إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

فقالت : بالذي أخذ ميثاقكم على النبيين أي شيء كنتم في الأظلة؟

فقال : يا حبابة ، نورا بين يدي العرش قبل أن يخلق الله آدم ، فأوحى إلينا فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا ولم يكن تسبيح قبل ذلك الوقت. فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور فيه.

وكان أبو جعفر عليه السّلام عمره سبع وخمسون سنة ، وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسين للهجرة ، فأقام مع أبي عبد الله الحسين سنتين وشهورا ومع علي بن الحسين خمسا وثلاثين سنة ، ومنفردا بالإمامة تسع عشرة سنة وشهورا.

وكانت وفاته سنة مائة وخمس عشرة. وفي أربع سنين من إمامته توفي الوليد بن عبد الملك ، وكان ملكه تسع سنين وشهورا ، وبويع لسليمان ؛ وأمر الإمامة مكتوم والشيعة في شدّة شديدة.

وفي ست سنين وشهور من إمامة أبي جعفر عليه السّلام توفي سليمان وبويع لعمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، فرفع اللعن عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال وهو بالمدينة : قد توفي هذه الليلة رجل تلعنه ملائكة السماء وتبكي عليه أهل الأرض.

وبويع ليزيد بن عبد الملك ، وكان شديد العداوة والعناد لأبي جعفر عليه السّلام ولأهل بيته فروي انّه بعث إليه فأحضره ليوقع به. فلما ادخل إليه حرّك بشفتيه بدعاء لم يسمع ، فقام إليه فأجلسه معه على سريره ثم قال له : تعرض عليّ حوائجك؟

قال : تردني الى بلدي.

فقال له : ارجع. وكتب الى عمّاله يمنعه الميرة في طريقه فمنع عنها بمدينة مدين وأغلق الباب دونه. فصعد الى الجبل فقرأ بأعلى صوته (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) ـ الى قوله تعالى ـ (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكان في المدينة شيخ من بقايا العلماء فخرج الى أهل المدينة فنادى بأعلى صوته : هذا والله شعيب يناديكم. فقالوا له : ليس هذا شعيبا. هذا محمد بن علي بن الحسين أمرنا أن نمنعه الميرة.

فقال لهم : افتحوا له الباب وإلّا فتوقّعوا العذاب.

١٨١

فأطاعوه وفتحوا الباب وأمرهم بحمل الميرة إليه ففعلوا.

فرجع الى المدينة وأقام بها. فلما قربت وفاته عليه السّلام دعا بأبي عبد الله جعفر ابنه عليهما السّلام فقال : ان هذه الليلة التي وعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له : يا أبا عبد الله! الله الله في الشيعة. فقال أبو عبد الله : والله لا تركتهم يحتاجون الى أحد.

فقال له : ان زيدا سيدعو بعدي الى نفسه فدعه ولا تنازعه فان عمره قصير.

فروى ان خروج زيد كان في يوم الأربعاء وقتله في يوم الأربعاء ـ جدّد الله على قاتله العذاب.

وقام أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام مقام أبيه ـ صلوات الله عليه ـ.

روي عن العالم عليه السّلام انّه قال : ولد أبو عبد الله عليه السّلام في سنة ثلاث وثمانين من الهجرة في حياة جدّه علي بن الحسين ـ صلوات الله عليهم ـ وكانت امّه أم فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر وكان أبوها القاسم من ثقات أصحاب علي بن الحسين. وكانت من أتقى نساء زمانها ، وروت عن علي بن الحسين أحاديث ؛ منها : قوله لها : يا أم فروة اني لأدعو لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مائة مرّة ـ يعني الاستغفار ـ لأنّا نصبر على ما نعلم وهم يصبرون على ما لا يعلمون.

وكان مولده ومنشأه ـ وما روي من أمر العمود وغيره ـ على منهاج آبائه صلّى الله عليهم.

ومضى علي بن الحسين وله اثنتا عشرة سنة وقام بأمر الله جلّ وعلا في سنة خمس عشرة ومائة وسنة اثنتين وثلاثين سنة. ولم يزل أبو جعفر عليه السّلام يشير إليه في حياته مدّة أيامه ثم نصّ عليه ؛ فمنها : ما رواه زرارة وأبو الجارود أن أبا جعفر عليه السّلام أحضر أبا عبد الله عليه السّلام وهو صحيح لا علّة به فقال له : اني أريد أن آمرك بأمر.

فقال له : مرني بما شئت.

فقال : ايتني بصحيفة ودواة.

فاتاه بها فكتب له وصيته الظاهرة ثم أمر أن يدعو له جماعة من قريش فدعاهم

١٨٢

وأشهدهم على وصيته إليه.

وروي عن جابر قال : قال يا جابر اني كنت سمّيته أحمد ثم أشفقت عليه فسميته جعفر عليه السّلام.

وروي عن سدير الصيرفي مثله.

وروي عن جابر الجعفي وعنبسة بن مصعب جميعا انّهما سألا أبا جعفر عليه السّلام عن القائم عليه السّلام وضرب بيده على أبي عبد الله عليه السّلام فقال : هذا والله قائم آل محمّد بعدي.

وروي عن فضيل بن يسار قال : كنت عند أبي جعفر عليه السّلام فأقبل أبو عبد الله عليه السّلام فقال : هذا خير البرية بعدي.

جعفر الصادق عليه السّلام

قال عنبسة : فلما قبض أبو جعفر عليه السّلام دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام فأخبرته بذلك فقال : لعلّكم ترون ان ليس كلّ امام منا هو القائم بأمر الله بعد الامام الذي قبله. هذا اسم لجميعهم.

فلما أفضى أمر الله جلّ وعزّ إليه ، جمع الشيعة وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيّام الله ثم قال : ان الله أوضح أئمة الهدى من أهل بيت نبيّه صلّى الله عليه وآله عن دينه وأبلج بهم عن سبيل منهاجه ، وفتح بهم عن باطن شاسع علمه ، فمن عرف واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة ايمانه ، وعلم فضل طلاوة اسلامه ، لأنّ الله نصب الامام علما لخلقه ، وجعله حجّة على أهل عالمه ، وألبسه تاج الوقار ، يمدّ بسبب من السماء لا ينقطع عند موته ولا ينال ما عند الله إلّا بمعرفته ، فهو عالم بما يرد عليه من ملبسات الدعاء ، ومغيبات السماء ، ومشبهات الفتن ، ثم لم يزل الله يختارهم لخلقه من ولد الحسين بن علي من عقب كلّ إمام اماما ، يصطنعهم لذلك ويجتبيهم ويرضاهم لخلقه ، ويختارهم علما بيّنا ، وهاديا منيرا ، وحجة عالما ... أئمة من الله عز وجل ، يهدون بالحق وبه يعدلون .. حجج الله ، ودعاته على خلقه ، ومفاتيح الكلام ، ودعائم الاسلام .. يدين بهديهم العباد. ويستهل بنورهم البلاد. جعلهم الله حياة للأنام ، ومصابيح الظلام. جرت بذلك فيهم مقادير

١٨٣

الله على محتومها. والامام هو المنتجب المرتضى ، والقائم المرتجى ، اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه ، وفي البرية حين برأه ، قبل خلق نسمة عن يمين عرشه وهو في علم الغيب عنده مرعيا بعين الله جلّ وعز يحفظه ويكلأه بستره ، مذودا عنه حبايل ابليس وجنوده ، مصروفا عنه قوارف السوء ، مبرأ من العاهات ، محجوبا من الآفات ، معصوما من الفواحش كلّها ، مخصوصا بالحلم والبر ، منسوبا الى العفاف والعلم ، صامتا عن النطق إلّا فيما يرضاه الله ، أيّده الله بروحه ، واستودعه سرّه ، وندبه لعظيم أمره ، فقام لله بالعدل ، عند تحيّر أهل الجهل ، بالنور الساطع والحق الأبلج الذي مضى عليه الصادقون من آبائهم. فانظروا معاشر المسلمين نظر طالب الرشاد ، وتدبروا هذه الامور تدبّر تارك للعناد ، ولا تلحوا في الضلالة بعد المعرفة ولا تتبعوا الظن ولا هوى الأنفس فلقد جاءكم من ربّكم الهدى.

وروي انّه عليه السّلام كان يجلس للعامة والخاصة ويأتيه الناس من الأقطار يسألونه عن الحلال والحرام وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب فلا يخرج أحد منهم إلّا راضيا بالجواب.

وروي عبد الأعلى بن أعين قال قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : ما الحجة على المدعي بهذا الأمر؟

قال : أن يكون أولى الناس بمن قبله ويكون عنده سلاح رسول الله صلّى الله عليه وآله ويكون صاحب الوصيّة الظاهرة ، الذي اذا قدمت المدينة سألت العامة والخاصّة والصبيان الى من أوصى فلان فيقولون الى فلان.

وروي عن عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : بلغني ان محمّد بن عبد الله بن الحسن يدّعي الوصية في السرّ.

فقال : من ادّعى الوصية في السر فليأت ببرهان في العلانية.

قلت : وما البرهان؟

قال : يحلّل حلال الله ويحرّم حرامه.

وروي عنه انّه قال : اذا لم تدروا أين المسلك والمذهب فعليكم بالذي يجلس مجلس

١٨٤

صاحبكم الأول.

وفي خبر آخر انّه قال : اذا ادّعى مدع فاسألوه.

وروي عنه عليه السّلام في قول الله عز وجل (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ) يعني لو يغب عنكم طرفة عين وفيكم الحجّة منه قائمة.

وروي عن يونس بن ظبيان والمفضل بن عمر وأبو سلمة السراج والحسين بن نويرة قالوا : كنّا عند أبي عبد الله عليه السّلام فقال لنا : أعطينا خزائن الأرض ومفاتيحها ، ولو أشاء أن أقول باحدى رجليّ هذه اخرجي ما فيك من الذهب ؛ وفحص بإحدى رجليه خطا من الأرض ثم قال بيده. فاستخرج سبيكة من ذهب قدر شبر فناولناها ثم قال : انظروا فيها حسنا حتى لا تشكّوا.

ثم قال : انظروا في الأرض.

فنظرنا فاذا سبايك كثيرة بعضها على بعض تتلألأ.

فقال له بعض القوم : يا ابن رسول الله! أعطيتم هذا وشيعتكم محتاجون؟

فقال : ان الله سيجمع لشيعتنا الدّنيا والآخرة ويدخلهم جنّات النعيم ويدخل عدوّنا نار جهنّم.

وروي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليه السّلام في قول الله عز وجل (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) قال هم الأئمة عليهم السّلام. وروي المأمونون يعني الحجج.

وروي عن داود بن كثير الرقي قال : خرجت مع أبي عبد الله عليه السّلام الى الحجّ ، فلما كان أوّل وقت الظهر قال لي في أرض قفر : يا داود قد حانت الظهر فاعدل بنا عن الطريق.

فعدلنا فنزلنا في أرض قفر لا ماء فيها ، فوكزها برجله فنبعت لنا عين من ماء كأنّها قطع الثلج ، فتوضأ وتوضأت وصلينا.

فلما هممنا بالسير التفتّ فاذا أنا بجذع نخلة فقال : يا داود أتحبّ أن أطعمك رطبا؟

فقلت : نعم.

فضرب بيده الى الجذع وهزه فاهتزّ اهتزازا شديدا فاذا قد تدلّى منه كبايس بأعذاقها ،

١٨٥

فأطعمني أنواعا كثيرة من الرطب ثم مسح بيده على النخلة وقال : عودي جذعا نخرا باذن الله. فعادت كسيرتها الاولى.

وفي إحدى عشرة سنة من إمامته ، مات الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وبويع لابنه يزيد بن الوليد فملك ستة أشهر ، وبويع لأخيه إبراهيم فمكث أربعة أشهر ثم بويع لمروان ابن محمد الجعدي المعروف بالحمار في سنة سبع وعشرين ومائة في اثنتي عشر سنة من إمامة أبي عبد الله عليه السّلام فقال أبو عبد الله : مروان خاتم بني أميّة وان خرج محمد بن عبد الله قتل.

وروى عنه عليه السّلام من قدمنا ذكره من رجاله.

قالوا : كنّا عنده إذ أقبل رجل فسلّم وقبّل رأسه وجلس فمسّ أبو عبد الله عليه السّلام ثيابه ثم قال : ما رأيت اليوم أشدّ بياضا ولا أحسن من هذه.

فقال الرجل : يا سيدي هذه ثياب بلادنا وقد جئتك منها بجرابين.

فقال : يا معتب اقبضها منه.

ثم خرج الرجل فقال عليه السّلام : ان صدق الوصف وقرب الوقت فهذا الرجل صاحب الرايات السود الذي يأتي بها من خراسان.

ثم قال : يا متعب الحقه فاسأله عن اسمه وهل هو عبد الرحمن؟ قال لنا ان كان اسمه فهو هو.

فرجع متعب فقال : اسمه عبد الرحمن ثم عاد الى أبي عبد الله عليه السّلام سرّا فعرفه انّه قد دعا إليه خلقا كثيرا فأجابوه فقال له أبو عبد الله : ان ما تومي إليه غير كائن لنا حتى يتلاعب به الصبيان من ولد العباس.

فمضى الى محمّد بن عبد الله بن الحسن فدعاه فجمع عبد الله أهل بيته وهم بالأمر ودعا ابا عبد الله عليه السّلام للمشاورة فحضر فجلس بين المنصور وبين السفاح ؛ عبد الله ابني محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ووقعت المشاورة. فضرب ابو عبد الله يده على منكب أبي العباس عبد الله السفاح فقال : لا والله اما ان يملكها هذا أولا.

ثم ضرب بيده الاخرى على منكب أبي جعفر عبد الله المنصور وقال : وتتلاعب بها

١٨٦

الصبيان من ولد هذا.

ووثب فخرج من المجلس.

وكان من أمر مروان بن محمد الجعدي ما رواه الناس وقتل بمصر في ذي الحجّة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.

وفي سبعة عشر سنة من إمامة أبي عبد الله عليه السّلام انتقلت الدولة الى ولد العباس ، وبويع أبو العباس عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ليلة الجمعة لثلاثة عشر ليلة من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة بالكوفة في بني (أود) في دار (الوليد بن سعيد) مولى بني هاشم ، وكانت دولته أربع سنين وتسعة أشهر. وتوفي بالأنبار سنة ست وثلاثين ومائة ، وبويع لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد المنصور في ذلك الوقت وكانت دولة المنصور في احدى وعشرين سنة من إمامة أبي عبد الله عليه السّلام فأقدمه من المدينة حتى اذا علا (النجف) نزل فتأهب للصلاة ثم صلّى ورفع يديه وقال : يا ناصر المظلوم المبغي عليه .. يا حافظ الغلامين لأبيهما احفظني اليوم لآبائي محمّد وعلي والحسن والحسين. اللهم اضرب بالذلّ بين عينيه.

ثم قال : بالله استفتح ، وبالله استنجح ، وبمحمّد وآله أتوجه. اللهم انّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب.

ثم أقبل حتى انتهى الى الباب فاستقبله الربيع الحاجب فقال له : ما أشدّ غيظ هذا الجبّار عليك ، يعني ما قد همّ به ان يأتي على آخركم.

ثم دخل إليه فاستأذن له فأذن فدخل فسلّم عليه.

فروي انّه عليه السّلام صافحه وقال له : روينا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه قال ان الرحم اذا تماست عطفت فأجلسه المنصور الى جنبه ثم قال : فانّي قد انعطفت وليس عليك بأس.

فقال له أبو عبد الله : أجل ما عليّ بأس.

ثم قال المنصور : يا جعفر يبلغنا عنك ما يبلغنا.

فقال له أبو عبد الله عليه السّلام : والله ما فعلت ولا أردت ، ولو كنت فعلت فان سليمان أعطي فشكر ، وان أيوب ابتلي فصبر ، وان يوسف ظلم فغفر ولا يأتي من ذلك النسل إلّا ما

١٨٧

يشبهه.

فقال له أبو جعفر : صدقت يا أبا عبد الله.

وأمر له بستة آلاف درهم وقال له : تعرض حوائجك؟

فقال : حاجتي الاذن لي في الرجوع الى أهلي.

قال : هو في يديك.

فودّعه وخرج فقال له الربيع : فأمر بقبض المال لا حاجة لي فيه اصرفها حيث شئت.

فقال : اذن تغضبه.

فأمر بقبض الدراهم ثم وجّه بها الى منزل الربيع فخرج.

وروي انّه لما خرج من عنده نزل الحيرة فبينما هو فيها إذ أتاه الربيع فقال له : أجب امير المؤمنين.

فركب إليه وقد كان وجد في الصحراء صورة عجيبة الخلق لم يعرفها أحد ذكر من وجدها انّه رآها وقد سقطت مع المطر. فلما دخل إليه قال له : يا أبا عبد الله أخبرني عن الهواء أي شيء فيه؟

فقال له : بحر مكفوف.

فقال له : فله سكّان؟

قال : نعم.

قال : وما سكّانه؟

قال : خلق الله أبدانهم أبدان الحيتان ورءوسهم رءوس الطير ولهم أجنحة كأجنحة الطير من ألوان شتى أشدّ بياضا من الفضة.

فدعا المنصور بالطشت فاذا ذلك الخلق فيه لا يزيد ولا ينقص.

فاذن له فانصرف ثم قال للربيع : هذا الشجا المعترض في حلقي من أعلم الناس في زمانه.

وروي عن عبد الأعلى بن علي بن أعين وعبيدة بن بشير قالا : قال أبو عبد الله عليه السّلام ابتداء منه : والله اني لأعلم ما في السماء وما في الأرض وما في الجنّة وما في النار وما

١٨٨

كان وما يكون الى أن تقوم الساعة.

ثم سكت ثم قال : اعلمه من كتاب الله عز وجل ؛ يقول : تبيانا لكلّ شيء.

وروي عن المفضل بن بشار قال : هذا طاير في دار أبي عبد الله عليه السّلام وقال لي : تدري ما يقول هذا الطائر؟

فقلت : لا.

فقال : يقول لطيرته : يا عرسي ، ما خلق الله خلقا أحبّ إليّ منك إلّا مولاي أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام.

وروي انّه لمّا قرب أمره دعا أبا إبراهيم موسى ابنه وسلّم إليه الوصيّة ومواريث الأوصياء ونصّ عليه بحضرة خواص مواليه (ونحن نبيّن ذلك في باب أبي إبراهيم إن شاء الله).

وكان عمر أبي عبد الله عليه السّلام ستا وستين سنة. وقبض في سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين من الهجرة فأقام مع جدّه علي بن الحسين ثلاث عشرة سنة ومع أبيه عشرين سنة ومنفردا بالإمامة ثلاثا وثلاثين سنة ودفن بالبقيع في قبر أبي محمد الحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي ؛ أبيه (صلوات الله عليهم).

موسى الكاظم عليه السّلام

وقام أبو إبراهيم موسى بن جعفر عليه السّلام مقام أبيه. وروي عن جابر انّه قال : قال لي أبو جعفر عليه السّلام : قد قدم رجل من المغرب مع رقيق ووصف لي جارية وأمرني بابتياعها بصرّة دفعها. فمضيت الى الرجل. فعرض علي ما كان عنده من الرقيق. فقلت له : بقي عندك غير ما عرضت عليّ.

قال لي : بقيت جارية عليلة.

فقلت : اعرضها عليّ.

فعرض عليّ حميدة.

١٨٩

فقلت : بكم تبيعها؟

فقال لي : بسبعين دينارا.

فأخرجت الصرّة إليه.

فقال لي النحاس : لا إله إلّا الله. رأيت ـ والله ـ البارحة في النوم رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ابتاع مني هذه الجارية بهذه الصرّة.

فبعتها منه ، ثم تناول [الصرة] وتسلّمت الجارية. وكان في الصرّة سبعون دينارا. وصرت بها إليه. فسألها عن اسمها. فقالت : (حميدة).

فقال : حميدة في الدّنيا ، محمودة في الآخرة.

ثم سألها عن خبرها فعرّفته انّها بكر ما مسّها رجل.

فقال لها : أنّى يكون ذلك وأنت جارية كبيرة؟

فقالت : كان لي مولى اذا أراد أن يقربني أتاه رجل في صورة حسنة أراه دونه ولا يراه فيمنعه من أن يصل إليّ ويدفعه ويصدّه عني.

فقال أبو جعفر : الحمد لله.

ودفعها الى أبي عبد الله عليه السّلام وقال له : يا عبد الله ، حميدة سيّدة الاماء مهذّبة مصفاة من الأرجاس كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها لك حتى أديت إليك كرامة من الله جل جلاله وعلا.

وروي عن أبي بصير قال : حججنا مع أبي عبد الله عليه السّلام في السنة التي ولد فيها أبو إبراهيم عليه السّلام فلما نزلنا في المنزل المعروف ب (الابواء) وضع لنا الطعام ، فبينا نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة وقال : تقول لك مولاتي : قد أنكرت نفسي وقد أمرتني ان لا أسبقك بحادثة في هذا المولود.

فقام أبو عبد الله عليه السّلام فاحتسب هنيئة وعاد إلينا.

فقمنا إليه وقلنا : سرّك الله وجعلنا فداك ، ما صنعت حميدة؟

فقال لنا : سلّمها الله ووهب لي منها غلاما هو خير من برأه الله في زمانه ، ولقد أخبرتني حميدة بشيء ظنّت انّي لا أعرفه وكنت أعلم به منها.

١٩٠

قلنا له : وما أخبرتك به؟

قال : ذكرت انّه لما سقط رأته واضعا يديه على الأرض ورأسه الى السماء. فأخبرتها ان تلك امارة رسول الله وأمير المؤمنين عليهما السّلام وامارة الوصي اذا خرج الى الأرض أن يضع يديه الى الأرض ورأسه الى السماء ويقول من حيث لا يسمعه آدمي : أشهد الله انّه لا إله إلّا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلّا هو العزيز الحكيم. فاذا قال ذلك أعطاه الله عز وجل العلم الأول والعلم الآخر واستحق زيارة الروح في ليلة القدر وهو خلق أعظم من جبرئيل عليه السّلام.

وكانت ولادته عليه السّلام سنة ثمان وعشرين ومائة ، وروي في سنة تسع وعشرين ومائة من الهجرة. وكان مولده ومنشؤه مثل مواليد آبائه عليهم السّلام.

وروي عن يعقوب السرّاج قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى عليه السّلام وهو في المهد فجعل يسارّه طويلا فلما فرغ قال لي : ادن فسلّم على مولاك.

فدنوت فسلّمت عليه. فرد عليّ السلام ثم قال لي : امض فغيّر اسم ابنتك التي ولدت أمس فانّه اسم يبغضه الله.

وقد كنت سمّيتها (الحميراء) فقال أبو عبد الله : انته الى أمره ترشد.

فمضيت فغيّرت اسمها.

وروى رفاعة بن موسى قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام وهو جالس فأقبل أبو الحسن موسى عليه السّلام وهو صغير السن فأخذه ووضعه في حجره وقبّل رأسه ثم قال لي يا رفاعة اما انّه سيصير في يدي بني (مرداس) ويتخلّص منهم ثم يأخذونه ثانية فيعطب في أيديهم فطوبى له والويل لهم.

وروي ان أبا حنيفة صار الى باب أبي عبد الله عليه السّلام ليسأله عن مسألة فلم يأذن له فجلس لينتظر الاذن فخرج أبو الحسن موسى عليه السّلام وله خمس سنين فقال له : يا فتى اين يضع المسافر خلاه في بلدكم هذا؟

فاستند الى الحائط وقال له : يا شيخ تتوقى شطوط الأنهار ومساقط الثمار

١٩١

ومنازل النزّال ومحجّة الطرق وأقبلة المساجد وأفنيتها ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ويتوارى حيث لا يرى ويضعه حيث يشاء.

فانصرف أبو حنيفة ولم يلق أبا عبد الله عليه السّلام.

وروي عن نصر بن قابوس قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام فسألته عن الامام من بعده فقال : أبو الحسن موسى بن جعفر ابني الامام بعدي.

وروي ان أبا عبد الله عليه السّلام كان محبّا لإسماعيل ابنه وكان يثني عليه خيرا فتشاجر قوم من مواليه وموالي أبي الحسن موسى عليه السّلام في ذلك وادّعوا لإسماعيل الأمر في حياة أبي عبد الله عليه السّلام فقال لهم أصحاب أبي الحسن : باهلونا فيه. فخرجوا معهم الى الصحراء ليباهلوهم فأظلّت الجمع غمامة فأمطرت على أصحاب أبي الحسن عليه السّلام دون أولئك.

فاستبشروا ورجعوا الى أبي عبد الله فأخبروه بذلك فسمّاهم الممطورة.

وروي عن أبي عبد الرحمن بن أبي نجران عن عيسى بن عبد الملك قال : قلت : لأبي عبد الله عليه السّلام جعلني الله فداك ان كان كون ولا أراني الله ذلك فيمن آتم؟

فقال : بموسى ابني الامام بعدي.

قلت : فان مضى موسى فمن آتم؟

فقال لي : بولده وان كان صغيرا ، ثم هكذا أبدا.

قلت : فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه فما أصنع؟

قال : تقول : اللهم اني أتولّى من حجّتك من ولد الامام الماضي.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال : لا يكون الامامة في أخوين بعد الحسن والحسين ولا تخرج من الأعقاب.

وروي عن إبراهيم بن مهزيار عن أخيه عن فضالة بن أيوب عن أبي جعفر الضرير عن أبيه قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام وعنده ابنه اسماعيل فسألته عن قبالة الأرض. فأجابني فيها. فقال له اسماعيل : يا أبه انّك لم تفهم ما قال لك.

فشقّ ذلك عليّ لأنّا كنّا يومئذ نتوهم انّه بعد أبيه.

فقال له أبو عبد الله عليه السّلام اني كثيرا ما أقول لك : الزمني وخذ مني ولا تفعل.

١٩٢

فأطرق اسماعيل ثم خرج.

فقلت لأبي عبد الله عليه السّلام : وما على إسماعيل الا يلزمك ولا يأخذ منك اذا أفضى هذا الأمر إليه علم مثل الذي علمته منك.

فقال لي : اسماعيل ليس فيه ما كان من أبي.

ثم نهض فقال لي : لا تبرح.

ودخل بيتا كان يخلو فيه ثم دعاني. فدخلت ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه أبو الحسن موسى عليه السّلام وهو غلام حدث فقال له : ادن مني.

فدنا فالتزمه وأقعده الى جنبه وقال : اني لأجد [في] ابني هذا ما كان يجده يعقوب بيوسف.

فقلت له : زدني جعلت فداك.

فقال : ما نشأ فينا أهل البيت ناش مثله.

فقلت له : زدني.

فقال : أجد به ما كان أبي عليه السّلام يجده بي.

قلت : زدني.

قال : كان اذا دعا فأحبّ أن يستجاب له أوقفني عن يمينه ثم دعا فأمنت فاني لأفعل ذلك بابني هذا.

فقلت : زدني يا سيدي.

فقال : اني لأئتمنه على ما كان ابي ائتمنني عليه.

فقلت : يا مولاي زدني.

فقال لي : كان أبي ائتمنني على الكتب التي بخطّ أمير المؤمنين (صلّى الله عليه) واني لأئتمنه عليها وهي عنده اليوم.

فقلت : يا مولاي زدني.

فقال : قم إليه وسلّم عليه فهو إمامك بعدي. لا يدّعيها فيما بيني وبينه أحد إلّا كان مفتونا ، إن أخذ الناس يمينا وشمالا فخذ معه.

١٩٣

قال : فقمت إليه فأخذت يده فقبّلتها وقلت : اشهد انّك مولاي وإمامي.

فقال لي : صدقت وأصبت.

فقلت : يا سيدي ، أخبر بهذا من يوثق به؟

فقال لي : نعم.

ثم نهضت ، بعد كلام طويل في هذا المعنى.

وروى حماد بن عيسى عن ربعي عن عمر بن يزيد قال : كان لأبي عبد الله عليه السّلام عندي وديعة فلما مضى (صلّى الله عليه) أتيت فلقيت عبد الله ابنه الأفطح فقلت له : من صاحب الأمر بعد أبيك؟

فقال : أنا.

قلت : فتقرر أخاك بهذا؟

قال : نعم.

فجمعت بينهما وأعدت القول. فسكت عبد الله ولم ينطق ، وسكت أبو الحسن موسى عليه السّلام.

فلما رأيتهما لا يتكلّمان قلت : سمعت أباكما يذكر ان النبيّ صلّى الله عليه وآله قال : من مات بغير امام مات ميتة جاهلية. فقال أبو الحسن عليه السّلام : امام حتى نعرفه.

قلت : اسمع أبوك يذكر هذا؟

قال : قد ـ والله ـ قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله.

قلت : فعليك امام؟

قال : لا. وكان عبد الله قاعدا فلم ينطق.

فقمت وتركتهما ، ثم لقيت أبا الحسن بعد ذلك فقال لي : يا عمر انّك جمجمت بالقول فجمجمت لك ، فلما صرّحت صرّحت لك.

وروي ان عبد الله الأفطح لمّا ادّعى الامامة دخل إليه جماعة من الشيعة ليسألوه عن مسائل فقال له بعضهم : في كم تجب الزكاة؟

فقال له : في المائتي درهم خمسة دراهم.

١٩٤

قالوا : فكم في المائة؟

قال : درهمان ونصف.

فخرجوا من عنده ولم يسألوه عن شيء.

وروي عن مرازم عن داود الرقي قال : قلت لابي عبد الله عليه السّلام : جعلني الله فداك ان كان كون ـ وأعاذني الله منه ـ فيك فإلى من؟

قال : الى ابني موسى.

قال داود : فلما حدثت الحادثة بأبي عبد الله ما شككت في موسى طرفة عين. ثم مكث نحو ثلاثين سنة ثم قصدته فقلت له : اني دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام فقلت : ان كان كون فإلى من ، فنصّ عليك ، وأنا اسألك كما سألته ان كان كون فإلى من؟

قال لي : الى علي ابني.

قال فمضى أبو الحسن موسى عليه السّلام فو الله ما شككت في الرضا عليه السّلام طرفة عين.

وروى الساري عن محمد بن الفضيل عن داود الرقي قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : حدّثني عن القوم.

فقال : الحديث أحب إليك أو المعاينة؟

قلت : المعاينة.

فقال لأبي الحسن موسى عليه السّلام : انطلق فائتني بالقضيب.

فمضى فأحضره وأمره فضرب به الأرض ضربة فانشقّت عن بحر أسود ، ثم ضرب البحر بالقضيب فانفلق عن صخرة سوداء ، فضرب الصخرة فانفتح فيها باب ، فاذا بالقوم جميعا لا يحصون كثرة .. وجوههم مسودة وأعينهم مزرقة ، وكلّ واحد منهم مصفود مشدود الى جانب من الصخرة. موكّل بكلّ واحد منهم ملك وهم ينادون : يا محمّد. والزبانية تضرب وجوههم وتقول لهم : كذبتم ليس محمّد لكم ولا أنتم له.

فقلت له : جعلت فداك من هؤلاء؟

فقال لي : ذاك الجبت والطاغوت ، وذاك : الرجس (قرمان) ، وذاك اللعين ابن اللعين ، ولم يزل يعدّهم بأسمائهم كلّهم من أوّلهم إلى آخرهم حتى أتى على أصحاب السقيفة

١٩٥

وبنى الأزرق والأوزاع من آل أبي سفيان وآل مروان ـ جدّد الله عليهم العذاب بكرة وأصيلا ـ.

ثم قال للصخرة : انطبقي عليهم الى الوقت المعلوم.

ونشأ أبو الحسن علي مثل ما نشأ عليه آباؤه عليهم السّلام فلما حضرت وفاة أبي عبد الله عليه السّلام دعاه فأوصى إليه وسلّم إليه المواريث وكان قد اتصل بأبي عبد الله عليه السّلام : ان المنصور قال : ان حدث على جعفر بن محمد حادثة وأنا حي نظرت الى من يوصي فأقتله ، فأوصى عليه السّلام وصيّته الظاهرة ـ خوفا على ابنه موسى وتقيّة ـ إلى أربعة ؛ أوّلهم المنصور والثاني عبد الله الأفطح ابنه والثالث ابنته فاطمة والرابع أبو الحسن موسى عليه السّلام.

وقام أبو الحسن موسى عليه السّلام بأمر الله سرّا واتّبعه المؤمنون ، وكان قيامه بالأمر في سنة ثمان وأربعين ومائة من الهجرة وله عشرون سنة في ذلك الوقت.

واتصل بالمنصور خبر وفاة أبي عبد الله عليه السّلام وسأل عن وصيّته ، فأخبر بوصيته إليه وإلى ثلاثة معه ، وحملت إليه ، فوجد فيها اسمه مقدّما ، فأمسك ولم يعرض لأبي الحسن ... الى أن مات المنصور في سنة ثمان وخمسين ومائة في عشر سنين من امامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع لابنه المهدي محمد بن عبد الله. فلما ملك وجه بجماعة من أصحابه فحمل أبو الحسن موسى عليه السّلام الى العراق.

فروي عن أبي خالد الزبالي قال : ورد علينا موسى عليه السّلام وقد حمله المهدي ، فخرجت فتلقيته من «زبالة» على أميال ثم شيّعته فلما ودّعته بكيت فقال : ما يبكيك يا أبا خالد؟ فقلت : يا سيدي قد حملت ولا أدري ما يكون؟

فقال : أما في هذه المرّة فلا خوف عليّ منهم وأنا أعود إليك يوم كذا من شهر كذا في ساعة كذا فترقّب موافاتي وانتظرني عند أوّل ميل.

ومضى فلقي المهدي وصرف الله كيده عنه ولم يعرض له ، وسأله عرض حوايجه ، فعرض ما رأى عرضها ، فقضاها ، وسأله الاذن فأذن له ، فخرج (صلّى الله عليه) متوجّها الى المدينة.

قال أبو خالد : ولمّا كان ذلك اليوم خرجت نحو الطريق انتظره فأقمت حتى اصفرت

١٩٦

الشمس ، وخفت أن يكون قد تأخر وأردت الانصراف ، فرأيت سوادا قد أقبل ، وإذا بنداء من ورائي ، فالتفت فاذا مولاي موسى عليه السّلام امام القطر على بغلة له يقول : يا أبا خالد.

قلت : لبيك يا مولاي يا ابن رسول الله. الحمد لله الذي خلصك وردّك.

فقال : يا أبا خالد لي إليهم عودة لا أخلص منها.

ورجع الى المدينة. فروي عن علي بن أبي حمزة قال : كنت عند أبي الحسن عليه السّلام إذ أتاه رجل من أهل الري يقال له جندب فسلّم عليه وجلس فسأله أبو الحسن عليه السّلام ، فأخفى مسألته ثم قال له : ما فعل أخوك؟

قال : بخير جعلني الله فداك وهو يقرئك السلام.

فقال يا جندب أعظم الله أجرك في أخيك.

فقال : يا سيدي ورد عليّ كتابه قبل ثلاثة عشر يوما بالسلامة.

فقال : يا جندب انّه قد مات بعد كتابته بيومين وقد دفع الى امرأته مالا فقال ليكن هذا عندك فاذا قدم أخي فادفعيه إليه وقد أودعته الأرض في البيت الذي كان يكون فيه مبيته. فاذا أنت لقيتها فتلطّف لها واطمعها في نفسك فانّها ستدفعه إليك.

قال علي بن أبي حمزة : فلقيت جندبا بعد ذلك بسنين وقد عاد حاجّا فسألته عما كان قاله أبو الحسن عليه السّلام. فقال : صدق والله سيدي ما زاد ولا نقص.

وروى إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا الحسن عليه السّلام قد نعى الى رجل نفسه ، فقلت في نفسي : وانّه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته.

فالتفت إليّ شبه المغضب وقال : يا إسحاق قد كان رشيد من المستضعفين ، فعلم علم المنايا والبلايا ، والامام أولى بذلك يا إسحاق ، اصنع ما أنت صانع ، فعمرك قد فني وأنت تموت الى سنتين ، واخوتك وأهل بيتك لا يلبثون بعدك حتى تفترق كلمتهم ويخون بعضهم بعضا ويشمت بهم عدوّهم.

فلم يلبث اسحاق بعد ذلك إلّا سنتين حتى مات ، وقام بنو عمار بأموال الناس وأفلسوا أقبح إفلاس.

وروي عن هشام بن سالم قال : دخلت على عبد الله بن جعفر فسألته عن مسائل فلم

١٩٧

يكن عنده جواب فذهبت الى باب أبي الحسن عليه السّلام فلم يأذن لي فجئت الى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله فجلست أدعو وأبكي وجعلت أقول في نفسي : الى من أمضي ؛ الى المرجئة؟ الى القدرية؟ الى الزيدية؟ الى الحرورية. فانا في هذا إذ جاءني (مصاف) الخادم فأخذ بيدي فأدخلني إليه.

فلما نظر إليّ قال يا هشام : لا إلى المرجئة ولا الى القدرية ولا الى الزيدية ولا إلى الحرورية ولكن إلينا.

فقلت به وسلّمت لأمره.

وروي عن علي بن أبي حمزة الثمالي عن أبي بصير قال : سمعت العبد الصالح يعني موسى بن جعفر عليه السّلام يقول : لما وقع أبو عبد الله عليه السّلام في مرضه الذي مضى فيه قال لي : يا بني لا يلي غسلي غيرك فاني غسلت أبي ، والأئمة يغسل بعضهم بعضا.

وقال لي : يا بني ان عبد الله سيدّعي الامامة فدعه فانّه أول من يلحقني من أهلي.

فلما مضى أبو عبد الله عليه السّلام أرخى أبو الحسن ستره ودعا عبد الله الى نفسه فقال له أبو بصير : ما بالك ما ذبحت العام وقد نحر عبد الله جزورا؟

قال : يا أبا محمّد ان عبد الله لا يعيش أكثر من سنة فأين يذهب أصحابه؟

قلت : سنة قد مرّت به.

قال : يموت فيها ليس يعيش أكثر منها. فلم يعيش أكثر من تلك السنة.

وعنه عليه السّلام قال دخلت على أبي الحسن عليه السّلام فقلت : جعلت فداك بم يعرف الامام؟

فقال : بخصال ؛ أوّلها النص من أبيه عليه ، ونصبه للناس علما حتى يكون عليهم حجّة لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله نصّب أمير المؤمنين عليه السّلام علما وعرّفه الناس ، وكذلك الائمة نصّب الأول الثاني. وان تسأله فيجيب ، وتسكت عنه فيبتدئ ، ويخبر الناس بما يكون في غد ، ويكلّم الناس بكلّ لسان كلّ أهل لغة بلغتهم.

قلت له : جعلت فداك تكلّم الناس بكلّ لسان.

قال : نعم يا أبا محمّد وأعرف منطق الطير والساعة. أعطيك علامة ذلك قبل أن تقوم من مكانك.

١٩٨

فما برحت حتى دخل علينا رجل من أهل خراسان فكلّمه الرجل بالعربية فأجابه بالفارسية. قال الخراساني : ما معنى أن أكلّمك بكلامي الا ظننتك لا تحسنه؟

فقال له : سبحان الله إن كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك.

ثم قال لي : يا أبا محمّد ان الامام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طائر ولا بهيمة ولا شيء فيه روح. فمن لم يكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام.

وروي عن حماد بن عيسى الجهني قال : دخلت على أبي الحسن موسى عليه السّلام فقلت له : جعلت فداك ادع الله أن يرزقني دارا وزوجة وولدا وخادما وأن أحجّ في كلّ سنة.

فرفع يديه ثم قال : اللهم صلّ على محمّد وارزقه دارا وزوجة وولدا وخادما والحج خمسين سنة.

ثم قال حمّاد : فحججت ثمانية وأربعين حجّة ، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي ، وهذا ابني وهذه داري وهذا خادمي.

وحجّ بعد هذا الكلام حجتين ثم خرج بعد الخمسين فزامل أبا العباس النوفلي فعرفنا انّه لما صار في موضع الاحرام دخل يغتسل فجاء مد الوادي فحمله فغرق ودفن بالسيالة.

وأقام موسى بالمدينة باقي أيام المهدي ، وتوفي المهدي سنة تسع وستين ومائة في إحدى وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع لابنه موسى ولقّب بالهادي فأقام سنة وشهرين ومات في سنة سبعين ومائة في اثنين وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن عليه السّلام.

وبويع لهارون الرشيد في شهر ربيع الأول في تلك السنة فوجّه في حمل أبي الحسن عليه السّلام فلما وافاه الرسل دعا أبا الحسن الرضا عليه السّلام وهو أكبر ولده فأوصى إليه بحضرة جماعة من خواصّه وأمره بما احتاج إليه ، ونحله كنيته وتكنى بأبي إبراهيم ودفع الى أم أحمد كتبا وقال لها سرّا : من أتاك فطلب منك ما دفعته إليك وأعطاك صفته فادفعيه إليه. ودفع إليها رقعة مختومة وأمرهما بأن تسلّمها مع ما قبلها الى أبي الحسن الرضا عليه السّلام اذا طلبها وأمر أبا الحسن عليه السّلام أن يبيت في كلّ ليلة في دهليز داره أو على بابه

١٩٩

أبدا ما دام حيّا. يعني نفسه.

فروى محمّد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال حدّثني مسافر قال : أمر أبو إبراهيم عليه السّلام أبا الحسن عليه السّلام حين حمل الى العراق أن ينام على بابه في كلّ ليلة فكنّا في كلّ ليلة نفرش له في الدهليز ثم يأتي بعد عشاء الآخرة فينام فاذا أصبح انصرف الى منزله. وكنّا ربما حبانا الشيء مما يؤكل فيجيء حتى يستخرجه ويعلّمنا انّه قد علم به فمكث على هذه الحال أربع سنين وأبو إبراهيم مقيم معتقل في يد السلطان في حال رفاهية واكرام.

وكان الرشيد يرجع إليه في المسائل فيجيبه عنها حتى كان من البرامكة ما كان من السعي في قتله والاغراء به ، حتى حبسه الغويّ ـ يعني الرشيد هارون ـ في يد السندي ابن شاهك ، ولم يزالوا يوقعون الحيلة حتى بعث الغوي الى السندي يأمره أن يقتله بالسمّ وان يحضره قبل ذلك العدول والقضاة حتى يروه.

وكان الناس اذا دخلوا دار السندي رأوا أبا إبراهيم عليه السّلام فيها. فروي ان الناس كثيرا ما يرونه ساجدا فيظنّونه ثوبا ملقى في صفة الدار ؛ حتى ثاروا في وقت من الأوقات فسألوا عنه. فقيل لهم : هذا موسى بن جعفر ، اذا صلّى الغداة جلس يعقبها حتى تطلع الشمس يقرأ ويسبّح ويدعو ثم يسجد الى أن تزول الشمس.

فأدخل السندي القضاة قبل موته بثلاثة أيام ، فأخرجه إليهم وقال لهم : ان الناس يقولون : ان أبا الحسن في يدي في ضنك وضرر ، ها هو ذا صحيح لا علّة به ولا مرض ولا ضرر.

فالتفت عليه السّلام فقال لهم : اشهدوا عليّ اني مقتول بالسمّ بعد ثلاثة أيام. فانصرفوا.

وروي من جهات صحيحة : ان السّندي أطعمه السمّ في رطب وانّه أكل منها عشر رطبات فقال له السندي : تزداد؟ فقال له : حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه فيما أمرت به.

وكان السمّ ممّا يتلف بعد ثلاثة أيام. ثم أحضر القضاة والعدول وأراهم إيّاه فقال عليه السّلام : اشهدوا اني صحيح الظاهر لكنّي مسموم سأحمر في هذا اليوم حمرة شديدة منكرة وأصفر غدا صفرة شديدة منكرة وأبيض بعد غد وأمضي الى رحمة الله ورضوانه.

٢٠٠