الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦

السموات والأرض من تسبيح محمّد وأُمّته (١).

وقال أبو طالب عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمين حبيب في العباد مسوّم

بخاتم ربّ قاهر في الخواتم

يرى الناس برهاناً عليه وهيبة

وما جاهل في قومه مثل عالم

وقال إبن قتيبة : كان أميّة بن أبي الصّلت : قد قرأ الكتب ، ورغب عن عبادة الأوثان ، وكان يخبر بأن نبيّاً يبعث قد أظل زمانه ، فلمّا سمع بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقصته كفر حسداً له ، ولمّا أنشد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله شعره ، قال : آمن لسانه وكفر قلبه (٢).

قوله عليه‌السلام : «كَرِيماً مِيلٰادُهُ» عند ما كان وقت الميلاد أرهصت الدنيا بعلامات الهادي الحبيب ، فالأرض ملئت ظلما وجوراً ، غدت الأرض مرتعاً للظلم والفساد ، والجاهليّة قد إستطال ظلامها فغشيت العيون القلوب وكتب الله قد حرّفت وشوّهت معالمها ، وكان لابدّ أن يشرق اللطلف الإلهي في ربوع الأرض ، وتتجّدد رسالة الله سبحانه للإنسان ، فيخاطبه بالكلمة الحق ، وشاء الله أن يولد النور في رحاب مكّة ، ويشعّ الوحي في سمائها المقدّس. ويتعالى صوت التوحيد في الحرم الأمن ، حرم إبراهيم وإسماعيل عليه‌السلام ، ذلك في عام المحنة عام الفيل الذي دهم فيه مكّة ، خطر الغزو والحبشي لهدم الكعبة وإطفاء نور النبوات ، واستئصال ميراث إبراهيم العظيم عليه‌السلام وفي هذا العام (٥٧١) للميلاد ولد محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الجمعة عند الروال في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل كما هو المشهور بين أصحابنا قبل هجوم أصحاب الفيل بخمسين ليلة ، ولدته اُمّه آمنة بنت وهب في مكة المكرّمة في منزل أبيه عبد الله بن عبد المطلب في

__________________

١ ـ كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٠٥.

٢ ـ المعارف لإبن قتيبة : ٦٠.

٢١

شعب أبي طالب عليه‌السلام ، وكانت ولادته قبل وفاة أبيه بشهرين.

وفي الحديث عن الصادق عليه‌السلام قال : كان ابليس يخترق السماوات السبع ، فلمّا ولد عيسى عليه‌السلام حجب عن ثلاث سماوات ، وكان يخترق أربع السماوات ، فلمّا ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حجب عن السبع كلّها ورميت الشياطين بالنجوم ، وقالت قريش : هذا قيام الساعة كنّا نسمع أهل الكتب يذكرونه (١).

قوله عليه‌السلام : «وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ» فجاهليّة العرب ووثنيّتها واُميّتها ووحشيّتها تعبث بأطلال الحجاز ، وتدنّس ربوع مكة والبيت الحرام ، ومجوسيّة الفرس وسلطانها تعبث في مشرق الدنيا فساداً ، والنار تعبد من دون الله ، وأحبار اليهود ورهبان النصرانيّة قد حرّفوا التوراة والإنجيل؛ ودولة الروم تسوم الناس في مغرب الدنيا سوء العذاب ، والعالم يضجّ ، وكيل الأرض يطفح بالجرائم ، وحياة الغاب المتوحّشة تسيطر على سلوك الإنسان.

قوله عليه‌السلام : «وَأَهْوٰاءٌ مُنتَشِرَةٌ» كالثنويّة وعابدي الملائكة وعابدي الشمس ، والعرب آنذاك كانوا على أصناف مختلفة ، فمنهم معطّلة ، ومنهم غير معطّلة ، فأمّا المعطّلة. فبعضهم أنكر الخالق والبعث والإعادة فحكى الله تعالى عنهم : «مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ» (٢).

فجعلوا الجامع لهم الطبع ، والمهلك الدهر «وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (٣).

__________________

١ ـ أمالي الشيخ الصدوق : ص ٢٣٥ ، ح ١ ، المجلس ٤٨.

٢ ـ الجاثية : ٢٤.

٣ ـ الجاثية : ٢٤.

٢٢

وبعضهم إعترف بالخالق سبحانه ، وأنكر البعث ، وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله : «قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (١).

ومنهم من أقروا بالخالق ونوع من الإعادة ، وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنّها شفعآء عند الله في الآخرة ، وحجّوا لها ، ونحروا لها الهدي ، وقرّبوا لها القربان ، وحلّلوا وحرّموا ، وهم جمهور العرب ، وقد قال الله عنهم : «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ» (٢) ومن هؤلاء : قبيلة ثقيف وهم أصحاب اللات بالطائف وقريش وبنوكنانة وغيرهم أصحاب العزّى.

وأما الذين ليسوا بمعطّلة من العرب ، وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرّج عن القبائح ، كعبد الله ، وعبدالمطلب ، وابنه أبي طالب ، وزيد بن عمروبن نفيل ، وجماعة غير هؤلاء.

وعبادة الأصنام كانوا على أقسام ، فمنهم المشركون الذين يجعلون لله شريكاً كقريش وكنانة كانوا إذا أهلّوا قالوا : «لبيك اللّهم لبيك ، لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك» (٣).

وقال أبو رجاء العطاردي : كنّا نجمع التراب في الجاهليّة فنجعل وسطه حفرة ، فنحلب فيها ، ثم نسعي حولها ونقول : «لبيّك لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» (٤).

ومنهم من يجعلها وسائل ، وهم الذين قالوا : «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا

__________________

١ ـ يس : ٧٨ ـ ٧٩.

٢ ـ يونس : ١٨.

٣ ـ السيرة النبوية لإبن هشام : ج ١ ، ص ٨٠.

٤ ـ حلية الأولياء : ج ٢ ، ص ٣٠٦.

٢٣

إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ» (١).

وقد كانت لقوم نوح أصنام قد عكفوا عليها ، قص الله تعالى خبرها على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عزّوجلّ : «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا» (٢).

فكان الذين إتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم وسمّوا بأسمائهم حين فارقوا دين إسماعيل : كلب بن وَبرْة من قضاعة ، إتّخذوا «وَدّاً» بدومة الجندل (٣).

وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، اتّخذوا «سواعاً» (٤) وأنعم من طيّ ، وأهل جرش من مذحج (٥) اتخذوا «يغوث» وخيوان (٦) بطن من هَمْدان إتّخذوا «يعوق» بأرض همدان من أرض اليمن.

وذو الكلاع من حِمْيَر ، اتّخذوا «نسراً» بأرض حمير (٧) وكانت «اللّات» (٨) لثقيف بالطائف. وكانت «مناة» (٩) للاوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد (١٠) وكانت لقريش وبني كنانة «العزى» (١١). واتخذوا أساف و

__________________

١ ـ الزمر : ٣.

٢ ـ نوح : ٢٣ ـ ٢٤.

٣ ـ دومة الجندل : حصنٌ بين المدينة والشام ، وهو أقرب إلى الشام من المدينة.

٤ ـ سواع : اسم صنم كان يعبد في زمن نوح ، ثم صار لهذيل.

٥ ـ المعروف أنّ جرش من حمير ، وأنّ مذحج من كهلان بن سبأ.

٦ ـ خيوان : قرية لهم من صنعاء على ليلتين ممّا يلي مكّة وكان بها يعوق.

٧ ـ كان هذا الصنم بأرض يقال لها : بلخع ، موضع من أرض سبأ ولم تزل تعبده حمير.

٨ ـ اللات وهي أحدث من مناة ، وكانت صخرة مربّعة.

٩ ـ وكانت مناة أقدمها كلّها ، ولم يكن أحد أشد إعظاماً لها من الأوس والخزرج.

١٠ ـ قديد : موضع قرب مكة. والمشلل : جبل يهبط منه إلى قديد من ناحيه البحر.

١١ ـ العزى أحدث من اللات ومناة.

٢٤

نائلة صنماً لهم وجعلوهما على الصفا والمروة (١).

وكانت قريش قد اتخذت صنماً على بئر في جوف الكعبة يقال له : هبل (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَطَرٰائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ» كالدهريّة ، والوثنية. وكان الحرث بن قيس السهمي ـ وهو أحد المستهزئين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يقول : قد غرّ محمّد أصحابه ووعدهم أن يحيوا بعد الموت ، والله ما يهلكنا إلّا الدهر ، وكان يأخذ حجراً يعبده ، فإذا رأى أحسن منه ترك الأوّل وعبد الثاني ، وقيل : فيه نزلت هذه الآية : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ» (٣) (٤).

وكانت بنو حنيفة اتّخذوا في الجاهليّة إلٰهاً من حيس فعبدوه دهراً طويلاً ، ثم أصابهم مجاعة فأكلوه ، فقال رجل من بني تميم :

أكلت ربّها حنيفة من

جوع قديم بها ومن إعواز

وكان لربيعة بيت يطوفون به يسمى ذو الكعبات.

وكان لخثعم بيت كان يدعى كعبة اليمامة وكان فيه صنم يدعى الخلّصة. وكان أهل الجاهليّة ينحرون لصخرة يعبدونها ، ويلطّخونها بالدم ويسّمونها سعد الصخرة ، وكان إذا أصابهم داء في إبلهم وأغنامهم

__________________

١ ـ وكان إساف ونائلة رجلاً وإمرأة من جُرهم وهو إساف بن عمروبن يحيى ، ونائلة بنت سهل ـ فوقع إساف على نائلة في الكعبة ، فمسخهما الله حجرين ، ثم وضع عمروبن يحيى أساف بعد ذلك على الصفا ، ونائلة على المروة ، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة.

٢ ـ وكان هبل أعظم أصنام العرب التي في جوف الكعبة وحولها ، وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمن ، أدركته قريش كذلك ، فجعلوا له يداً من ذهب. وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وكان يقال له : هبل خزيمة وكانت تضرب عنده القداح.

٣ ـ الفرقان : ٤٣.

٤ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٧١.

٢٥

جاؤوا إلى تلك الصخرة وتمسّحوا بها الإبل والغنم ، فجاء رجل بإبل له يريد أن يتمسّح لها بالصخرة ، ويبارك عليها ، فنفرت وتفرّقت فقال :

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا

فشتّتنا سعد فما نحن من سعد

وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة (١)

من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد (٢)

ومرّ رجل بسعد وثعلب يبول عليه فقال :

أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

قوله عليه‌السلام : «بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلّٰهِ بِخَلْقِهِ» وهم الذين شبّهوا الله تعالى بالمخلوقات ، ومثّلوه بالحادثات وأثبتوا له صفات الجسم.

فمنهم مشبّهة الحشويّة ، قالوا : هو جسم لا كالأجسام ، ومركّب من لحم ودم لا كاللحوم والدماء ، وله الأعضاء والجوارح ، ويجوز عليه الملامسة والمعانقة والمصافحة للمخلصين.

ومنهم الذين قالوا : إنّ الله على العرش من جهة العلو مماس له من الصفحة العليا ، ويجوز عليه الحركة والإنتقال ، قال اميّة بن أبي الصلت :

من فوق عرش جالس قد حطّ رجليه على كرسيّه المنصوب

ومنهم : اليهود والنصارىٰ ، حيث أثبتوا له إبناً وهو عزير ، وحكى الله عنهم «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» (٣).

__________________

١ ـ التنوفة : القفر من الارض الذي لا ينبت شيئاً.

٢ ـ السيرة النبويه لإبن هشام : ج ١ ، ص ٨٣.

٣ ـ التوبة : ٣٠.

٢٦

ولقد أثبتوا لله سبحانه وتعالى يدأ ، كما قال الله تعالى : «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» (١).

وكصنف من العرب حيث أثبتوا له بنات ، أي الملائكة؛ فكانوا يعبدونها لتشفع لهم إلى الله تعالى ، وهم الذين أخبر تعالى عنهم في قوله : «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «أَوْ مُلْحِدٍ فِى اسْمِهِ» إشارة إلى فرقة اُخرى من هذه الفرق قال الله تعالى : «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» (٣).

أي وهم الذين يعدلون بأسماء الله تعالى عمّا هي عليه فيسمّون بها أصنامهم ، ويصفونه بما لا يليق به ، ويسمّونه بما لا يجوز تسميته به ، «اللات» من الله ، «والعزى» من العزيز ، و «المناة» من المنّان عن إبن عبّاس ومجاهد كما جاء في مجمع البيان (٤).

قوله عليه‌السلام : «أَوْ مُشِيرٍ إِلىٰ غَيْرِهِ» إشارة إلى الدهريّة حيث جعلوا الصانع الدهر والنور والظلمة. وفي الحديث لمّا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه : أدعوكم إلىٰ شهادة أن لا إلٰه إلّا الله ، وخلع الأنداء ، قالوا : ندع ثلاثماءة وستين إلٰهاً ، ونعبد إلٰهاً واحداً (٥).

قوله عليه‌السلام : «فَهَدٰاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلٰالَة» أي إنّ الله سبحانه هداهم برسول الله من الغواية.

قوله عليه‌السلام : «وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكٰانِهِ مِنَ الْجَهٰالَةِ» أي بوجود نبيّه نجاهم وخلّصهم من ظلمة الجهالة.

__________________

١ ـ المائدة : ٦٤.

٢ ـ النحل : ١٥.

٣ ـ الأعراف : ١٨٠.

٤ ـ مجمع البيان : ج ٣ ـ ٤ ، ص ٥٠٣.

٥ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٤.

٢٧

قوله عليه‌السلام : «ثُمَّ اخْتٰارَ سُبْحٰانَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ لِقٰاءَهُ» أي أنّ محمّداً لمّا بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة وأكمل الدين وأتمّ النعمة وهدى الاُمّة من الضلالة وأنقذها من الجهالة إختار الله سبحانه لقاءه وذلك في الليلتين بقيتا من صفر ، وهو إبن ثلاث وستّين سنة. ولقد خسرت الإنسانيّة أعظم هادٍ وأجلّ مربّ عرفته الأرض والسماء فصلّى الله عليه يوم ولد ، ويوم رحل إلى ربّه الأعلى ، ويوم يبعث حيّا.

روى الطبري مسنداً عن أبي مويهبة مولى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث قال النبيّ : يا أبا مويهبة إنّى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنّة ، خيّرت بين ذلك وبين لقاء ربّى والجنة ، فاخترت لقاء ربي والجنّة.

قال : قلت : بأبي أنت وأمّي ، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنّة فقال : لا والله يا أبا مويهبة ، لقد إخترت لقاء ربّي والجنّة ، ثم أستغفر لأهل البقيع (١).

فلمّا وقف بين القبور قال مخاطباً موتى المؤمنين عليه‌السلام : السلام عليكم يا أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ، ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتّبع أوّلها آخرها ، ثم أستغفر لأهل البقيع طويلا ، ونعى نفسه لمن كان حاضراً من المؤمنين ، ثم إنصرف ، فبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجعه الذي قبض فيه.

قوله عليه‌السلام : «وَرَضِىَ لَهُ مٰا عِنْدَهُ» أي من المقام والمكانة عند الله ممّا لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الحديث (٢).

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٢٢٦ ، سنة ١١ ، ذكر الأحداث الّتي كانت فيها.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٨ ، ص ٩٢ و ١٧١.

٢٨

قوله عليه‌السلام : «وَأَكْرَمَهُ عَنْ دٰارِ الدُّنْيٰا» أي أعزّه عن اللبث والبقاء في دار الدنيا.

قوله عليه‌السلام : «وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مُقٰارَنَةِ الْبَلْوىٰ» أي صرفه عن الإقامة في دار الدنيا الّتي هي دار بالبلاء محفوفة.

قوله عليه‌السلام : «فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ» أي بعد ما بلّغ رسالات ربّه.

روى الطبري عن إبن مسعود قال : نعى إلينا نبيّنا وحبيبنا صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه قبل موته بشهر إلى أن قال : فقلنا متى أجلك؟

قال : قددنا الفراق والمنقلب إلى الله ، وإلى سدرة المنتهى.

قلنا : فمن يغسلك يا نبي الله؟

قال : أهلي الأدنىٰ فالأدنىٰ.

قلنا : ففيم نكفنك يا نبيّ الله؟

قال : في ثيابي هذه إن شئتم ، أوفي بياض مصر ، أوفي حلّة اليمانيّة إلى أن قال : إذا غسّلتموني ، وكفّنتموني ، فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ، ثم أخرجوا عنّي ساعة ، فإنّ أوّل من يصلّي علّي جليسي وخليلي جبرئيل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها ، ثم اُدخوا علّي فوجاً فوجاً ، فصلّوا عليّ وسلّموا تسليماً. إلى أن قال : قلنا فمن يدخلك في قبرك يا نبي الله؟.

قال : أهلي مع ملائكة كثيرين ، يرونكم من حيث لا ترونهم (١).

* * *

__________________

١ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٢٢٨ ، سنة ١١ ، ذكر الأحداث التي كانت فيها.

٢٩

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

وَأَشْهَدُ أَنْ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لٰا شَرِيكَ لَهُ ... وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالدَّينِ الْمَشْهُور ، وَالْعِلْمِ الْمَأْثُورِ ، وَالْكِتٰابِ الْمَسْطُورِ ، وَالنُّورِ السّٰاطِعِ ، وَالضِّيٰاءٍ اللّٰامِعِ ، وَالْأَمْرِ الصّٰادِعِ ، إِزٰاحَةٍ لِلشُّبُهٰاتِ ، وَاحْتِجٰاجاً بِالْبَيِّنٰاتِ ، وَتَحْذِيرًا بِالْاٰيٰاتِ ، وَتَخْوِيفاً بِالْمُثلٰاثِ.

قوله عليه‌السلام : «وَأَشْهَدُ أَنْ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لٰا شَرِيكَ لَهُ ... وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» تشهّده عليه‌السلام بالرسالة بعد تشهّده بالوحدانيّة والربوبيّة لا يكون إلّا لتقدّم مرتبه التوحيد على مرتبة الرسالة ، لأنّ الله تعالى قد كتب بخطوط النور على ساق العرش لا إلٰه إلّا الله محمّد رسول الله (٢).

وفي الكافي عن أبى عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : من قال : أشهد أن لا إلٰه إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، كتب الله له ألف ألف حسنة (٣).

وفي ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : من شهد أن لا إلٰه إلّا الله ولم يشهد أنّ محمّداً رسول الله كتبت له عشر حسنات ، فإن شهد أنّ محمّداً رسول الله كتبت له ألفي ألف حسنة (٤).

وفيه أيضاً عن سهل بن سعد الأنصاري قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٤٦ ، الخطبة ٢.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ٣٦ ، ص ٣٢١.

٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٥١٨ ، ح ١ ، باب من قال أشهد أن لا إلٰه إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله.

٤ ـ ثواب الأعمال : ص ٩ ـ ١٠ ، ح ١ ، ثواب من شهد أن لا إلٰه إلّا الله وأن محمّداً رسول الله.

٣٠

عن قول الله عزّوجلّ : «وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا» (١) قال : كتب الله عزّوجلّ كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورق آس أنبته ثم وضعها على العرش ، ثم نادى يا اُمّة محمّد إنّ رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلّا أنا ، وأنّ محمّداً عبدي ورسولي ، أدخلته الجنّة برحمتي (٢).

وأمّا تسمية النبيّ بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ أوّل من سماّه بذلك كان هو الله سبحانه عزّوجلّ كما يدلّ عليه حديث عرض الأشباح لآدم عليه‌السلام حيث قال سبحانه له : هذا محمّد وأنا الحميد المحمود في أفعالي ، شققت له إسماً من إسمي (٣) الحديث.

وسماّه بعد ذلك عبدالمطلب بمحمّد يوم السابع من ولادته إلهاماً من الله تعالى وتفأّلاً بكثرة حمد الخلق له ، ولكثرة خصاله الحميدة.

وقد قيل له : لم سمّيت إبنك محمّداً ، وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟

فقال : رجوت أن يحمد في السماء والأرض ، وقد حقّق الله رجاءه.

هذا وقد ورد روايات كثيرة المستفيضة في إستحباب التسمية بذلك الإسم المبارك للأطفال.

ففي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : قال : لا يولد لنا ولد إلّا سمّيناه محمّداً فإذا مضى سبعة أيّام فإن شئنا غيّرنا وإن شئنا تركنا (٤).

__________________

١ ـ القصص : ٤٦.

٢ ـ ثواب الأعمال : ص ١٠ ، ح ٢ ، ثواب من شهد أن لا إلٰه إلله وأنّ محمّداً رسول الله.

٣ ـ بحارالأنوار : ج ٢٦ ، ص ٣٢٧.

٤ ـ الكافي : ج ٦ ، ص ١٨ ، ح ٤ ، باب الأسماء والكنى.

٣١

وأخرجه الإربلي عن إبن عبّاس قال : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : ألا ليقم من إسمه محمّد فاليدخل الجنّة لكرامة سميّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأمّا تسمية محمّد بأنّه عبد الله فقد سماّه الله تعالى ذلك في قوله : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (٢).

وأمّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله فقد قال الله تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ» (٣). وقال سبحانه وتعالى : «وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (٤) وقال عزّوجلّ : «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ» (٥).

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ بِالدَّينِ الْمَشْهُورِ» الرسالة بالكسر لغة : اسم من الإرسال وهو التوجيه ، وعرفاً : تكليف الله تعالى بعض عباده بواسطة ملك يشاهده ويشافهه أن يدعو الخلق إليه ويبلّغهم أحكامه ، فالله سبحانه عزّوجلّ أرسل نبيّنا بالدين الواضح بين الأُمم الماضية والحاضرة ، قال الله تعالى : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (٦) وقال سبحانه عزّوجلّ : «قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا» (٧).

قوله عليه‌السلام : «وَالْعِلْمِ الْمأْثُورِ» أي القرآن الكريم لأنّ المراد من العلم ، أي ما يهتدى به ، والمراد من المأثور : أي المنقول. قال الجوهري : وحديث

__________________

١ ـ كشف الغمّة : ج ١ ، ص ٢٨ ، ووسائل الشيعة : ج ٢١ ، ص ٣٩٥ ، ح ٢٧٣٩٣ / ١٠ ، باب ٢٤. إستحباب التسمية بإسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ الإسراء : ١.

٣ ـ آل عمران : ١٤٤.

٤ ـ الأحزاب : ٤٠.

٥ ـ الفتح : ٢٩.

٦ ـ التوبة : ٣٣ ، والفتح : ٢٨ ، والصف : ٩.

٧ ـ الأنعام : ١٦١.

٣٢

مأثور : أي ينقله خلف عن سلف (١) فالقرآن هو العلم الذي يهتدى به الناس وينقله خلف عن سلف ، وقال إبن أبي الحديد : ويجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن ، فإنّها كثيرة ومأثورة ، ويؤكّد هذا قوله بعد هذا «والكتاب المسطور» فدل على تغايرهما (٢).

وقيل «العِلْمِ المأثور» بكسر العين وسكون اللام مصدر عَلِمَ فيكون كلامه إشارة إلى قوله تعالى : «ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (٣) ، أي ايتوا ببقيّة من علم يؤثر عن الأوليين بصحّة دعواكم.

قوله عليه‌السلام : «وَالْكِتٰابِ الْمَسْطُورِ» أي القرآن الذي سطر بقلم النور على اللوح المحفوظ ، قال تعالى : «وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ» (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَالنُّورِ السّٰاطِعِ ، وَالضِّيٰاءِ اللّٰامِعِ» أي النور المرتفع والضياء المشرق قال الله تعالى : «وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٥) وقال الله تعالى : «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» (٦).

قول عليه‌السلام : «وَالْأَمْرِ الصّٰادِعِ» أي الظاهر ، قال تعالى : «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (٧).

__________________

١ ـ الصحاح : ج ٢ ، ص ٥٧٥ ، مادة «أثر».

٢ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ١ ، ص ١٣٦.

٣ ـ الأحقاف : ٤.

٤ ـ الطور : ١ ـ ٣.

٥ ـ الأعراف : ١٥٧.

٦ ـ المائدة : ١٥ ـ ١٦.

٧ ـ الحجر : ٩٤.

٣٣

قوله عليه‌السلام : «إِزٰاحَةً لِلشُّبُهٰاتِ» أي إزالة للشبهات الباطلة والفاسدة.

قوله عليه‌السلام : «وَاحْتِجٰاجاً بِالْبَيِّنٰاتِ» أي بالمعجزات القاهرة والبراهين الواضحة ، قال تعالى : «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» (١) وقال عزّوجلّ : «قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ» (٢) وقال تعالى : «قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَتَحْذِيرًا بِالْاٰيٰاتِ» أي إنذاراً بالآيات القرآنيّة الدّالة على العقوبات النازلة للكفّار والمشركين والمنافقين والوصاة قال تعالى : «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ» (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَتَخْوِيفاً بِالْمَثُلاٰتِ» أي العقوبات ، قال تعالى : «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ» (٥) أي عقوبات أمثالهم من المكذّبين فما بالهم لم يعتبروا بها.

* * *

__________________

١ ـ الإسراء : ٨٨.

٢ ـ هود : ١٣.

٣ ـ يونس : ٣٨.

٤ ـ الحجر : ٧٤ ـ ٧٥.

٥ ـ الرعد : ٥.

٣٤

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْعٰالَمِينَ ، وَأَمِينًا عَلَىٰ التَّنْزِيلِ. وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلى شَرِّ دِينٍ وَفِى شَرِّ دٰارٍ ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجٰارَةٍ خُشْنٍ وَحَيّٰاتٍ صُمٍّ. تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ ، وَتأْكُلُونَ الْجَشِبَ ، وَتَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ, وَتَقْطَعُونَ أَرْحٰامَكُمْ. الْأَصْنٰامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ ، وَالْاٰثامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ.

قوله عليه‌السلام : «إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَالِٰهِ وَسَلَّمَ نَذِيرًا لِلْعٰالَمِينَ» اُمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بجمل الرسالة وتبليغ كلمة الله ، والدعوة إلى توحيده وعبادته وإصلاح البشريّة وإنقاذها من الظلم والكفر والفساد والخرافة بقوله تعالى : «قُمْ فَأَنذِرْ» (٢) فانطلق مستجيباً لأمر الله ، يبشّر بالإسلام ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولمّا كانت دعوته عامّة وشاملة لجميع البشر قال عليه‌السلام : «نذيراً للعالمين» وتنبيهاً للإنسانيّة على الغفلة بما ورد من الإنذارات في القرآن الكريم.

قوله عليه‌السلام : «وَأَمِينًا عَلَى التَّنْزِيلِ» الأمين : فعيل من الأمانة : فهو إما بمعنى مفعول : أي مأمون من أمنه كعلمه إذا إستأمنه ، أو بمعنى فاعل من أمن هو ككرم فهو أمين أي غير خائن بما أوحى إليه من القرآن الكريم ولا مبدّل لكلماته وأنّه غير مقصّر في تبليغ آياته وأحكامه ، إذ من شأن الأمين قوّته على ضبط ما يستأمن عليه ، وإستعداده له وحفظه وصيانته عن التلف والأدناس والتبديل والزيادة والنقصان ولهذا

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٦٨ ، الخطبة ٢٦.

٢ ـ المدثر : ٢.

٣٥

السرّ كانت العرب تسميّه بالأمين قبل مبعثه لما شاهدوه من أمانته وشهّر بهذا الإسم قبل نبوّته ، وبعد بعثته أخبر عنه تعالى فقال : «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (١).

قوله عليه‌السلام : «وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلىٰ شَرِّ دِينٍ» حيث عبدوا الأوثان والأصنام ، واتّخذوالله ، أنداداً وكان يقتل بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض ، ويدفنوا إبنتهم وهي حيّة كراهة أن تأكلّ زادهم وطعامهم.

وقد صورت إحدى آيات القرآن الكريم هذه الصورة المأساويّة المروّعة حيث قال الله تعالى : «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» (٢).

وكانت أديان العرب في الجاهليّة النصرانيّة واليهوديّة والمجوسيّة والصابئيّة والوثنيّة ، وكان بعضهم يعبدون الملائكة ، وبعضهم يعبدون الجن ، وبعضهم قالوا : بالدهر ، وبعض الآخر أقرّوا بالمبدأ وأنكروا المعاد.

قوله عليه‌السلام : «وَفِى شَرِّ دٰارٍ» أراد عليه‌السلام بها تهامة أو نجد أو البوادي الّتي كانوا يسكنونها ، ولقد كان الفقر والجهل والمرض ، أشباحاً مرعبة تسيطر على قبائل العرب المتناثرة في جزيرتها الموحّشة الجرداء. وقال المغيرة بن زرارة ليز دجرد : وأمّا منازلنا فإنّما هي ظهر الأرض (٣).

قوله عليه‌السلام : «مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجٰارَةٍ خُشْنٍ» أي ساكنون بين أحجار صلب لا نداوة فيها ولانبات.

قوله عليه‌السلام : «وَحَيّٰاتٍ صُمٍّ» وفي الصحاح : الصمة : الذكر من الحيّات

__________________

١ ـ الشعراء : ١٠٧ ، والدخان : ١٨.

٢ ـ الإسراء : ٣١.

٣ ـ اُنظر تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٩١ ، سنة ١٤.

٣٦

التي لا علاج لسمومها (١).

بيد أنّ حيّات تلك الأرض على غاية من القوة والسموم.

قوله عليه‌السلام : «تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ» لأنّ غالب مياه العرب آنذاك هو الغدران ، وأصلها ماء المطر ينزل على الأودية السبخة والقفار الملحة فيسيل حتّى يقع في تلك الغدران فيكون مرّاً أٌجاجاً ثم يتكدّر ويتعفّن.

وقال الحموي : سلاح : ماء لبني كلاب شبكة ملحة لا يشرب منها إلّا سلح (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَتأْكُلُونَ الْجَشِبَ» قال الجوهري : طعام جشب ومجشوب : أي غليظ وخشن ، ويقال : هو الذي لا أدم معه (٣).

وقال المغيرة بن زرارة ليزد جرد : كنّاناً كلّ الخنافس والجعلان والعقارب والحيات (٤).

وقال الجاحظ : في طعام العرب غير العلهز والهبيد أطعمة اُخرى مذمومة منها : الغث ، والدعاع ، والقدّ ، والعسوم ، ومنقع البرم ، والقصيد ، والحيّات (٥).

وقال خالد بن عمير العددي : شهدت فتح الأملة ، فأصبنا سفينة مملوّة جوزاً ، فقال رجل : ما هذه الحجارة؟ ثم كسر واحدة.

فقال : طعام طيّب.

قوله عليه‌السلام : «وَتَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحٰامَكُمْ» فإنّ القتل والغارة وسفك الدماء كان من شعار العرب في أيّام الجاهليّة ، وربّما كان

__________________

١ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ١٩٢٨ ، مادة «صمم».

٢ ـ معجم البلدان : ج ٣ ، ٢٣٣.

٣ ـ الصحاح : ج ١ ، ص ٩٩ ، مادة «جشب».

٤ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٩١.

٥ ـ البخلاء للجاحظ : ٣٣٩.

٣٧

يقتل الأب ولده وبالعكس ، قال الله عزّوجلّ : «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ» (١).

وقال إبن عبّاس : وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاماً حبسته (٢)؟

قوله عليه‌السلام : «الْأَصْنٰامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ» الصنم : ما كان له جسم أو صورة ، فإن لم يكن له جسم ولا صورة ، فهو وثن قاله الجزري (٣).

وقال إبن اسحاق : واتخذ أهل كلّ دار في دارهم صنماً يعبدونه ، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسّح به حين يركب ، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجّه إلى سفره ، وإذا قدم من سفره تمسّح به ، فكان ذلك أوّل ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله ، فلمّا بعث الله تعالى رسوله محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتوحيد قالت قريش : «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ» (٤) (٥).

وفي المناقب : أنّه لما فتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة كان فيها ثلاثماءة وستّون صنماً بعضها مشدود ببعض بالرصاص. فأنفذ أبوسفيان من ليلته مناة إلى الحبشة ، ومنها إلى الهند فهيّؤوا لها داراً من مغناطيس ، فتعلقت في الهواء إلى أيّام محمود سبكتكين ، فلمّا غزاها أخذها وكسرها ، ونقلها إلى إصفهان وجعلت تحت مارة الطريق (٦).

__________________

١ ـ التكوير : ٨ ـ ٩.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٩ ـ ١٠ ، ص ٤٤٤.

٣ ـ النهاية لإبن الأثير : ٣٩٠ ، ص ٥٦ ، مادة «صنم».

٤ ـ ص : ٥.

٥ ـ السيرة لإبن هشام : ج ١ ، ص ٧٨.

٦ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ٢٠٩.

٣٨

وقال الجزري : وكان على الكعبة ثلاثماءة وستون صنماً ، وكان بيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قضيب ، فكان يشير به إلى الأصنام وهو يقرأ : «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (١) فلا يشير إلى صنم منها إلّا سقط لوجهه (٢).

وأخرجه الخطيب البغدادي عن أبي مريم قال : قال علي عليه‌السلام : إنطلق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الأصنام ، فقال : اجلس ، فجلست إلى جنب الكعبة ، ثمّ صعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على منكبي ، ثم قال : إنهض بي إلى الصنم فنهضت به ، فلمّا رأى ضعفي تحته ، قال : اجلس ، فجلست وأنزلته عنّي ، وجلس لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال لي : يا على إصعد إلىٰ منكبي ، فصعدت على منكبيه ، ثم نهض بي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا نهض بى خيّل لي أني لو شئت نلت السماء ، وصعدت على الكعبة ، وتنحّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فألقيت صنمهم الأكبر صنم قريش ، وكان من نحاس موتّداً بأوتادٍ من حديد إلى الأرض. فقال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : عالجه ، فعالجته ، فما زلت أعالجه والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إيه إيه إيه ، فلم أزل أعالجه حتّى استمكنت منه ، فقال : دقّه فدققته ، وكسّرته ونزلت (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَالْاٰثٰامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ» أي مشدودة ، يقال : عصب رأسه بعصابة أي شدّ رأسه بعصابة.

قيل لحنظلة بن الشرقي : ما أدنى آثامك ليلة الدير؟ قال : نزلت

__________________

١ ـ الإسراء : ٨١.

٢ ـ الكامل في التاريخ لإبن الأثير : ج ٢ ، ص ٢٥٢ ، سنة ٨.

٣ ـ تاريخ بغداد : ج ١٣ ، ص ٣٠٢ ، ح ٧٢٨٢ ، وأخرجه أحمد في مسنده : ج ١ ، ص ٨٤ ، والنسائي في الخصائص : ١٦٥ ، والجويني في فرائط السمطين : ج ١ ، ص ٢٤٩ ، والخوارزمي في المناقب : ص ١٢٣ ، والهيثمى في مجمع الزوائد : ج ٦ ، ص ٢٣ ، وإبن شهراشوب في مناقبه : ج ٢ ، ١٣٥.

٣٩

بديرانية ، فأكلت عندها طِفْشَلِيّاً أي : ـ مرقاً بلحم خنزير ـ وشربت من خمرها ، وزينت بها ، وسرقت كأسها ومضيت (١).

وقالوا : إنّ عمرو بن كلثوم ، وزهير بن جناب ، وعامر ـ ملاعب الاُسنة ـ ممّن غضبوا فشربوا خمرهم صرفاً حتّى ماتوا (٢).

* * *

__________________

١ ـ بهج الصباغه : ج ٢ ، ص ١٧١.

٢ ـ بهج الصباغه : ج ٢ ، ص ١٧١.

٤٠