الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦

عَتِيدٌ» (١) وقال تعالى : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» (٢) وقال تعالى : «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ» (٣).

وفي بعض الأخبار المكان والزمان يشهدان على الرجل بأعماله (٤).

وفي الحديث عن الصادق عليه‌السلام في ذيل هذه الآية قال : إنّها نزلت في اُمّة محمّد وخاصة في كلّ قرن منهم إمام منّا شاهد عليهم ، ومحمّد شاهد علينا (٥).

قوله عليه‌السلام : «فَبَلَّغَ رِسٰالٰاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وٰانٍ» التبليغ : الإيصال والإسم : البلاغ بالفتح. و «الرسالة» بالكسر ، لغة : اسم من الإرسال وهو التوجيه ، وعرفاً تكليف الله تعالى بعض عباده بواسطة ملك يشاهده ويشافهه أن يدعو الخلق إليه ويبلّغهم أحكامه ، وقد تطلق على نفس الأحكام المرسل به.

«غير وان» قال الجوهري : «الونىٰ» : الضعف والفتور ، والكلال والإعياء ، وتوانىٰ في حاجته : قصّر (٦).

قوله عليه‌السلام : «وَلٰا مُقَصِّرٍ» أي في التبليغ حتّى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حضر يوم وفاته مع شدّة مرضه المسجد وقال : «وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (٧).

أيّها الناس لا يدّعي مدّع ولا يتمّنى متمنّ أنّه ينجور إلّا بعمل ورحمة ، ولو عصيت لهويت ، اللّهم هل بلّغت (٨).

__________________

١ ـ ق : ١٨.

٢ ـ الإسراء : ٣٦.

٣ ـ النور : ٢٤ ـ ٢٥.

٤ ـ مجمع البيان : ج ٣ ـ ٤ ، ص ٤٩.

٥ ـ الكافي : ج ١ ، ص ١٩٠ ، ح ١.

٦ ـ الصحاح : ج ٦ ، ص ٢٥٣١.

٧ ـ البقرة : ٢٨١.

٨ ـ أعلام الورى : ١٣٤.

١٢١

وقد خطب صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى في حجّة الوداع خطبته المشهوره الذي أوصى الناس بالتقوى ، والخوف من الله ، وبالحساب ، وبيوم القيامة ، وأنّ المسلم أخو المسلم ، ولا يحلّ لإمرئ مسلم دم إمرئ مسلم وماله إلّا ما أعطاء بطيبة نفسه ، والحذر من الرجوع بعده كفّاراً ، ومن قتل الأبرياء لأجل الدنيا وغير ذلك من الموارد الهامة.

قوله عليه‌السلام : «وَجٰاهَدَ فِى اللهِ أَعْدٰاءَهُ غَيْرَ وٰاهِنٍ وَلٰا مُعَذِّرٍ» أي من غير ضعف ، والمعذّر بالتثقيل : من يأتى بالعذر باطلاً ، كما قال تعالى : «وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ» (١).

قوله عليه‌السلام : «إِمٰامُ مَنِ اتَّقىٰ» الإمام : ما يقتدى به من رئيس أو غيره فيطلق على الخليفة ، والعالم المقتدى به ، ومن يؤتم به في الصّلاة ، ويستوى فيه المذكر والمؤنث ، والمراد منه إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قدوة للمتقين.

قوله عليه‌السلام : «وَبَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدىٰ» أي بصيرة لمن اهتدى بوسيلته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

__________________

١ ـ التوبة : ٩٠.

١٢٢

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ،

وَتَنٰازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ ، فقفّىٰ بِهِ الرُّسُلَ ،

وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْىَ. فَجٰاهَدَ فِى اللهِ

الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ ، وَالْعٰادِلِينَ بِهِ.

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ» «الرسالة» بالكسر ، لغة : اسم من الإرسال وهو التوجيه ، وعرفاً تكليف الله تعالى بعض عباده بواسطة ملك يشاهده ويشافهه أن يدعو الخلق إليه ويبلّغهم أحكامه ، وقد تطلق على نفس الأحكام المرسل به.

و «حين فترة من الرسل» الفترة : أي ما بين الرسولين من رسل الله تعالى من الزمان الذي إنقطعت فيه الرسالة ومنه «فترة ما بين عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسلام» هكذا ذكره إبن الأثير (٢).

وفي شرح إبن أبي الحديد : الفترة بين الرسل : إنقطاع الرسالة والوحي ، وكذلك كان إرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عهد المسيح عليه‌السلام عهداً طويلاً أكثر الناس على أنّه ستماءة سنة ولم يرسل في تلك المدّة رسول (٣).

ففي هذه الفترة الخالية من الرسول انحرفت الاُمّة عن مسيرها الديني والأخلاقي الموجب لنشر الظلم والعدوان والقتل والطرد فحينئذٍ تحتاج الاُمّة إلى قوانين جديدة حكيمة لنظم أمورهم الموجب لبعثة رسول لهم.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٩١ ، الخطبة ١٣٣.

٢ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٤٠٨ ، مادة «فتر».

٣ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٦ ، ص ٣٨٨.

١٢٣

فبعثة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تكون أكبر نعمة للبشريّة الّتي تنفي عنهم ما كانوا عليه سابقاً من الظلم والعدوان وأنّه موجب لهدايتهم وإرشادهم وتعليمهم و ... كما دل عليه قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» (١).

قوله عليه‌السلام : «وَتَنٰازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ» أي تشتّت الآراء والأهواء الموجب لإختلاف الألفاظ على الألسن فحسب ، فكلّ طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها نظير قول يوسف عليه‌السلام في ما حكى الله تعالى عنه : «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «فَقَفّىٰ بِهِ الرُّسُلَ» قفيت على أثره بفلان أي إتّبعته إيّاه ، قاله الجوهري (٣) ومنه قوله تعالى : «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا» (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْىَ» ختم الكتاب من باب ـ ضرب ـ وختم عليه ختماً : وضع عليه الخاتم وهو الطابع.

والوحي في اللغة : الإشارة والكتاب والإلهام وكلّ ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه فهو وحي ، وهو مصدر وحى إليه يحي من باب وعد ، وأوحى إليه بالألف مثله ، وهي لغة القرآن الفاشية ، ثم غلب إستعمال الوحي فيما يلقىٰ إلى الأنبياء من عند الله وحيث إنقطع الوحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذن ختم الله به الوحى فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء.

__________________

١ ـ الجمعة : ٢.

٢ ـ يوسف : ٤٠.

٣ ـ الصحاح : ج ٦ ، ص ٢٤٦٦ ، مادة «قفى».

٤ ـ الحديد : ٢٧.

١٢٤

قوله عليه‌السلام : «فَجٰاهَدَ فِى اللهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ» أي جاهد في سبيل الله المعرضون عن إتّباع أوامره ونواهيه.

قوله عليه‌السلام : «وَالْعٰادِلِينَ بِهِ» أي الجاعلين غير الله عديلاً له «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا» (١).

* * *

__________________

١ ـ الإسراء : ٤٣.

١٢٥

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

فَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ ٰٰادَهُ مِنْ عِبٰادَةِ الْأَوْثٰانِ إِلىٰ عِبٰادَتِهِ ، وَمِنْ طٰاعَةِ الشَّيْطٰانِ إِلىٰ طٰاعَتِهِ ، بِقُرْاٰنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ لِيَعْلَمَ الْعِبٰادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ. فَتَجَلّىٰ لَهُمْ سُبْحٰانَهُ فِى كِتٰابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمٰا أَرٰاهُم مِنْ قُدْرَتِهِ ، وِخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ وَكَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمُثلٰاتِ ، وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمٰاتِ.

قوله عليه‌السلام : «فَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ بِالْحَقِّ» لقد اُمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمل الرسالة ، وتبليغ كلمة الله ، والدعوة إلى توحيده وعبادته ، وإصلاح البشريّة وإنقاذها من الكفر والظلم والفساد والخرافة. قال تعالى : «قُمْ فَأَنذِرْ» (٢) فانطلق مستجيباً لأمر الله يبشّر بدعوته ، ويدعو إلى سبيل ربّه فكان أوّل من دعاه وفاتحه بالدعوة وطلب منه التّصديق به زوجته خديجة بنت خويلد ، وإبن عمّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي كان صبّياً في العاشرة من عمره المبارك ، فآمنّا به وصدّقاه ، ثم استمرّت الدعوة إلى أن فوجئ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنداء آخر من الله تعالى : «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (٣) فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله يبلّغ عشيرته.

وفي الحديث عن إبن عبّاس ، قال : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم الصفا ، فقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : مالك؟

قال : أرأيتكم أن أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٠٤ ، الخطبة ١٤٧.

٢ ـ المدثر : ٢.

٣ ـ الشعرا : ٢١٤.

١٢٦

تصدّقوني؟ قالوا : بلى ، قال : فإني «نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (١).

فقال أبولهب : تبّاً لك لهذا دعوتنا فنزلت سورة تبّت (٢).

قوله عليه‌السلام : «لِيُخْرِجَ عِبٰادَهُ مِنْ عِبٰادَةِ الْأَوْثٰانِ إِلىٰ عِبٰادَتِهِ» الأوثان : جمع وثن ، وهو الصنم ، وقد كانت لقوم نوح أصنام قد عكفوا عليها ، قصّ الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا» (٣) فكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم وسمّوا بأسمائهم حين فارقوا دين إسماعيل : كلب بن وبرة من قضاعة ، إتّخذوا «ودّاً» بدومة الجندل (٤).

وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، إتّخذوا «سواعاً» (٥).

وأنعم من طي وأهل جرش من مذحج إتخذوا «يغوث» (٦).

وخيوان (٧) بطن من همدان إتخذوا «يعوق» بأرض همدان من أرض اليمن.

وذوالكلاع من حمير ، اتخذوا «نسراً» بأرض حمير (٨) وكانت

__________________

١ ـ سبأ : ٤٦.

٢ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥٦ ـ ١٥٧ ، والمناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٤٦ ، وتاريخ الطبري : ج ١ ، ص ٥٤١ ، ٥٤٢.

٣ ـ نوح : ٢٣ ـ ٢٤.

٤ ـ دومة الجندل : حصن بين المدينة والشام ، وهو أقرب إلى الشام من المدينة.

٥ ـ سواع : اسم صنم كان يعبد في زمن نوح ، ثم صار لهذيل.

٦ ـ المعروف : أنّ جرش من حمير ، وانّ مذحج من كهلان بن سبأ.

٧ ـ خيوان : قرية لهم من صنعاء على ليلتين ممّا يلي مكة ، وكان بها يعوق.

٨ ـ كان هذا الصنم بأرض يقال لها : بلخع ، موضع من أرض سبأ.

١٢٧

«اللّات» (١) لثقيف بالطائف ، وكانت «مناة» (٢) للأوس والخزرج ، ومَن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد (٣).

وكانت لقريش وبني كنانة «العزى» (٤).

فالغاية من بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كانت إلّا تخلّص الإنسان من عبوديّة الأصنام إلى عبادة الله عزّوجلّ.

قوله عليه‌السلام : «وَمِنْ طٰاعَةِ الشَّيْطٰانِ إِلىٰ طٰاعَتِهِ» أي أنّ بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله تكون لتهذيب النفس وإخراجها من طاعة الشيطان إلى طاعة الله سبحانه عزّوجلّ.

قوله عليه‌السلام : «بِقُرْاٰنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَحْكَمَهُ» القرآن كتاب الله الذي نزل على عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فهو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا تنقضى عجائبه ، قال تعالى : «إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ» (٥). وقال : «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» (٦). وقال : «هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ» (٧).

وفي الحديث : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ القرآن ثم رأى أن أحداً

__________________

١ ـ اللات : وهى أحدث من مناة ، وكانت صخرة مرّبعة.

٢ ـ وكانت مناة أقدمها كلّها ، ولم يكن أحد أشدّ إعظاماً لها من الاُوس والخزرج.

٣ ـ قديد : موضع قرب مكة : والمشلل : جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر.

٤ ـ العزى أحدث من اللات ومناة.

٥ ـ الإسراء : ٩.

٦ ـ إبراهيم : ١.

٧ ـ آل عمران : ١٣٨.

١٢٨

أوتي أفضل ممّا أوتي ، فقد استصغر ما عظّمه الله (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ، فقيل : يا رسول الله وما جلاؤها؟ فقال : تلاوة القرآن وذكر الموت (٢).

قوله عليه‌السلام : «لِيَعْلَمَ الْعِبٰادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ ، وَلِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ ، وَلِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ» وقد تكفّل القرآن الكريم من خلال آياته المباركة بهداية الناس إلى الحقّ والعدل والخير في جميع شؤونهم عبر الأجيال والقرون لكي تتمّ الحجّة عليهم بمعرفتهم ربّهم الذي خلقهم حينما جهلوه ونادوه بألسنتهم بعد ما جحدوه ، وثبّتوه بقلوبهم بعد ما أنكروه.

قوله عليه‌السلام : «فَتَجَلّىٰ لَهُمْ سُبْحٰانَهُ فِى كِتٰابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ» قال تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «بِمٰا أَرٰاهُم مِنْ قُدْرَتِهِ» وذكّرهم من بدائع مصنوعاته وحكمته وعجائب مخلوقاته في البرّ والبحر ، قال تعالى : «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (٤) وقال ايضاً : «وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ج ٢ ، ص ٢١٠.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ج ٢ ، ص ٢١٠.

٣ ـ الأنفال : ٢.

٤ ـ البقرة : ١٦٤.

١٢٩

مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (١) وقال الله تعالى : «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ» أي حذّرهم من نقمته ، قال الله تعالى : «إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ» (٣) وقال تعالى : «إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» (٤) وقال تعالى : «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (٥) وغير ذلك من الآيات المشتملة على التحذير بقصص الأوّلين والتخويف بما جرى على السلف الماضين.

قوله عليه‌السلام : «وَكَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلٰاتِ» المثلات بالضم : العقوبات ، أي كيف من أهلك الله عزّوجلّ منهم ، وأذهب آثارهم عن وجه الأرض بالعقوبات النازلة عليهم.

قوله عليه‌السلام : «وَاحْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمٰاتِ» أي استأصل من استأصله بما عذّبهم به مكافأة سوء أعمالهم.

* * *

__________________

١ ـ الروم : ٢٤.

٢ ـ الروم : ٢٢.

٣ ـ البقرة : ٥٩.

٤ ـ العنكبوت : ٣٤.

٥ ـ الصافات : ١٣٦ ـ ١٣٨.

١٣٠

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَنَجِيبُهُ وَصَفْوَتُهُ لٰا يُؤٰزىٰ فَضْلُهُ ، وَلٰا يُجْبَرُ فَقْدُهُ. أَضٰاءَتْ بِهِ الْبِلٰادُ بَعْدَ الضَّلٰالَةِ الْمُظْلِمَةِ ، وَالْجَهٰالَةِ الْغٰالِبَةِ ، وَالْجَفْوَةِ الْجٰافِيَةِ. وَالنّٰاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ ، وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ ، يَحْيَوْنَ عَلىٰ فَتْرَةٍ وَيَمُوتُونَ عَلىٰ كَفْرَةٍ.

قوله عليه‌السلام : «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَنَجِيبُهُ وَصَفْوَتُهُ» النجيب : الكريم ، والنفيس في نوعه ، فعيل بمعنى فاعل ، من نجُبَ ـ كَكرُمَ ـ نجابة ، ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول : أي اللّباب الخالص ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كريم النسب ، ولد في بيت من أرفع بيوت العرب شأناً وجلالة وأعلاها مجداً وشرفاً ، وأكثرها عزّة ومنعة ، وأكرمها نسباً وهو بذات نفسه ممتاز عن سائر شباب قريش ، بشرف نفسه وكمال خلقه ، ولقد. أجاد جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام في حديثه مع النجاشي : قائلاً إنّ الله بعث فينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته (٣).

وروى الطبري في تفسيره : عن سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام في قوله : «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ» (٤) قال : لم يصبه شيئ من ولادة الجاهليّة قال : وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي خرجت من نكاح ، ولم

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، الخطبة ١٥١.

٢ ـ الأحزاب : ٤٠.

٣ ـ تفسير القرآن العظيم لإبن كثير : ج ٢ ، ص ٣٤٨ ، ص ٥٦.

٤ ـ التوبة : ١٢٨.

١٣١

خرج من سفاح (١).

وروى إبن كثير بإسناده عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولّدني أبي وأمّي لم يمسّني من سفاح الجاهليّة شيئ (٢).

وعن إبن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح» (٣).

قال الكلبي : كتبت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسمأة اُم فما وجدت فيهنّ سفاحاً ولا شيئاً ممّا كان من أمرالجاهليّة (٤).

قوله عليه‌السلام : «لٰا يُؤٰازىٰ فَضْلُهُ» أي لا يحاذي فضله من أحد ، روى الزمخشري وقال : لمّا حضر أبوطالب نكاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة قال : ثم إنّ محمّد بن عبدالله إبن أخي ، من لا يوزن به فتى من قريش اِلا رجّح به برّاً وفضلاً وكرماً وعقلاً ، ومحتداً ونبلاً ، وإن كان في المال قلّ ، فإن المال ظل زائل ورزق حائل ، قد خطب خديجة بنت خويلد ، وبذل لها من الصدقات ما عاجله وآجله في مالي. وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل (٥).

وقالوا : ـ لمّا تلجلج ورقة عمّ خديجة في الجواب في قبال أبي طالب مع كونه من القسيسين ، قالت خديجة نفسها ، قد زوجتك نفسى والمهر عليّ في مالي ، عند ذلك كما جاء فى المناقب قال بعض قريش : يا عجبا!

__________________

١ ـ جامع البيان في تفسير القرآن : ج ٧ ـ المجلّد الحادي عشر : ص ٥٦.

٢ ـ تفسير القرآن العظيم لإبن كثير : ج ٢ ، ص ٣٤٨.

٣ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٥١.

٤ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ٥٠.

٥ ـ ربيع الأبرار : ج ٤ ، ص ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

١٣٢

أيمهر النساء الرجال؟ ـ أي أيكون ـ المهر على النساء للرجال! فغضب أبوطالب غضباً شديداً وقام على قدميه ـ وكان ممّن تهابه الرجال وتكره غضبه ـ وقال : إذا كانوا مثل إبن أخي هذا طلبت الرجال بأغلا الأثمان ، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلّا بالمهر الغالي ، فقال رجل من قريش يقال له : عبدالله بن غنم.

هنياً مريئاً يا خديجة قد جرت

لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلّها

ومن ذا الذي في الناس مثل محمّد

وبشّر به المرءان عيسى بن مريم

وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرّت به الكتاب قدماً بأنّه

رسول من البطحاء هادٍ ومهتدي (١)

قوله عليه‌السلام : «وَلٰا يُجْبَرُ فَقْدُهُ» أي لا يسدّ أحدٌ مسدّه بعده.

وفي الكافي : عن الباقر عليه‌السلام قال : إن أصبت بمصيبة في نفسك ، أو في مالك ، أو في ولدك ، فاذكر مصابك بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قط (٢).

قوله عليه‌السلام : «أَضٰاءَتْ بِهِ الْبِلٰادُ بَعْدَ الضَّلٰالَةِ الْمُظْلِمَةِ» أي بعد ما ملئت الأرض ظلماً وجوراً ، والجاهليّة قد استطال ظلامها فغشيت العيون والقلوب وغدت الأرض مرتعاً للظلم والفساد ، وكان لابدّ أن يشرق

__________________

١ ـ مناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٤٢.

٢ ـ الكافي : ج ٣ ، ص ٢٢ ، ح ٢.

١٣٣

اللطف الإلٰهي في ربوع الأرض ، وتتجدّد رسالة الله سبحانه للإنسان فيخاطبه بالكلمة الحق ، ويبلّغه بدعوة الهدى ، وشاء الله أن يولد النور في رحاب مكّة ويشعّ الوحي في سمائها المقدّس ويتعالى صوت التوحيد في الحرم الأمن.

قوله عليه‌السلام : «وَالْجَهٰالَةِ الْغٰالِبَةِ» أي أنّ الجهل والاُميّة والخرافة كانت تسيطر على قبائل العرب المتناثرة في جزيرتها الموحّشة الجرداء.

قوله عليه‌السلام : «وَالْجَفْوَةِ الْجٰافِيَةِ» أي مبالغةً في الغلظة والشدّة فكانت قلوبهم في الجاهليّة قاسية ، ونفوسهم شقيّة ، والقتل وسفك الدماء بينهم مستمرّة وكان الأب إذا وَلدَت امرأته بنتاً ، سيطر عليه الهم والخزن ، وشَعَر بالخوف من العار وسوء السمعة. ولجأ إلى قتلها أو دفنها حيّة ، فكانت المرأة ضحيّة هذه العقليّة المتخلّفة ، والأعراف الإجتماعيّة البالية ، حتّى بلغت الجريمة والقساوة والوحشيّة بأولئك القساة الجناة أن يدفنوا بناتهم وهنّ أحياء للتخلّص من الإنفاق عليهنّ ، ومن العار والشنار الذي يخشون وقوعه من المرأة ويسجّل القرآن تلك المشاهد المأسويّة في تاريخ المرأة المنكوبة وينتصر لها ويدافع عن إنسانيّتها المعذّبة ، فينادي في مجتمع العرب آنذاك مستنكراً أعرافهم ومواقفهم بقوله : «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» (١) ثم يرفع صوته مرة اُخرى مدافعاً عن إنسانيّة المرأة وكرامتها ويقول : «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ» (٢).

وهكذا يحدّث لنا الأحاديث ما سجّل تلك المواقف المخزية بحق

__________________

١ ـ النحل : ٥٨ ـ ٥٩.

٢ ـ التكوير : ٨ ـ ٩.

١٣٤

المرأة فعن إبن عبّاس المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاماً حبسته (١).

وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إني قد ولدت لي بنتاً وربّيتها حتّى إذا بلغت ، فألبستها وحليتها ، ثم جئت بها إلى قليب ، فدفعتها في جوفه ، وكان آخر ما سمعت منها ، وهي تقول : يا أبتاه فما كفارة ذلك؟ (٢) الحديث.

قوله عليه‌السلام : «وَالنّٰاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ» أي يحللّون المحرمات بلا مبالاة. وقد كان الأبناء يرثون زوجات الآباء ويتزوّجونهنّ ، تلك الظاهرة البشعة التي أشار إليها القرآن الكريم وحرّم الإقدام عليها بقوله : «وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَيَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ» أي العليم. قال تعالى : «وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (٤) ولقد كان الأعراب في زمن الجاهليّة يستذلّون أهل العلم والحكمة والفضيلة بزعمهم أن هؤلاء لمّا كانوا يجتنبون الأفعال القبيحة والأعمال السيّئة فهذا لا يكون إلّا عن خوف وجبن وضعف ولهذا كانوا يستذلّونهم ، ففي هذا الزمان إستطاع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمشيئة الله ولطفه أن ينقذ البشريّة ، من الحياة الجاهليّة بكل أبعادها ومرارتها وإنحطاطها الأخلاقي والعقائدي والإجتماعي ... ، و

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٩ ـ ١٠ ، ص ٤٤٤.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٦٢ ، ح ١٨.

٣ ـ النساء : ٢٢.

٤ ـ البقرة : ٢٦٩.

١٣٥

يضعها على طريق المدنيّة والإستقامة السلوكيّة مبتدءً ، بمن حوله من العرب ، وممتدّاً برسالته العالميّة التي حملها من بعده اُمّته ، وبشّر بها الدعاة إلى الله سبحانه في كل مكان إلى عصرنا هذا وإلى هذا وصف سبحانه وتعالى رسالة نبيّه بقوله : «قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (١)

قوله عليه‌السلام : «يَحْيَوْنَ عَلىٰ فَتْرَةٍ» أي زمان إنقطاع الوحي بين عيسى عليه‌السلام ونبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الموجب للغفلة عن الربّ الذي خلق خلقهم ورزقهم.

قوله عليه‌السلام : «وَيَمُوتُونَ عَلىٰ كَفْرَةٍ» لعدم هادٍ لهم ولكي يهتدون بهداء في تلك الفترة ، فيموتون على الكفر والضلال ولقد قال حسّان في النبيّ :

رسول أتانا بعد يأس وفترة

من الرسل والأوثان في الأرض تعبد

ولقد أوضح المؤرّخون وشرحوا لنا الوضعيّة الإجتماعيّة المنهارة آنذاك ، وصورة الإنحطاط والمعاملة الوحشية بين الناس.

وهكذا تتجسّد طبيعة ذلك المجتمع الجاهلي المتخلّف ، تلك الطبيعة التي وصفها جعفر بن أبي طالب صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه للنجاشي ملك حبشه بقوله : أيها الملك كنّا أهل جاهليّة نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف. حتّى بعث الله إلينا رسولاً منّا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام.

__________________

١ ـ المائدة : ١٥ ـ ١٦.

١٣٦

وأن نترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وبالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرّحم وحسن الجوار ، وحرّم الظلم ، والجور وسفك الدماء بغير حقّها ، والزنا والربا وأكل الميتة والدم ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم والبغى والمنكر فقال الملك : بهذا بعث الله تعالى عيسى بن مريم (١).

* * *

__________________

١ ـ تفسير القمي : ج ١ ، ص ١٧٧ وأخرجه أحمد في مسنده مفصلاً : ج ١ ، ص ٢٠١ ، ج ٥ ، ص ٢٩٠ ، إبن الأثير في الكامل : ج ٢ ، ص ٨٠.

١٣٧

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ،

وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ ، وَانْتِقٰاضٍ

مِنَ الْمُبْرَمِ. فَجٰاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِى

بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَالنُّورِ الْمُقْتَدىٰ بِهِ.

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ عَلىٰ حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ» الفترة : أي ما بين الرسولين من رسل الله تعالى من الزمان الذي إنقطعت فيه الرسالة ومنه «فترة ما بين عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسلام» هكذا ذكره إبن الأثير (٢).

وفي شرح إبن أبي الحديد : الفترة بين الرسل : إنقطاع الرسالة والوحي ، وكذلك كان إرسال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عهد المسيح عليه‌السلام عهداً طويلاً أكثر الناس على أنّه ستماءة سنة ولم يرسل في تلك المدّة رسول (٣).

ففي هذه الفترة الخالية من الرسول انحرفت الاُمّة عن مسيرها الديني والأخلاقي الموجب لنشر الظلم والعدوان والقتل والطرد فحينئذٍ تحتاج الاُمّة إلى قوانين جديدة حكيمة لنظم أمورهم الموجب لبعثة رسول لهم. فبعثة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله تكون أكبر نعمة للبشريّة الّتي تنفي عنهم ما كانوا عليه سابقاً من الظلم والعدوان وأنّه موجب لهدايتهم وإرشادهم

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٢٣ ، الخطبة ١٥٨.

٢ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٤٠٨ ، مادة «فترة».

٣ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٦ ، ص ٣٨٨.

١٣٨

وتعليمهم و ... كما دل عليه قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ» (١).

قوله عليه‌السلام : «وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ» الهجعة : النوم ليلاً كذا ذكره الجوهري (٢). والاُمم : جمع اُمّة وهي الجماعة ، وأصلها القصد من أمّه يأمّه أمّاً : إذا قصده ، كأنّهم قصدوا أمراً واحداً وجهة واحدة ، وتأتي لمعانٍ.

منها : الجماعة مطلقاً.

ومنها : جماعة اُرسل إليهم رسول.

ومنها : يقال لكلّ جيل من الناس والحيوان : اُمّة ، ومنه الحديث : لولا أنّ الكلاب اُمّة تسبّح لأمرت بقتلها (٣).

ومنها : إن إبراهيم عليه‌السلام كان اُمّة واحدة كما في قوله تعالى : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً» (٤).

ومنها : بمعنى حين كما في قوله تعالى : «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (٥).

هذا وأن اُمّة النبيّ تكون نوعان :

النوع الأوّل : اُمّة الإجابة : وهم الذين أجابوا دعوته ، وصدّقوا نبوّته ، وآمنوا بما جاء به ، وهؤلاء هم الذين جاء مدحهم بالكتاب والسنّة : كقوله تعالى : «جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (٦) وكقوله : «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» (٧).

وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي» (٨).

__________________

١ ـ الجمعة : ٢.

٢ ـ الصحاح : ج ٣ ، ص ١٣٠٥ ، مادة «هجع».

٣ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٦٨.

٤ ـ النحل : ١٢٠.

٥ ـ يوسف : ٤٥.

٦ ـ البقرة : ١٤٣.

٧ ـ آل عمران : ١١٠.

٨ ـ سنن أبي داود : ج ٤ ، ص ٢٣٦.

١٣٩

وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أن اُمّتي يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين» (١).

النوع الثاني : اُمّة الدعوة : وهم الذين بعث اليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من مسلم وكافر ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الاُمّة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي اُرسلت به إلّا كان من أصحاب النار (٢).

فهؤلاء هم الذين بعث الله إليهم النبيّ في زمان الفترة التي كانوا يعيشون في ظلمة الجهل والضلال غافلين عن أمر المعاد ، وكان الفقر والمرض تسيطران عليهم بحيث دعت بعضم إلى قتل أولادهم والتخلّص منهم خشية إملاق وخوفاً من الإرتزاق عليهم.

قوله عليه‌السلام : «وَانْتِقٰاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ» أبرم الحبل : جعله طاقين ثم قتله ، وأبرم الأمر : أحكمه ، والمراد انقض الديانات الإلٰهيّة وأحكامها بالقوانين الشرع المبين.

قوله عليه‌السلام : «فجٰاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ» أي جاءهم الرسول مصدّقاً لما قبله ، فيكون التصديق وصفاً لنفس الرسول كقوله تعالى : «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (٣).

ويمكن أن يكون الباء للتعدية فالمعنى أنه أتاهم بكتاب أي بالقرآن فيه تصديق الذي بين يديه ، فيكون المصدق هو الكتاب كما قال الله تعالى «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» (٤).

__________________

١ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ٤٠٠.

٢ ـ صحيح مسلم : ج ١ ، ص ١٣٤ ، ح ٢٤٠.

٣ ـ البقرة : ١٠١.

٤ ـ آل عمران : ٣.

١٤٠