إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

ضجّت الملائكة فقالوا يا ربّ خليلك ما في أرضك من يعبدك غيره. فأوحى الله عز وجل إليهم : امضوا إليه وامسكوا أمره.

فسبق جبرئيل عليه السّلام وهو بين المنجنيق والنار فقال له : يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا. فلما تنحى عنه جبرئيل دعا بسورة التوحيد فقال : اللهم انّي أسألك بحق محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين نجّني من النار.

فأوحى الله الى النار : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ).

فروي ان النار لم تحرق شيئا ثلاثة أيام ولم يسخن الماء مخافة من عذاب الله ثم بعث الله إليه بقميص من ثياب الجنّة ولبسه وكان عليه حتى كساه اسحاق ثم ورثه يعقوب ثم يوسف وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه.

قال : وأشرف نمرود على النار وبعد ثلاثة أيام فوجد إبراهيم سليما قاعدا فقال لأصحابه : إذا عبد الناس فليعبدوا مثل إله ابراهيم.

وكان نمرود أوّل من لبس التاج وأظهر التجبّر والكبر فأمر بإبراهيم فاخرج إليه وأمره بالخروج عن دار مملكته وبلده ومنعه ماله وماشيته فحاكمهم ابراهيم عند ذلك الى قاضي المدينة فقال : ان أخذتم ماشيتي ومالي فردوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم. فقضي لإبراهيم على نمرود بردّ ما ذهب من عمره عليه أو ردّ ماله وماشيته فأمر نمرود بردّ ماله وماشيته عليه وتخلية سبيله.

فخرج من أرض كوپي فاتى نحو بيت المقدس وعمل تابوتا حمل زوجته سارة لأنّه كان غيورا وكان من قصّة الجبّار القبطي ما كان من خروجه وتشييعه لإبراهيم وما أوحى الله إلى إبراهيم أن لا تمش قدام الجبار واجعله امامك وما قاله القبطي في جواب ذلك لإبراهيم ان إلهك حليم كريم رفيق ؛ ما قد قص.

وسار ابراهيم حتى نزل بأعلى الشامات ونزل لوط وكان ابن اخته نازلها وكان بينهما فيما روي ثمانية فراسخ.

وابتاع ابراهيم عليه السّلام هاجر من سارة فوقع عليها فحملت وولدت اسماعيل عليه السّلام وهو الذبيح وهو أكبر أولاده ومن اسحاق بخمس سنين وكان من قصّة اسماعيل في الذبح ما

٤١

قص الله به.

وولد اسحاق من سارة فلما بلغ ثلاث سنين أقبل إسماعيل إلى اسحاق وهو في حجر أبيه إبراهيم فنحاه وجلس مجلسه ونظرت به سارة وقالت يا إبراهيم تنحي ابني اسحاق من حجرك وتجلس مكانه ابن هاجر لا والله لا تجاروني هاجر وابنها في بلد أبدا.

فشقّ ذلك على إبراهيم. فلما كان في الليل أتاه آت برؤيا الذبح فلما حضر الموسم انطلق باسماعيل وأمّه هاجر الى مكّة ودخلها فبدأ ببناء قواعد البيت وكان الطوفان ثلم شيئا منه فرفع القواعد وإسماعيل معه يعينه على البناء ثم خرج الى منى ثم خرج الى مكّة بعد الحجّ فلما ان صار في السعي قال لإسماعيل (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) في الموسم في عامي هذا فما ذا ترى.

(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

فانطلق إبراهيم إلى منى في يوم النحر فلما انتهى الى الجمرة الوسطى كان من الأمر ما قصّ الله به فداه الله بالكبش ورجع إبراهيم عليه السّلام ومعه إسماعيل إلى مكّة فأقام بها ما شاء الله ثم ودّع اسماعيل وأمّه هاجر لينصرف عنهما فبكيا فقال لهما إبراهيم ما يبكيكما؟ وقد جعلتكما في أحبّ البقاع إلى الله جل وعز. فقالت له هاجر : ما كنت أرى نبيّا مثلك يخلف امرأة ضعيفة وغلاما ضعيفا لا حيلة لهما في مكان قفر لا أنيس له ولا زرع ولا ضرع.

فرقّ إبراهيم ودمعت عيناه وأقبل حتى انتهى إلى باب الكعبة وأخذ بعضادتي الباب ثم قال اللهم (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى قوله ... يشكرون.

فأوحى الله إليه ان اصعد أبا قبيس وناد : يا معشر الخلائق ان الله يأمركم بحجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا فريضة من الله.

قال : فمدّ الله لإبراهيم صوته ثم أسمع أهل المشرق وأهل المغرب وجميع ما بينهما وجميع ما قدّر الله وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة. فالتلبية من

٤٢

الحاجّ إجابة النداء.

وروي ان جبرئيل عليه السّلام حفر زمزم فنبع الماء فحجزها من حول الماء فلولا ذلك لساحت على الأرض.

وروي ان هاجر واسماعيل كانا في ذلك الوقت قد صعدا إلى الجبل في طلب الماء فلما بصرت هاجر الى الماء صارت إليه وصاحت بإسماعيل بالعبرانية فأجابها بالعربية. لبيك لبيك. ونسي ذلك اللسان فهو أوّل من تكلّم بالعربية في ذلك الزمان.

وروي في خبر آخر انّها صاحت به فصار إليها فلما نظر الى الماء وكان عطشانا انكب عليه فشرب منه ورفع رأسه وقال «الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله» ونسي اللسان الأول بالعبرانية.

وروي في خبر آخر ان هاجر لما عطش إسماعيل جعلت تسعى من الجوع بين الصفا والمروة فلقيها جبرئيل عليه السّلام فتعلّق بها فجزعت وجذبت نفسها منه.

فقال لها : من أنت؟.

فقالت أنا أمّ إسماعيل ولد إبراهيم خليل الرحمن.

فقال لها : فعلى من خلفك؟

فقالت له : قد قلت مثل مقالتك ، فقال : وكلتكم إلى الله جلّ وعلا وحده لا شريك له.

فقال لها : اما انّه وكّلك إلى كاف كريم.

وأمر الله عز وجل قطعة من بلاد الأردن فانقطعت بأشجارها وثمارها فطافت بالبيت اسبوعا ثم استقرت فسمّيت الطائف ليلحق اسماعيل الخصب والرفاهة.

ولما شخص إبراهيم الى الشام كان يأتي إسماعيل وهاجرا زائرا فأنكرت سارة ذلك وأحلفته أن لا يبيت عندها وكان يكرمها ويعظّمها لأنّها كانت من أولاد الأنبياء المؤمنات.

وكان إذا اشتاق إسماعيل يركب حمارا له ابتر الذنب ثم يأتي مكّة ويقضي وطره من النظر إلى اسماعيل وهاجر ويرجع فيبيت بالشام.

ثم ماتت هاجر عليها السّلام فدفنها إبراهيم عليه السّلام في الحجر ؛ والحجر من الكعبة. فكان إبراهيم

٤٣

يأتي بعد ذلك زائرا فأتاه يوما لم يصادفه فجمع أولاد إسماعيل وزوجته الجرهمية ودعا لهم وبرّهم فلما رأت المرأة ذلك سألته النزول عندهم والغداء معهم فأبى. فسألته شرب اللبن ففعل. واستأذنته في غسل رأسه وهو على راحلته وقرّبت الجرهمية إليه حجرا فوضع إحدى رجليه عليه ودلت رأسه فغسلت إحدى شقيّه وألان الله ذلك الحجر تحت قدمه حتى غاصت قدمه فيه ثم دارت الحجر إلى الجانب الآخر فغسلت الشقّ الآخر من رأسه وشعره وانغمست قدمه اليسرى في الحجر فهو المقام.

ورجع عليه السّلام الى الشام. فلما قربت وفاته قالت له سارة : قد كبرت وقرب أجلك وزيد في عمرك فتعبد وأنت خليل الرحمن فسأل الله أن ينسي في أجلك ويزيد في عمرك فتعيش معنا فسأل إبراهيم ربّه فأوحى الله إليه قد أجبتك إلى ما سألت ولن أتوفاك حتى تسألني ذلك فأخبر إبراهيم سارة بذلك فقالت : أشكر الله واعمل طعاما تدعو إليه المؤمنين.

فعمل طعاما وجمع الناس للأكل. وكان فيمن أتاه رجل كبير السن مكفوف. فلما جلس تناول من الطعام وأهوى به الى فيه فجعلت يده ترتعش وتذهب يمينا وشمالا من ضعفه ثم أهوى بيده الى جبهته مرّة وإلى عينه مرّة من الكبر والضعف.

فلما رأى إبراهيم ذلك قال : اللهم توفني في الأجل الذي كتبته لي في الزيادة عليه.

وروي انّه سمّي خليل الله لرفقه بالمساكين ومحبته لهم وانّه لم يكن يأكل طعاما إلّا معهم فحضر طعامه يوما وليس عنده أحد منهم فخرج يلتمس من يأكل معه فلم يجد إلّا رجلا مذموما منقطعا [مصابا] بالجذام وكان فيه عليه السّلام تعزز ؛ فدعاه إلى طعامه واحتمل ما دخل نفسه من أمره وكان طعامه اللبن. فجعل الرجل يأكل منه فإذا أخرج يده من الصحنة بقي أثر أصابعه في اللبن. فجعل ابراهيم يلسع موضع أصابعه فيأكله.

فلما فرغ من الأكل كشف عن الرجل الغطا فإذا هو جبرئيل عليه السّلام والطعام الذي يرى أنّه يأكله موضوع في إناء تحته فقال له : ان الله جل وعز يقرأ عليك السلام ويقول لك : قد اتّخذتك خليلا برحمتك للضعفاء المساكين.

وكان عمره فيما روي مائة وخمسا وسبعين سنة.

٤٤

وروي أيضا انّ نبوّته ظهرت وله ثمانون سنة وكانت مدّة نبوّته أربعين سنة وكان عمره مائة وعشرين سنة.

ولمّا حضرت وفاته أمره الله أن يستودع نور الله وحكمته ومواريث الأنبياء عليهم السّلام إسماعيل ابنه فدعاه وأوصى إليه وسلّم إليه جميع ما في يده.

وتوفي (صلّى الله عليه) ودفن في أرض كان قد ابتاعها بناحية بيت المقدس.

وكان بين نوح وإبراهيم عليه السّلام ألف وخمسمائة سنة. ونمرود قد ملك مشارق الأرض ومغاربها وهو صاحب النسور.

وكان أبو إبراهيم توفي وإبراهيم طفل وبقيت أمّه ابنة آزر فلما شب وترعرع واستقل بنفسه ماتت عنه امّه.

فقام إسماعيل بن إبراهيم بالنبوة والأمر مقامه ولم يزل يدبّر أمر الله جل وعز وهو أوّل من تكلّم بالعربية وأبو العرب وكان إبراهيم عليه السّلام قد خلف عنده سبعة أعنزة فكانت أصل ماله.

وأقام أكثر أيّامه بمكّة وتزوّج بهالة بنت الحارث فولدت (قيدار) وكان فيه شبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان لإسماعيل ثلاث عشر ذكرا كان كبيرهم ورئيسهم (قيدار) وهو أوّل من ركب الخيل وكسا البيت ولبس العمائم وأطعم الحاجّ.

وعاش مائة وعشرين سنة إسماعيل ، كما روي أن أباه إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة.

فلما حضرت وفاته أوحى الله إليه أن يستودع الاسم ونور الله وحكمته أخاه اسحاق.

وروي انّه شريكه في الوصيّة وتقدّمه إسماعيل بالسن لأنّه أكبر منه بخمس سنين فسلم الأمر إلى اسحاق وتوفي إسماعيل عليه السّلام ودفن بمكة وهو : اسماعيل صادق الوعد وكان وعد رجلا إلى موضع يجتمعان فيه فأنسى الرجل وحضر إسماعيل الموضع وأقام فيه ثلاثة أيام ينتظره فلما كان في اليوم الرابع فقده الرجل فجاء إلى الموضع الذي وعده فوجده فيه ينتظر فأعظم ذلك وأكبره فقال له إسماعيل : لو لم تحضر لأقمت حتى يصير

٤٥

المحشر من هذا المكان.

وقام اسحاق بن إبراهيم بالأمر والنبوّة بعد أخيه إسماعيل وكان من حديث اسحاق عليه السّلام في قول الله عز وجل (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ).

قال ان الملائكة لمّا جاءت في هلاك قوم لوط عليه السّلام قالوا (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) فقالت سارة ومن يطيق قوم لوط يعني كثرة عددهم ، فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب ، فصكت وجهها وقالت : عجوز عقيم.

وهي يومئذ ابنة تسعين سنة وإبراهيم له أكثر من مائة سنة فلما ولد لإبراهيم اسحاق قال من حوله : ألا تعجبون من هذه العجوز وهذا الشيخ وجدا صبيّا منقطعا فأخذاه يزعمان انّه ولدهما وهل تلد مثل هذه العجوز.

وكان الله جل وعلا قد صوّره على صورة إبراهيم والعجوز سارة فلما رأوه قالوا :

نشهد انّه ابن الشيخ إبراهيم والعجوز سارة.

فلما قام اسحاق بالأمر بعد أخيه إسماعيل عليه السّلام سلم له المؤمنون وجميع شيعة أبيه وأخيه.

وتزوّج اسحاق من أخواله بالشام وولد له يعقوب عليه السّلام والعيص وكان من حديثهما ما اقتص وكان لا يفرّق الناس بين إبراهيم وبين ابنه اسحاق حتى شاب إبراهيم فكان يعرف منه بالشيب.

فلما حضرت وفاة اسحاق أوحى الله إليه ان يستودع الاسم الأعظم والنور وجميع ما في يديه من المواريث ابنه يعقوب عليه السّلام وهو إسرائيل الله فأحضره وسلّم إليه.

ومضى اسحاق عليه السّلام ودفن في بيت المقدس وكان عمره مائة وثمانين سنة.

وقام يعقوب عليه السّلام بالأمر بعده وهو إسرائيل الله وآمن به المؤمنون ، وجحد نبوّته الكفّار والشّكاك.

وتزوّج بالشام بابنتي خالته وكان في ذلك الوقت يجمع بين الاختين فولد منهما اثنا

٤٦

عشر ذكرا.

وغلب العيص أخوه على بيت المقدس والملك الجبّار في ذلك الوقت (فيتساد) ملك مائة سنة وهو أوّل من قطع القطائع بغير حقّ فصارت سنة للظالمين إلى هذا الوقت وأخذ من الناس الخراج.

وخرج يعقوب عليه السّلام يريد بيت المقدس واتصل الخبر بأخيه العيص فخرج بجميع جيشه يستقبله ليقتله وبلغ يعقوب فأهدى إليه هدية يتألّفه بها وكتب إليه كتابا وقع على عنوانه : عبدك يعقوب.

فلما قرأ العيص كتابه عطف عليه وفرّق جيشه عن نفسه فلما قرب منه جمع يعقوب عليه السّلام أولاده حوله خوفا منه وأمرهم إذا قرب منه العيص أن يمنعوه من الدنو منه وكانوا أولي قوّة وبأس شديد فلما قرب منه منعه الأسباط من التقدّم إليه.

وروي ان العيص كان قد صمّم إذا سلم عليه أخوه يعقوب أن يعتنقه ثم يقرص حلقه فيقتله فقالوا له تنح عن نبي الله ، فارتاع العيص لذلك.

ودخل يعقوب بيت المقدس وقام يصلّي وحوله الأسباط الاثنا عشر والمؤمنون ، والعيص ناحية يراهم. فلما جنّ عليه الليل كشف له عن بصيرته فرأى العيص ونظر الى الملائكة الليل كلّهم ينزلون من السماء ويصعدون ويسلّمون على يعقوب ويسبّحون ويهللون ويقدّسون ، فاغتاظ لذلك وعلم انّه لا طاقة له به وحسده.

فاستأذنه العيص في التنحي عنه فاذن له ، فعبر مع ولده البحر فأقام هناك ، وولده الأصغر عملاق. فالأصغر أبو الأشراف من الروم وعملاق أبو العمالقة الذين قاتلهم يوشع ابن نون عليه السّلام.

ورأى يوسف عليه السّلام الرؤيا فقصّها على أبيه وكان من حديثه ما أخبر الله عز وجل به في كتابه وجاءت به الروايات من قصّته مع اخوته الأسباط. وحزن يعقوب حتى ابيضت عيناه وتقوّس ظهره فروي عن العالم عليه السّلام انّه يعلم ان يوسف باق لم يأكله الذئب فقال : كان يعلم بجميع أمره. فقيل له : فمن أي شيء كان حزنه؟ فقال : من خوف البداء فيما وعده الله به من الجمع فيما بينه وبين يوسف.

٤٧

وكانت مدّة المحنة عشرين سنة (وروي) سبع عشر سنة فلما أراد الله إزالتها وكشفها رفع يعقوب عليه السّلام يديه ثم قال يا من لا يعلم أحد كيف هو وحيث هو وقدرته إلّا هو يا من سد الهواء بالسماء وكبس الأرض على الماء واختار لنفسه أحسن الأسماء ائتني بروح من عندك وفرج قريب.

فما انفجر عمود الصبح حتى أتي بالقميص وطرح على وجهه فرد الله عليه بصره وولده.

وخرج الى مصر وجمع الله مع ذلك أهله وماله. وخرج يوسف عليه السّلام لتلقيه فلما رآه يعقوب ترجّل له والأسباط.

ولم ينكر ذلك ويعظّمه إيّاه فأخرج الله الإمامة من عقبه وجعلها في ولد أخيه الأكبر لاوي بن يعقوب لأنّه لم يعرف أباه حقّه.

ثم صار بهم إلى منزله فرفع أبويه إلى سرير الملك وهو العرش الذي ذكره الله وهما أبوه وخالته لأن امّه راحيل كانت توفيت قبل الرؤيا التي رآها وتكفلت خالته بتربيته.

ودخل فلبس ثياب العزّ والملك وخرج فلما رأوه سجدوا لله شكرا فعند ذلك قال يوسف (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا).

ومكث يعقوب مع يوسف عليهما السّلام بمصر سنتين فلما حضرت وفاته فأوحى الله إليه أن يسلم مواريث الأنبياء والنور والاسم الأعظم إلى يوسف فدعاه وجمع أولاده وأوصى إليه ثم قبض (صلّى الله عليه) وسنّه مائة وست وأربعون سنة.

وقام يوسف عليه السّلام مقامه ووضعه بين يديه أربعين يوما يبكي عليه ويعدّد حتى ركب إليه الملك في زمانه مع عظماء أهل مملكته فكلّموه ووعظوه.

وحمله من مصر الى بيت المقدس ليدفنه مع آبائه فوجد العيص قد رجع إلى بيت المقدس فمنع من دفنه ونازعهم فيه فوثب ابن شمعون [و] كان ايدا على العيص فوكزه فقتله فدفن يعقوب والعيص في مكان واحد.

ورجع يوسف إلى مصر فلم يزل يدبّر أمر الله ومعه أهله والمؤمنون فمن أطاعه كان

٤٨

مؤمنا ومن عصاه كان كافرا.

وكان يوسف عليه السّلام اماما ملكا يلبس الديباج والوشي والابريسم المنسوج بالذهب والجوهر ولم يكن نزل تحريم لبس ذلك.

وملك اثنين وسبعين سنة وعاش مائة وعشرين سنة وكان له ابنان يقال لأحدهما افرائيم وهو جدّ يوشع بن نون والآخر ميشا.

فلما قربت وفاته أوحى الله إليه عز وجل ان استودع نور الله وحكمته وجميع المواريث التي في يديك ببرز بن لاوي بن يعقوب فاحضر ببرز بن لاوي وجمع آل يعقوب وهم يومئذ ثمانون رجلا فقال لهم : ان هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ويسومونكم سوء العذاب ونعوت الإمامة مكتومة ثم ينجيكم الله ويفرّج عنكم برجل من ولد لاوي اسمه موسى بن عمران طوال جعد آدم مفلفل الشعر أحلج على لسانه شامة وعلى أرنبة أنفه شامة ولن يظهر حتى يخرج قبله سبعون كذّابا ، وروي خمسون كلّ يدّعي انّه هو ، ثم يظهر وينصر الله بني إسرائيل ويفرّج عنهم.

وسلم التابوت والنور والحكمة وجميع المواريث الى ببرز بن لاوي عليه السّلام ومضى (صلّى الله عليه).

ودفن بمصر في صندوق من مرمر في بطن النيل ثم استخرجه موسى عليه السّلام من ذلك الموضع ومضى به الى الأرض المقدّسة فدفنه فيها.

وكان سبب حمله من مصر أن المطر احتبس على بني إسرائيل فأوحى الله جل وعلا الى موسى عليه السّلام ان اخرج عظام يوسف.

فسأل موسى عن الموضع فأتي بعجوز عمياء مقعدة فقالت أنا أعرف موضعه ولا أخبرك به حتى تعطيني ثلاث خصال : تطلق لي رجلي وتعيد لي صورتي وشبابي وعيني وتجعلني معك في الجنّة وكانت العجوز من بني إسرائيل فأوحى الله إلى موسى ان اعطها ما سألت فانّما تعطى على ما سئلت ففعل فدلّته فأخرجه ونقله إلى الأرض المقدّسة (صلوات الله عليه).

٤٩

قام ببرز بن لاوي بن يعقوب عليهم السّلام بأمر الله جلّ وعز يدبره على سبيل آبائه عليهم السّلام فروي انّه كان إذا ولد في بني إسرائيل كلّ واحد منهم يدّعي انّه هو ويسمّى عمران ثم يأتي عمران ولد فيسمّى الولد موسى يتعرّضون بذلك لقيام القائم موسى عليه السّلام. فما ظهر موسى حتى خرج سبعون كذّابا «وروي» خمسون من بني إسرائيل كلّ واحد منهم يدّعي انّه هو وعند ذلك ملك الأرض بعد فرعون يوسف فيقابوس مائة وخمسون سنة وبنى مدينة سمّاها قيفدون وهو الذي كانت الشياطين معه قبل سليمان بن داود عليهما السّلام.

فلما حضرت ببرز عليه السّلام الوفاة أوحى الله إليه ان يستودع نور الله وحكمته وما في يديه ابنه أحرب فدعاه وأوصى إليه بمثل ما كان يوسف (صلّى الله عليه) أوصى به ففعل ذلك.

وقام أحرب بن ببرز بن لاوي عليهم السّلام بأمر الله عزّ وجل واتبعه المؤمنون وجرى على منهاج آبائه حتى إذا حضرته الوفاة أوحي إليه أن يجعل الوصيّة إلى ابنه ميتاح فأحضره وأوصى إليه وسلّم مواريث الأنبياء وما في يديه إليه ومضى (صلّى الله عليه).

وقام ميتاح بن أحرب عليهما السّلام بأمر الله جل ذكره واتبعه المؤمنون وهم الأقلون عددا في ذلك الزمان المستخفون من الجبّار المتوقعون الفرج.

فلما حضرت ميتاح الوفاة أوحى الله إليه أن يوصي إلى ابنه عاق فأحضره وأوصى إليه.

وقام عاق بن ميتاح عليه السّلام بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون على سبيل من تقدّمه من آبائه فلما حضرته الوفاة أوحى الله تعالى إليه أن يوصي إلى ابنه خيام فأحضره وأوصى إليه ومضى صلّى الله عليه.

وقام خيام بن عاق عليه السّلام بأمر الله جل وتعالى ونوره حكمته إلى أن حضرته الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه مادوم فاتبعه المؤمنون مدّة زمانه على

٥٠

خوف واستخفاء وأودع نور الله وحكمته ابنه مادوم.

وقام مادوم بن خيام عليه السّلام بأمر الله جل وعلا ونوره حكمته الى ان حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يوصي إلى شعيب فأحضره وأوصى إليه ومضى عليه السّلام وكان شعيب من ولد نابت بن إبراهيم صلّى الله عليه لم يكن من ولد اسماعيل واسحاق صلوات الله عليهم.

فقام شعيب بالأمر بعد مادوم فعند ذلك ظهر ملك فرعون ذو الأوتاد وهو فرعون موسى عليه السّلام واسمه الوليد بن ريان بن مصعب وكان ملكه أربعمائة سنة وفي سنة من ملكه بعث الله أيوب صاحب البلاء صلّى الله عليه وكانت امرأته رحمة بنت يوسف عليه السّلام وهو أيوب بن أموص بن العيص بن اسحاق بن يعقوب وكان من قصّة شعيب عليه السّلام ان الله بعثه الى قوم نبيا حين كبرت سنّه فدعاهم إلى التوحيد والإقرار والطاعة فلم يجيبوه فغاب عنهم ما شاء الله ثم عاد إليهم شابّا فدعاهم فقالوا ما صدقناك شيخا فكيف نصدّقك شابا (فروي) ان أمير المؤمنين عليه السّلام كان يعيد ذكر هذا الحديث ويكرّره ويتمثّل به كثيرا وكان سبب نبوّة شعيب ان قومه اتخذوا ميكائيل وموازين مختلفة يأخذون بالأوفر ويعطون بالأنقص. وفي الحديث طول.

وبلغ فرعون قرب أمر موسى بن عمران عليه السّلام وان زوال ملكه وهلاكه على يديه وفي أيامه فوكّل القوابل بالنساء الحوامل فلم يكن يولد غلام إلّا ذبح وإذا ولدت المرأة جارية استحييت وتركت فغلظ الأمر على بني إسرائيل من فرعون واجتمعوا الى فقيه كان لهم عالم فقالوا : لا نقرب النساء حتى لا يذبح الأطفال من أولادنا فقال عمران عليه السّلام وكان عالما مؤمنا تقيّا من أولاد المؤمنين : والله لا تركت ما أمر الله به فان أمره عز وجل واقع ولو كره المشركون اللهم من حرّم ذلك فانّي لا أحرّمه ومن تركه فإنّي لا أتركه.

وروي ان أصحاب فرعون شكوا قلّة النسل من بني إسرائيل لأنّهم كانوا يستعبدونهم

٥١

ويستخدمونهم فأمر فرعون بأن تستحيى الذكور سنة ويقتلون سنة فولد هارون بن عمران في سنة الاستحياء وولد موسى في سنة القتل حتى يري الله عز وجل قدرته.

وروي ان أمّ موسى لما حملت فطن بها ووضع عليها قابلة تلزمها فأوقع الله على القابلة محبّة قبل ولادته وكذلك حجج الله على من خلقه.

فكانت أمّ موسى عليه السّلام تضمر وتذوب ، فقالت لها القابلة : يا بنية أراك تذوبين وتحزنين.

قالت لها : كيف لا أذوب وأحزن وإذا ولدت أخذ ولدي وذبح؟

قالت لها : لا تحزني فانّي سوف أكتم عليك ولادة موسى بن عمران عليه السّلام.

فلما ولد موسى عليه السّلام قالت القابلة لامّه : ادخليه المخدع.

وخرجت القابلة الى الحرس وكان مع كلّ قابلة حرسا يقتل من يولد من الذكور فقالت له ولمن معه : انصرفوا فقد كفينا إنمّا خرج دم متقطّع.

فانصرفوا ورضعته أمه وخافت على الصوت فأوحى الله إليها ان اعملي تابوتا فإذا خفت عليه فاجعليه فيه وألقيه في أليم بالليل في نيل مصر ، ففعلت وطرحته وجعل يرجع إليها وجعلت تدفعه في غمر الماء ثم ان الريح ضربته بالأمواج فانطلقت بالتابوت فلما رأته قد ذهب به الماء جزعت وأيست وهمّت أن تصيح فربط الله على قلبها.

وكانت المرأة الصالحة آسية امرأة فرعون على دين بني إسرائيل تكتم ايمانها. قالت لفرعون : هذه أيام الربيع فاخرجني وتقدّم أن يضرب لي قبّة على شاطئ النيل حتى اتفرّج في هذه الأيام بالنظر الى الخضرة والرياض. ففعل وكان يقعد معها ، فأقبل التابوت نحوهما حتى صار بين أيديهما فقالت : هل ترون ما أرى؟ قالوا : بلى انّا لنرى شيئا.

فلما دنا التابوت بادرت الى الماء فجذبته إليها وكاد الماء أن يغمرها فأخرجته ووضعته في حجرها ووقعت عليها له محبّة وقالت : هذا ابني ولم يكن لها ولا للملك ولد.

وقال فرعون : نقتله فانّا نتخوّف أن يكون من بني إسرائيل.

فلم تزل ترفق به حتى أمسك عن قتله ورضي ووهبه لها.

وطلبت آسية من ترضعه فلم يبق أحد إلّا وجّه بامرأته لترضعه فامتنع من رضاع كلّ واحدة منهنّ وأبى تناول ثديهن.

٥٢

وروي ان في قول الله عز وجل (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) قال : فارغا من كلّ شيء إلّا من ذكر ولدها موسى والفكرة فيه. فقالت لاخته : انظري هل ترين أو تسمعين له خبرا أو اثرا.

فانطلقت فوجدت من يطلب الدايات فرجعت إلى امّها فعرفتها الخبر.

فانطلقت حتى أتت باب الملك فقالت : ان هنا امرأة صالحة تكفله لك.

فأدخلت فقالت لها آسية امرأة فرعون : ممّن أنت؟ قالت : من بني إسرائيل. فقالت لها :

اذهبي يا بنية فلا حاجة بنا إليك.

فقلن لها النساء : فانظري يأخذ منها ثديها أم لا يأخذ.

فرفع موسى إليها فوضعته في حجرها ثم ألقمته الثدي فأخذه ومصّه حتى روي فقامت آسية إلى فرعون فأخبرته.

فقال لها : الغلام من بني إسرائيل والظئر من بني إسرائيل ؛ هذا ما لا يكون أبدا ولا يجوز أن نجمعهما.

فلم تزل ترفق به حتى رضي وأمسك.

فروي انّه لما وضعته امّه في حجرها اشتدّ فرحها به فقالت : فديتك يا موسى. فسمع فرعون فاستشاط فأرسل الله جل وعز فنطق على لسانها فقالت : بلغني انّكم مشتموه من الماء فقلت يا موشى بالعبرانية. فقال لها فرعون : صدقت ، من الماء مشتناه وانّا نسمّيه موشى فعربت ، فهو ميشا عليه السّلام في دار فرعون.

وكتمت أمه واخته والقابلة خبره. وماتت القابلة فلم يعلم بخبره أحد من بني إسرائيل.

واشتد أمر الغيبة في توقعه وانتظاره على بني إسرائيل وكانوا يتجسّسون من خبره بالليل والنهار وغلظ عليهم سيرة فرعون وجنوده فخرجوا في ليلة مقمرة الى فقيه لهم وكان الاجتماع عنده يتعذّر عليهم ويخافون فقالوا له : قد كنّا نستريح الى الأحاديث فحتى متى؟ فقال لهم : لا تزالون في هذا أبدا حتى يأتي الله بموسى بن عمران ويظهر في الأرض.

وأخذ يصف لهم وجهه وطوله ولحيته وعلاماته إذ أقبل موسى عليه السّلام وقد كان خرج

٥٣

الى الصيد على بغلة له شهباء وعليه طيلسان خز فوقف عليهم فرفع العالم رأسه فنظر إليه فعرفه فوثب إليه ثم قال له : ما اسمك يرحمك الله؟

فقال له : موسى بن عمران فانكبّ على يده ورجله فقبّلهما. وثار القوم فقبّلوا يده ورجله وقالوا له : الحمد لله الذي لم يمتنا حتى أراناك.

فلم يزد على أن قال : أرجو أن يعجل لكم الفرج فاتخذهم شيعة من ذلك اليوم.

ثم غاب بعد ذلك بضعة عشر سنة ثم خرج من الدار الى السفينة فوجد فيها رجلا من شيعته اولئك ؛ يقاتله رجل من آل فرعون ؛ وكان القبطة يحملون على بني إسرائيل الماء والحطب والصخور والحجارة «فروي» انّه كان طبّاخا لفرعون قد حمل على ذلك المؤمن حطبا فلم يطق حمله فجعل يضربه.

فلما رأى موسى المؤمن استغاث به على الطبّاخ القبطي فوكزه موسى فقضى عليه ودخل الدار. وانتشر الخبر في المدينة وبلغ الملك وقد كان أعلم ان موسى إذا خرج يقتل طباخا له فبذل الرغائب لمن يأتي به.

وخرج موسى بعد ذلك إلى المدينة (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) على رجل آخر من القبط.

فقال له موسى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) بالأمس رجل واليوم رجل. ثم دنا من القبطي فتخلّص الرجل منه ، فظن القبطي انّه قاتله وظن المؤمن انّه دنا منه ليعاقبه لقوله (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فقال له : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس.

وبصر به أهل المدينة ، فخرج منها خائفا يترقب ، بغير ظهر يركبه ولا خادم يخدمه حتى انتهى الى أرض (مدين) وهي مسيرة بضعة عشر يوما فروي انّه صار إليها في ليلة واحدة وبعض يوم فانتهى الى أصل شجرة تحتها بئر يستقي منها الماء فوجد عندها أمة من الناس يسقون فكان قصّته مع شعيب وابنته ما قصّ الله به.

فلما قضى موسى الأجل وأراد أن يودّع شعيبا قال له : ادخل الى البيت فاخرج من تلك العصي واحدة وكان شيعة شعيب وأصحابه حوله فدخل فأخرج العصا فقام شعيب فردّها وجعلها تحت العصي وأمره أن يدخل فيخرج غيرها فدخل فوجدها فوق

٥٤

العصي فأخرجها ثلاث مرّات.

فقال له شعيب : انّي أرى انّك المتكلّم على الطور. فكانت تلك إشارة من شعيب بحضرة شيعته ، وكانت العصا قضيب آس لرأسها شاختان. فأخذها وسار بأهله يريد الأرض المقدّسة فغلط في الطريق وجنّه الليل فأخذ الزناد ليقدح به فلم ينقدح فلما طال عليه كلمته الحديدة وقالت له يا سيدي لا تتعبن فانّي مأمورة. فالتفت فرأى نارا فأقبل إليها فلما دنا منها طفرت فصارت من خلفه فالتفت إليها فصارت عن يمينه فالتفت إليها فصارت عن يساره ثم صارت على الشجرة وسمع الكلام فقال : يا رب هذا الذي اسمعه كلامك؟ قال : نعم. فنودي : ان يا موسى اني أنا الله ربّ العالمين وأن ألق عصاك ، فلما رآها تهتز كأنّها جانّ ولّى مدبرا.

واذا حيّة مثل الجذع ولأسنانها صرير يخرج من فيها كالنار.

سئل العالم عليه السّلام عن قوله تعالى : (تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً). فقال : كانت كالجذع العظيم وحركتها حركة الجان الصغير.

فأمر بالرجوع فرجع وهو خائف فأمر بأخذها فوضع رجله على ذنبها ثم تناول لحيتها فاذا يده في شعبة العصا قد عادت كما كانت وقالت له : اخلع نعليك.

وارسله الله تعالى الى فرعون والعصا بيده وأمر بتبليغ رسالته وتحذيره وانذاره وأوصاه بما يقوله له وكان فيما ناجاه به قال له : يا موسى أتدري لم اصطفيتك على الناس بوحيي وكلامي؟

قال : لا يا رب.

قال : اني قلبت عبادي ظهرا لبطن فلم أر منهم أذلّ نفسا لي منك.

قال : وكان موسى إذا صلّى لا ينفتل من صلاته حتى يضع خدّه الأيمن والأيسر على التراب.

فسأل الله عز وجل أن يجعل معه أخاه هارون عليهما السّلام وزيرا وقصّ الله من شأنه ما قص فأجابه الله عز وجل إلى ذلك وقال لهما : نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون.

٥٥

وروي انّه انما عني بقوله اخلع نعليك : أردد صفورا على شعيب. فرجع فردّها وخرج الى مصر بعد غيبته بضع عشرة سنة وقد كان طال على الشيعة الانتظار بعد أن رأوا موسى عليه السّلام فاجتمعوا إلى فقيههم وعالمهم فسألوه الخروج معهم إلى موضع يحدّثهم فيه فخرج بهم الى الصحراء وقعد يحدّثهم وقال لهم ان الله جل وعلا أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بعد أربعة أشهر.

فقالوا : ما شاء الله.

فقال لهم : ان الله أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بقولكم ما شاء الله ثلاثة أشهر.

فقالوا : كلّ نعمة من الله.

فقال لهم : ان الله تعالى أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بقولكم كلّ نعمة من الله شهرين.

فقالوا : لا يأتي بالخير إلّا الله.

فقال لهم : ان الله جل جلاله أوحى إليّ أن يفرّج عنكم بما قلتم بعد شهر.

فقالوا : لا يصرف السوء إلّا الله.

فقال لهم : فان الله قد أوحى إليّ بأنّه يفرّج عنكم إلى جمعة بما قلتم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال لهم : ان الله قد أوحى إليّ أن يفرّج عنكم هذا اليوم فانتظروا.

فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين.

وجلسوا ينتظرون إذ أقبل موسى عليه السّلام وبيده العصا وعليه مدرعة صوف وهو راكب حمارا فقام إليه العالم وسلّم عليه ثم قال له : يا سيدي بما ذا جئت.

قال له : جئت بالرسالة إلى فرعون وملئه.

وأمرهم بما أراد ودخل مصر بالليل مستخفيا فجاء الى دار والدته واخته فروي انّه قد وقف على الباب وقفة فسمع أمه تقول لاخته : ترى ما فعل الشريد الطريد الغائب.

فدقّ الباب ودخل فلما رأته أمه سقطت مغشيا عليها ثم أفاقت فحمدت الله وسلّمت عليه.

وأمر بإحضار أخيه هارون وكان أحد خواص فرعون (وروي) انّه كان يسقيه الخمر

٥٦

وكان يلبس الجواهر والمزاد المذهبة فاحضر وخبره بالخبر وأمره بما احتاج إليه وردّه الى دار فرعون.

وروي في خبر آخر ان الله عز وجل أوحى إلى هارون في رؤيا الليل ان اخرج الى باب المدينة حتى تلقى أخاك. فخرج وأقبل موسى فلم يعرفه للنور الذي كان قد علا وجهه ولبسه حتى ناداه موسى فقال هارون مرحبا بسيدي وأخي ثم قصّ عليه القصص.

وروي ان هارون كان أخاه لامّه وأبيه وكان أسنّ منه بثلاث سنين وكان موسى أكبر جسما وخلقا وكان الوحي ينزل على موسى عليه السّلام ويوحيه الى هارون.

وغدا موسى عليه السّلام الى باب فرعون وعليه مدرعتان من شعر فاستأذن فحجب فضرب الباب بعصاه فاصطفقت الأبواب كلّها بينه وبين فرعون وتفتّحت.

وكان لفرعون في عمران داره أسد فأمر فرعون بتخليتها في طريقه فخليت ودخل موسى عليه السّلام فأقبلت الأسد تبصبص وتضرب بأذنابها بين يديه وتحت رجليه.

فقال فرعون لجلسائه : أرأيتم مثل هذا قط؟

قالوا : لا.

فلما وصل إليه وأدى رسالة ربّه إليه وسأل ان يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذّبهم فعرفه فرعون وقال له (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) الى قول الله (فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) فلم يبق أحد إلّا هرب.

وفتحت الحيّة فاها فأهوت الى قبّة فرعون ان تبتلعها فنادى : يا موسى انشدك الله والرضاع الا امتنعت.

فأخذ موسى العصا ورجعت الى فرعون نفسه ، وهمّ بتصديقه ، فقام إليه هامان فمنعه من ذلك وقال له : بينما أنت إله تعبد تصير تابعا لعبد انما هو أمر السماء وأمر الأرض فاما أمر السّماء فاني ابني لك بناء تقاوم به ملك السماء واما أمر الأرض فالسحرة يقاومون موسى ؛ فصدّه عن الايمان والتصديق لموسى.

ف (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

٥٧

ثم قال له : من يشهد لك بالرسالة؟

فقال : هذا الواقف على رأسك يعني أخاه هارون

فالتفت الى هارون فقال له : ما تقول؟

قال له : صدق هو رسول الله

فأمر فرعون فنزعت عنه ثياب الملك والحلل التي كانت عليه

فبادر موسى فنزع إحدى المدرعتين فألبسها هارون فلما وقعت على جلده بكى عليه السّلام ثم كان من قصة موسى والسحرة ما قص الله به الى قوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (فروي) انّه لم يخف على نفسه وانما خاف على شيعته الفتنة.

وألقى عصاه فتلقفت جميع ما عملوه من الحبال والعصي وكان فيما روي حمل مائتي بعير.

فلما رأى السحرة ذلك قالوا : ليس هذا سحرا ، هذا أمر الله وإلا فأين أحمال مائتي بعير حملناها؟

قال : وسجدوا وآمنوا فقال لهم فرعون : آمنتم به قبل ان آذن لكم؟

فقالوا له : اقض ما أنت قاض.

ورجع فرعون وأصحابه مغلوبين واشتدت المحنة على بني اسرائيل بعد ظهور موسى عليه السّلام وكانوا يضربون ويحمل عليهم الحجارة والماء والحطب فصاروا إلى موسى صلّى الله عليه فقالوا له : كنّا نتوقع الفرج فلما فرّج عنّا بك غلظت المحنة علينا.

فناجى موسى ربّه في ذلك.

فأوحى الله إليه : عرّف بني إسرائيل اني مهلك فرعون بعد أربعين سنة.

فأخبرهم بذلك فقالوا : ما شاء الله كان.

فأوحى الله إليه : عرّفهم اني قد نقصت من مدّة فرعون بقولهم «ما شاء الله كان» عشر سنين واني أهلكه بعد ثلاثين سنة.

فقالوا : كلّ نعمة من الله.

فأوحى الله إلى موسى : فانّي قد نقصت من أيامه لقولهم «كلّ نعمة من الله» عشر سنين

٥٨

وانّي مهلكه بعد عشرين سنة.

فقالوا : لا يأتي بالخير إلّا الله.

فأوحى الله إليه : قد نقصت من أيامه بقولهم «لا يأتي بالخير إلّا الله» عشر سنين وانّي مهلكه بعد عشر سنين.

فقالوا : لا يصرف السوء إلّا الله.

فأوحى الله إليه : اني قد بترت عمره ومحقت أيامه بقولهم «لا يصرف السوء إلّا الله»

فأخرج بني إسرائيل من مصر فعذّب موسى عليه السّلام فرعون قبل أن يخرج من مصر يوما بالقمل ويوما بالجراد ويوما بالضفادع ويوما بالدم ويوما بالريح الصفراء ويوما بالريح السوداء

ثم خرج موسى ببني إسرائيل نحو الأرض المقدّسة واتبعه فرعون في جميع جنوده وجيشه وكان في خيله سبعون فرسا أبلق.

وكان من شيعة موسى قوم قد تبعوا فرعون طلبا لدنياه وهم من بني اسرائيل وقالوا : هذا الذي قد كنّا نرجوه ، رجعنا وصرنا مع موسى.

فلما خرج موسى عليه السّلام من مصر اتبعوه واسرعوا في السير فأرسل الله إليهم ملائكة يضربون وجوههم ودوابهم حتى ردوهم الى عسكر فرعون فهلكوا فيمن هلك ونودوا : حقّا على الله أن يصيركم مع من عشتم في دولته.

فلما قرب موسى عليه السّلام من البحر لحقه فرعون وجنوده فاشتد خوف بني إسرائيل وشكوا ذلك الى يوشع بن نون فصار الى موسى عليه السّلام فقال له : يا سيدي قد أدركنا فرعون فأي شيء تأمر؟

فقال له : البحر يا يوشع.

فبادر الى البحر فاقتحمه بفرسه حتى كاد أن يغرق.

فلما رأى الماء قد غمره رجع الى موسى فقال له : أي شيء تأمر؟

فقال له : البحر يا يوشع.

فاقتحمه ثلاث مرّات كان أن يغرق فيه.

٥٩

فقال موسى : وإله بني اسرائيل ما كذبت ولا كذبت.

فأوحى الله الى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتقدّم يوشع وكان فرسه يخطو على جدد الأرض الصلبة.

وروي انّه كان تحته برذون أشهب فأنجى الله بعظمته وقدرته موسى ومن معه وغرق فرعون وجنوده وآل فرعون.

فلما خرج قوم موسى من البحر مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا : يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة.

قال : انّكم قوم تجهلون.

فلما انتهى بهم الى الأرض المقدّسة قال لهم : يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم.

قالوا : ان فيها قوما جبّارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ـ يعنون العمالقة.

فحرّمها الله عليهم ورجعوا نحو مصر فتاهوا في أربعة فراسخ أربعين سنة فنزل عليهم المن والسلوى فهلكوا جميعا فيها إلّا يوشع بن نون وابن عمه كالب بن يوحنا وهما اللذان قال الله في حقّهما : قال رجلان من الذين أنعم الله عليهما.

وكان معهم في التيه حجر يحمله أحدهم على كتفه وروي انّه كان يحمل على حمار فاذا وضعه «انبجست (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) فيشربون فاذا أرادوا الرحيل بلع الماء وغاض وحمل الحجر معهم وإذا ولد لهم ولد انزل له القميص فطرح عليه فاذا اتسخ طرح في النار فيتنظف ولم يحترق. وكلّما طال المولود طال القميص معه.

ولما مضى موسى لميعاده وهو ثلاثون يوما عرّف موسى أصحابه ذلك.

فلما انقضت وتممها الله له بعشر ، صنعوا في عشرة أيام ما صنعوا من أمر العجل. وكان أصل ذلك السامري كاهنا يتنجم فرأى في نجومه ان بني اسرائيل يقطعون البحر فدخل معهم ولم يكن منهم وكان من قرية من أرض مدينة الموصل من قوم يعبدون البقر فنظر الى جبرئيل عليه السّلام لا يضع حافر فرسه على شيء من الدواب الميتة ولا شجر قد سقط ومات ونخر إلا عاش. فلما رأى ذلك وهو لا يعلم انّه جبرئيل قبض قبضة من

٦٠