك ما إحتجّ.

فقال المغيري : وبما احتجّ؟ فقال أبو عبدالله عليه‌السلام قوله تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (١) فلو لم يكمل سننه وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما إحتجّ به (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَأَنْهىٰ إِلَيْكُمْ عَلىٰ لِسٰانِهِ» أي على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أبلغ الاُمّة بما تحتاج من الشرائع والأحكام.

قوله عليه‌السلام : «مَحٰابَّهُ مِنَ الْأَعْمٰالِ» أي ما يحبّه من الأعمال الحسنة.

قوله عليه‌السلام : «وَمَكٰارِهَهُ» جمع مكروه ، أي ما يكرهه منها

قوله عليه‌السلام : «وَنَوٰاهِيَهُ» أي وزواجره.

قوله عليه‌السلام : «وَأَوامِرَهُ» أي وواجباته. روى الشيخ المفيد قدس سره أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج في مرض وفاته معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين عليه‌السلام بيمنى يديه ، وعلى الفضل بن العباس باليد الاُخرى حتّى صعد المنبر ، فجلس عليه.

ثم قال : معاشر الناس قد حان منّي خفوق من بين أظهركم إلى أن قال : ليس بين الله وبين أحد شيئ يعطيه به خيراً ، أو يصرف عنه به شرّاً إلّا العمل. أيها الناس لا يدّع مدّع ولا يتمنّ متمنّ ، والذي

__________________

١ ـ المائدة : ٣.

٢ ـ بصائر الدرجات : ص ٥٣٧ ـ ٥٣٨ ، ح ٥١ ، باب ١٨ : النوادر في الأئمة عليهم‌السلام واُعاجيبهم.

٦٢

بعثنى بالحقّ نبيّاً لا ينجى إلّا عمل مع رحمة ، ولو عصيت لهويت ، اللّهم هل بلغت (١)؟ الحديث.

قوله عليه‌السلام : «فَأَلْقىٰ إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ» فلايمكنكم إلاعتذار مع المخالفة بالجهالة.

قوله عليه‌السلام : «وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ» لقوله تعالى : «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ» اقتباس من قوله تعالى : «قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ» (٣) ليكون الوعيد قبل حلول العقاب ، ويشهد له قوله تعالى : «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا» (٤) فبعث الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكتاب المبين لكيلا «تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ» (٥).

قوله عليه‌السلام : «وَأَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ» اقتباس من قوله تعالى : «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (٦) فالإنذار دائماً يكون قبل نزول العذاب لقبح العقاب من دون البيان قال تعالى : «يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» (٧).

* * *

__________________

١ ـ الارشاد : ٩٧.

٢ ـ الأنعام : ١٤٩.

٣ ـ ق : ٢٨.

٤ ـ الإسراء : ١٥.

٥ ـ الأعراف : ١٧٢.

٦ ـ سبأ : ٤٦.

٧ ـ يس : ١ ـ ٦.

٦٣

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ ، وَاعْتِزٰامٍ مِنَ الْفِتَنِ ، وَانْتِشٰارٍ مِنَ الْأُمُورِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ.

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ» الفترة : أي ما بين الرسولين من رسل الله تعالى من الزمان الذي إنقطعت فيه الرسالة ومنه «فترة ما بين عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسلام» هكذا ذكره إبن الأثير (٢).

وفي شرح إبن أبي الحديد : الفترة بين الرسل : إنقطاع الرسالة والوحي ، وكذلك كان إرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عهد المسيح عليه‌السلام عهداً طويلاً أكثر الناس على أنّه ستماءة سنة ولم يرسل في تلك المدّة رسول (٣).

ففي هذه الفترة الخالية من الرسول انحرفت الاُمّة عن مسيرها الديني والأخلاقي الموجب لنشر الظلم والعدوان والقتل والطرد فحينئذٍ تحتاج الاُمّة إلى قوانين جديدة حكيمة لنظم أمورهم الموجب لبعثة رسول لهم.

فبعثة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تكون أكبر نعمة للبشريّة الّتي تنفي عنهم ما كانوا عليه سابقاً من الظلم والعدوان وأنّه موجب لهدايتهم وإرشادهم وتعليمهم و ... كما دل عليه قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٢١ ـ ١٢٢ ، الخطبة ٨٩.

٢ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٤٠٨ ، مادة «فتر».

٣ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٦ ، ص ٣٨٨.

٦٤

مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» (١).

قوله عليه‌السلام : «وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ» الهجعة : النوم ليلاً كذا ذكره الجوهري (٢).

والاُمم : جمع اُمّة وهي الجماعة ، وأصلها القصد من أمّه يأمّه أمّاً : إذا قصده ، كأنّهم قصدوا أمراً واحداً وجهة واحدة ، وتأتي لمعانٍ.

منها : الجماعة مطلقاً.

ومنها : جماعة اُرسل إليهم رسول.

ومنها : يقال لكلّ جيل من الناس والحيوان : اُمّة ، ومنه الحديث : لولا أن الكلاب اُمّة تسبّح لأمرت بقتلها (٣).

ومنها : إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان اُمّة واحدة كما في قوله تعالى : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً» (٤).

ومنها : بمعنى حين كما في قوله تعالى : «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (٥).

هذا وأن اُمّة النبيّ تكون نوعان :

النوع الأوّل : اُمّة الإجابة : وهم الذين أجابوا دعوته ، وصدّقوا نبوّته ، وآمنوا بما جاء به ، وهؤلاء هم الذين جاء مدحهم بالكتاب والسنّة : كقوله تعالى : «جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (٦) وكقوله تعالى : «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» (٧).

__________________

١ ـ الجمعة : ٢.

٢ ـ الصحاح : ج ٣ ، ص ١٣٠٥ ، مادة «هجع».

٣ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٦٨.

٤ ـ النحل : ١٢٠.

٥ ـ يوسف : ٤٥.

٦ ـ البقرة : ١٤٣.

٧ ـ آل عمران : ١١٠.

٦٥

وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي» (١).

وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن اُمّتي يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين» (٢).

النوع الثاني : اُمّة الدعوة : وهم الذين بعث اليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من مسلم وكافر ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الاُمّة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي اُرسلت به إلّا كان من أصحاب النار (٣).

فهؤلاء هم الذين بعث الله إليهم النبيّ في زمان الفترة التي كانوا يعيشون في ظلمة الجهل والضلال غافلين عن أمر المعاد ، وكان الفقر والمرض تسيطران عليهم بحيث دعت بعضم إلى قتل أولادهم والتخلّص منهم خشية إملاق وخوفاً من الإرتزاق عليهم.

قوله عليه‌السلام : «وَاعْتِزٰامٍ مِنَ الْفِتَنِ» قال : إبن أبي الحديد : كأنّه عليه‌السلام جعل الفتن معتزمة ، أي : مريدة مصمّمة للشغب والهرج. ويروى «واعتراض» كما يروى «واعترام» بالراء المهملة من العرام ، وهي : الشدة (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَانْتِشٰارٍ مِنَ الْأُمُورِ» أي أنّ اُمور الخلق متشتّة ومتفرّقة غير منتظمة ليس لهم قانون عدلي يحكم بينهم بالمساواة فحياتهم هرج ومرج.

قوله عليه‌السلام : «وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ» التلظّي : الإلتهاب والإشتعال شبّه عليه‌السلام الحرب : بالنار في الإحتراق والهلاك وأسند إليها التلظّي على

__________________

١ ـ سنن أبي داود : ج ٤ ، ص ٢٣٦.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ٤٠٠.

٣ ـ صحيح مسلم : ج ١ ، ص ١٣٤ ، ح ٢٤٠.

٤ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٦ ، ص ٣٨٨.

٦٦

سبيل الإستعارة وكنّى به عن هيجانها وتؤامراتها في ايّام الجاهليّة فإنّها كانت كثيرة جدّاً انظر العقد الفريد ، (١) والكامل لإبن الأثير (٢).

* * *

__________________

١ ـ العقد الفريد : ج ٦ ، ص ٤.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ، ص ٥٠٢.

٦٧

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

حَتّىٰ تَمَّتْ بِنَبِيِّنٰا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ حُجَّتُهُ ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذُرُهُ وَنُذُرُهُ.

قوله عليه‌السلام : «حَتّىٰ تَمَّتْ بِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ حُجَّتُهُ» أي أكمل به دينه ، وختم به أنبيائه ورسله. قال الله تعالى : «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (٢). وعن أبي هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : اُرسلت إلى النّاس كافّة وبي ختم النبيّون (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذُرُهُ وَنُذُرُهُ» المقطع بالكسر : ما يقطع به الشيئ ، قاله الجوهري (٤) أي لم يزل يبعث الأنبياء واحداً بعد واحد ، حتّى بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فتمّت به حجّته على الخلق أجمعين قال الله تعالى : «رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا» (٥).

* * *

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٣٣ ـ ١٣٤ ، الخطبة ٩١.

٢ ـ الأحزاب : ٤٠.

٣ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥٠ ، والسنن الكبرى : ج ٢ ، ص ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

٤ ـ الصحاح : ج ٣ ، ص ١٢٦٧ ، مادة «قطع».

٥ ـ النساء : ١٦٥.

٦٨

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

حَتّىٰ أَفْضَتْ كَرٰامَةُ اللهِ سُبْحٰانَهُ إِلىٰ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلٰهِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعٰادِنِ مَنْبِتًا ، وَأَعَزِّ الْأُرُومٰاتِ مَغْرِسًا. مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِى صَدَعَ مِنْهٰا أَنْبِيٰاءَهُ ، وَانْتَجَبَ مِنْهٰا أُمَنٰاءَهُ. عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ. نَبَتَتْ فِى حَرَمٍ ، وَبَسَقَتْ فِى كَرَمٍ ، لَهٰا فُرُوعٌ طِوالٌ ، وَثَمَرَةٌ لٰا تُنالُ. فَهُوَ إِمٰامُ مَنِ اتَّقىٰ ، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدىٰ ، سِرٰاجٌ لَمَعَ ضَوْءُهُ ، وَشِهٰابٌ سَطَعَ نُورُهُ ، وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ؛ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ ، وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ ، وَكَلٰامُهُ الْفَصْلُ ، وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ. أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ ، وَغَبٰاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ.

قوله عليه‌السلام : «حَتّىٰ أَفْضَتْ كَرٰامَةُ اللهِ سُبْحٰانَهُ إِلىٰ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلٰهِ» الإفضاء إلى الشيئ : الوصول والإنتهاء إليه ، فانتهت سلسلة النبوة والرسالة إلى وجوده الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشرقت الأرض بنور جماله ، وأضاءت الدنيا بأشعّة كماله :

بلغ العلى بكماله

كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله

صلّوا عليه وآله

قوله عليه‌السلام : «فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعٰادِنِ مَنْبِتًا» أي من نسل إبراهيم الخليل عليه‌السلام لأنّه محل لجوهر الرسالة ، وأصل لشجرة النبوّة ، فحقيق بأن يكون أفضل المعادن ، وأعزّ الأصول.

روى مسلم عن واثلة بن الأسقع. يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ الله اصطفىٰ كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٣٩ ، الخطبة ٩٤.

٦٩

من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم (١).

ويحتمل أن يكون المراد بذلك مكّة المكرمة لِما كانت ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها ويشعر به قوله عليه‌السلام في هذه الخطبة : نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ.

وروى الطبرسي في الإحتجاج عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام في حديث عن آبائه عليهم‌السلام ، عن الحسين بن علي عليهما‌السلام قال : إنّ يهوديّاً من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل ، والزبور ، وصحف الأنبياء عليهم‌السلام وعرف دلائلهم ، جاء إلى مجلس فيه أصحاب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وإبن عبّاس ، وإبن مسعود ، وأبوسعيد الجهني فقال : يا اُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تركتم لنبي درجة ، ولا لمرسل فضيلة ، إلّا نحلتموها لنبيّكم ، فهل تجيبوني عمّا أسألكم عنه؟ فكاع (٢) القوم عنه ، فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : نعم ، ما أعطى الله عزّوجلّ نبيّاً درجة ، ولا مرسلاً فضيلة ، إلّا وقد جمعها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وزاد محمّداً على الأنبياء أضعافاً مضاعفةً الحديث (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَأَعَزِّ الْأُرُومٰاتِ مَغْرِسًا» الأرومات : جمع أرومة بمعنى الأصل ، و «مغرساً» من حيث النسل أي النسل السامي.

قوله عليه‌السلام : «مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهٰا أَنْبِيٰاءَهُ» الصدع : بمعني الشق ، والمراد : إن الله إشتق من شجرة إبراهيم رسل وأنبياء الذين جاؤوا من بعده.

__________________

١ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٧٨٢ ، كتاب الفضائل : باب ١ فضل نسب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ح ٢٢٧٦ ، ومسند أبي يعلى الموصلي : ج ١٣ ، ص ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، ح ٣ / ٧٤٨٥.

٢ ـ فكاع : أي جبن وهاب.

٣ ـ الإحتجاج : ج ١ ، ص ٤٩٧ ـ ٤٩٨ ، ح ١٢٧.

٧٠

قوله عليه‌السلام : «وَانْتَجَبَ مِنْهٰا أُمَنٰاءَهُ» أي إختار من الأنبياء من هم أمناء على وحيه.

قوله عليه‌السلام : «عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ» عترة الرجل : نسله ورهطه الأدنون (١) فهم الذين أوصى فيهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : إنّي أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزّوجلّ وعترتي ، كتاب الله حبل ممدودً بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأن اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بماذا تخلّفوني فيهما (٢).

وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كهاتين ـ وضم بين سبّابتيه ـ فقام إليه جابر بن عبدالله الأنصاري وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عترتك؟ قال : علي ، والحسن ، والحسين ، والأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة (٣).

وقال الشيخ الصدوق : العترة : علي بن أبي طالب عليه‌السلام وذريّته من

__________________

١ ـ الصحاح : ج ٢ ، ص ٧٣٥ ، مادة «عتر».

٢ ـ هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين من الأحاديث المتواترة أخرجه الشيخ الصدوق قدس سره بخمس طرق في إكمال الدين : ص ٢٣٥ ـ ٢٤٠ ، ح ٤٦ ، ٤٨ ، ٥٠ ، ٥٧ ، وأخرجه الشيخ الطوسي في أماليه : ص ٢٥٥ ، ح ٤٦٠ / ٥٢ ، المجلس التاسع ، وأخرجه أحمد بأربع طرق في مسنده : ج ٣ ، ص ١٤ ، ١٧ ، والثعلبي في تفسيره عنه ، ينابيع المودة : ص ٣٢ ، والطبراني في معجمه عنه الدر المنثور : ج ٢ ، ص ٦٠ ، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري ، وفي الباب عن علي وفاطمة والحسن وإبن عبّاس وزيد بن الأرقم وثلاثة عشر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ إكمال الدين وإتمام النعمة : ص ٢٤٤ ، ٢٤٥.

٧١

فاطمة وسلالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم الذين نص الله بالإمامة على لسان نبيّه وهم اثنا عشر أوّلهم علي عليه‌السلام وآخرهم المهدي عليهم‌السلام على جميع ما ذهبت إليه العرب من معنى العترة : وذلك أنّ الأئمّة عليهم‌السلام من بين. جميع بني هاشم. ومن بين جميع ولد أبي طالب كقطاع المسك الكبار في النافجة ، وعلومهم العذبة عند أهل الحكمة والعقل. وهم الشجرة التي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصلها ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام فرعها ، والأئمة من ولده أغصانها ، وشيعتهم ورقها ، وعلومهم ثمرها ، وهم عليهم‌السلام أصول الإسلام على معنى البلدة والبيضة. وهم الهداة على معنى الصخرة العظيمة الّتي يتّخذ الضبّ عندها حجراً فيأوي إليه لقلّة هدايته ، وهم أصل الشجرة المقطوعة لأنهم وتّروا وظلموا وجفوا وقطعوا ولم يواصلوا فنبتوا من اُصولهم وعروقهم ، ولا يضرّهم قطع من قطعهم ، ولا إدبار من أدبر عنهم ، إذ كانوا من قبل الله منصوصاً عليهم على لسان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

قوله عليه‌السلام : «وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ» «الاُسرة» بالضمّ ـ كغرفة ـ : ومن ضبطه ـ بالفتح ـ فقد وَهَم ، وهُم رهط الرجل الأدنون ، وأصلها من الأسر وهو الشدّ ، لأنّ الرجل يشتدّ برهطه وعشيرته ويقوى بهم ، والمراد رهطه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعشيرته ، وهم بنو هاشم ، ونعم ما قيل :

لله في عالمه صفوة

وصفوة الخلق بنو هاشم

وصفوة الصفوة من هاشم

محمّد الطهر أبوالقاسم

وممّا يدلّ على ذلك ما أخرجه البيهقي عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزّوجلّ ، اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ،

٧٢

واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم (١).

وهكذا أخرجه الترمذي في سننه عن أبي عمّار أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ الله تعالى ، اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم (٢).

وأيضاً أخرجه الحاكم في حديث : إنّ الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم ، واختار من بني آدم العرب ، واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشاً ، واختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم ، فأنا من بني هاشم من خيار إلى خيار ، فمن أحبّ العرب فبحّبي أحبّهم ، ومن أبغض العرب ، فببغضي أبغضهم (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ» أي أصله خير الاُصول ، وأرادبها إمّا هاشماً أو إسماعيل.

وفي الحديث عن أبي جعفر عليه‌السلام سئل عن قول الله عزّوجلّ : «كَشَجَرَةٍ

__________________

١ ـ دلائل النبوة : ج ١ ، ص ١٦٥ ، وأخرجه مسلم في صحيحه : ج ٤ ، ص ١٧٨٢ ، كتاب الفضائل : باب فضل نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ح ٢٢٧٦ ، والترمذي في سننه ، في اول كتاب المناقب : ج ٥ ، ص ٥٤٤ ، ح ٣٦٠٥ ، وحنبل في مسنده : ج ٤ ، ص ١٠٧ ، وجاء في مسند أبي يعلى الموصلي : ج ١٣ ، ص ٤٧٢ ، ح ٥ / ٧٤٨٧.

٢ ـ سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٥٤٤ ، ح ٣٦٠٦ ، وأخرجه البيهقى في دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ١٦٦ ، وجاء في مسند أبي يعلى الموصلي : ج ١٣ ، ص ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، ح ٣ / ٧٤٨٥.

٣ ـ المستدرك على الصحيحين : ج ٤ ، ص ٧٣ ، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة : ج ١ ، ص ١٧١ ـ ١٧٢ ، ونقله إبن كثير في البداية والنهاية : ج ٢ ، ص ٢٥٧.

٧٣

طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا» (١) ، قال عليه‌السلام : أمّا الشجرة : فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفرعها : علي عليه‌السلام ، وغصن الشجرة : فاطمة بنت رسول الله سلام الله عليها ، وثمرها : أولادها عليهم‌السلام ، وورقها : شيعتنا. الحديث (٢).

قوله عليه‌السلام : «نَبَتَتْ فِى حَرَمٍ» أي منبته في عزّو كرامة.

قوله عليه‌السلام : «وَبَسَقَتْ فِى كَرَمٍ» وبسقت : أي علت وارتفعت في العزّ والشرف والكرامة.

قوله عليه‌السلام : «لَهٰا فُرُوعٌ طِوالٌ» أي أهله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذرّيته الطيّبين ، ووصفها بالطوال إشارة إلى بلوغها في الشرف والكمال وقد قال الله تعالى : «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَثَمَرَةٌ لٰا تُنالُ» أراد بثمرها : نفسه عليه‌السلام ومن يجرى مجراء من أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنّهم ثمرة تلك الشجرة ، وكنّى بها عن علوّ مكارم أخلاق نفسه والأئمة من ذريّته ، بيد أنّه لا يمكن النيل منها لعلو شر فهاكما لا يمكن الوصول إليها لغموض أسرارها ودقتها ، فلا تصل الأذهان إليها.

وقال إبن أبي الحديد لاينال مساعيهم ومآثرهم ولا يباريهم أحد ، وقد روي في الحديث في فضائلهم : نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكيّة ، وقوله لبني هاشم : والله لا يبغضكم أحد إلّا أكبّه الله على منخريه في النّار.

وقوله عليه‌السلام : «سادة أهل محشر» أي سادة أهل الدنيا وهم : أنا ، وعلي ، وحسن ، وحسين ، وحمزة ، وجعفر وقوله : «ما بال رجال يزعمون أن

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٥.

٢ ـ معاني الأخبار : ص ٤٠٠ ، ح ٦١.

٣ ـ الكوثر : ١ ـ ٣.

٧٤

قرابتي غير نافعة» ، بلى إنّها لنافعة وأنّه لا يبغض أحد أهلي إلّا حرّمه الله الجنّة (١).

قوله عليه‌السلام : «فَهُوَ إِمٰامُ مَنِ اتَّقٰى ، وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدىٰ» يعني أنّه صلوات الله عليه وآله قدوة للمتقين ، وتبصرة للمهتدين ، وأسوة حسنة لهم.

قوله عليه‌السلام : «سِرٰاجُ لَمَعَ ضَوْءُهُ ، وَشِهٰابٌ سَطَعَ نُورُهُ ، وَزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ» شبّهه عليه‌السلام بالسراج والشهاب والزند في كونه سبب هداية الخلق ، ضرورة أنّه بعد لمعان ضوء السراج لم يبق معه الظلمة ، وبعد إرتفاع نور الشهاب تضيىء كلّ الجوانب ، وبعد بروق الزند تحصل الإستنارة منه. والزند كما جاء في الصحاح : العود الذي يقدح به النّار وهو الأعلى ، والزندة : السفلى فيها ثقب ، وهي الأُنثى ، فإذا اجتمعا قيل زندان (٢) فلا مجال حينئذٍ لبقاء الأُمّة في الضلال وعدم هدايتهم.

قوله عليه‌السلام : «سِيرَتُهُ الْقَصْدُ» القصد أي الإعتدال ليس بإفراط ولا تفريط.

وفي الخبر كانت صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قصداً وخطبته قصداً (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَسُنَّتُهُ الرُّشْدُ» أي الصواب ، ويشهد له ما أخرجه أبو داود في سننه ، عن عبدالله بن أبي الحمساء قال : بايعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببيع قبل

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٧ ، ص ٦٣ ـ ٦٤.

٢ ـ الصحاح : ج ١ ، ص ٤٧٨ ، مادة «زند».

٣ ـ أخرجه مسلم بطريقين في صحيحه : ج ٢ ، ص ٥٩١ ، ح ٤١ ، و ٤٢ ، والترمذي في سننه : ج ٢ ، ص ٣٨١ ، ح ٥٠٧ ، والنسائي في سننه : ج ٣ ، ص ١٩١ ، وإبن ماجة في سننه : ج ١ ، ص ٣٥١ ، ح ١١٠٦. وغيره.

٧٥

أن يبعث وبقيت له بقيّة ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث. فجئت فإذا هو في مكانه. فقال : يا فتى! لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك (١).

وفي الخبر إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزء لله ، وجزء لأهله ، وجزء لنفسه ، ثم جزأ جزءهَ بينه ، وبين النّاس فيسرد ذلك بالخاصّة على العامّة ولا يدّخر عنهم منه شيئاً (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَكَلٰامُهُ الْفَصْلُ» الفارق بين الحق والباطل ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : اُوتيت جوامع الكلم (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَحُكْمُهُ الْعَدْلُ» وفي الخبر أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يهود خيبر أرضها ونخلها بالمناصفة ، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبدالله بن رواحة ، فقوّم عليهم ، وخرص ، فقال لهم : إما أن تأخذوه وتعطوني نصف التمر وإمّا آخذه وأعطيكم نصف التمر ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض (٤).

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ عَلٰى حِينِ فَتْرَةٍْ» أي على حين إنقطاع الرسل ، إذ بالضرورة أنّ الرسل إلى زمان رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء كانت كثيرة ، وبعد رفع عيسى إنقطع الوحى والرسالة إلى زمان نبيَّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والفاصل من الزمان كان خمسماءة سنة حسب بعض روايات الشيعة وستماءة سنة كما جاء في صحيح البخاري

__________________

١ ـ سنن أبي داود : ج ٤ ، ص ٢٩٩ ، ح ٤٩٩٦.

٢ ـ معاني الأخبار : ص ٨١ ، باب معاني ألفاظ وردت في صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والطبقات الكبرىٰ : ج ١ ، ص ٣٢٥.

٣ ـ صحيح مسلم : ج ١ ، ص ٣٧٢ ، ٥٢٣ / ٧ و ٨.

٤ ـ مسند إبن حنبل : ج ٢ ، ص ٢٤.

٧٦

وقال إبن الأثير : الفترة : هو ما بين الرسولين من رسل الله تعالى من الزمان الذي إنقطعت فيه الرسالة ، ومنه «فترة ما بين عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام (١).

قوله عليه‌السلام : «وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ» الهفوة : أي الزلّة ، فكانت أعمالهم غير صالحة ، أو لم تكن لهم أعمال فلم يؤدّوا واجباتهم.

قوله عليه‌السلام : «وَغَبٰاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ» الغباوة : الجهل ، وقلّة الفطنة ، وفلان غبّي : أي قليل الفطنة ، فالأُمّة آن ذاك كانت غبيّة جدّاً في مجالات عديدة : السياسيّة ، والإقتصاديّة والإجتماعيّة ، وغيرها.

* * *

__________________

١ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٤٠٨ ، مادة «فتر».

٧٧

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

بَعَثَهُ وَالنّٰاسُ ضُلّٰالٌ فِى حَيْرَةٍ ، وَحٰاطِبُونَ فِى فِتْنَةٍ. قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوٰاءُ ، وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيٰاءُ ، وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجٰاهِلِيَّةُ الْجَهْلٰاءُ. حَيٰارىٰ فِى زِلْزٰالٍ مِنَ الْأَمْرِ ، وَبَلٰاءٍ مِنَ الْجَهْلِ. فَبٰالَغَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ في النَّصِيحَةِ ، وَمَضىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ ، وَدَعٰا إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

قوله عليه‌السلام : «بَعَثَهُ وَالنّٰاسُ ضُلّٰالٌ فِى حَيْرَةٍ» لقد كان الفقر والبؤس والجهل أشباحاً مرعبة تسيطر على قبائل العرب المتناثرة في جزيرتها الموحشة الجرداء ، ففي ظلمات ذلك العصر الجاهلي المتخلّف بزغت أنوار الإسلام وشعّ ضياء بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي دعا الاُمّة إلى التوحيد وخلع الأنداد وما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان.

قوله عليه‌السلام : «وَحٰاطِبُونَ فِى فِتْنَةٍ» حاطبون : جمع حاطب ، وهو الذي يجمع الحطب ، ويقال لمن يجمع بين الصواب والخطأ ، أويتكلّم بالغثّ والسمين : حاطب ليل ، لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله ، فهو إستعارة. والمراد أنّهم جامعون في ضلالهم وفتنهم بين الغث والسمين وبين الحق والباطل ، وفي نسخه «خابطون» أي كانت أعمالهم مخبوطة بين حقّ والباطل.

قوله عليه‌السلام : «قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوٰاءُ» أي جذبتهم الأهواء الفاسدة ، والآراء الباطلة إلى الهلاك والفناء.

قوله عليه‌السلام : «وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيٰاءُ» أي أَدّت التكبّر والتجبّر إلى الزلل والهبوط في المضار كما حصلت لابليس حيث قال : «أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٤٠ ، الخطبة ٩٥.

٧٨

خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» (١) وقال : «لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَاسْتَخَفَّتْهُمُ الْجٰاهِلِيَّةُ الْجَهْلٰاءُ» أي جعلتهم ذوي خفّة وطيش و «الجهلاء» : وصف مبالغة للجهل ، وتأكيد للأوّل كما يقال : ليل أليل.

قوله عليه‌السلام : «حَيٰارىٰ فِى زِلْزٰالٍ مِنَ الْأَمْرِ» الزلزال ـ بالفتح ـ الإسم ، وبالكسر : المصدر ، والزلازل : الشدائد ، أي متحيّرين في الشدائد تائهين مغمورين في إضطراب من الأمر ، أي لا يهتدون إلى وجوه الخير والصلاح ، والمراد من الأمر هنا : دينه وشريعته كما فسّر به قوله تعالى : «وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَبَلٰاءٍ مِنَ الْجَهْلِ» لأنّ الجهل بلاء ليس فوقه بليّة لأنّهم كانوا في الجاهليّة يأكلون الميتة ، ويأتون الفواحش ، ويقطعون الأرحام ، ويقتلون أولادهم خشية اِملاق وفقر ، وقد صوّرت إحدى آيات القرآن الكريم هذه الصورة المأساويّة المروّعة بنصّها : «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» (٤).

قوله عليه‌السلام : «فَبٰالَغَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ فِى النَّصِيحَةِ» النصح بالضم مصدر نصح له من باب ـ منع ـ : هذه اللغة الفصيحة وعليها قوله تعالى : «إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ» (٥) وفي لغة يتعدّى بنفسه ، فيقال : نصحته ، والإسم : النصحية ، وهي كلمة جامعة ، ومعناها : حياز الخير للمنصوح له ،

__________________

١ ـ الأعراف : ١٢.

٢ ـ الحجر : ٣٣.

٣ ـ التوبة : ٤٨.

٤ ـ الإسراء : ٣١.

٥ ـ هود : ٣٤.

٧٩

من نصحت العسل : إذا صفّيته من الشمع ، شبّهوا تخليص العقول من الغش بتخليص العسل من الشمع ، والمراد من «بالغ في النصيحة» أي بالغ في إرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم ، وتعليمهم ايّاها ، وعرضهم عليها ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، والذبّ عنهم وعن أعراضهم.

وبالجملة جلب خير الدنيا والآخرة إليهم.

قوله عليه‌السلام : «وَمَضىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ» أي الطريق المستقيم من غير إنحراف ، قال تعالى : «قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (١).

قوله عليه‌السلام : «وَدَعٰا إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» قال الطبرسي : أي دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اُمّته إلى دين الحق وإلى مرضاة الله ، و «الحكمة» أي بالقرآن ، وسمّى القرآن حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالحسن والنهي عن القبيح ، وأصل الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد «وبالموعظة الحسنة» أي الوعظ الحسن وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والتزهيد في فعله ، وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع (٢).

* * *

__________________

١ ـ يوسف : ١٠٨.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٥ ـ ٦ ، ص ٣٩٢.

٨٠