صفة جزيرة العرب

الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني

صفة جزيرة العرب

المؤلف:

الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني


المحقق: محمّد بن علي الأكوع الحوالي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الإرشاد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الثالثة

لقد طبعت الطبعة الاولى بمطبعة دار اليمامة بإشراف استاذنا الحجة البخاثة حمد الجاسر كثّر الله فوائده ونفدت بسرعة فائقة ولما كنت بالقاهرة المعزية سنة ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م استشارني الأستاذ المذكور باعادة طبعه بالأفست على ان اعيد النظر في الكتاب فحبّذت ذلك كما اسعفته واجلت النظر فيه وصححنا ما امكن تصحيحه كما ارجعنا الى نصابه كل ما وقع من الأخطاء ونفدت هذه الطبعة ولما تدخل اليمن.

فالتمس مني مركز الدراسات اليمني الذي يرأسه زين الشباب الاديب الشاعر الدكتور عبد العزيز بن صالح بن مرشد المقالح الرعيني الحميري الذي اخرج المركز ـ والحق يقال ـ الى حيز الوجود والى واقع ملموس ، ان يطبع الكتاب طبعة ثالثة ليعم نفعه وليكون في متناول كل يد إذ اصبح في حكم المعدوم ، ومن حق اليمن وابنائه الخلّص ان يرعى تراثه الخالد خصوصا تراث «لسان اليمن الهمداني» فلبيت هذا الالتماس وقمت ثالثة بإعادة النظر ومراجعته صفحة صفحة وسطرا سطرا وصححناه بدقة كاملة انطلاقا من ارشادات نبي الهدى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «رحم الله امرأ عمل عملا فأتقنه». وحرصا على اداء أمانة العلم كاملة غير منقوصة مهما تجشمت من المشقة والعناء وارهاق الأعصاب آسفا كل الأسف على ان ينشر المركز ووزارة الاعلام من كتب التراث ما يزيد الطين بلة والكتاب تشويها وغشاوة على غشاوة وكأن ليس في «السويداء» رجال كمثل تاريخ وصاب وبغيه المستفيد في طبعته الاولى ، والعسجد المسبوك وروح الروح والصادح والباغم وغيرها مما يضاعف الوجع والالم.

١

هذا ولا يفوتني في هذه الطبعة ان أنبه الى ما جال في خاطري منذ عهد بعيد ألا وهو ان كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني الذي ظهر مطبوعا من اصوله المخطوطة كلها قد اعتورها النقص وانها ليست بكاملة بدليل ما نسوقه كبرهان على ذلك.

١ ـ الاول من نفس الكتاب فالمؤلف الهمداني يذكر في ص ١٣٩ ما نصه :

«والثاني وادي أبين وهو ما يلي «لحج» ومآتيه من شراد وبنا ارض رعين وقد ذكرناه». والحال انه لم يذكره وانما غطيناه من عندنا كما تراه في هامش ذلك.

٢ ـ انه ذكر «عمان» ولم يأت بغير كلمات. قصيرة مع انه قطر يماني كبير بينما افاض في غيره.

٣ ـ جاء في «معجم ما استعجم» للوزير البكري ج ٢ ـ ٤٧٨ في كلامه على «الحيرة» وان لم ينص على ان ذلك من كتاب «صفة جزيرة العرب» الا أن ما في خزانة الأدب يؤيد ذلك. قال البكري :

قال الهمداني : سار تبع ابو كرب في غزوته الثانية فلما اتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس على أثقاله وتخلف معه من ثقل من اصحابه في نحو اثني عشر الفا وقال : تحيروا هذا الموضع فسمى الموضع «الحيرة» فمالك اول ملوك الحيرة وأبوهم ، وكانوا يملكون ما بين الحيرة والأنبار وهيت ونواحيها وعين التمر واطراف البراري الغمير والقطقطانية وخفيّة وكان مكان الحيرة من اطيب البلاد وارقه هواء واخفه ماء واعذبه تربة وأصفاه جوّا قد تعالى عن عمق الأرياف واتضع عن خزونة الغائط واتصل بالمزارع والجنان والمتاجر العظام كأنها كانت من ظهر البرية على مرفأ سفن البحر من الصين والهند وغيرهما. قال ابو دواد يصفها :

ودار يقول لها الرّائدون

ويل امّ دار الحذاقي دارا

فلما وضعنا بها بيتنا

نتجنا حوارا وصدنا حمارا

وبات الظليم مكان الفصيل

يسمع منه بليل عرارا

ونهر الحيرة مدفون من الفرات الى النجف.

٢

وقال في خزانة الأدب للبغدادي ج ٢ ـ ٤٥٠ في الكلام على الحيرة :

واول من ملك مالك بن فهم بن غنم دوس الازدي ملك العرب بالعراق عشرين سنة والحيرة هي ارض في العراق بلدة قرب الكوفة.

قال الهمداني في جزيرة العرب ـ هنا نص صريح لا يدع للشك مجالا ـ سار تبع ابو كرب في غزوته الثانية فلما اتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس الازدي على اثقاله وتخلف معه من ثقل من اصحابه في اثني عشر الفا وقال : تحيروا هذا الموضع فسمى الموضع الحير (وهو من قولهم تحير الماء اذا اجتمع وزاد وتحير المكان بالماء اذا امتلأ) (١) فمالك اول ملوك الحيرة وابوهم ، وكانوا يملكون ما بين الحيرة والأنبار وهيت ونواحيها وعين التمر واطراف البراري الغمير والقطقطانية وخفية وكان مكان الحيرة من اطيب البلاد وارقه هواء واخفه ماء واعذبه تربة واصفاه جوّا قد تعالى عن عمق الارياف واتضع عن حزونة الغائط واتصل بالمزارع والجنان والمتاجر العظام لأنّها كانت من ظهر البرية على مرفأ سفن البحر من الهند والصين وغيرهما.

فأنت ترى ما في هذين النصين مما لمحنا اليه ، ولنا ملاحظات غير هذه جمعناها مسجلة في كتابنا المعجم ، ومهما يكن من ذلك فاليك ايها القارىء كتاب «صفة جزيرة العرب» الذي يقول عنه «كاتب الشرق وامير البيان شكيب ارسلان» : الكتاب المنقطع النظير. وقد بذلنا في تنقيحه وتهذيبه الوسع وفي طبعته الثالثة هذه بالذات ، (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وسبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم.

بتاريخه السبت ست وعشرين خلت من جمادى الآخرة سنة ١٤٠٣ ه‍ الموافق ٩ / ٤ / ١٩٨٣ م.

كتبه بقلمه

محمد بن علي بن الحسين الاكوع الحوالي

__________________

(١) يبدو ان ما بين القوسين من كلام البغدادي صاحب الخزانة.

٣
٤

مقدمة الطبعة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما علمت بأن مؤرخ اليمن وعالمها في هذا العصر أستاذنا الجليل القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي الحميري قام بتحقيق كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني غمرتني الفرحة ، لما أعرفه عن الأستاذ من الفضل والعلم ، ولاعتقادي بأنه ليس في استطاعة أي محقق ـ مهما أوتي من سعة العلم ـ أن يكون عمله في تحقيق ذلك الكتاب تامّا ما لم يكن ذا معرفة تامة بذلك القطر الحبيب من وطننا ، ثم زاد سروري عندما زرت القاهرة في رمضان ١٣٧١ فالتقيت بالقاضي الجليل فأطلعني على الكتاب محققا ، بل أضاف مكرمة أذكرها شاكرا ـ إذا بلغت به الثقة الى أن رغب بأن أشرف على نشره ، وأباح لي بأن أضيف أو أحذف ما أراه ، مما لا يمس بجوهر عمله ، فلقد أطلق أستاذنا ـ زاده الله قوة ونشاطا ـ لقلمه العنان فأسبغ الحواشي ، ووجد مجال القول ذا سعة عن مفاخر ذلك القطر الكريم ، والإشادة بذكر أعلامه فاسترسل في ذلك ، إلا أن موضوع الكتاب ، وارتفاع أجور الطبع وثمن الورق ، وتغير الأحوال تغيرا جعل القارىء في هذا العصر متكيفا بحالة عصره ، فكان من أثر ذلك الحرص على الانتفاع بما بذله الأستاذ الجليل من جهد فيما له صلة بتحديد المواضع ، وإرجاء ما عدا ذلك لمجال أرحب في فرصة اخرى. ومن ذلك البحث الممتع الذي قدم به الأستاذ الكتاب مترجما مؤلفه ، وواصفا كتابه ، فقد بعثته اليه في اليمن لكي يضيف الى مواضع منه المصادر ، مع نماذج مصورة من النسخ التي اتخذها أصلا لتوضع مكانها في المقدمة ، فمضى زمن طويل أعقبته أحداث في ذلك القطر ، لم يعد إليّ ما بعثت ، وطال الزمن وخفف من أثر كل ذلك ما عرفته من عزم الأستاذ على تأليف كتاب عن الهمداني ،

٥

فاكتفيت بما يجده القارىء هنا ، وهو مغترف من بحر علم أستاذنا الأكوع ، وارث علم الهمداني ومحيي آثاره ومؤرخ القطر اليماني في هذا العصر.

حمد الجاسر

٦

ترجمة الهمداني

الهمداني : يحتاج الهمداني إلى دراسة واسعة لا تتسع لها هذه الصفحات ، ولا أبالغ إذا قلت بأنه بحاجة إلى كتابة مؤلف واف حافل بكل ما يتصل بحياته ، وهذا ما علمت بأن القاضي العلامة الأستاذ محمد بن علي الأكوع يقوم به ، ولهذا فسأكتفي بإشارات موجزة عنه ، حتى تصدر دراسة أستاذنا الأكوع أو غيره من المعنيين بتاريخ أمتنا ممثلة بأبرز نوابغ أبنائها ، وقد استقيت هذه الترجمة مما كتبه صاعد الأندلسي من علماء الأندلس والقفطي من علماء المشرق في كتابيه «أنباه الرواة» و «أخبار العلماء» ثم بما كتبه ابن فهد المكي في «الدر الكمين ، ذيل العقد الثمين» وبما كتبه المؤرخون أمثال أغناطيوس كراتشكوفسكي ، والكرملي الأب ، ومحب الدين الخطيب ، ثم أستاذنا الأكوع في مقدمة الجزء الأول من «الإكليل» محاولا في كل ذلك الايجاز بقدر الامكان. وتحسن الإشارة الى ما كتبه الباحث الروسي (كراتشكوفسكي) فدراسته بلغت من العمق والتركيز الغاية ويضاف اليها ما ورد في الدراسات العربية التي لم يطلع عليها ليتكامل البحث.

اسمه ونسبه : هو الحسن بن أحمد بن يعقوب ، ويعرف بابن يعقوب (١) ، وبالنسّابة (٢) ، وبابن الحائك ، وتكرر في «معجم البلدان» : ابن الدمينة ويدعو نفسه (لسان اليمن) ويعبر عن نفسه قائلا : (أبو محمد) أو (الهمداني) وابن الحائك قصد به التنقيص ، وليس صحيحا ما جاء في طبقات «الزيدية» (٣) : أنه حائك من حاكة ريدة. فقد قال القفطي في «أنباه الرواة» : فأما تلقيبه بابن

__________________

(١) تاريخ الجندي ج ١ ـ ٦٦ ، والرازي.

(٢) تاريخ لليمن مجهول المؤلف وناقص في (امبروزيانا) الورقة ١٣٧ ، هو بخط جدنا وفي حوزتنا الحوالي

(٣) تاريخ مسلم اللحجي ج ٤ الورقة ٨ / ٢١٨ مخطوطة باريس.

٧

الحائك ، فلم يكن أبوه حائكا ، ولا أحد من أهله ، ولا في أصله حائك ، وإنما هذا اللقب لمن يشتهر بقول الشعر ، وكان جده سليمان بن عمرو المعروف بابن ذي الدمنة شاعرا فسمي حائكا لحوكه الشعر. ا ه. ولعل القفطي اطلع على نسخة غير المطبوعة من «الإكليل» إذ ليس في المطبوعة هذا الكلام المتعلق بسليمان بن عمرو ، وما فيه سنذكره بعد هذا مع إيراد خمسة أبيات من الشعر الجيّد في الحكم.

أما ما جاء في «معجم البلدان» فصوابه ، ابن ذي الدّمنة ، كما ذكر الهمداني (١) قال : فأولد عمرو ذا الدّمنة وكان شاعرا. ا ه. وقال الأستاذ محب الدين الخطيب : قد ظنّ من يكتب عن هذه البيئة أن ذا الدمنة نبز للجد الأعلى من أجداد المؤلف ، ولو كان نبزا لأهمله المؤلف ا ه. وحقا ما قال ، وهو يقصد الكرملي. ويلاحظ أن اسم الهمداني ورد في بعض كتب التأريخ الحسين خطأ كما في «الوافي بالوفيات» (٢) وغيره.

أسرة الهمداني : أو فى الهمداني نفسه الكلام عن أسرته في الجزء العاشر من «الإكليل» الذي خصصه لمعارف همدان وأنسابها ، وعيون أخبارها ، وأورد نسبه فيه حتى أوصله الى عليان بن أرحب ثم الى بكيل فهمدان.

ويظهر أن أسرة الهمداني تأثرت بعوامل لا نعرف شيئا عنها ، فكانت من أقدم الأسر التي تركت البداوة ، وتحضرت ، فقد انتقل قسم منها الى الكوفة ، وقسم الى زبيد (٣) ، ومارس بعضهم أعمالا كان البداة يأنفون منها ، من أعمال الصناعة.

وقد كانت هذه الأسرة تحل في المراشي في مواطن قومهم البكيليين الهمدانيين ، والمراشي من أودية الجوف ، وأول من انتقل منه يوسف الجدّ الثالث للهمداني ، انتقل الى صنعاء قال الهمداني عنه (٤) : (سكن صنعاء في آخر عمره ، وحمل بها هو وأولاده ، وكان لهم بصر بالإبل لم يكن لأحد من العرب).

__________________

(١) «الاكليل» ١٠ / ١٩٧.

(٢) «الوافي» ج ١١ ص ١٣٩ نسخة مكتبة أحمد الثالث في اسطنبول والسيوطي في «البغية» ترجمة موضعين (الحسن والحسين).

(٣) «الاكليل» ١٠ / ١٩٥ / ١٩٨.

(٤) «الاكليل» ١٠ / ١٩٩ المراشي : جبل من برط ومن روافد الجوف انظر ص ١٦١.

٨

ويرى الباحث بين أسماء آباء الهمداني أسماء لم يعتد البدو استعمالها مثل (يوسف) و (يعقوب). وإذا تركنا كلمة (ابن الحائك) وما وصفه الناقمون عليه من جرائها جانبا فانه يعترضنا أمور ذكرها الهمداني نفسه عن أسرته ، فأبوه كان يتاجر بالذهب كما في «الجوهرتين (١)». وكان رحالة دخل الكوفة والبصرة وبغداد وعمان ومصر (٢). وخال أبيه الخالص بن معطي كان ممن ولي عيار صنعاء (٣) وعناية آله بالصناعات كالتعدين وغيره ، أمور تلفت النظر ، وصلة آله بالعراق ـ البلد المتحضر ـ كانت قديمة فقد كان أبو جده محمد بن يعقوب ، يعرف بالبصري ، وهذا هو عم الهمداني الذي تزوج الهمداني ابنته كما في «الإكليل (٤)».

وقد ذكر الهمداني في «الإكليل (٥)» ان جده يعقوب أبناؤه ثلاثة : (١) إبراهيم ـ انقطع نسله. (٢) أحمد خلف الحسن ـ المترجم ـ وابراهيم. (٣) محمد وولده فاطمة تزوجها المترجم ، وابراهيم وعبد الله. ولم يذكر من نسل هؤلاء أحدا سوى ابنه مالك مما يدل على أن ابنه محمدا الذي ينسب اليه «شرح الدامغة» لم يولد ، وذكر أن ابنه مالكا من فاطمة ابنة عمه مات وله فيه المراثي.

تاريخ ولادته : نص في المقالة العاشرة (٦) من «سرائر الحكمة» أنه ولد يوم الأربعاء ، ١٩ صفر سنة ٢٨٠ ه‍ وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن التي ذكرها تدل على ذلك.

ولا نعرف شيئا عن أول حياته ، ويظهر أنه شارك أهله في عملهم وهو الجمالة ـ حمل الحجاج والتجار الى مكة من صعدة ـ وقد نصّ الهمداني على ذلك بقوله (٧) : (وكنت أنظر الى التجار إذا حملناهم الى مكة من صعدة).

وكثرة صلاته ببعض مشاهير زمنه مادحا ، يدل على أنه كان يلاقي عوزا

__________________

(١) ص ١٤٧

(٢) «صفة جزيرة العرب» ص ٣٦١

(٣) «الجوهرتين» ٣١٠.

(٤) ١٠ / ١٩٨

(٥) ١٠ / ١٩٨

(٦) ص ٩٦ من المطبوع

(٧) «صفة جزيرة العرب» ص ٣٦٥.

٩

وحاجة ، كقصته مع ابن الرويّة التي أوردها القفطي.

في مكة : ولعله في إحدى رحلاته طاب له المقام بمكة فجاور فيها ، وكان ذلك وهو في أول عمره كما يفهم من اجتماعه بالخضر بن داود أحد علماء مكة ـ كما سيأتي ، ونقل ابن فهد (١) عن «تاريخ اليمن» للخزرجي أن الهمداني ولد بصنعاء ، وبها نشأ ، ثم ارتحل في شبيبته الى مكة فجاور بها وقتا ، وكتب صدرا من الحديث والفقه ، ورواه ثم رجع الى اليمن فنزل صعدة. ا ه.

وفي مكة ـ وقد أطال فيها الإقامة ـ تفتحت للهمداني آفاق المعرفة ، فقد كانت من أعظم مراكز العلم في ذلك العهد ، وكان من العلماء الذين تلقى العلم عنهم فيها الخضر بن داود ، وقد نصّ على أنه اجتمع به سنة ٣٠٧ (٢) ه وهذا العالم من رواة «السيرة» عن ابن اسحاق يرويها عن محمد بن حاتم ، عن عمار بن الحسن ، عن سلمة بن الفضل ، عن محمد بن اسحاق ، وقد روى عنه منها كثيرا (٣) في الجزء الأول من «الاكليل».

والخضر هذا ذكره الدارقطني ـ علي بن عمر ـ (٣٠٦ / ٣٨٥ ه‍) انه (٤) ممن روى عنه كتاب «النسب» للزبير بن بكار بواسطة شيخ مدني. ولا نجد في كتب التراجم التي بين أيدينا ترجمة للخضر هذا. وقد يتناول الهمداني ما يورده من أقوال ابن اسحاق بالنقد (٥) ، فهو بعد أن يورد عنه زعم أهل التوراة ان السواد في ولد حام عن دعوة دعاها نوح على ابنه حام ، يعقب قائلا : (وهذا في غاية التناقض ان يسيء حام ويلعن ولده ، والله يقول (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وإنما لسواد الناس وبياضهم وسمرتهم علة ذكرنا في «السيرة» من هذا الكتاب).

__________________

(١) «الدر الكمين» مخطوطة رامبور (الهند) الورقة ١٠٢

(٢) «شرح الدامغة» ص ٢٩٥ من المطبوع

(٣) انظر «الإكليل» ١ / ٣٨ و ٢ / ٩٦ ، ١٢٧ ، ٣٥٧ و ١٠ / ٢٣ و «شرح الدامغة» ٣٦ ، ٤٦ ، ٩٣ ، ٩٥ ، ٩٩ ، ١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٤٤.

(٤) «المناسك» ص ٣٤٣.

(٥) «الاكليل» ١ / ٦٦ ، ٨٤.

١٠

واجتمع بأبي علي الهجري بمكة أيضا (١) ، ونجد في «صفة جزيرة العرب» نصوصا نرى أنه نقلها عن الهجري كالشعر الذي في ذات غسل ، وفي جزالاء. وأشار الهجري الى الهمداني هذا في «النوادر والتعليقات» إشارة موجزة قال : الهمداني من أهل ريدة بلد بالبون قرب صنعاء (٢).

ويظهر أنه أثناء مجاورته بمكة اقتنى كثيرا من الكتب كدواوين الشعر ومؤلفات ابن الكلبي في الأنساب وغيرها ، مما نجد نقولا كثيرة عنه في كتبه ، ومع أن ذكره أسماء الكتب التي ينقل عنها نادر إلّا انه عند ما يورد بعض أقوال المتقدمين يوضح رأيه فيها ، فهو يرى أن الكلبيين (٣) قد اختصروا أنساب الناس وطرحوا منها ، ويقول : إن نسّاب العراق والشام يقصرون في أنساب كهلان ومالك بن حمير ليضاهئوا بها عدة الآباء من ولد إسماعيل ، وقد يعلل هذا بأن بعضهم حاول إفساد النسب في أيام العصبية في دولة معاوية ليقرب نسب قضاعة وكهلان على نحو ما أرادت النزارية من إدخال هذه القبائل في ولد إبراهيم عليه‌السلام.

وينقل عن ابن خرداذبه من «المسالك والممالك» (٤) ولكنّه يعده من الشعوبية (٥).

وهو يعتبر قول شيخه أبي نصر محمد بن عبد الله اليهري الحميري الفصل في كل ما يورده من أخبار اليمن وأنساب أهله ، وقد أشاد بذكره في مقدمة «الإكليل (٦)» وبالغ في إطرائه وقال عنه : (شيخ حمير وناسبها وعلّامتها ، وحامل سفرها ، ووارث ما ادخرته ملوك حمير في خزائنها من مكنون علمها ، وقارىء مساندها والمحيط بلغاتها).

ومن أشهر مشائخه الأوساني الحميري (٧) محمد بن عبد الله (٢٧٦ / ٣٦٠

__________________

(١) «شرح الدامغة» ٥٢ ط و «أبو علي الهجري» ص ٦٢ وما بعدها.

(٢) المصدر ص ٣٢١

(٣) «الاكليل» ٨ / ١٠١.

(٤) «الاكليل» ٨ / ١٠٠.

(٥) «شرح الدامغة» ١١٦ / ٤١ / ١٤٧ و «الاكليل» ١ / ١٣٧.

(٦) ١ / ٩ / ٢٠.

(٧) الاكليل ٢ / ٣٧١

١١

ه). وأكثر معارفه تلقاها عن رواة وعلماء وأناس من أهل قطره. وما عدا ذلك فهو يشير اليه ، وهو يتلقّى معلوماته عمن يتوسّم فيه المعرفة من أهلها. وقد أكثر النقل عن بطليموس ، بل لخص كتابه في مقدمة «صفة جزيرة العرب» ويظهر أن الكتب المعربة وصلت الى صنعاء في زمن متقدم ، فقد كان وزراء الدولة العباسية كالبرامكة وغيرهم ذوي صلة بالأبناء ـ وهم بقايا الفرس ـ الذين كانوا في صنعاء.

وقد تأثر كثيرا ببعض الآراء الواردة في تلك الكتب المترجمة عن اليونانية أو الفارسية أو الهندية ، تأثرا دفعه إلى الأخذ بها ، وإلى احترامه لأصحابها ، فهو بعد أن يورد قول أرسطاطاليس الحكيم في مبتدأ الحرارة في جوف الأرض ، يعقب عليه بقوله : (قد أحسن الحكيم فيما فرّع ، وإن كان قد بنى قوله في مبتدأ الحرارة على غير أصل) ثم يسترسل في إيضاح ذلك (١).

وهو يوضح بعض آرائه بالرسم كما في «سرائر الحكمة (٢)» و «الجوهرتين (٣)»

ويؤخذ على الهمداني أمور :

١ ـ منها شدة تعصبه شدّة قد تحيد به في بعض الأحيان عن جادة الصواب ، وكتاب «شرح الدامغة» أوضح دليل على ذلك. والأستاذ محب الدين الخطيب على حق حينما قال عن الهمداني : (يثبت حقائق العلم على صحتها ما استطاع ، في كل ما لا يمسّ همدانيته ويمنيته ، فاذا لامس العلم هذا الجانب الحساس من المؤلف وجد فيه ضعفا). (٤).

__________________

(١) «الجوهرتين» : ١٠٥

(٢) الورقة ١٥ وما بعدها.

(٣) ١٥١ / ١٥٦ / ١٥٧ / ٢٠١ / ٢٠٥ / ٢٠٧ / ٢٠٩ / ٢١٣ / ٢١٥ / ٢٤٣ / ٣٤١ / ٣٦٣.

(٤) هذا حكم جائر ورجم بالغيب من استاذنا الجليل (حمد الجاسر) تبعا لاستاذنا محب الدين الخطيب في مقدمته للجزء العاشر من الاكليل الذى تحامل على صاحبنا في مواضع من تعليقه على العاشر وغلطه في اشياء كان الخطيب هو الغالط فيها والغالط حقا كما بينا في تعليقنا على العاشر لانهما لم يعيشا الظروف التي عاشها الهمداني ولو عاشوها او عرفوها لعذروه كما عشنا نحن وآباؤنا من قبل ، وما الدامغة الا دفاع عن احساب قومه بعد ان اضطروه الى ذلك على أنه صان لسانه عن كل اقذاع والله يعفو عن من قد أتى زللا انظر مقدمة تفسير الدامغة.

١٢

٢ ـ اعتقاده بتأثير النجوم ، في تكون المعادن ـ كما في «الجوهرتين (١)» وفي البشر أيضا ، كما شحن بذلك القسم الباقي من كتابه «سرائر الحكمة» وهو الخاص بالنجوم متأثرا بأفكار اليونان والهنود.

٣ ـ تصرفه في الشعر ، وإيراده بروايات مختلفة ، ففي «شرح الدامغة (٢)» أورد أبياتا لعلقمة تختلف عن إيراده لها في «الإكليل (٣)». بل في «شرح الدامغة (٤)» أورد بيتا لقيس بن الخطيم ثم أورده في الكتاب نفسه مغيرّا كلمة (وضعت) بكلمة (جعلت) ومثل هذا التغيير حدث في شعر للبيد (٥). بل قد صرّح بمثل هذا فقال عن أرجوزة الرداعي : (ما كان منها معيبا من جهة الاضطرار ، ولا فائدة فيه فقد ثقفته ، وأصلحته (٦)).

ومن أسوأ أنواع التصرف تغيير أسماء المواضع ، فقد أورد في «صفة الجزيرة» لذي الاصبع :

جلبنا الخيل من بقران ، وأورده في «الاكليل» : عدا بالخيل من جلدان.

وفي «الصفة» : يا حرّ ذات الوعث ـ في الحرّة ، والرجز : يا نخل ـ في وادي نخلة.

وقد ينقد بعض الأخبار التاريخية بطريقة المقارنة في الأنساب (٧) وبطريقة العقل أحيانا ، كتعليله لانطفاء النار في الأمكنة التي ينعدم فيها الهواء (٨) ، وتعليله سماع الصوت في الليل بدون رؤية صاحبه (٩). وقد تطغى عليه العاطفة ، فيثبت أمرا كان قد نفاه عقلا (١٠).

__________________

(١) ٨٩ / ١٣٣ / ٣٣٣.

(٢) ١٤٢

(٣) ٨ / ١٥.

(٤) ٧٧ / ٩٨.

(٥) ١٨ / ١٤٢.

(٦) «صفة الجزيرة» ٤٠١.

(٧) «الاكليل» ٢ / ٣٥٩ و ٨ / ١٠١

(٨) المصدر ٨ / ٢١٨

(٩) «صفة الجزيرة» ٣١٣

(١٠) «الاكليل» ٨ / ٢٥٢٣ قد زيفنا هذه المناقشة في كتابنا «لسان اليمن من اعلام العرب».

١٣

والهمداني ـ فيما عدا بلاد اليمن ـ لا يتجاوز علمه حد ما ينقله او يستنتجه ، ولهذا وقع في كلامه عن بلاد نجد ، وعن منازل القبائل في جهات الجزيرة أخطاء كثيرة ، لأنه اعتمد في ذلك ما ورد في الشعر ، فنسب الى بعض القبائل ما ورد من أسماء المواضع في شعر شعرائها ، بل قد يحاول أن يخطّىء غيره فيقع في الخطأ ، ومن أمثلة ذلك ، أنه أورد لعامر بن الطفيل يخاطب عمرو بن معدي كرب :

إلى أطم ظبي (١) يعتلكن شكائما

مقانب يهديها اليك مقانب

وقال : (الأطم الحصن الحصين المبنيّ ، وظبي موضع عمرو ، وهو بيبمبم ، وهو الذي ذكره امرؤ القيس : وحلّت سليمى بطن ظبي فعرعرا. والناس بروون طبي (٢) وذا غلط : ظبي وعرعر من أودية نجد وقد يسميه من يجهله طب.

صلته بعلماء العراق : قال القفطي (٣) : وارتفع له صيت عظيم ، صحب أهل زمانه من العلماء وراسلهم وكاتبهم فمن العلماء الذين كان يكاتبهم ويعاشرهم أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ، وكان يختلف بين صنعاء وبغداد ، وهو أحد عيون العلماء باللغة وأشعار العرب وأيامها وكذلك أبو القاسم وكان يكاتب أبا عمر النحوي صاحب ثعلب ، وأبا عبد الله الحسين بن حالويه. وسار الى العراق واجتمع بالعلماء ، واجتمعوا به فيما قيل ـ ا ه. ويظهر أن مسيره الى العراق محلّ شكّ ، ولعله تعرف ببعض علمائه أثناء اقامته بمكة ، وفي كتب الهمداني ما يدل على جهله بمواضع طريق العراق ، ولو سلكه لما جهلها كقوله في «الجوهرتين» : (ومنها معدن محجة العراق ، بين العمق وأفيعية ، ولا أدري أهو معدن النقرة أم هو غيره ، أم معدن اسم ، فلا يكون فيه معدن ، ومنها معدن بني سليم) ا ه ومعدن المحجة هو معدن بني سليم ، وهو غير معدن النقرة إذ بينهما مراحل.

في صعدة : لما عاد الهمداني الى اليمن استقر في صعدة ، وهي إذ ذاك قاعدة أئمة الزيدية وكانت تتنازع اليمن في ذلك العهد تيارات سياسيّة : (٤) فالأئمة

__________________

(١) مهملة من الإعجام.

(٢) «شرح الدامغة» ص ١٨٣

(٣) ص ١٤١

(٤) ورقة ١٠٢.

١٤

الزيديون طارئون على البلاد منذ ما يقرب من ربع قرن ، ويؤازرهم بعض القبائل اليمنية ، مع الأبناء من الفرس الأمراء اليعفريين وقاعدتهم صنعاء أمراء آخرون من رؤساء القبائل ، يميلون مع هؤلاء اونة ، ومع أولئك أخرى ، وينضمون الى غير الفئتين في بعض الأحيان ، كما فعلوا من القرامطة. وكان الخلاف بين أصحاب هذه التيارات يتجاوز حدّ المقارعة بالسّنان ، الى المجادلة بالحجة واللسان ، فكان ان اشتعلت نار العصبية بين القحطانية والعدنانية ، فكان بعض الأنباء من الفرس يذكي أوارها ، وليس بعيدا أن يوجد من وراء هؤلاء من ذوي النفوذ في بغداد من له أثر في ذلك.

والذي يعنينا من الأمر ما له صلة بالهمداني لقد خاض المعمعة ، بل لعله الوحيد الذي نستطيع أن نتبين آثاره فيها ، فيما وصل الينا من كتبه ـ «الإكليل» و «الدامغة» و «شرحها» وكان من أثر ذلك أن أوذي وسجن. وفي «الدر الكمين» (١) : (وكان صاحب أمرها ـ يعني صعدة ، في ذلك الوقت الامام الناصر لدين الله .. وكان في صعدة عدة من الشعراء المنتسبين الى عدنان منهم الشريف الحسين بن علي بن الحسن بن القاسم الرسّي ، وأبو الحسن بن أبي الأسد السلمي ، وأيوب بن محمد اليرسمي ، وكان أيوب ينسب الى الفرس ، فبلغ الهمداني أيام إقامته في صعدة أن هؤلاء يتعصبون على قبائل اليمن ، ويتناولون أعراضهم بالأذى ، فكتب لكل واحد من الثلاثة قصيدة فلما بلغهم قوله اشتد ذلك عليهم ، ونصبوا له ، ووبخوه بالكلام ، وتألبوا عليه ، فقال فيهم أبياتا ، فلما تفاقم الأمر بينه وبين الشعراء المذكورين وأفحمهم جمعا وفرادى دخلوا على الامام الناصر لدين الله وقالوا : ان ابن يعقوب هجا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فتوعده الناصر ، فخرج من صعدة الى صنعاء ، وكانت يومئذ للأمير أبي الفتوح الخطاب بن عبد الرحيم بن يعفر الحوالي (٢) من قبل عمه الأمير أسعد بن ابي يعفر ، وكتب الناصر الى الأمير أسعد ـ وكانت بينهما مودة شديدة ـ يشكو إليه ابن يعقوب ، ويقول : إنه هجا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فأمر أسعد ابن أخيه الخطاب بسجنه فسجنه ، وكان له في السجن اشعار كثيرة ، من التحريض والتوبيخ وغير

__________________

(١) ورقة ١٠٢.

(٢) صواب العبارة للأمير أبي الفتوح بن عبد الرحيم بن أبي يعفر إبراهيم بن محمد بن يعفر الحوالي.

١٥

ذلك ، وكان سجنه سببا لزوال ملك الناصر ، وقتل أخيه الحسن بن يحيى الهادي) ا ه.

وفي سنة ٣١٦ أثناء إقامته بصعدة اثناء ما وقع بينه وبين شعرائها ألف «شرح الدامغة» (١) ويظهر أن ابنه كان في منأى عما جرى على أبيه هذه الأيام من الأذى ، ولهذا نسب اليه ذلك الشرح ، وهي نسبة غير صحيحة ، وقد تكون متأخرة عن هذا العهد ، إذ عمر الهمداني سنة ٣١٦ لم يتجاوز ٣٧ وليس من المعقول أن يبلغ ابنه محمدا من العمر ما يؤهله لتأليف مثل ذلك الكتاب ، مع أن الهمداني لم يذكر محمدا في كلامه على أسرته في «الاكليل» (٢) مع أنه ذكر ابنه مالكا ، وقد يكون اسم محمد سقط من أصل المطبوعة ، فالهمداني يلقب نفسه بأبي محمد في مواضع كثيرة من كتبه ، مما يدل على أنه أكبر ابنائه.

لا شك ان «الدامغة» هي التي فتحت على الهمداني أبواب الطعن وسبل الاتهام ولهذا وصفه الزيديون بأنه كان سبّابا لأهل البيت ، وطعنوا في خلقه ، ورموه بالكذب ، كما في «طبقات الزيدية» (٣) : (أكثر تصانيفه لا يخليها من التعصب لقحطان على عدنان حتى خرج الى الكذب ، وكان مشهورا بالكذب في الأنساب مع معرفته بها .. ومن كذبه أنه ذكر في بعض مصنفاته في فضائل قحطان ، إنكاره دخول الحبشة اليمن وصنعاء ، وقال : العرب أرفع شأنا وأقوى مكانا من ان يدخلهم الحبشة ، وإنما دخلوا من ساحل جدة الى مكة) ا ه ، ومؤلف «الطبقات» هذه يحيى ابن الحسين من علماء الزيدية ، ومعروف ما يكون بين أصحاب المذاهب والنحل من الاختلاف الذي تنعدم معه معايير الحق والانصاف.

وقد أشار الهمداني في المقالة العاشرة من «سرائر الحكمة» الى سجنه إشارات ملخصها : أنه غضب عليه الملوك يوم الاثنين ٢٤ شوال سنة ٣١٩ ه‍ وأدخل السجن ، وأجريت الايمان والعهود بالله أن لا يخرج إلا على لوحه ميتا ، ثم فسح له في ابتناء مسكن يتسع فيه ، وسمح له بزيارة الاخوان وقضاء الحوائج في سبعة أشهر و ٢٤

__________________

(١) ١٠ / ١٩٨.

(٢) انظر الورقة ١٦٨ منها.

(٣) مخطوطة دار الكتب المصرية ٢٨ و ٦١.

١٦

يوما (١) ، وعندها أبدل بالقيود الثقال قيدا خفيفا ، ولم يزل الأمر على ذلك تسعة أشهر وأربعة أيام ونصف ، انهدم جانب حائط السجن ، فحوّل الى سجن القاضي وأصحاب الديون ، فصار كأنه في معزل ، وبعد ٢٤ يوما أطلق من القيد الخفيف ، وزادت الحال به فرجة ، فنقل من السجن العظيم الى ما هو في عداد المنزل ، فنقل من بلد الى بلد ، وطيف به مصفدا الى موضع غربة ، فلقي من ذلك الأمرّين ، وذلك من مدخله السجن صعب الأمر ، وتأربت عقدة السجن ، ووقع اليأس ، وتأكد الملوك في تعميره في السجن ، وعلى سبعة عشر شهرا وثمانية عشر يوما وجّهت أموره ، وذلك على ٢١ شهرا وستة أيام ، فنفذت فيه الشفاعة ، فلما كان يوم الأحد ٢٧ شعبان سنة ٣٢١ أذن باطلاقه فأطلق. ثم ردّ الى السجن ثانية ، فلم يمض فيه يوما ثم أطلق فخيرّ ، ثم اطلق من الموضع ، وبعث به مغرّبا مع حفظة اينما وصلوا من قرية سجنوه ، فأقام على ذلك ثمانية أيام ، ثم فلت من النهج الذي قصد به نفسه ، وذلك بعد ٦٤٩ يوما تكون شهورا تامّة ٢١ شهرا و ١٩ يوما. ويفهم مما تقدم أن الهمداني هرب من السجن ، مع أنه نصّ في «الاكليل» (٢) ان الناصر لما قام آل أبي فطيمة مطالبين باخراج الهمداني من السجن فتح له ، فرضوا ووادعوه حتى صحّ لهم أن إطلاق الهمداني كان من جهة ابن زياد صاحب زبيد ، فلعل ابن زياد هذا ساعد على هرب الهمداني من السجن.

وقد فصّل الهمداني في «الاكليل» (٣) أثر سجنه في زوال ملك الناصر ، وقتل أخيه الحسن في وقعة الباطن ، وأن قلب الناصر انفلق فأقام أياما يسيرة ثم توفي ، وأورد بعض أشعاره ، ويظهر أنه شارك في بعض الوقعات التي جرت بين الناصر وبين القبائل الهمدانية التي ثارت ضده (٤) ، حمّية للهمداني. ويظهر أن الهمداني منذ أن حلّ بصعدة عائدا من مكة حتى سنة ٣٢٢ لم يتمتع بالراحة ، فقد أمضى أول الوقت في خصامه مع الشعراء ، وما بين سنتي ٣١٩ و ٣٢١ في السجن ، وفي سنة ٣٢٢ في حروب مع القبائل الثائرة على الناصر ..

__________________

(١) ٩٧ / ٩٨ / ٩٩.

(٢) ١ / ٣٣١.

(٣) ١ / ٣٢٩ / ٣٤٣.

(٤) صوابه بين الناصر وبين قبائل من خولان قضاعة ومن همدان بقيادة الأمير حسان بن عثمان الحوالي.

١٧

وقد أوضح الهمداني أنه أقام في صعدة عشرين سنة (١) ونرى أن هذه المدة كانت قبل سجنه سنة ٣١٩ ـ أي أنه عاد من مكة بعد سنة ٣٠٧.

مفتاح شخصية الهمداني : الدارس لكل ما يتصل بحياة الهمداني يجد أن تعصبه لقومه أو للقحطانية عامة ، المنفذ الواسع لدراسة أحوال الهمداني ، ومن هذه الناحية نجد أن كل نقد يمكن أن يوجّه اليه يلج من هذا الباب الواسع الذي بقي مفتوحا الى عصرنا الحاضر ، حيث نجد أشعارا لشعراء معاصرين من اليمن ولجوا هذا الباب ، وليس من غرضنا ـ في هذه الترجمة الموجزة ـ التوسع في أمر لا نرى التوسّع فيه ، بل نرى إغلاقه ، فكم جرّ على الأمة العربية من كوارث ومحن ، ولكن من يريد أن يدرس حياة هذا العالم اليمني لا يستطيع إغفال هذا الجانب الذي لن تتضح معالم شخصيته بدون إشباع القول فيه. ويضاف إلى هذا اتساع آفاق المعرفة عند الهمداني اتساعا يدعو الى الاستغراب والدهشة ، بالنسبة لرجل عاش في بقعة توشك أن تكون في ذلك العهد منعزلة عن العالم ، ولكنّ هذا الرجل استطاع ان يمتح من كل علم من علوم عصوره بالدّلاء الملاء ، ومن هنا تتسع جوانب الدراسة فتشمل كل ما عرف في ذلك العصر من معارف وفنون وعلوم. ولا يكون من المبالغة القول بأن هذا العالم طرق آفاقا لا يجد الباحثون بين من طرقوها في البلاد العربية أحدا غيره ، ومن هنا تبرز أهمية دراسة كل ما يتصل بحياته العلمية.

ولئن كان المتقدمون قد يطلقون القول جزافا عند ما يترجمون أحدا من العلماء في تلك العصور المتقدمة ، الا أن الباحث عند ما يسبر الأغوار التي ذكروها ، ويحاول تطبيقها على واقع ذلك المترجم ـ بالنسبة للهمداني ـ يحس بكثير من القناعة والاطمئنان.

لقد قالوا عن الهمداني : (لم يولد في اليمن مثله علما وفهما ولسانا وشعرا ، ورواية وذكرا ، وإحاطة بعلوم العرب من النحو واللغة والغريب والشعر والأيام والأنساب والسير والأخبار والمناقب والمثالب ، مع علوم العجم من النجوم والمساحة

__________________

(١) «الاكليل» ١ / ١٩٩.

١٨

والهندسة والاستنباطات الفلسفية والأحكام الفلكية (١)) وقال القفطي في «أنباه الرواة» : (الأديب النحوي الطبيب المنجم الأخباري اللغوي ، نادرة زمانه وفاضل أوانه ، الكبير القدر الرفيع الذكر صاحب الكتب الجليلة والمؤلفات الجميلة ، لو قال قائل : انه لم يخرج اليمن مثله لم يزلّ. لأن المنجم من أهلها لا خطر له في الطب ، والطبيب لا يد له من الفقه ، والفقيه لا يد له من علم العربية وأيام العرب وأنسابها وأشعارها ، وهو قد جمع هذه الأنواع). هذا بعض ما قالوا ، فلنحاول التثبت من صحة ما قالوا.

الهمداني الجغرافي : لعل أهم أثر للهمداني في علم الجغرافية كتابه «صفة جزيرة العرب» فبه اعتبر (من فحول الجغرافيين الذين تضلعوا من هذا العلم ، ونقبوا في غرائبه ونوادره) كما يقول الأستاذ سليمان الندوي (٢). وهذا القول ينطبق على ما يتعلق باليمن ـ بلد الهمداني ، فهو يكتب ما يكتب عن رؤية ومعرفة وأما الأجزاء البعيدة عن اليمن فعن نقل ، ولهذا وقع فيما وقع فيه غيره.

الهمداني النسابة : كل من يطالع ما كتب الهمداني عن أنساب القبائل اليمنية في «الاكليل» و «صفة الجزيرة» يدرك أنه في هذا العلم بلغ شأوا لم يبلغه غيره ممن كتب عن أنساب تلك القبائل ، فهو كما وصفه الحافظ عبد الغني بن سعيد (٣) : (عليه المعول في أنساب الحميريين). ولشهرة الهمداني بعلم النسب كان يوصف بالنسّابة كما نرى فيما وصل الينا من كتاب مسلم اللحجي المتوفى سنة ٥٤٥ وهو ممن ترجمه كما يفهم من الجزء الرابع من كتابه (٤) فقد نص على أن ترجمته في الجزء الأول منه ، والأجزاء الثلاثة التي وصلت الينا من «الاكليل» وهي الأول والثاني والعاشر أو في ما عرفناه عن أنساب القبائل اليمنية ، ولولاهما لفقدنا جانبا عظيما من هذا العلم.

الهمداني الأثري : للهمداني أهمية عظيمة عند علماء اللغات والمنقبين عن الآثار القديمة لذكره في كتبه الكتابات العتيقة بالخط المسند الحميري ونقوش الأحجار ،

__________________

(١) «الدر الكمين بذيل العقد الثمين» لابن فهد ـ مخطوطة رامبوز الهند الورقة ١٠٢ ـ عن الكلاعي ، والكلاعي ترجمه القفطي في «المحمدون من الشعراء» وانظر طراز أعلام الزمن للخزرجي.

(٢) مجلة «الضياء» التي كانت تصدر في لكنو ، الهند ، ج ٧ الصادر في رجب سنة ١٣٥١ ه‍ ـ ص ٦.

(٣) «تاج العروس» مادة ـ ق ر أ.

(٤) مخطوطة باريس. تبين لنا أخيرا أن الكتاب المعنون باسم تاريخ مسلم اللحجي لمكتبة باريس أنه روضة الحجوري وليس لمسلم.

١٩

كما يفعل علماء أوروبا الباحثون عن الآثار القديمة ـ هذا ما قاله الأستاذ سليمان الندوي (١) رئيس دار المصنفين بأعظم كر ، وكأنه اعتمد في هذا على ما جاء في كتاب «الاكليل» للهمداني حيث رسم صور الحروف الأبجدية بالمسند مع ما يقابلها بالعربية ، وأورد نماذج كتابات قال إنها موجودة في مواضع ذكرها. ويبدي بعض الباحثين من المتأخرين الشك في معرفة الهمداني للكتابة الحميرية (٢) ، غير أن قراءة النصوص التي أوردها في «الاكليل» ولا يتسع المجال لذكرها ـ تدل على معرفته التامة. ويحسن الرجوع لما كتبه الدكتور جواد علي في كتاب «المفصل في تاريخ العرب» ـ ١ / ٩٠ ـ ٩٩ ـ.

وقال أغناطيوس كراتشكوفسكي : (ولم يكن جغرافيّا فحسب بل وخبيرا كبيرا بأنساب العرب ، وتاريخ الجزيرة العربية خاصّة آثارها القديمة (Archaeclogy) وهو أمر نادر بين العرب ، ومما يدعو الى الدهشة حقا أنه استطاع فك رموز الكتابة العربية القديمة في جنوب الجزيرة) (٣).

الهمداني الفيلسوف : يقول صاعد الأندلسي في كتاب «طبقات الأمم» عن العرب : (وأما علم الفلسفة فلم يمنحهم الله منه شيئا ، ولا هيّأ طباعهم للعناية به ، ولا أعلم أحدا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي وأبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني). وكأن الأستاذ العقاد (٤) أخذ بهذا ، وبكلام صاعد أيضا عن كتاب «سرائر الحكمة» للهمداني إذ وصف الهمداني بأنه (محيط بمباحث الفلسفة عن أصل العالم وقواعد المنطق والكلام) ومهما يكن حظ الهمداني من هذا الجانب من العلم إلا أن رجلا عاش جمّالا ، ثم تلقى علم الحديث والفقه في مكة المكرمة ، ثم أكمل بقية حياته في قطر منعزل عن العالم يستكثر منه أن يبلغ في هذا الجانب ما بلغ ، ولا نستطيع الحكم على ما بلغه إذا لم نطلع على كتابه «سرائر الحكمة».

__________________

(١) مجلة «الضياء» ص ٧ جزء رجب ١٣٥١.

(٢) مجلة «الرسالة» ع ٨٦٨ ص ٢١٢ في ٣ / ٥ / ١٣٦٩ ه‍.

(٣) «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» ص ١٧٠.

(٤) «أثر العرب في الحضارة الأوروبية» ص ٢٧.

٢٠