إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

من خيفته الفرائص يوم الجلاد ، مناقبه معروفة ، وفضائله مشهورة ، هزبر دفاع ، شديد مناع ، مقدام كرّار ، مصدّق غير فرّار ، أحمش الساقين ، غليظ الساعدين ، عريض المنكبين ، رحب الذراعين ، شرّفه الله بأمينه ، واختصه لدينه ، واستودعه سرّه ، واستحفظه علمه ، عماد دينه ، ومظهر شريعته ، يصول على الملحدين ، ويغيظ الله به المنافقين ، ينال شرف الخيرات ، ويبلغ معالي الدرجات ، يجاهد بغير شكّ ، ويؤمن من غير شرك ، له بهذا الرسول وصلة منيعة ، ومنزلة رفيعة ، يزوّجه ابنته ، ويكون من صلبه ذرّيته ، يقوم بسنّته ، ويتولّى دفنه في حفرته ، قائد جيشه ، والساقي من حوضه ، والمهاجر معه عن وطنه الباذل دونه دمه ، سيصح لك ما ذكرت من دلالته إذا رزقتيه ، وترين ما قلته فيه عيانا كما صح لي دلائل محمّد المحمود بالله ، ان ما وصفته من امرهما موجود مذكور في الأسفار والزبور ، وصحف إبراهيم وموسى ، ثم أنشأ يقول :

لا تعجبي من مقالي سوف تختبري

عمّا قليل ترين القول قد وضحا

أما النبي الذي قد كنت أذكره

فالله يعلم ما قولي له مزحا

يأوي الرشاد إليه مثل ما سكنت

أمّ الى ولد إذ صادفت نجحا

ثم المؤازر والموصى إليه اذا

تتابع الصيد من أطرافه كلحا

فأحمد المصطفى يعطيه رايته

يحبوه بابنته يا خير ما منحا

بذاك أخبرنا في الكتب اولنا

والجن تسترق الأسماع متّضحا

قالت فاطمة : فجعلت أفكر في قوله ، فلما كان بعد ليال رأيت في منامي كأن جبال الشام قد أقبلت تدبّ على عراقبها ، وعليها جلابيب حديد وهي تصيح من صدورها بصوت مهول فأسرعت نحوها جبال مكّة وأجابتها بمثل صياحها وأهول وهي تنضح كالشرر المجمر ، وجبل أبي قبيس ينتفض كالفرس المسربل بالعدّة وفصاله تسقط عن يمينه وشماله ، والناس يلتقطون تلك النصول ، فلقطت معهم أربعة أسياف وبيضة حديد مذهبة ، فأوّل ما دخلت مكّة سقط منها سيف في ماء فعبر ، وطار الثاني في الجو فانثمر وسقط الثالث الى الأرض فانكسر ، وبقي الرابع في يدي مسلولا ، فبينما أنا به أصول إذ صار السيف شبلا أتبينه ثم صار ليثا مستأسدا فخرج عن يدي ومر نحو تلك الجبال

١٤١

يجوب بلاطخها ، ويخرق صلادحها ، والناس منه مشفقون ، ومن خوفه حذرون إذ أتاه محمّد ابني فقبض على رقبته ، فانقاد له كالظبية الألوف ، فانتبهت وأنا مرتاعة ، فغدوت على الحبر والكاهن اللذين بشّراني ووعداني وعلى ساير القافة والعافة بأن قصدت (أبا كرز) الكاهن وكان عارفا محذقا فوجدته قد نهض في حاجة له فجلست أرقبه وكان عنده (جميل) كاهن بني تميم فكرهت حضوره وعملت على انتظار قيامه وانصرافه ، فنظر جميل إليّ وضحك ثم قال لي : أقسم بالأنواء ومظهر النعماء ، وخالق الأرض والسماء ، انّك لتكرهين مثواي وتحبين مسراي لتسألي (أبا كرز) عن الرؤيا ، فينبئك بالأنباء ، فقلت له : ان كنت صادقا فيما قلت من الهتف حين زجرت فنبئني بما استظهرت فأنشأ يقول :

رأيت أجبالا تلي أجبالا

وكلّها لابسة سربالا

مسرعة قد تبتغي القتالا

حتى رأيت بعضها تعالى

ينثر من جلبابه نصالا

أخذت منها أربعا طوالا

وبيضة تشتعل اشتعالا

فواحد في ثج ماء عالا

وآخر في جوّها قد صالا

بذي طواف طار حين زالا

وثالث قد صادف اختلالا

لما غدا منكسرا أوصالا

ورابع قد خلته هلالا

مقتدح الزندين قد تلالا

ولت به صائلة ايغالا

حتى استحال بعدها انتقالا

أدرك في خلقته الاشبالا

ثم استوى مستأسدا صوّالا

يخطف من سرعته الرجالا

فانسل في قيعانها انسلالا

يخرق منها الصعب والمحالا

والناس يرهبون منه الحالا

حتى اتى ابن عمّه ارسالا

فتلّه بعنقه اتلالا

كظبية ما منعت غفالا

ثم انتبهت تحسبين خالا

قالت فاطمة : فقلت : صدقت والله يا جميل وبررت في قولك ، هكذا رأيت مما رأيت في الكرى فنبئني بتأويله. فأنشأ يقول :

١٤٢

أما النصول فهي صيد أربع

ذكور أولاد حكتها الأسبع

والبيضة الوقداء بنت تتبع

كريمة غرّاء لا تروع

فصاحب الماء غريب مفتقد

في لجّة ترمى بأصناف الزبد

والطائر الأجنح ذو الغرب الزغب

تقتله في الحرب عبّاد الصلب

والثالث المكسور ميت قد دفن

ينزل عقبا بعده طول الزمن

والرابع الصائل كالليث المرح

يرفل في عراصها ويقترح

فذاك للخلق امام منتصح

إذا بغاه كافر جهرا ذبح

وان لقاه بطل عنه جنح

حتى تراهم من صياصيهم بطح

فاستشعري البشرى فرؤياك تصحّ

قالت فاطمة فما زلت مفكّرة في ذلك وتتابع حملي وولادتي لأولادي.

فلما كان في الشهر الذي ولدت فيه عليّا رأيت في منامي كأن عمودا حديدا انتزع من أمّ رأسي ثم شع في الهواء حتى بلغ عنان السماء ثم رد إليّ فمكث ساعة فانتزع من قدمي فقلت : ما هذا؟ فقيل : هذا قاتل أهل الكفر ، وصاحب ميثاق النصر ، بأسه شديد تجزع من خيفته الجنود ، وهو معونة الله لنبيّه ومؤيده به على أعدائه ، بحبّه فاز الفائزون ، وسعد السعداء ، وهو ممثل في السماء المرفوعة والأرض الموضوعة والجبال المنصوبة ، والبحار الزاخرة والنجوم الزاهرة ، والشموس الصاحية ، والملائكة المسبّحة ، ثم هتف بي هاتف يقول :

جال الصباح لدى البطحاء إذ شملت

(سودا) بذي خدم فرش المراقيل

من دلج هام جراثيم جحاجحة

من كلّ مدرع بالحلم رعبيل

من الجهاضم إذ فاقت قماقمها

دون السحاب على جنح الاثاكيل

يا أهل مكّة لا تشقى جدودكم

وأبشروا ليس صدق القيل كالقيل

فقد أتت سود بالميمون فانتحجوا

واجفوا الشكوك واضغاث الأباطيل

من خازن النور في أبناء مسكنه

من صلب آدم في نكب الضماحيل

انّا لنعرفه في الكتب متّصلا

بشرح ذي جدل بالحق حصليل

١٤٣

قال فولد علي عليه السّلام ولرسول الله صلّى الله عليه وآله ثلاثون سنة فأحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله حبّا شديدا.

وقال لفاطمة امّه : اجعلي مهد علي بجنب فراشي ، وكان صلّى الله عليه وآله يلي تربيته ويوجره اللبن في ساعة رضاعه ويحرّك مهده عند نومه ويناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره تارة وعلى عاتقه اخرى ويتكتّفه ويقول : هذا أخي ووليي وناصري وصفيي ووصيي وذخيرتي وكهفي وصهري وزوج كريمتي وأميني على وصيتي. وكان يحمله ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها وفجاجها.

فلما تزوّج صلّى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد علمت بوجده بعلي عليه السّلام فكانت تستزيره وتزيّنه بفاخر الثياب والجوهر وترسل معه ولا يدها ، فيقلن : هذا أخو محمّد وأحبّ الخلق إليه وقرّة عين خديجة ومن ينزل السكينة عليه.

علي ربيب الرسول

وكانت ألطاف خديجة وهداياها الى منزل أبي طالب متصلة حتى أصابت قريشا أزمة شديدة ، وسنة معصوصبة ، وكان أبو طالب رجلا جوادا معطاء سمحا فقل ماله وكثر عياله وأجحفت السنة بحاله.

فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عمّه العباس وكان أيسر بني هاشم في وقته وزمانه فقال له : يا عم ان أخاك كثير العيال متضعضع الحال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، وذوو الأرحام أحقّ بالرفد وأولى من حمل عنهم الكلّ ، فانطلق بنا إليه لنحمل من كلّه ونخفف من عيلته فيأخذ بعض ببنيه ونأخذ البعض.

فقال له العباس : نعم ما رأيت يا بن أخ وعلى الصواب أتيت هذا والله التيقظ على الكرم والعطف على الرحم.

فمضيا الى أبي طالب فأجملا مخاطبته وقالا له : ان لك سوابق محمودة ومناقب غير مجحودة وأنت صنو الأباة الانجاد وقد جمع لك العرف في قرن فهو إليك منقاد ، ولسنا نبلغ صفاتك ، وقد أضلت هذه السنة الغبراء ، وعيالك كثير ولا بد أن نخفّف عنك بعضهم

١٤٤

حتى ينكشف ما فيه الناس من هذا القمطرير.

فقال أبو طالب : اذا تركتما لي عقيلا وطالبا فشأنكما الاصاغر.

فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّا وأخذ العباس جعفرا عليه السّلام.

فتولّى رسول الله صلّى الله عليه وآله منذ ذلك الوقت تربية أمير المؤمنين عليه السّلام وتغذيته وتعليمه بنفسه.

وكان يصلّي معه قبل أن تظهر نبوّته بسنتين ثم كان من قصّته وقت إظهار النبوّة الى وقت مضى رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن أمر غدير خم وغيره ما هو مشهور وقد روي وقص به وذكرنا بعضه.

وقام بأمر الله جل وعلا وسنه خمس وثلاثون سنة واتبعه المؤمنون وقعد عنه المنافقون ، ونصبوا للملك وأمر الدّنيا رجلا اختاروه لأنفسهم دون من اختاره الله ـ جلّ وعز ـ ورسول الله صلّى الله عليه وآله.

في الحوادث التي اعقبت وفاة النبي [ص]

فروي ان العبّاس رضي الله عنه صار الى أمير المؤمنين عليه السّلام وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له : امدد يدك ابايعك.

فقال : ومن يطلب هذا الأمر ومن يصلح له غيرنا.

وصار إليه ناس من المسلمين فيهم الزبير وأبو سفيان صخر بن حرب ، فأبى.

واختلف المهاجرون والأنصار فقالت الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير.

فقال قوم من المهاجرين : سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : الخلافة في قريش.

فسلّمت الأنصار لقريش بعد أن ديس سعد بن عبادة ووطئوا بطنه.

وبايع عمر بن الخطاب أبا بكر وصفق على يديه ثم بايعه قوم ممّن قدم المدينة ذلك الوقت من الأعراب والمؤلفة قلوبهم ، وتابعهم على ذلك غيرهم.

واتصل الخبر بأمير المؤمنين عليه السّلام بعد فراغه من غسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وتحنيطه وتكفينه وتجهيزه ودفنه بعد الصلاة عليه مع من حضر من بني هاشم وقوم من صحابته

١٤٥

مثل سلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحذيفة وأبيّ بن كعب وجماعة نحو أربعين رجلا فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

«ان كانت الإمامة في قريش فأنا أحقّ قريش بها وان لا تكن في قريش فالأنصار على دعواهم».

ثم اعتزلهم ودخل بيته فأقام فيه ومن اتبعه من المسلمين وقال :

ان لي في خمسة من النبيين اسوة : نوح إذ قال اني مغلوب فانتصر ، وإبراهيم إذ قال : واعتزلكم وما تدعون من دون الله ، ولوطا إذ قال : لو ان لي بكم قوّة أو آوي الى ركن شديد ، وموسى إذ قال : ففررت منكم لما خفتكم ، وهارون إذ قال : ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني.

ثم الف عليه السّلام القرآن وخرج الى الناس وقد حمله في ازار معه وهو يئط من تحته فقال لهم : هذا كتاب الله فد الفته كما أمرني وأوصاني رسول الله صلّى الله عليه وآله كما انزل.

فقال له بعضهم : اتركه وامض.

فقال لهم : ان رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لكم : اني مخلّف فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فان قبلتموه فاقبلوني معه ، أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله.

فقالوا : لا حاجة لنا فيه ولا فيك ، فانصرف به معك لا تفارقه ولا يفارقك.

فانصرف عنهم فأقام أمير المؤمنين عليه السّلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله فوجهوا الى منزله فهجموا عليه ، وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كرها ، وضغطوا سيّدة النساء بالباب حتى اسقطت (محسنا) وأخذوه بالبيعة فامتنع وقال : لا أفعل.

فقالوا : نقتلك.

فقال : ان تقتلوني فاني عبد الله وأخو رسوله.

وبسطوا يده فقبضها ، وعسر عليهم فتحها ، فمسحوا عليها وهي مضمومة.

ثم لقي أمير المؤمنين عليه السّلام بعد هذا الفعل بأيام أحد القوم فناشده الله وذكره بأيام الله

١٤٦

وقال له : هل لك ان أجمع بينك وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى يأمرك وينهاك؟.

فقال له : نعم!.

فخرجا الى مسجد (قبا) فأراه رسول الله صلّى الله عليه وآله قاعدا فيه فقال له : يا (فلان) على هذا عاهدتموني به في (تسليم الأمر الى علي وهو أمير المؤمنين).

فرجع وقد همّ بتسليم الأمر إليه ، فمنعه صاحبه من ذلك ، فقال : هذا سحر مبين معروف من سحر بني هاشم ، أو ما تذكر يوم كنّا مع ابن أبي كبشة فأمر شجرتين فالتقتا فقضى حاجته خلفهما ، ثم أمرهما فتفرّقتا ، وعادتا الى حالهما؟.

فقال له : اما ان ذكرتني هذا فقد كنت معه في الكهف فمسح يده على وجهي ثم أهوى رجله فأراني البحر ثم أراني جعفرا وأصحابه في سفينته تقوم في البحر.

فرجع عما كان عازم عليه ، وهمّوا بقتل أمير المؤمنين عليه السّلام وتواصوا وتواعدوا بذلك وان يتولى قتله خالد بن الوليد فبعثت (اسماء بنت عميس) الى أمير المؤمنين عليه السّلام بجارية لها فأخذت بعضادتي الباب ونادت : ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج اني لك من الناصحين.

فخرج عليه السّلام مشتملا سيفه وكان الوعد في قتله : ينتهي امامهم من صلاته بالتسليم فيقوم خالد إليه بسيفه.

فأحسوا بأسه فقال الإمام قبل أن يسلم : لا يفعلن خالد ما أمرته به.

ثم كان من أقاصيصهم ما رواه الناس.

وفي سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام من إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام مات (ابن أبي قحافة) وهو عتيق بن عثمان وأوصى بالأمر بعده الى عمر بن الخطاب لعهد كان بينهما ، واعتزله أمير المؤمنين عليه السّلام كاعتزاله لصاحبه قبله ، لا يأمر إلّا بما لم يجد من الأمر به بدا ، ولا ينهى إلّا عمّا لم يجد من النهي عنه بدا ، وهم في خلال ذلك يسألونه ويستفتونه في حلالهم وحرامهم وفي تأويل الكتاب وفصل الخطاب.

وبعد اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيام من إمامة أمير المؤمنين قتل أبو لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة عمر بن الخطاب بخنجر جرحه به ، وكان الخنجر مسموما فمكث ثلاثة

١٤٧

أيام ثم مات ، وجعل الخلافة بعده شورى بين ستة وقال : هؤلاء أحقّ الناس بالخلافة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا ما اختلجني فيه الشكوك ان أقلّده هذا الأمر بعدي.

وجعل أمير المؤمنين عليه السّلام في الشورى آخر الستة منهم وبدا فسمّى عثمان بن عفان وأشار إليه وعرض بتوليه الأمر بعده ثم طلحة بن عبيد الله التيمي والزبير بن العوام الأسدي وعبد الرحمن بن عوف الزهري وسعد بن أبي وقاص ثم علي بن أبي طالب الهاشمي بعدهم في وصيته ، وأمر صهيبا أن يصلّي بالناس الى أن يستقرّ أمر القوم في الشورى فان اختلف الستة قتل الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ونصب الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف من يتّفقون عليه ، وان انقضت ثلاثة أيام ولم يقع الاختيار والاتفاق على أحدهم قتل الستة بأجمعهم.

فصلّى صهيب ـ وروي عبد الرحمن بن عوف ـ بالناس ثلاثة أيام ثم وقع اختيار عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقلّده الأمر ، ولم يجد عبد الرحمن عنده ما قدره مع المواخاة والصهر الذي كان بينهما فأظهر الندامة والأسى على فعله واختياره وصار أحد من يؤلب عليه الناس. واعتزلهم أمير المؤمنين عليه السّلام.

وكان من حديث عثمان ما رواه الناس من ايوائه طريد رسول الله الحكم بن العاص ومروان ابنه وانّه استوزر مروان ورد أموره والنظر في أعماله وأحكام المسلمين إليه ونفيه أبا ذر جندب بن جنادة بعد أن وجر حلقه وضرب ظهره وحمل على قتب يابس الى الربذة حتى مات فيها.

وقد روى الناس ما قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله فيه ووصفه له بالصدق وشهادته له بالجنّة.

ثم اجتمع المهاجرون والأنصار على محاصرة عثمان والهجوم عليه حتى قتلوه ، وذلك في أربع وعشرين سنة من إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.

ثم صار الناس الى أمير المؤمنين ليبايعوه ، فامتنع عليهم ، فألحوا عليه حتى أكرهوه وتداكوا عليه تداك الإبل على الماء ، فبايعهم على كتاب الله وسنّة نبيّه طائعين راغبين.

فلما بايعوه قام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ثم قال : يا

١٤٨

أيها الناس أن أوّل قتيل بغى على وجه الأرض عناق بنت آدم خلق الله لها عشرين اصبعا لكلّ اصبع فيها ظفران كالمنجلين الطويلين من حديد وكان مجلسها على جريب من الأرض فبغت في الأرض ثمانين سنة فلما أراد الله هلاكها خلق لها أسدا مثل الفيل وذئبا مثل الحمار الكبير ونسرا مثل البعير فسلّطهم عليها فمزقوها فقتلوها وأكلوها ثم قتل الله الجبابرة في زمانها ، وقد اهلك الله فرعون وهامان وخسف بقارون وقد قتل عثمان وكان لي حق حازه من لم آمنه عليه ولم اشركه فيه فهو منه على شفا حفرة من النار لا يستنفذه منها إلّا نبي مرسل يتوب على يديه ولا نبي بعد محمّد صلّى الله عليه وآله.

ثم قال : أيها الناس! الدّنيا دار حق وباطل ولكل أهل. ألا ولئن غلب الباطل فقديما كان ، ولئن قلّ الحق وضعف صاحبه فليس بما عاد ، ولئن رد عليكم أمركم انّكم لسعداء ولقد خشيت أن تكونوا في فترة من الزمن اما اني لو أشاء أن أقول لقلت سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همّته بطنه ، يا ويحه لو قص جناحه وقطع رأسه كان خيرا له ، شغل عن الجنّة والنار امامه.

ثم قال بعد كلام طويل في هذه الخطبة :

ان الله جل وعلا أدّب هذه الامّة بالسيف والسوط فاستتروا ببيوتكم وأصلحوا ذات بينكم فان التوبة من ورائكم ، من أبدى صفحته للحق هلك ، ألا وان كلّ قطيعة أقطعها عثمان ـ أو قال أعطاه ـ من مال الله فهو مردود على بيت مال المسلمين فان الحقّ قديم لا يبطله شيء ولو وجدته تفرّق في البلدان لرددته فان في الحق سعة ، ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

ثم استأذنه طلحة والزبير في الخروج الى مكّة وكانا أوّل من بايعه ومدا يده وصفقا عليها ومسحاها فاذن لهما وحذّرهما النكث والغدر وجدّد عليهما بيعته وذكّرهما ما سمعاه من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لهما وله بحضرتهما : انّك تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد روي في قتالهم ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله رواه الخاص والعام ولا يدفع ذلك إلّا معاند ، فخرجا الى مكّة فألّبا عليه الناس وأخرجا عائشة الى البصرة وقد

١٤٩

أنذرها رسول الله صلّى الله عليه وآله انّها تقاتله ظالمة له وبكلاب الحوأب إذا نبحت في طريقها وما رواه الناس في ذلك.

فدخلوا البصرة ونهبوا ما في بيت مال المسلمين وضربوا جماعة من أصحابه بالسوط حتى ماتوا فنهض إليهم يذكّرهم بأيام الله فأبوا إلّا طغيانا وبغيا فوعظهم وجاهدهم بلسانه فلم يرجعوا ولا اتّعظوا بوعظه وأقاموا على محاربته فأظهره الله عليهم وأظفره بهم وقتل طلحة مروان بن الحكم وكان معه في صحابته ورجاله واتبع الزبير به ابن جرموز ممّن خرج بعد ذلك على أمير المؤمنين من الخوارج وقتله أمير المؤمنين عليه السّلام فيمن قتل منهم ولذلك بشّره بالنار لما أتاه بخبر الزبير وانّه قتله بوادي السباع فتولى قتلهما من كان معهما ومع عائشة وكانوا سبعين ألف رجل وكانت عائشة على جمل أورق يقال له عسكر فأمر به أمير المؤمنين عليه السّلام فعرقب فقام على ثلاث فعرقب الثاني من رجليه فقام على يديه فعرقب فقام على يد واحدة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : شيطان وربّ الكعبة ، فقطع الرابع فسقط والهودج على ظهره وظفر بعائشة.

فقال له ناس من أصحابه فيها ما لم يقبله وخطأهم ووكّل بها نساء متلثمات أركبهن الخيل وردّها معهن الى المدينة.

وانقضت حرب الناكثين والحمد لله ربّ العالمين.

وخرج عليه معاوية بن أبي سفيان رأس القاسطين فنهض إليه فذكّره بأيام الله فأبى إلا نفورا أو بغيا وعدوانا فحاربه وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.

فلما رأى معاوية انّه قد أخذ بكظمه شاور عمرو بن العاص فأشار عليه بمكيدة ان يرفع له المصاحف فرفعها إليه على رءوس الرماح فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : انها مكيدة وكلمة حق أريد بها باطل.

ثم كان من الأمر ما رواه الناس وحكم أمير المؤمنين عليه السّلام كتاب الله دون غيره فخالف أبو موسى الأشعري وصيته وأمره وفعل وعمرو بن العاص ما فعلاه.

وانصرف أمير المؤمنين ليعد وليستعد ويرجع لقتال معاوية ومن معه من القاسطين فخالف عليه أصحابه أهل العراق وخرجت الخارجة المارقة الذين مرقوا من الدين كما

١٥٠

مرق السهم من الرمية فحاربهم بالنهروان فقتل منهم أربعة آلاف لم ينج منهم إلّا أربعة نفر وقعوا على أطراف الأرض وتناسلوا فالخارجة الى يوم القيامة من نسل أولئك الأربعة.

فانصرف الى الكوفة ليعاود الى قتال معاوية فكان من أمره مما رواه الناس.

معجزات علي

وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : الاسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا اعطي جميع الأنبياء منه خمسة عشر حرفا واعطي محمّد صلّى الله عليه وآله اثنين وسبعين حرفا وأعطي أمير المؤمنين عليه السّلام ما اعطي رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وروي ان أمير المؤمنين عليه السّلام قال بعد ان حمد الله وأثنى عليه : وعلمنا منطق الطير وأوتينا من كلّ شيء ان هذا لهو الفضل العظيم.

وروي ان بعض أصحابه أتاه فقال يا أمير المؤمنين عليه السّلام : قد نشق الفرات من الزيادة فقام حتى توسط الجسر ثم ضربه بعصاه ضربة فنقص ذراعين ثم ضربه ضربة اخرى فنقص ذراعين.

وروي ان جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله أتوه فقالوا له : يا رسول الله ان الله اتّخذ إبراهيم خليلا وكلّم موسى تكليما وكان عيسى عليه السّلام يحيي الموتى فما صنع بك ربّك؟.

فقال : ان كان الله اتخذ إبراهيم خليلا فقد اتخذني حبيبا ، وان كان كلّم موسى من وراء حجاب فقد رأيت جلال ربّي وكلّمني مشافهة ، وان كان عيسى يحيي الموتى باذن الله فان شئتم أحييت لكم موتاكم باذن الله.

فقالوا : قد شئنا.

فأرسل معهم أمير المؤمنين عليه السّلام بعد أن رداه بردائه الّذي كان يقال له المستجاب ثم أخذ طرفيه فجعلهما على كتفيه ورأسه وأمره أن يقدمهم الى قبور موتاهم وأمرهم باتباعه.

فاتبعوه فلما توسط الجبانة سلّم على أهل القبور ودعا وتكلّم بكلام لم يسمعه القوم

١٥١

فاضطربت الأرض وارتجّت فدخلهم من ذلك ذعر شديد فقالوا : اقلنا يا أبا الحسن أقالك الله.

ورجعوا الى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا له : اقلنا.

فقال لهم : انما رددتم على الله لا أقالكم الله عثرتكم يوم القيامة.

وروي عن أبي اسحاق السبيعي قال : دخلت مسجد الكوفة فاذا أنا بشيخ لا أعرفه ودموعه تسيل على خدّيه فقلت له : ما يبكيك يا شيخ؟.

قال : انّه قد أتت عليّ مائة سنة ونيف على المائة لم أر فيها عدلا ولا حقّا إلّا ساعة من ليلة أو الا ساعة من يوم.

فقلت : وكيف ذلك؟.

فقال : اني كنت رجلا من اليهود وكانت لي ضيعة بناحية (سورا) فدخلت الكوفة بطعام على حمير أريد بيعه بها فبينا أنا أسوق الحمير إذ افتقدتها فكأن الأرض ابتلعتها فأتيت منزل الحرث الهمداني وكان لي صديقا فشكوت إليه ما أصابني فأخذ بيدي ومضى بي الى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبرته الخبر فقال للحرث : انصرف يا حارث الى منزلك فاني الضامن للحمير والطعام ، وأخذ أمير المؤمنين عليه السّلام بي فمضى حتى انتهى الى الموضع الذي فقدت فيه الحمير فوجه وجهه القبلة ورفع يده الى السماء ثم سجد وسمعته يقول في سجوده : والله ما على هذا عاهدتموني وبايعتموني يا معشر الجن وأيم الله لئن لم تردوا على اليهودي حميره وطعامه لأنقضن عهدكم ولأجاهدنكم في الله حق جهاده.

قال اليهودي : فو الله ما فرغ من كلامه حتى رأيت الحمير عليها الطعام تجول حولي فتقدّم إليّ يسوقها فسقتها معه حتى انتهينا الى الرحبة فقال : يا يهودي عليك بقية من الليل فضع عن حميرك حتى تصبح.

فوضعت عنها.

ثم قال لي : ليس عليك بأس.

ودخل المسجد فلما فرغ من صلاته وبزغت الشمس خرج إليّ فعاونني على الطعام

١٥٢

حتى بعته واستوفيت ثمنه وقضيت حوائجي.

فلما فرغت لقيته وقلت : أشهد ان لا إله إلّا الله وأشهد ان محمدا رسول الله وأشهد انّك عالم هذه الامة وخليفة الله على الجنّ والإنس فجزاك الله عن الاسلام وأهله والذّمة وأهلها خيرا.

ثم انطلقت حتى أتيت ضيعتي فأقمت بها مدّة ثم اشتقت الى لقائه فقدمت الآن فوجدته قد قتل ، فجلست حيث تراني أبكي عليه.

وروي أن أمير المؤمنين عليه السّلام كان على منبر الكوفة يخطب الناس إذ أقبلت حيّة من باب الفيل فقال : افرجوا لها فان هذا رسول قوم من الجنّ يقال لهم بنو عامر.

فافرجوا وجاءت الحية حتى صعدت الى أمير المؤمنين عليه السّلام فوضعت فاها في اذنه وهي تنق فكلّمها مثل نقيقها وولّت خارجة من حيث دخلت.

فنزل عليه السّلام بعد فراغه من خطبته فأخبر الناس : ان قتالا وقع بين قوم من الجن فأتت هذه الحية تسأله عمّا يصلح بينهم فعلّمها.

وروي أن تلك الحية كانت وصي أمير المؤمنين عليه السّلام على الجن.

رد الشمس للامام على عليه السّلام

وروي أن أمير المؤمنين عليه السّلام مر بأرض بابل وقد غابت الشمس واشتبكت النجوم فنزل وجثا على ركبتيه ودعا ما شاء الله أن يدعو ، فرجعت الشمس بيضاء نقية حتى صلّى العصر ثم انقضت كما ينقض الكوكب حتى غابت وعاد الظلام.

وقد روي انما ردّت عليه في حياة السيد رسول الله صلّى الله عليه وآله بمكّة وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله موعوكا فوضع رأسه في حجره وحضر وقت العصر فلم يزل من موضعه حتى انتبه فقال صلّى الله عليه وآله : اللهم ان كان عليّا في طاعتك فرد عليه الشمس.

فردّها الله عز وجل بيضاء نقية حتى صلّى ثم غربت.

١٥٣

كراماته الاخرى عليه السّلام

وروي انّه خرج على أصحابه بعد عشاء الآخرة في ليلة مظلمة وهو يهمهم همهمة لا تدرى وعليه قميص آدم وبيده عصا موسى وخاتم سليمان عليهم السّلام.

وروي انّه اجتاز في طريقه الى الشام «ببادوريا» فخرج أهل قرية منها يقال لها «قطفتا» فشكوا إليه ثقل الوضايع في الخراج وانها مخالفة لسائر وضائع السواد بالعراق فقال لهم بالنبطية «وغرار وطاهوا غررنا» يعني رب جحش صغير خير من حمار كبير.

فكانوا كلّموه بالنبطية فأجابهم بكلامهم ، ثم قال لهم : أنتم تبيعون ثماركم بضعف ما يبيعها غيركم من أهل السواد.

وروي انّه كان اذا جلس للناس فوقف الرجل بين يديه قال له : اقعد واستعد وأعد لنفسك فأنت تموت في يوم كذا وسنة كذا وسبب مرضك كذا.

وروي عن الحرث الهمداني قال : خرجنا مع أمير المؤمنين عليه السّلام حتى انتهينا الى «العاقول» فاذا هو بأصل شجرة قد وقع لحاؤها وبقي عودها فضربها بيده ثم قال : ارجعي باذن الله خضراء مثمرة فاذا هي تهتزّ بأغصانها حملها الكمثرى فأكلنا وحملنا معنا.

وروي انّه قال في خطبة له بعد حمد الله والثناء عليه : انّه يموت منّا من مات وليس بميّت ويبقى من بقي منا حجّة عليكم.

وروي أنّه قال لأصحابه : اعرضوا عليّ مسائلكم فكان ممّا سألوه عن صياح البهائم من الوحش والطير والدّواب. فقال : أما الدراج فانّه يقول (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وأما الديك فانّه يقول «اذكروا الله يا غافلين» واما الحمار فيلعن العشّارين وينهق في وجه الشياطين ، وأما الضفدع فانّه يقول «سبحان المعبود بكلّ مكان .. سبحان المعبود في لجج البحار .. سبحان المسبّح بكلّ لسان» ، واما القنبرة فانّها تقول «اللهم العن مبغضي آل محمّد» ، وأما الفرس فانّه يقول «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح» ، وأما الورشان فيقول «آل محمّد خير البرية» ، وأما القمري فيقول «جزى الله محبي آل محمّد خيرا».

١٥٤

شهادة الامام علي عليه السّلام

وكان من حديث الضربة وابن ملجم (لعنه الله) ما روي. وكانت الضربة لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة إحدى وأربعين من الهجرة. وروي أن الناس اجتمعوا حوله وان أم كلثوم صاحت «وا أبتاه» فقال عمرو بن الحمق : ليس على أمير المؤمنين بأس ، إنمّا هو خدش. فقال عليه السّلام انّي مفارقكم. ثم قال الى السبعين بلاء ، حتى قالها ثلاث مرّات.

قال له عمرو بن الحمق : فهل بعد البلاء رخاء؟. فلم يجبه.

وروي عن العالم عليه السّلام ان معنى قوله «الى السبعين بلاء» ان الله ـ جلّ وعزّ ـ وقّت للفرج سنة سبعين. فلما قتل الحسين عليه السّلام غضب الله على أهل ذلك الزمان فأخّره الى حين.

وروي أن أم كلثوم بكت ، فقال لها : يا بنية ما يبكيك؟ لو ترين ما أرى ما بكيت! ان ملائكة السبع سماوات مواكب ؛ بعضهم خلف بعض ، والنبيّون خلفهم ؛ كلّ نبي كان قبل محمّد ، وها هو ذا رسول الله صلّى الله عليه وآله عندي أخذ بيدي يقول لي انطلق يا علي فان أمامك خيرا لك مما أنت فيه.

ثم قال : اخلوني وأهل بيتي أعهد إليهم.

فقام الناس إلّا اليسير ، فجمع أهل بيته وهم اثنا عشر ذكرا وبقي قوم من شيعته ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : ان الله تبارك وتعالى أحبّ أن يجعل فيّ سنّة نبيّه يعقوب إذ جمع بنيه وهم اثنا عشر ذكرا فقال «اني أوصي الى يوسف فاسمعوا له وأطيعوا أمره» واني أوصي الى الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما.

فقام إليه عبد الله فقال : يا أمير المؤمنين أدون محمّد ـ يعني ابن الحنفية ـ فقال له : أجرأة في حياتي ، كأنّي بك وقد وجدت مذبوحا في خيمته.

وأوصى الى الحسن وسلّم إليه الاسم الأعظم والنور والحكمة ومواريث الأنبياء وقال له : إذا أنا متّ فغسّلني وكفّنّي وحنّطني وأدخلني قبري ، فإذا أشرجت عليّ اللبن فارفع أوّل لبنة فاطلبني ؛ فإنّك لن تراني.

١٥٥

وقبض عليه السّلام في ليلة الجمعة لتسع ليال بقين من شهر رمضان فكان عمره خمسا وستين سنة (وروي ثلاثا وستين سنة) منها مع النبي وخمس وثلاثون سنة ، وبعده ثلاثون سنة. ودفن بظاهر الكوفة بالغري.

وقد روى الناس بما أوصى به الى الحسن عليه السّلام أن يحمل هو وأخوه الحسين عليه السّلام مقدم الجنازة فاذا وقفت الجنازة حفر في ذلك الموضع فانّهما يجدان خشبة كان نوح عليه السّلام حفرها له فدفناه فيها.

وروي أن الجنازة حملت الى مسجد السهلة ووجدت ناقة باركة هناك فحمل عليها وأقاموها وتبعوها فلما وقفت بالغري وبركت حفر في ذلك المكان فوجد الخشبة المحفورة فدفن فيها حسب ما أوصى ، وان آدم ونوحا وأمير المؤمنين عليهم السّلام في قبر واحد.

وكان حمله ودفنه ليلا ؛ لم يتولّ أمره في ذلك سوى الحسن والحسين عليهما السّلام.

وروي أنّه لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله) وحمل الى منزله ، اجتمع إليه الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : كلّ امرئ ملاق ما يفرّ منه ، والأجل تساق إليه النفس ، والهرب منه موافاته. كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله ـ جلّ ذكره ـ إلّا اخفاءه. هيهات .. علم مكنون. أمّا وصيتي لكم فالله ـ جل وتعالى ـ لا تشركوا به شيئا ومحمّدا صلّى الله عليه وآله لا تضيّعوا سنته. أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم ما لم تشردوا كل امرئ مجهوده ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ، ودين قويم ، وامام عليم ، كنار في أعصار ودوي رياح تحت ظلّ غمامة اضمحل راكدها ، فحطّها من الأرض حبا جاوركم بعدي خيرها ساكنة بعد حركة كاظمة بعد نطق ليعظكم هدى وخفرت أطوافي انّه أوعظ لكم من نطق البليغ ، ودّعتكم وداع امرئ مرصد للتلاق ، غدا تروى آثاري ، ويكشف لكم عن سرائري ، عليكم السلام الى يوم اللزازم ، كنت بالأمس صاحبكم ، وأنا اليوم عظة لكم. وغدا مفارقكم. ان أبق فأنا وليّ دمي ، وان أفن فالقيامة ميعادي والعفو أقرب للتقوى فاعفوا عفا الله عني وعنكم ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم!

وروي انّه لما قتل لم يبق حول بيت المقدس حجر إلّا دمي.

وروي ان ابن عباس قال في صبيحة اليوم الذي قتل فيه أمير المؤمنين عليه السّلام : اني

١٥٦

رأيت البارحة في منامي كأن جبل أبي قبيس قد انهدّ وتقطّع وسقط حوالي الكعبة واظلمّت الكعبة ومكّة وما حولهما من غبار الجبل حتى لم ير الناس بعضهم بعضا.

قال : فقلت : انا لله وانّا إليه راجعون. ما أخوفني أن يكون ذلك لشيء قد نال أمير المؤمنين عليه السّلام.

قال فورد الخبر بقتله في تلك الليلة التي رأيت فيها هذه الرؤيا.

وروي أن الحسن قام خطيبا بعد دفنه ، فعلا منبر الكوفة وعليه عمامة سوداء مسدولة وطيلسان أسود ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : انّه والله قد قبض في هذه الليلة رجل ، ما سبقه الأولون ، ولا يدركه الآخرون ، ان كان لصاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله ، جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، لا ينثني حتى يفتح الله على يديه ، والله ما ترك بيضاء ولا حمراء إلّا سبعمائة درهم من فضل عطائه ، ولقد قبض في الليلة التي نزل فيها القرآن ، وفي الليلة التي قبض فيها يوشع بن نون ، وفي الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم عليه السّلام.

الحسن السبط عليه السّلام

وقام أبو محمد الحسن بن علي عليه السّلام مقامه صلوات الله عليه.

ولدت سيّدة النساء فاطمة (صلوات الله عليها) بعد مبعث السيد رسول الله صلّى الله عليه وآله بخمس سنين ، فأقامت بمكّة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله ثماني سنين ، وبالمدينة عشر سنين وشهورا. وولدت أبا محمّد وسنّها احدى عشر سنة بعد الهجرة بثلاث سنين ، وكانت ولادته مثل ولادة جدّه وأبيه ، وولد طاهرا مطهّرا ، وربّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وتولّى تعليمه وتلقينه وتأديبه بنفسه. ومضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وله سبع سنين وأشهر ، وأقام مع أمير المؤمنين عليه السّلام ثلاثين سنة ، وكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خلال ذلك يشير إليه وينصّ عليه بآي من القرآن والأحاديث. فلما حضرت وفاته دعاه ودعا بأبي عبد الله وبجميع أولاده وثقات شيعته وسلّم إليه الوصيّة التي تسلّمها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وأوصى بما أراد واحتاج. وأمره بغسله وتكفينه ودفنه وقال له في رفع اللبن عند ما ذكرناه ففعل عليه السّلام ما أمره به.

وروي أن أبا عبد الله الجدلي كان فيمن حضر الوصيّة بالدفن فسأل أبا محمّد عن رفع

١٥٧

اللبنة فقال : يا سبحان الله أتراني كنت أغفل عن هذا!

فقال له : فوجدته في القبر؟

فقال : لا والله.

ثم قال عليه السّلام : ما من نبي يموت في المغرب ، ويموت وصيّه في المشرق إلّا جمع الله بينهما في ساعة واحدة.

وقام أبو محمّد بأمر الله ـ جل وعلا ـ واتّبعه المؤمنون وأتاه الناس فبايعوه وقالوا له : يا ابن رسول الله نحن السامعون المطيعون لك.

قال : كذبتم فو الله ما وفيتم لمن كان خيرا منّي ، فكيف تفون لي وكيف أطمئن إليكم إن كنتم صادقين ، فموعدنا بيني وبينكم المعسكر في المدائن.

فركب ، وتخلّف عنه أكثر الناس ، فقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيام الله ثم قال : يا أيها الناس قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ، فلا جزاكم الله عن رسول الله وأهل بيته خيرا. مع أي إمام تقاتلون بعدي ، مع الظالم الكافر الزنديق الذي لم يؤمن بالله وبرسوله قط ، ولا أظهر الإسلام ومن تقدّمه من الشجرة الملعونة في كتاب الله بني أمية إلّا خوفا من سيوف الحق. ولو لم يبق منهم إلّا عجوز درداء لبغت لدين الله الغوائل.

ثم نزل ووجّه برجل من كندة في أربعة آلاف على مقدّمته لحرب معاوية ، وأمره أن يعسكر بالأنبار ولا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره.

فلما نزل الكندي الأنبار ، بعث إليه معاوية رسولا يعده ويمنيه ويبذل له الرغائب من المال وحطام الدّنيا وان يولّيه من أعمال الشام والجزيرة ما يختاره ويسوقه مال ما يقلّده ، وحمل إليه خمسين ألف درهم صلة له ومعونة على سفره ، فقبض عدوّ الله الكندي المال ومضى الى معاوية.

فقام أبو محمّد عليه السّلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أيها الناس هذا فلان الكندي قدمته بين يدي الله لمحاربة عدوّ الله وابن آكلة الأكباد فبعث إليه بمال ووعده ومنّاه حطام الدّنيا ومتاعها فباع دينه وآخرته بدنيا زائلة غير باقية وقد توجّه إليه ، وقد

١٥٨

أخبرتكم مرّة أخرى انّه لا وفاء لكم ولا ذمّة ولا خير عندكم وأنّكم عبيد الدّنيا. واني موجّه مكانه رجلا وإني لأعلم انّه يفعل فعل صاحبه غير مفكّر في عاقبة أمره ومرجعه ولا مراقب لله في دينه.

وبعث رجلا من (مراد) في أربعة آلاف وتقدّم إليه بمشهد من الناس وحذّره الغدر والنكث.

فلما صار الى الأنبار أتاه رسول معاوية بمثل ما أتى الكندي من الصلة والمواعيد ، فتوجّه إليه مؤثرا لدنياه على آخرته وبايعا دينه بالتافه القليل الفاني ومختارا على الجنّة.

فقام أبو محمّد عليه السّلام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال : قد عرفتكم انّكم لا تفون بعهد ولا تستيمنون الى عقد ، وقد غدر المرادي الذي اخترتموه وقبله ما اخترتم الكندي. فقام أناس فقالوا ان كان الرجلان غدرا فنحن ننصح ولا نغدر.

فقال لهم : كلّا واني أعذر بيني وبينكم مع علمي بسوء ما تبطنون وتنطوون عليه ، وموعدكم عسكري بالنخيلة.

ثم خرج ، فعسكر بالنخيلة وأقام به عشرة أيام ، فلم يلحق به منهم إلّا عدد يسير ، فانصرف الى الكوفة وقام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا عجبا من قوم لا حياء لهم ولا دين .. من غدرة بعد غدرة. أما والله لو وجدت أعوانا لقمت بهذا الأمر أي قيام ، ونهضت به أي نهوض ، وأيم الله لا رأيتم فرجا ولا عدلا أبدا مع ابن آكلة الأكباد وبني أمية وليسومنكم سوء العذاب حتى تتمنّوا أن يليكم عبد حبشي مجدع ، فأفّ لكم وبعدا وترحا يا عبيد الدنيا وموالي الحطام.

ثم نزل وهو يقول : واعتزلكم وما تدّعون من دون الله.

فاتبعه من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام عدد يسير إشفاقا عليه وحقنا لدمه. وغلب ابن آكلة الأكباد على الملك مدّة أيام أبي محمّد عليه السّلام وأظهر من اللباس والزي والفرش والاثاث مثل ما كانت ملوك الأعاجم تفعله وكان من أمره ما قص وروي وسارت الركبان بخبره.

ومن دلايل أبي محمّد عليه السّلام ما روي انّه خرج الى مكّة في بعض السنين ماشيا حتى

١٥٩

تورّمت رجله ، فقال بعض مواليه لو ركبت لسكن عنك ما تجد.

فقال له : اذا أتينا هذا المنزل فيستقبلك عبد أسود معه دهن فاشتر منه ولا تماكسه.

فساروا حتى انتهوا الى الموضع فاذا بالأسود فقال أبو محمّد عليه السّلام لمولاه : دونك الرجل.

فقصده فأخذ منه بما استلم به وأعطاه الثمن فقال له الأسود : لمن تأخذ هذا الدهن؟ فقال : للحسن بن علي عليه السّلام.

فانطلق معه إليه فقال له : بأبي أنت وأمي لم أعلم ان الدهن يراد لك ولست أحبّ أن أقبل له ثمنا ، فاني مولاك ، ولكن ادع الله أن يرزقني ولدا ذكرا سويّا يحبّكم أهل البيت ؛ لأنّي خلّفت أهلي في شهرها.

قال : فانطلق الى منزلك فقد فعل الله بك ذلك ووهب لك غلاما سويّا وهو لنا شيعة.

فانطلق الرجل فوجد امرأته قد ولدت غلاما ؛ يروى انّه أبو هاشم السيد ابن محمّد الحميري وكان أبوه انتقل من أرض حمير الى أرض تهامة ثم عاد الى بلده.

ويروى عن أبي جعفر الثاني محمّد بن علي الرضا عليه السّلام انّه قال عن آبائه (صلوات الله عليهم) .. قال : أقبل أمير المؤمنين ومعه أبو محمد عليهم السّلام وسلمان الفارسي فدخل المسجد وجلس فيه فاجتمع الناس حوله إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلّم على أمير المؤمنين عليه السّلام وجلس ثم قال : يا أمير المؤمنين اني قصدت أن اسألك عن ثلاث مسائل ان أخبرتني بهن علمت انّك وصي رسول الله حقّا ، وان لم تخبرني بهنّ علمت انّك وهم شرع سواء.

فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : سل عمّا بدا لك.

فقال : أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه ، وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال.

فالتفت أمير المؤمنين عليه السّلام الى أبي محمّد عليه السّلام فقال : يا أبا محمّد أجبه.

فقال أبو محمد : أما الانسان اذا نام فان روحه معلّقة بالريح ، والريح متعلّقة بالهواء الى وقت يتحرّك صاحبها الى اليقظة ، فاذا أذن الله بردّ الروح ، جذبت تلك الروح الريح ،

١٦٠