الزبدة الفقهيّة - ج ٤

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي

الزبدة الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٥
ISBN: 964-8220-35-2
ISBN الدورة:
964-6307-53-1

الصفحات: ٦٨٠

وهو الذي تراضى به الخصمان ليحكم بينهما مع وجود قاض منصوب من قبل الإمام عليه‌السلام وذلك في حال حضوره (١) فإن حكمه ماض عليهما ، وإن لم يستجمع جميع هذه الشرائط (٢).

هذا مقتضى العبارة ، ولكن ليس المراد أنه يجوز خلوه منها أجمع ، فإن استجماعه لشرائط الفتوى شرط إجماعا ، وكذا بلوغه ، وعقله ، وطهارة مولده ، وغلبه حفظه ، وعدالته ، وإنما يقع الاشتباه في الباقي (٣) ، والمصنف في الدروس قطع بأن شروط قاضي التحكيم هي شروط القاضي المنصوب أجمع من غير استثناء ، وكذلك قطع به المحقق في الشرائع ، والعلامة في كتبه وولده فخر المحققين في الشرح ، فإنه قال فيه (٤) : التحكيم الشرعي هو أن يحكّم الخصمان

______________________________________________________

ـ الأكثرون). والأصحاب طبقوا هذا الفرع على أصولنا أيضا ، ولكن بناء عليه لا يجري النزاع عندنا في قاضي التحكيم في حال الغيبة بعد اشتراط رجوع المتخاصمين إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، وذلك لأن البحث في قاضي التحكيم هو البحث في نفوذ حكم الفقيه غير المأذون بالقضاء من قبل المعصوم مع أن كل فقيه عندنا مأذون بالقضاء من قبل المعصوم لأدلة التنصيب المتقدمة.

ولذا قال الشارح في المسالك : (واعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوص من الشرائط التي من جملتها كونه مجتهدا ، وعلى هذا فقاضي التحكيم مختص بحال حضور الإمام ليفرق بينه وبين غيره من القضاة ، بكون القاضي منصوبا وهذا غير منصوب من غير الخصمين ، أما في حال الغيبة فسيأتي أن المجتهد ينفذ قضاؤه لعموم الإذن ، وغيره لا يصح حكمه فلا يتصور حالتها ـ حالة الغيبة ـ قاضي التحكيم) انتهى. بل إن البحث في قاضي التحكيم على النزاع المتقدم مختص بحال بسط يد المعصوم وأنه هو الحاكم وقد نصّب في كل بلدة قاضيا ، وأما حال الحضور مع عدم بسط يده فكل مجتهد ينفذ قضاؤه لعموم الإذن وعليه فلا يتصور قاضي التحكيم مع عدم البسط والنفوذ.

(١) حضور المعصوم عليه‌السلام.

(٢) بل هو مستجمع لجميع الشرائط المعتبرة إلا إذن المعصوم بالقضاء.

(٣) من الحرية والنطق والسمع والبصر وهي محل شك في القاضي المنصوب أيضا بل الدليل على عدم اشتراطها.

(٤) أي في شرح القواعد.

٨١

واحدا جامعا لشرائط الحكم سوى نصّ من له توليته شرعا (١) عليه بولاية القضاء.

ويمكن حمل هذه العبارة على ذلك بجعله استثناء من اعتبار جميع الشرائط كلها التي من جملتها توليته المدلول عليه بقوله أولا أو نائبه ، ثم قوله : وتثبت ولاية القاضي الخ ، ثم ذكر باقي الشرائط فيصير التقدير أنه يشترط في القاضي اجتماع ما ذكر إلا قاضي التحكيم فلا يشترط فيه اجتماعه (٢) ، لصحته (٣) بدون التولية ، وهذا هو الأنسب بفتوى المصنف والأصحاب (٤).

ويمكن على بعد أن يستثنى من الشرط المذكور أمر آخر بأن لا يعتبر المصنف هنا فيه (٥) البصر والكتابة ، لأن حكمه في واقعة ، أو وقائع خاصة يمكن ضبطها بدونهما ، أو لا يجب عليه ضبطهما ، لأنه قاضي تراض من الخصمين فقد قدما على ذلك ، ومن أراد منهما ضبط ما يحتاج إليه أشهد عليه ، مع أن في الشرطين خلافا في مطلق القاضي (٦) ، ففيه أولى بالجواز ، لانتفاء المانع الوارد في العام (٧) بكثرة الوقائع ، وعسر الضبط (٨) بدونهما ، وأما الذكورية فلم ينقل أحد فيها خلافا ويبعد اختصاص قاضي التحكيم بعدم اشتراطها وإن كان محتملا ، ولا ضرورة هنا إلى استثنائها (٩) لأن الاستثناء (١٠) هو المجموع لا الأفراد.

______________________________________________________

(١) والمعصوم هو الذي حق توليته شرعا على القضاء.

(٢) أي اجتماع جميع الشرائط.

(٣) أي لصحة الاستثناء.

(٤) وهو المتعين هنا في حمل العبارة.

(٥) أي لا يعتبر المصنف في اللمعة في قاضي التحكيم.

(٦) حمل عبارة المصنف على ذلك خلاف الظاهر.

(٧) أي القاضي العام المنصوب من قبل المعصوم ، فعلى فرض اشتراطهما في القاضي المنصوب يكون الاشتراط لكثرة الوقائع الموجبة للبصر حتى يميّز بين الخصوم ، والموجبة للكتابة حتى يسهل ضبط الأحكام وما يرد عليه من الوقائع وخصوصياتها ، إلا أن هذا منفي في قاضي التحكيم لعدم الوقائع الكثيرة ، بل هي واقعة خاصة يسهل معرفة حكمها وماله الدخل في تشخيصها من دون اضطرار إلى الكتابة ، ويسهل التمييز بين المتخاصمين فلا داعي لاشتراط البصر.

(٨) عطف على (المانع).

(٩) أي استثناء الذكورية بعد كون دليلها مطلق يشمل القاضي المنصوب وغيره.

(١٠) في عبارة المصنف.

٨٢

واعلم أن قاضي التحكيم لا يتصور في حال الغيبة مطلقا (١) ، لأنه إن كان مجتهدا نفذ حكمه بغير تحكيم ، وإلا لم ينفذ حكمه مطلقا إجماعا ، وإنما يتحقق (٢) مع جمعه للشرائط حال حضوره عليه‌السلام وعدم نصبه كما بيناه. وقد تحرر من ذلك : أن الاجتهاد شرط في القاضي في جمع الأزمان والأحوال ، وهو موضع وفاق. وهل يشترط في نفوذ حكم قاضي التحكيم تراضي الخصمين به بعده (٣) قولان : أجودهما العدم عملا بإطلاق النصوص.

(ويجوز ارتزاق القاضي من بيت المال مع الحاجة) (٤) إلى الارتزاق لعدم المال ،

______________________________________________________

(١) أي أبدا.

(٢) أي قاضي التحكيم.

(٣) أي هل يشترط في نفوذ حكمه تراضي الخصمين بالقاضي بعد الحكم أو لا؟ لا خلاف في اعتبار رضا الخصمين بحكمه قبل تمام الحكم فلو رجعا أو رجع أحدهما قبل الحكم فلا ينفذ حكمه ، وإنما الخلاف في اعتبار رضاهما بعد الحكم ، والمشهور على العدم تمسكا بإطلاق الأدلة على لزوم الحكم في مطلق القاضي كما في مقبولة عمر بن حنظلة (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله) (١) ، ونقل في المسالك عن بعض العامة قولا باعتبار رضاهما بعده ، لأن رضاهما كما هو معتبر في أصل الحكم كذلك هو معتبر في لزومه ، وهو ضعيف للاطلاق المتقدم بعد تحقق الرضا بالمرافعة عنده.

(٤) الفرق بين الأجرة والارتزاق أن الأجرة تحتاج إلى تقدير العمل والعوض وضبط المدة ، والارتزاق منوط بنظر الحاكم من غير أن يقدر بقدر.

فيحرم على القاضي الأجرة على المشهور ، لأن القضاء واجب وهو مناف لأخذ الأجرة خصوصا إذا تعين عليه عند الانحصار ، وذهب العلامة في المختلف إلى جواز أخذ الأجرة مع عدم التعين ، وذهب المفيد والقاضي إلى الجواز مطلقا ، والبحث في أجرة القاضي هو من صغريات مسألة جواز أخذ الأجرة على الواجبات وسيأتي التعرض لها في باب المكاسب إن شاء الله تعالى. وعلى فرض المنع فيجوز للقاضي الارتزاق من بيت المال ، لأن بيت المال معدّ لمصالح المسلمين ، والقضاء من أهمها لتوقف نظم أمور المسلمين عليه ، ولمرسلة حماد عن العبد الصالح الواردة في تقسيم الخمس والانفال والغنائم ـ إلى ـ

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ١.

٨٣

أو الوصلة إليه ، سواء تعين القضاء عليه أم لا ، لأن بيت المال معد للمصالح وهو من أعظمها. وقيل : لا يجوز مع تعينه عليه لوجوبه ، ويضعف بأن المنع حينئذ من الأجرة لا من الرزق ، (ولا يجوز الجعل) ، ولا الأجرة (من الخصوم) ، ولا من

______________________________________________________

ـ أن قال ـ : (ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله ، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة) (١) ، وما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في عهده إلى مالك الأشتر حين ولاه على مصر وأعمالها إلى أن قال : (واختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ، ثم ذكر صفات القاضي ، ثم قال : وأكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيح علته وتقلّ معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره) (٢) ، وخبر الدعائم عن علي عليه‌السلام (أنه قال : لا بد من إمارة ورزق للأمير ، ولا بدّ من عريف ورزق للعريف ، ولا بدّ من حاسب ورزق للحاسب ، ولا بدّ من قاض ورزق للقاضي ، وكره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم ولكن من بيت المال) (٣) ، وخبر الجعفريات عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام (من السحت ثمن الميتة ـ إلى أن قال ـ والرشوة في الحكم وأجر القاضي إلا قاض يجرى عليه من بيت المال) (٤) وعن بعضهم عدم جواز الارتزاق مع تعين القضاء عليه لمنافاة الوجوب لأخذ العوض عليه ، وفيه : إنه يتم في الأجرة التي هي العوض دون الارتزاق فضلا عن الأخبار المتقدمة وعلى الأشهر كما في المسالك عدم جواز الارتزاق مع عدم الحاجة ويدفعه إطلاق مرسلة حماد وخبر الدعائم.

ثم المستفاد من النصوص المتقدمة أن بيت المال معدّ لمصالح المسلمين وما فيه تقوية الإسلام ، وعليه فكل من يشتغل بمصلحة من مصالح المسلمين أو بمصلحة فيها تقوية الإسلام كالجهاد ، وكان هذا الاشتغال مانعا عن التكسب فيجوز له الارتزاق كالجند والوالي والقاضي وأئمّة الجماعات والمؤذن وخازن بيت المال والمدرّس للعلوم الشرعية والقرآن والأخلاق والآداب الحسنة ، وصاحب الديوان ، والمراد منه من بيده الكتاب الذي يجمع فيه أسماء الجند والقضاة والمدرسين وغيرهم ممن يعيشون بالارتزاق من بيت المال.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ٢ و ٩.

(٣) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٥٣٨.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ٤.

٨٤

غيرهم ، لأنه في معنى الرشا (١).

(والمرتزقة) من بيت المال (المؤذّن ، والقاسم (٢) ، والكاتب) للإمام ، أو لضبط بيت المال ، أو الحجج ، ونحوها من المصالح ، (ومعلم القرآن والآداب) كالعربية ، وعلم الأخلاق الفاضلة ، ونحوها ، (وصاحب الديوان) الذي بيده ضبط القضاة والجند وأرزاقهم ونحوها من المصالح ، (ووالي بيت المال) الذي يحفظه ويضبطه ويعطي منه ما يؤمر به ونحوه ، وليس الارتزاق منحصرا فيمن ذكر ، بل مصرفه كل مصلحة من مصالح الإسلام ليس لها جهة غيره ، أو قصرت جهتها عنها (٣).

(ويجب على القاضي التسوية بين الخصمين (٤) في الكلام) معهما ، (والسلام) عليهما ، ورده إذا سلما ، (والنظر) إليهما ، (و) غيرها من (أنواع الإكرام) كالإذن في الدخول ، والقيام ، والمجلس وطلاقة الوجه ، (والإنصات) لكلامهما ،

______________________________________________________

(١) سيأتي بحثه في المكاسب المحرمة إن شاء الله تعالى.

(٢) الذي يقسم أموال بيت المال.

(٣) كما لو قصرت الزكاة عن حصة (الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا).

(٤) وإن تفاوتا شرفا ، فيساوي بينهما في السلام ورده والجلوس والنظر إليهما والكلام معهما والإنصات وغير ذلك من أنواع الإكرام ، كالإذن في الدخول وطلاقة الوجه لخبر سلمة بن كهيل (سمعت عليا عليه‌السلام يقول لشريح : ـ إلى قال ـ ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك من عدلك) (١) وخبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام (قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من أبتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة ، وفي النظر ، وفي المجلس) (٢) وبهذا الإسناد (أن رجلا نزل بأمير المؤمنين عليه‌السلام فمكث عنده أياما ثم تقدم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : أخصم أنت؟ قال : نعم ، قال : تحول عنا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه) (٣).

فالمشهور على الوجوب كما هو الظاهر من الأخبار ، والعلامة وسلار على الاستحباب لضعف سند هذه الأخبار فلا تصلح حينئذ إلا للاستحباب الذي يتسامح في أدلته ، وفيه : إنها منجبرة بعمل الأصحاب.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ١.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ١ و ٢.

٨٥

(والإنصاف) لكل منهما إذا وقع منه (١) ما يقتضيه ، هذا هو المشهور بين الأصحاب.

وذهب سلار والعلامة في المختلف إلى أن التسوية بينهما مستحبة عملا بأصالة البراءة ، واستضعافا لمستند الوجوب ، هذا إذا كانا مسلمين ، أو كافرين ، (و) لو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا كان (له أن يرفع المسلم على الكافر في المجلس) (٢) رفعا صوريا ، أو معنويا كقربه إلى القاضي أو على يمينه كما جلس عليّ عليه‌السلام بجنب شريح في خصومة له مع يهودي ، (وأن يجلس المسلم مع قيام الكافر). وهل تجب التسوية بينهما فيما عدا ذلك ظاهر العبارة وغيرها ذلك ، ويحتمل تعدّيه (٣) إلى غيره من وجوه الإكرام.

(ولا تجب التسوية) بين الخصمين مطلقا (٤) (في الميل القلبي) (٥) ، إذ لا

______________________________________________________

(١) أي من القاضي ، ويكون الشارح قد حمل الانصاف على معنى الاعتذار لو صدر منه ما يقتضيه ، مع أنه يمكن حمله على ردع أحد الخصمين لو صدر منه ما يوجبه كما لو صدر من أحد الخصمين شدة على خصمه.

(٢) فيجوز أن يكون المسلم قاعدا (والذمي) قائما ، أو أن تكون منزلة المسلم أعلى كما لو كان على يمين القاضي أو أقرب إلى القاضي ، بلا خلاف فيه ، لما روته العامة (أن عليا عليه‌السلام جلس بجنب شريح القاضي في حكومة له مع يهودي في درع وقال : لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ، ولكن قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا تساووهم في المجلس) (١).

وأما بقية الأمور غير المجلس فهي باقية تحت العمومات السابقة من وجوب التسوية بين الخصمين.

(٣) أي امتياز المسلم على الكافر ، وفيه : إن دليل الاستثناء منحصر في المجلس كما هو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتقدم.

(٤) مسلمين أو كافرين أو مختلفين.

(٥) لأن التحكيم بالقلب متعذر ، ولما روته العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القسم بين نسائه : (هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك) (٢) يعني الميل القلبي.

__________________

(١) مغني ابن قدامة ج ١١ ص ٤٤٤.

(٢) سنن البيهقي ج ٧ ص ٢٩٨.

٨٦

غضاضة فيه على الناقص (١) ، ولا إدلال للمتصف ، لعدم اطلاعهما ، ولا غيرهما عليه. نعم تستحب التسوية فيه ما أمكن.

(وإذا بدر أحد الخصمين بدعوى سمع منه) وجوبا (٢) تلك الدعوى لا جميع ما يريده منها (٣) ، ولو قال الآخر كنت أنا المدعي لم يلتفت إليه (٤) حتى تنتهي تلك الحكومة ، (ولو ابتدرا) معا (سمع من الذي على يمين صاحبه) (٥) دعوى واحدة ،

______________________________________________________

ـ نعم في صحيح أبي حمزة الثمالي ما يدل على حرمة الميل القلبي ، فقد روى عن أبي جعفر عليه‌السلام (كان في بني إسرائيل قاض وكان يقضي بالحق فيهم ، فلما حضره الموت قال لامرأته : إذا أنا متّ فاغسليني وكفّنيني وضعيني على سريري وغطّي وجهي فإنك لا ترين سوء ، فلما مات فعلت ذلك ، ثم مكث بذلك حينا ، ثم إنها كشفت عن وجهه لتنظر إليه ، فإذا هي بدودة تقرض منخره ففزعت من ذلك ، فلما كان الليل أتاها في منامها ، فقال لها : أفزعك ما رأيت؟ قالت : أجل ، فقال لها : أما لئن كنت فزعت ، ما كان الذي رأيت إلا في أخيك فلان ، أتاني ومعه خصم له ، فلما جلسا إليّ قلت : اللهم اجعل الحق له ووجّه القضاء على صاحبه ، فلما اختصما إليّ كان الحق له ورأيت ذلك بيّنا في القضاء ، فوجهت القضاء له على صاحبه ، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحق) (١) ، وقد حمل على الحث على المراتب العالية ، أو أن المحرم هو الميل القلبي لأحدهما في الحكم لا في مقدماته كالنظر والجلوس والكلام ونحو ذلك ، أو على الوجوب عند الإمكان وهو نادر إلا ممن له نفس مطواعة لأوامر الله جل وعلا ، أو على الاستحباب وهو المستفاد من عبارة الشارح هنا وفي الأخير ضعف ظاهر إذ الاستحباب لا يوجب تركه العقاب.

(١) في الميل القلبي.

(٢) لأنه السابق ، والسابق أحق من غيره في جميع الحقوق المشتركة ، وهذا منها ، نعم تسمع منه هذه الدعوى للأسبقية ، ولا تسمع جميع الدعاوى التي يريد فتحها.

(٣) من الدعاوى.

(٤) لأنه مدعي بدعوى متأخرة فلا تسمع حتى تتم الدعوى السابقة ، وعليه الاجابة ، نعم بعد الانتهاء من الأولى ينتقل إلى الثانية.

(٥) وهو الكائن على يسار القاضي عند المواجهة لصحيح ابن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ١.

٨٧

ثم سمع دعوى الآخر لرواية محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، وقيل : يقرع بينهما لورودها لكل مشكل وهذا منه ، ومثله (١) ما لو تزاحم الطلبة عند مدرّس والمستفتون عند المفتي مع وجوب التعليم والإفتاء ، لكن هنا يقدم الأسبق ، فإن جهل ، أو جاءوا معا (٢) أقرع بينهم ، ولو جمعهم على درس واحد مع تقارب أفهامهم جاز ، وإلا فلا (٣) ، (وإذا سكتا) (٤) فله أن يسكت حتى يتكلما ، وإن شاء (فليقل : ليتكلم المدعي منكما ، أو تكلّما) ، أو يأمر من يقول : ذلك ، (ويكره تخصيص أحدهما بالخطاب) لما فيه من الترجيح الذي أقل مراتبه الكراهة.

(وتحرم الرشوة) (٥) بضم الراء وكسرها ، وهو أخذه مالا من أحدهما أو

______________________________________________________

ـ (قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقدم صاحب اليمين في المجلس بالكلام) (١) وقال في المسالك : (وهذه الرواية ليست صريحة في المدّعى إلا أن الأصحاب اتفقوا على إرادة ما ذكر منها) ، ومثلها صحيح ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض فقف عن يمينه ، يعني عن يمين الخصم) (٢) والتفسير ـ على ما هو المظنون ـ من الصدوق الذي أورد الخبر في الفقيه. والشيخ في الخلاف والمبسوط مال إلى القرعة وهو مذهب أصحاب الشافعي ، لأنها لكل أمر مشكل أو مجهول ، وفيه : أنه لا إشكال ولا اجمال بعد ورود النص المتقدم.

(١) أي ومثل التخاصم فالحق للأسبق ثم للقرعة ، والأسبقية للمجي‌ء هنا لا للقول ، هذا كله إذا كان العلم المطلوب تدريسه واجبا على المدرس وإلا فهو بالخيار يقدم من يشاء ، فيجوز له رد الأول حينئذ لعدم وجوب التدريس عليه.

(٢) ومنه يستكشف أن الأسبقية للمجي‌ء.

(٣) لأنه يكون ظلما لأحد الطرفين.

(٤) فيستحب له أن يقول : تكلما أو ليتكلم المدعي منكما ، لما في توجيه الخطاب إلى احدهما من إيحاش الآخر ، وهذا مناف لما تقدم من وجوب التسوية ، وهو يقتضي تحريم توجيه الخطاب إلى أحدهما كما هو ظاهر المبسوط والتحرير ، وعن المحقق وجماعة الكراهة وقال الشارح في المسالك (فإما أن يكون ذلك استثناء من السابق ـ أي وجوب التسوية ـ أو رجوعا عن الحكم.

(٥) الرشوة مثلثة الراء ، وهي من الكبائر بالاتفاق للأخبار.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ٢ و ١.

٨٨

منهما ، أو من غيرهما على الحكم (١) ، أو الهداية إلى شي‌ء من وجوهه (٢) ، سواء حكم لباذلها بحق أم باطل (٣). وعلى تحريمها إجماع المسلمين ، وعن الباقر عليه‌السلام ، أنه الكفر بالله ورسوله (٤)! وكما تحرم على المرتشي تحرم على المعطي ، لإعانته على الإثم والعدوان (٥) ، إلا أن يتوقف عليها تحصيل حقه فتحرم على المرتشي خاصة (٦) (فتجب إعادتها) (٧) مع وجودها ، ومع تلفها المثل ، أو القيمة ،

(وتلقين (٨) أحد الخصمين حجته) أو ما فيه ضرر على خصمه ، وإذا ادعى

______________________________________________________

ـ منها : خبر سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (الرشا في الحكم هو الكفر بالله) (١) وخبر جراح المدائنيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام (من أكل السحت الرشوة في الحكم) (٢) ، وصحيح عمار بن مروان المروي في الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام (فأما الرشا يا عمار في الأحكام فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣) ، والنبوي المروي في غوالي اللآلي (لعن الله الراشي والمرتشي ، ومن بينهما يمشي) (٤).

(١) كما هو مقيّد في الأخبار المتقدمة.

(٢) أي وجوه الحكم.

(٣) لاطلاق الأخبار المتقدمة.

(٤) وهو خبر عمار بن مروان عن أبي جعفر عليه‌السلام (فأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه ، وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٥) وهو ضعيف السند بسهل في الكافي ، وصحيح في التهذيب.

(٥) وللنبوي المتقدم.

(٦) لقاعدة الضرر الموجبة لرفع حرمة الرشوة على الدافع.

(٧) كل رشوة يأخذها القاضي سواء كان الدافع معذورا أو لا يجب ردها إلى صاحبها لبقائها على ملكه بعد كون الرشوة من السحت كما تقدم ، ولو تلفت ضمن القاضي ، لعموم النبوي (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (٦).

(٨) فيحرم على القاضي أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه بأن يعلمه دعوى ـ

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ٣ و ٧.

(٣) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٢.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ٨.

(٥) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب ما يكتسب به حديث ١.

(٦) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الغصب حديث ٤.

٨٩

المدعي (فإن وضح الحكم لزمه القضاء (١) ، إذا التمسه (٢) المقضي له) فيقول : حكمت (٣) ، أو قضيت ، أو أنفذت ، أو مضيت ، أو ألزمت ، ولا يكفي ثبت عندي ، أو أن دعواك ثابتة. وفي أخرج إليه من حقه ، أو أمره بأخذه العين ، أو التصرف فيها قول جزم به العلّامة ، وتوقف المصنف.

(ويستحب) له قبل الحكم (ترغيبهما في الصلح) (٤) فإن تعذر حكم بمقتضى الشرع ، فإن اشتبه أرجأ حتى يتبين ، وعليه الاجتهاد في تحصيله (٥) ، ويكره (أن يشفع) إلى المستحق (في إسقاط حق) (٦) ، أو إلى المدعي (في إبطال)

______________________________________________________

ـ صحيحة لم يكن في نفسه الدعوى بها ، أو يلقنه الإنكار بأصل الحق لئلا يصير مقرا ، أو يحسّ منه التردد فيحرضه على الإقامة ونحو ذلك ، لأنه نصب لسد باب المنازعة ، وفعله هذا يفتح بابها فيكون على خلاف الحكمة الباعثة.

نعم لا بأس بالاستفسار والتحقيق وإن اتفق تأديته في بعض الأحوال إلى اهتداء الخصم إلى ما يفيد في خصومته.

(١) لأنه ملزم بالقضاء بعد وضوح الحكم ، نعم إن اشكل عليه الحكم أخّره حتى ليتضح ولا حد له إلا الوضوح.

(٢) لأنه حق له وربما عدل عن حقه.

(٣) قال في الدروس : (يقول : حكمت أو قضيت أو أنفذت أو أمضيت أو ألزمت ، وقيل :يكفي ادفع إليه ماله ، أو أخرج إليه من حقه ، أو يأمره بأخذ العين وبيعها ، ولا يكفي أن يقول : ثبت عندي أو أن دعواك ثابتة) لعدم إنشاء الحكم في الأخير.

ولقد أجاد صاحب الجواهر حيث قال : (قلت : لا دليل على اعتبار لفظ خاص فيه ـ أي الحكم ـ فيكون المدار على كل ما دل على إنشاء معنى الحكم ، بل لا يبعد الاكتفاء بالفعل الدال على ذلك فضلا عن قول ثبت عندي مريدا به ذلك).

(٤) قال تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (١).

(٥) لسد باب المنازعات ، وهو واجب عليه حال كونه قاضيا.

(٦) بعد ثبوته أو ابطال دعوى قبل الثبوت لخبر الدعائم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أنه قال لأسامة بن زيد ، وقد سأله حاجة لبعض من خاصمه إليه : يا أسامة ، لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء ، فإن الحقوق ليس فيها شفاعة) (٢).

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١٢٨.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ٢.

٩٠

دعوى ، (أو يتخذ حاجبا وقت القضاء) (١) لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه (أو يقضي مع اشتغال القلب بنعاس ، أو هم ، أو غم ، أو غضب ، أو جوع) ، أو شبع مفرطين أو مدافعة الأخبثين ، أو وجع (٢) ولو قضى مع وجود أحدهما نفذ (٣).

القول في كيفية الحكم

(المدعي (٤) هو الذي يترك لو ترك) الخصومة وهو المعبر عنه بأنه الذي يخلّى

______________________________________________________

(١) للنبوي (من ولي شيئا من الناس فاحتجب دون حاجتهم احتجب الله تعالى دون حاجته وفاقته وفقره) (١).

(٢) أما الغضب فللنبوي (لا يقضي القاضي وهو غضبان) (٢) وهو من طرق العامة ، وخبر السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أبتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان) (٣) ومرفوع أحمد بن عبد الله رفعه عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لامرأته قال لشريح : (لا تشاور ـ تسارّ في نسخة أخرى ـ أحدا في مجلسك ، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان) (٤) ، ولما فيه من المخاطرة في الوقوع في الخطأ حال الغضب لأنه يفقده التروي في الحكم.

وأما الجوع فللنبوي (لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريّان) (٥) ، وأما الهم فللنبوي (لا يقضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب مخزون) (٦) ، ومن هذه الأخبار يتعدى إلى كل ما يوجب تغيير خلقه وشغل نفسه وتشويش فكره من وجع أو مرض أو خوف أو فرح شديدين أو ملل وضجر ، أو مدافعة الأخبثين أو حضور طعام ونفسه تتوق إليه.

(٣) بلا خلاف فيه لعموم ما دل على نفوذ حكمه وقد تقدم ، بعد حمل النصوص الدالة على النهي على القضاء عند الغضب وغيره على الكراهة لقصورها عن الحرمة لضعف أسانيدها.

(٤) وردت النصوص بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر كما سيأتي التعرض لها ، واختلف الأصحاب في تعريفهما.

فقيل : المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة ، ويعبر عنه بأنه لو سكت يسكت عنه ، ـ

__________________

(١) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٠١.

(٢) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٠٥.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب آداب القاضي حديث ١ و ٢.

(٥ و ٦) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٠٦.

٩١

وسكوته ، وقيل هو من يخالف قوله الأصل ، أو الظاهر ،

(والمنكر مقابله) في

______________________________________________________

ـ والمنكر في قباله ، وهو المنسوب إلى المشهور.

وقيل : المدعي من يدعي خلاف الأصل والمنكر في قباله.

وقيل : المدعي من يدعي خلاف الظاهر بأن يذكر أمرا خفيا ، والمنكر في قباله ، وقد نسب هذان القولان إلى القيل في جملة من الكتب.

وقيل : إنه لا حقيقة شرعية للفظ المدعي فيرجع فيه إلى العرف كما في الجواهر ، وما تقدم من التعاريف إنما يراد به تمييزه بذكر شي‌ء من خواصه وآثاره الغالبة عليه وهو الأقوى.

لكن المشهور على أن الخلاف بين الأقوال الثلاثة خلاف في معنى المدعي فهذه التعريفات قد تتفق وهو الأغلب كما لو ادعى زيد دينا في ذمة عمرو أو عينا في يده فأنكر الثاني ، فزيد مدع على الأول لأنه لو ترك الخصومة يترك ، وعلى الثاني لأنه يذكر خلاف الأصل ، لأن الأصل براءة ذمة عمرو من الدين وفراغ يده من حق الغير ، وعلى الثالث لأنه يذكر أمرا خفيا خلاف الظاهر ، إذ الظاهر براءة ذمة عمرو وفراغ يده من حق الغير.

وقد تختلف كما لو أسلم الزوجان قبل الدخول فقال الزوج : أسلمنا معا فالنكاح باق ، وقالت الزوجة : بل على التعاقب فلا نكاح ، فعلى الأول فالمرأة مدعية والزوج مدع لأنه لا يترك لو ترك فإنها تزعم انفساخ النكاح فعليه الحلف ويحكم بالاستمرار إذا حلف.

وكذا على الثاني فالمرأة مدعية لأن الأصل عدم تقدم أحدهما على الآخر ، وعلى الثالث فالزوج هو المدعي لأن التساوي الذي يزعمه أمر خفي على خلاف الظاهر فلو حلفت المرأة حكم بارتفاع النكاح.

هذا وقد عرفت أن التعاريف بصدد ذكر خواص المعرّف وآثاره وليست في مقام التحديد من مفهومه خصوصا بعد تعذر التعاريف الحقيقية إلا على علّام الغيوب ، وبعد عدم ثبوت الحقيقة الشرعية ولا بدية الرجوع إلى العرف هذا من جهة ومن جهة أخرى لو قيل إن المراد من الأصل هو الأصل العملي كالامارات المعتبرة من يد ونحوها والمراد من الظاهر هو الظاهر الشرعي فتتحد التعاريف الثلاثة بحسب المصاديق ولا اختلاف بينها كما هو واضح ، على أن تفسير الظاهر بالظاهر العرفي المعاش لا بالشرعي كما يستفاد من المثال المتقدم لا دليل عليه بوجه ، بل الدليل على خلافه لأن الظاهر الشرعي بنفسه دليل فلذا يطالب من يدعي عكسه بالبينة بخلاف العرفي المعاشي.

ومن جهة ثالثة تعرف الحكمة في جعل البينة على المدعي ، لأن قوله على خلاف الأدلة الشرعية من الأصول العملية والامارات المعتبرة فيطالب بالبينة لتجبر قوة البينة ضعف كلامه المدعى ، بخلاف المنكر فقوله موافق لهذه الأدلة فيكتفى مع قوة كلامه بالحجة الضعيفة وهي اليمين. ـ

٩٢

الجميع ، ولا يختلف موجبها غالبا ، كما إذا طالب زيد عمرا بدين في ذمته ، أو عين في يده فأنكر ، فزيد لو سكت ترك (١) ، ويخالف قوله الأصل (٢) ، لأصالة براءة ذمة عمرو من الدين ، وعدم تعلق حق زيد بالعين (٣) ، ويخالف قوله الظاهر (٤) من براءة عمرو ، وعمرو لا يترك (٥) ، ويوافق قوله الأصل والظاهر (٦). فهو مدعى عليه (٧) وزيد مدع على الجميع (٨).

وقد يختلف كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول فقال الزوج : أسلمنا معا فالنكاح باق ، وقالت : مرتبا فلا نكاح. فهي على الأولين مدعية ، لأنها لو تركت الخصومة لتركت واستمر النكاح المعلوم وقوعه والزوج لا يترك لو سكت عنها لزعمها انفساخ النكاح ، والأصل (٩) عدم التعاقب ، لاستدعائه (١٠) تقدم أحد الحادثين على الآخر والأصل عدمه (١١) ، وعلى الظاهر الزوج مدع ، لبعد التساوق فعلى الأولين يحلف الزوج ويستمر النكاح وعلى الثالث تحلف المرأة ويبطل (١٢) ، وكذا لو ادعى الزوج الإنفاق مع اجتماعهما (١٣) ويساره وأنكرته (١٤) فمعه الظاهر ،

______________________________________________________

(١) فهو المدعي على التعريف الأول.

(٢) فهو المدعي أيضا على التعريف الثاني.

(٣) التي تحت يد عمرو هذا إذا كانت موجودة ، ومع عدم وجودها فالأصل فراغ يده من حق الغير.

(٤) فهو المدعي أيضا على التعريف الثالث ، ومخالفة الظاهر بدعواه أمرا خفيا.

(٥) فهو المنكر على التعريف الأول.

(٦) فهو المنكر على القولين الأخيرين.

(٧) في جميع التعاريف.

(٨) أي جميع التعاريف وهذا مثال اتفاقها وهو الغالب.

(٩) تعليل لكونها مدعية على التعريف الثاني.

(١٠) أي عدم التقدم.

(١١) أي التعاقب.

(١٢) أي النكاح.

(١٣) أي الزوج والزوجة في دار واحدة.

(١٤) أي أنكرت الزوجة الإنفاق.

٩٣

ومعها الأصل (١)

وحيث عرف المدعي (٢) فادعى دعوى (٣) ملزمة معلومة (٤) جازمة (٥) قبلت

______________________________________________________

(١) فعلى تعريف الظاهر هي مدعية ، وعلى تعريف الأصل هو مدع ، وعلى التعريف الأول هي مدعية لأنها تترك لو تركت وقد تركه لوضوحه.

(٢) اعلم أنه يشترط فيه البلوغ والعقل لسلب عبارة الصبي والمجنون ، وأن يدعي لنفسه أو لمن له الولاية فلا تسمع دعواه مالا لغيره إلا أن يكون وليا أو وصيا أو وكيلا أو حاكما أو أمينا لحاكم لأصالة عدم وجوب الجواب لغيرهم ، وأن تكون دعواه ما يصح للمسلم تملكه فلا تسمع دعوى المسلم خمرا أو خنزيرا لعدم جواز تملكها ، بلا خلاف في هذه القيود الأربعة.

(٣) فلا بد من كونها صحيحة في نفسها فلا تسمع دعوى المحال عقلا أو عادة أو شرعا ، وهذا ما لم يذكره الشارح ، وأن تكون ملزمة للمدعى عليه وهو المعبر عنه باللازمة فلو ادعى هبة لم تسمع حتى يدعي الإقباض ، وكذا لو ادعى رهنا أو وقفا بناء على اعتبار القبض في صحة الأخيرين ، إذ لا حق له عليه بدون القبض بلا خلاف في هذه الشرط.

(٤) وأن تكون الدعوى معلومة ، كما عليه الشيخ وأبو الصلاح وابن زهرة وحمزة وإدريس والفاضل في تحريره وتذكرته والشهيد في الدروس كما لو ادعى فرسا أو ثوبا ولم يعيّن ، فلا تسمع لانتفاء فائدتها ، وإذ يتعذر حكم الحاكم بها حال كونها مجهولة فيما لو أجاب المدعى عليه بنعم.

وأشكل بأنه لا فرق بين الدعوى المجهولة والإقرار بشي‌ء مجهول ، مع قبولهم للاقرار بالمجهول وإلزام المقرّ بالتفصيل وأجاب الشيخ عنه بما حاصله : أنه لو اشترطنا التفصيل في قبول الإقرار للزم الرجوع عن الإقرار في بعض الأحوال مع أنه قد تعلق حق الغير به ، فلذا يقبل الاقرار بالمجهول ويكلف المقرّ بالتفصيل ، بخلاف الدعوى فعدم سماع الدعوى المجهولة لا يذهب حق المدعي لأنه مضطر لفتح الدعوى مع التفصيل فيما بعد ، وفيه إنه فرق ظاهري لا يصلح لتأسيس الحكم وعن المحقق وجماعة القبول وإن كانت مجهولة لإطلاق الأدلة ، ولأن المدعي ربما يعلم حقه بوجه كمن يعلم بوجود فرسه أو ثوبه عند الغير ولا يعلم صفتهما فلو لم يجعل له ذريعة إلى الدعوى لبطل حقه ، وأما تعيين صفات المدعي فيه فيلزم الخصم ببيانه ويقبل تفسيره بمسمى المدعي ويحلف على نفي الزائد لو ادعى عليه.

(٥) فلا تسمع لو قال : أظن أو أتوهم لأن الدعوى يلزمها في بعض الصور الحكم باليمين المردودة على المدعي أو بنكول المدعى عليه عن الحلف وهما غير ممكنين مع عدم الجزم بالدعوى من المدعي ، ولذا كان الجزم هو المعهود من الدعوى فلا تشمل الظن أو الوهم.

٩٤

اتفاقا. وإن تخلف الأول (١) كدعوى هبة غير مقبوضة ، أو وقف كذلك ، أو رهن عند مشترطه (٢) لم تسمع ، وإن تخلف الثاني (٣) كدعوى شي‌ء وثوب وفرس ففي سماعها قولان :

أحدهما : وهو الذي جزم به المصنف في الدروس العدم ، لعدم فائدتها (٤) ، وهو حكم الحاكم بها لو أجاب المدعى عليه بنعم ، بل لا بد من ضبط المثلي بصفاته ، والقيمي بقيمته ، والأثمان بجنسها ونوعها وقدرها ، وإن كان البيع (٥)

______________________________________________________

ـ ونقل المحقق عن شيخه نجيب الدين محمد بن نما سماع الدعوى غير الجازمة في التهمة ويحلف المنكر من غير أن يترتب عليها رد اليمين على المدعي لعدم إمكانه ، وردّ بأنها لا تسمى دعوى لعدم الجزم فيها.

وعن البعض منهم الشارح في الروضة هنا التفصيل بين ما يعسر الاطلاع عليه كالسرقة والقتل وبين ما لا يعسر الاطلاع عليه فيعتبر الجزم في الثاني دون الأول. وعن بعض سماع الدعوى الجازمة والمظنونة دون الوهمية ، وعن صاحب الجواهر سماع الدعوى مطلقا مع وجود التهمة ، والأخير هو الأقوى ويؤيده الأخبار.

منها : خبر بكر بن حبيب (قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه ، قال : إن اتهمته فاستحلفه ، وإن لم تتهمه فليس عليه شي‌ء) (١) وخبره الآخر عنه عليه‌السلام (لا يضمن القصار إلا من جنت يداه ، وإن اتهمته أحلفته) (٢) وخبر أبي بصير عنه عليه‌السلام (لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين ، فيخوّف بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا) (٣) ، وهي وإن كانت بصورة تحقق اليد المقتضية للضمان فلا تشمل سائر الدعاوى الظنية من غير تحقق اليد لكن يستفاد منها جواز الاحلاف مع التهمة مطلقا وهو المدعى ، نعم لا يخفى عليك مع عدم الجزم من المدعي لا يرد عليه اليمين المردودة.

(١) الإلزام في الدعوى.

(٢) أي مشترط القبض في الرهن.

(٣) العلم بالمدعى فيه.

(٤) أي فائدة الدعوى بالمجهول وذلك فلو أقر المدعى عليه بقوله : نعم وأراد الحاكم أن يحكم فبأي شي‌ء سيحكم ما دامت الدعوى مجهولة.

(٥) دفع توهم ، أما التوهم : فلم يحمل البيع على نقد البلد وفي الدعوى يلزم تعيين النقد ، ـ

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب الإجارة حديث ١٦ و ١٧ و ١١.

٩٥

وشبهه ينصرف إطلاقه إلى نقد البلد ، لأنه إيجاب في الحال وهو غير مختلف ، والدعوى إخبار عن الماضي وهو مختلف.

والثاني : وهو الأقوى السماع ، لإطلاق الأدلة الدالة على وجوب الحكم ، وما ذكر لا يصلح للتقييد ، لإمكان الحكم بالمجهول ، فيحبس حتى يبينه كالإقرار ، ولأن المدعي ربما يعلم حقه بوجه ما خاصة بأن يعلم أن له عنده ثوبا ، أو فرسا ، ولا يعلم شخصهما ، ولا صفتهما ، فلو لم تسمع دعواه بطل حقه ، فالمقتضي له موجود والمانع مفقود.

والفرق بين الإقرار والدعوى بأن المقر لو طولب بالتفصيل ربما رجع (١) ، والمدعي لا يرجع لوجود داعي الحاجة (٢) فيه دونه (٣) غير كاف في ذلك (٤) ، لما ذكرناه (٥) ، وإن تخلف الثالث وهو الجزم بأن صرح بالظن ، أو الوهم ففي سماعها أوجه أوجهها السماع فيما يعسر الاطلاع عليه كالقتل ، والسرقة ، دون المعاملات ، وإن لم يتوجه على المدعي هنا الحلف برد (٦) ، ولا نكول (٧) ، ولا مع شاهد (٨) ، بل

______________________________________________________

ـ والجواب أن البيع يحمل على النقد السائد لأن الحال أنهما تعاملا به وهو نقد البلد بخلاف الدعوى إذ يحتمل أنهما تعاملا بنقد غير هذه البلدة عند ما كانا في تلك البلدة ، وأيضا أن البيع منصرف إلى الزمن الحالي والنقد في الزمن الحالي هو نقد البلد بخلاف الدعوى فإنها إخبار عن الماضي وهو أزمنة متعددة فحملها على زمن خاص ساد فيه نقد خاص ترجيح بلا مرجح ، وهذا يتم فيما لو تعدد النقد في البلد ماضيا أما إذا قطعنا بعدم تغيره فيتعين الدليل الأول فقط.

(١) وبه إبطال حق الغير الذي ثبت بالاقرار فلذا يقبل الاقرار بالاجمال.

(٢) وهو طلب حقه فلو لم تسمع دعواه بالمجهول فيرجع ويفتح الدعوى بالتفصيل.

(٣) دون المقرّ.

(٤) في الفرق بين الاقرار والدعوى ليلزم اختلافهما بالحكم فيسمع الاقرار بالمجهول دون الدعوى به.

(٥) من اطلاق الأدلة ومن أن عدم سماع الدعوى المجهولة موجب لبطلان حق المدعي.

(٦) أي اليمين المردودة لعدم جزمه عند سماع دعواه غير الجازمة.

(٧) عند امتناعه عن اليمين المردودة ، لأنه يجب عليه الامتناع لعدم جزمه بما ادعاه فكيف يحلف عليه.

(٨) أي اليمين مع شاهد فكيف يحلف مع عدم جزمه.

٩٦

إن حلف المنكر ، أو أقر ، أو نكل وقضينا به (١) ، وإلا وقفت الدعوى. إذا تقرر ذلك فإذا ادعى دعوى مسموعة طولب المدعى عليه بالجواب.

(وجواب المدعى عليه (٢) إما إقرار) بالحق المدعى به أجمع ، (أو إنكار) له أجمع ، أو مركب منهما فيلزمه حكمهما ، (أو سكوت) وجعل السكوت جوابا مجاز شائع في الاستعمال فكثيرا ما يقال : ترك الجواب جواب المقال (٣) ، (فالإقرار يمضي) (٤) على المقر (مع الكمال) أي كمال المقر على وجه يسمع إقراره بالبلوغ ، والعقل مطلقا (٥) ، ورفع الحجر فيما يمتنع نفوذه به ، وسيأتي تفصيله ، فإن التمس المدعي حينئذ (٦) الحكم حكم عليه (٧) فيقول : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به.

______________________________________________________

(١) أي بنكول المنكر كما سيأتي.

(٢) أي ما يصدر منه حال الدعوى إما إقرار أو إنكار أو سكوت ولكل حكم وسيأتي إن شاء الله تعالى ، والسكوت قد اعتبر جوابا لأنه إذا أصر عليه المدعى عليه أعتبر نكولا فيردّ اليمين على المدعي ويحكم الحاكم به فيكون السكوت في حكم الإنكار حينئذ.

(٣) هذا من الناحية اللغوية ، وأما من الناحية الشرعية فقد عرفت أنه بحكم الإنكار مع الاصرار عليه.

(٤) لا خلاف في إن الاقرار نافذ إذا صدر من أهله المستجمع لشرائط صحته كما سيأتي تفصيله في بابه ، والاقرار يمضي هنا سواء حكم الحاكم به أو لا بخلاف البينة ، لأن البينة منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردها بخلاف الاقرار الصادر من أهله فإنه نافذ على المقر على كل حال كما عن المسالك وجماعة ، وفيه : إنه لا فرق بينهما في الاحتياج لحكم الحاكم في مقام فصل النزاع وقطعه ، كما أنه لا فرق بينهما في ثبوت الحق للمدعي إذا قامت البينة على ذلك أو أقر الخصم ، نعم هناك فرق غير فارق إذ الاقرار خفيف المئونة بل معدومها إذ يثبت من دون احتياج إلى إعمال اجتهاد الحاكم لأن حجيته معلومة ودلالة ألفاظه واضحة عرفا بخلاف البينة فيحتاج تحققها إلى اجتهادات من الحاكم غالبا ، نعم بعد تحققها عند الحاكم فلا فرق بينها وبين الاقرار في الاحتياج إلى حكم الحاكم في فصل الخصومة ولعله إلى هذا يرجع كلام الشارح في المسالك ، وإن كان بعيدا عن ظاهر كلامه.

(٥) وإن كان مجنونا بجنون أدواري لكن قد صدر إقراره حال تعقله.

(٦) أي حين الاقرار.

(٧) كما عليه الشيخ في المبسوط لأن الحكم به عليه حق للمدعي فلا يستوفى إلا بأمره ، وغيره على العدم لأنه من وظائف القاضي ، وحال المدعي من إحضار المدعى عليه ـ

٩٧

(ولو التمس) المدعي من الحاكم (كتابة إقراره كتب (١) وأشهد مع معرفته (٢) ، أو شهادة عدلين بمعرفته ، أو اقتناعه بحليته) (٣) لا بمجرد إقراره (٤) وإن صادقه المدعي ، حذرا من تواطؤهما على نسب لغيرهما ، ليلزما ذا النسب بما لا يستحق عليه ، (فإن ادعى الإعسار) (٥) وهو عجزه عن أداء الحق لعدم ملكه لما زاد عن

______________________________________________________

ـ للخصومة يغني عن المقال ، هذا وصورة الحكم ما تقدم من قوله : ألزمتها أو قضيت عليك أو ادفع إليه ماله ونحو ذلك قاصدا إنشاء الفصل بينها وإنشاء الحكم بذلك ، لا أن يقول ثبت عندي ونحو ذلك مما ليس فيه إنشاء الحكم للفصل بينهما.

(١) نسب الشارح في المسالك إلى الأشهر وجوب الكتابة على القاضي تارة وإلى المعروف بين الأصحاب تارة أخرى ، لأن ذلك حجة له فكان على القاضي إقامتها ، وفيه : إن الحجة له هو حكم القاضي والإشهاد عليه لا كتابة الحكم ، إلا إذا توقف حقه على الكتابة فتجب من باب المقدمة ، وعلى كل لو أجاب القاضي فلا يكتب حتى يعلم اسمه ونسبه على وجه يتشخص به عن غيره ، أو تقوم البينة بنسبه واسمه حتى يؤمن التدليس بجعل الاقرار لغير من وقع ، وكذا لو عرف القاضي بخصوصياته الخلقية المميّزة له عن غيره أو تقوم البينة على ذلك من أجل الأمن من التدليس.

(٢) أي معرفة القاضي للمدعي ، ولا داعي لضم الشهادة لمعرفة القاضي بنسب المدعي.

(٣) وهي الصفة المشخصة له.

(٤) أي اقرار المدعى عليه.

(٥) إذا كان المدعى به عينا موجودة عند المدعى عليه ، وقد أقرّ المدعى عليه بأنها للمدعي ألزم بردها بعد حكم الحاكم ، وأما إذا كان دينا في الذمة فإذا كان المدعى عليه المقرّ واجدا للمال ألزم به وإن امتنع أجبر عليه ، وإن ماطل وأصرّ على الامتناع جازت عقوبته بالتغليظ في القول ورفع الصوت عليه كأن يقول له : يا ظالم يا فاسق ، ثم يجوز حبسه وضربه حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأهون فالأهون لخبر المجاشعي عن الرضا عن آبائه عن علي عليه‌السلام (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لي الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته ، ما لم يكن دينه فيما يكره الله عزوجل) (١) ، وموثق عمار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام (أن عليا عليه‌السلام كان يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى باعه فيقسّمه بينهم) (٢).

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب الدين والقرض حديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب الحجر حديث ١.

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ وأما إذا كان المدعى به دينا في الذمة وادعى المقرّ الإعسار ، فإن علم القاضي إعساره أو صدقه المدعي على الإعسار انظر وفاقا للمشهور لقوله تعالى : (وَإِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ ، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١) ، ولخبر غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام (أن عليا عليه‌السلام كان يحبس في الدين فإذا تبين له حاجة وإفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالا) (٢) وخبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام (إن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها ، وكان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه وقال : إن مع العسر يسرا) (٣).

وعن الشيخ في النهاية أنه يدفع إلى غرمائه ليؤجره ويستعملوه لخبر السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام (أن عليا عليه‌السلام كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم واجروه ، وإن شئتم استعملوه) (٤) ، والعمل على الأول لأنه أشهر وأوفق بالكتاب.

وعن ابن حمزة أنه إذا لم يكن ذا حرفة خلّي سبيله ، وإلا دفع إلى الغريم ليستعمله جمعا بين الأخبار المتقدمة ، وفيه : إنه جمع تبرعي لا شاهد له. وإن لم يثبت إعساره فهل يحبس حتى يتبين حاله؟ فهنا لا تخلو المسألة من أنه إما أن يكون له مال ظاهر أو لا ، وعلى الثاني فقد يكون له أصل مال سابقا أو لا؟ وعلى الثاني إما أن تكون الدعوى مالا أو لا ، وفي الجميع ما عدا الأخير يحبس حتى يثبت إعساره ، لأنه في جميع هذه الصور ما عدا الأخير هو مدع للإعسار ولا بينة له ولم يصدقه المدعي الذي هو غريمه فلا بد من الحبس احتياطا لحق المدعي ولأن الأمير عليه‌السلام كما في الأخبار المتقدمة كان يحبس بمجرد الالتواء ولا يخرجه من السجن حتى يثبت إعساره ، وأما في الصورة الأخيرة فدعواه الإعسار موافقة للظاهر والأصل فهو المنكر عند عدم تصديق غريمه ، فلا يكلف البينة وللغرماء مطالبته باليمين فلو حلف فلا حبس لعموم صحيح جميل وهشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البينة على من ادعى ، واليمين على من أدعي عليه) (٥).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٠.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحج حديث ١ و ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر حديث ٣.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم حديث ١.

٩٩

داره وثيابه اللائقة بحاله ودابته وخادمه كذلك ، وقوت يوم وليلة له ولعياله الواجبي النفقة.

(وثبت صدقه) فيه (ببينة مطلعة على باطن أمره) مراقبة له في خلواته ، واجدة صبره على ما لا يصبر عليه واجد المال عادة حتى ظهر لها قرائن الفقر ، ومخايل الإضاقة ، مع شهادتها على نحو ذلك (١) بما يتضمن الإثبات (٢) ، لا على النفي الصرف (٣) ، (أو بتصديق خصمه) له على الإعسار ، (أو كان أصل الدعوى بغير مال) ، بل جناية أوجبت مالا ، أو إتلافا فإنه حينئذ يقبل قوله فيه (٤) ، لأصالة عدم المال ، بخلاف ما إذا كان أصل الدعوى مالا فإن أصالة بقائه (٥) تمنع من قبول قوله (٦) ، وإنما يثبت إعساره بأحد الأمرين : البينة ، أو تصديق الغريم

______________________________________________________

ـ هذا وعند كون المقرّ مدعيا للإعسار وأقام البينة على إعساره ، فإن شهدت البينة بتلف جميع أمواله قضي بها ولا يكلف باليمين ولو لم تكن البينة مطّلعة على باطن أمره بالصحبة المتأكدة لأنها بينة إثبات ، وأما لو شهدت بالإعسار مطلقا من دون تعرض لتلف ماله المعلوم أصله أو المعلوم بحسب الظاهر فلا تقبل ، لأنها بينة نفي وقد تكون مستندة على ظاهر حاله فلا بد من انضمام يمين المعسر دفعا للاحتمال الخفي وهو عدم اطلاعها على الواقع واصل المال وخفائه عنها ، وعن بعضهم ـ كما في المسالك ـ أنها تقبل من دون ضم اليمين لعموم على المدعي البينة واليمين على من أنكر.

نعم لو شهدت بالاعسار مطلقا وكانت لها خبرة واطلاع على باطن أمره بالمعاشرة الكثيرة فتقبل بلا خلاف من دون ضم اليمين لأنها وإن كانت بينة نفي بحسب الظاهر إلا أنها ملحقة ببينة الإثبات لأن من يكون من أهل الخبرة على باطن أمره بكثرة المخالطة وطول المجاورة وقد شهد بأنه معسر فهو يشهد بأنه لا يملك إلا قوت يومه وثياب بدنه ودابته وخادمه اللائقة بحاله وهذا إثبات لما ذكرناه ونفي لما عداه.

(١) من قرائن الفقر ومخايل الإضاقة.

(٢) من أنه لا يملك إلا ما هو ضروري له كما تقدم.

(٣) بأن تشهد بأنه لا يملك فهي شهادة نفي لا تقبل إلا إذا تضمنت إثباتا كما تقدم.

(٤) أي قول المقرّ بالإعسار ، لأن قوله موافق للأصل إذ الأصل عدم وجود المال عنده فهو منكر بالحقيقة لو لم يصدقه غريمه فيكتفي منه باليمين.

(٥) أي بقاء المال.

(٦) أي قول المدعى عليه بالاعسار.

١٠٠