الزبدة الفقهيّة - ج ٤

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي

الزبدة الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٥
ISBN: 964-8220-35-2
ISBN الدورة:
964-6307-53-1

الصفحات: ٦٨٠

عليه (١) كقوله : لأفعلن كذا إن شاء زيد ، فلو جهل الشرط لم ينعقد ، ولو أوقف حلّها عليه (٢) كقوله : إلا أن يشاء زيد انعقدت ما لم يشأ حلّها ، فلا تبطل إلا أن يعلم الشرط ، وكذا في جانب النفي كقوله : لا أفعل إن شاء زيد (٣) ، أو إلّا أن يشاء (٤) فيتوقف انتفاؤه (٥) على مشيئته (٦) في الأول (٧) ، وينتفي بدونها (٨) في الثاني (٩) فلا يحرم الفعل قبل مشيئته (١٠) ، ولا يحل قبلها (١١).

(ومتعلق اليمين (١٢) كمتعلّق النذر) في اعتبار كونه طاعة ، أو مباحا راجحا

______________________________________________________

ـ الصورة الثانية : أن يعلق الحل على مشيئة الغير ، بأن يقول : والله لادخلن الدار إلا أن يشاء زيد ، فاليمين منعقد إلا أن يشاء زيد عدم الدخول فينحل اليمين ، ولذا لو جهل تحقق الشرط يبقى اليمين على انعقاده.

الصورة الثالثة : أن يعلق عقد اليمين على مشيئة الغير ، وكان اليمين قد تعلق بالترك ، بخلاف الصورة الأولى فإنه قد تعلق بالفعل ، ومثاله كأن يقول : والله لا أدخل الدار إن شاء زيد ، فلا ينعقد إلا إذا شاء الغير ، أما مع عدم المشيئة أو الجهل بالشرط فلا ينعقد.

الصورة الرابعة : أن يعلق حلّ اليمين على مشيئة الغير وكان اليمين قد تعلق بالترك بخلاف الصورة الثانية فقد تعلق بالفعل ومثاله كأن يقول : والله لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد ، فاليمين منعقد ولو جهل الشرط إلا إذا شاء زيد الدخول فينحل اليمين.

(١) أي عقد اليمين على الغير ، وهذه هي الصورة الأولى.

(٢) الصورة الثانية.

(٣) الصورة الثالثة.

(٤) الصورة الرابعة.

(٥) أي انتفاء الفعل ، وهو الدخول في المثال.

(٦) أي مشيئة الغير ، وبه ينعقد اليمين.

(٧) أي الأول المذكور في جانب النفي وهو الصورة الثالثة.

(٨) أي ينتفي الفعل وهو الدخول في المثال بدون مشيئة الغير وبه ينعقد اليمين ، فاليمين في الصورة السابقة منعقد عند المشيئة وهنا منعقد عند عدم المشيئة.

(٩) أي الثاني المذكور في جانب النفي وهو الصورة الرابعة.

(١٠) في الأول ، وهو الصورة الثالثة ، فلا يحرم الفعل ـ أعني عدم الدخول ـ قبل مشيئة الغير.

(١١) في الثاني وهو الصورة الرابعة : فلا يحل الفعل ـ أعني عدم الدخول ـ قبل مشيئة الغير.

(١٢) أن يكون راجحا أو متساوي الطرفين وإلا فلو كان الرجحان في نقيضه لا ينعقد للأخبار الكثيرة. ـ

٦١

دينا ، أو دنيا ، أو متساويا ، إلا أنه إشكال هنا في تعلقها بالمباح ، ومراعاة الأولى فيها (١) ، وترجيح مقتضى اليمين عند التساوي.

وظاهر عبارته هنا عدم انعقاد المتساوي ، لإخراجه (٢) من ضابط النذر ، مع أنه لا خلاف فيه هنا كما اعترف به في الدروس ، والأولوية متبوعة (٣) ولو طرأت

______________________________________________________

ـ منها : صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام (الكفارة في الذي يحلف على المتاع أن لا يبيعه ولا يشتريه ثم يبدو له فيه فيكفر عن يمينه ، وإن حلف على شي‌ء والذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير ولا كفارة عليه ، إنما ذلك من خطوات الشيطان) (١) وصحيح زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام (سألته عما يكفّر من الإيمان ، فقال : ما كان عليك أن تفعله فحلفت أن لا تفعله ففعلته فليس عليك شي‌ء إذا فعلته ، وما لم يكن عليك واجبا أن تفعله فحلفت أن لا تفعله ثم فعلته فعليك الكفارة) (٢) وصحيحه الآخر عن أبي جعفر عليه‌السلام (كل يمين حلفت عليها لك فيها منفعة في أمر دين أو دنيا فلا شي‌ء عليك فيها ، وإنما تقع عليك الكفارة فيما حلفت عليه فيما لله فيه معصية أن لا تفعله ثم تفعله) (٣) وخبره الثالث عنه عليه‌السلام (كل يمين حلف عليها أن لا يفعلها ممّا له فيه منفعة في الدنيا والآخرة فلا كفارة عليه ، وإنما الكفارة في أن يحلف الرجل : والله لا أزني ، والله لا أشرب الخمر ، والله لا أسرق ، والله لا أخون ، وأشباه هذا ولا أعصي ، ثم فعل فعليه الكفارة فيه) (٤) ، وإنما الاشكال في المباح المتساوي الطرفين حيث يستفاد من خبري زرارة الأخيرين الترجيح في متعلق اليمين ، ولكن صدر صحيح عبد الرحمن ظاهر في المباح المتعلق ببيع المتاع وشرائه ، وكذا اطلاق صحيح زرارة الأول ، ولذا قطع الأصحاب بانعقاد اليمين هنا ـ كما في الجواهر ـ بخلاف النذر فإنه لا ينعقد فيه.

(١) أي إذا تعلق اليمين بالمباح متساوي الطرفين فيجب الوفاء باليمين عند بقاء التساوي وكذا لو ترجح متعلق اليمين فيما بعد ، وأما إذا صار نقيضه راجحا فتجب مخالفة اليمين.

(٢) أي إخراج المتساوي.

(٣) قال في المسالك : (واعلم أن الأولوية متنوعة فلو طرأت بعد اليمين انحلت ـ أي اليمين ـ فلو كان البرّ ابتداء ثم صارت المخالفة أولى اتبع ولا كفارة) انتهى ، وقال في الجواهر : (لا أجد فيه خلافا) وهو مقتضى اطلاق الأخبار المتقدمة وصريح أخبار غيرها. ـ

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الأيمان حديث ٥ و ٤.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ـ ٢٣ ـ من كتاب الأيمان حديث ٢ و ٣.

٦٢

بعد اليمين ، فلو كان البر أولى في الابتداء ثم صارت المخالفة أولى اتبع ولا كفارة ، وفي عود اليمين بعودها بعد انحلالها وجهان (١) ، أما لو لم ينعقد ابتداء للمرجوحية لم تعد (٢) وإن تجددت (٣) بعد ذلك (٤) مع احتماله (٥).

______________________________________________________

ـ منها : صحيح سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه‌السلام (عن الرجل يحلف على اليمين فيرى أن تركها أفضل ، وإن لم يتركها خشي أن يأثم ، قال : يتركها ، أما سمعت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها) (١) ، ومرسل ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك فهو كفارة يمينه وله حسنة) (٢) ، ومرسل ابن فضال عن أبي عبد الله عليه‌السلام (من حلف على يمين فرأى ما هو خير منها فليأت الذي هو خير منها وله حسنة) (٣).

(١) وجه العدم لارتفاع حكم اليمين عند تحقق الرجحان في نقيض متعلقه ، فلو ترجح متعلقه فيما بعد فيستصحب الارتفاع المذكور والعود بحاجة إلى دليل ، ووجه العود رجوع الرجحان الذي هو سبب في انعقاد اليمين أولا.

(٢) أي لم تنعقد اليمين لعدم انعقادها من أول الأمر حيث إنه يشترط عدم رجحان نقيض متعلق اليمين كما هو الظاهر من الأخبار المتقدمة.

(٣) أي الأولوية ، وإن وصلية.

(٤) بعد صدور اليمين.

(٥) أي احتمال انعقاد اليمين بسبب تجدد الأولوية ، وقال في الجواهر : (ولا ريب في ضعفه لظهور النصوص في عدم انعقاده من أول الأمر وأنه ليس بشي‌ء).

هذا واعلم أنه يشترط في الحالف البلوغ والعقل والاختيار والقصد لعين ما تقدم في الناذر ، فلا ينعقد يمين الصغير والمجنون والمكره والسكران والغضبان إلا أن يملك نفسه ، ويصح اليمين من الكافر إلا أنه لا يحلف إلا بالله كالمسلم ففي صحيح الحلبي (سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أهل الملل يستحلفون؟ فقال : لا تحلفوهم إلا بالله عزوجل) (٤) وخبر سماعة عنه عليه‌السلام (هل يصلح لأحد أن يحلف أحدا من اليهود والنصارى والمجوس بآلهتهم؟ قال : لا يصلح لأحد أن يحلف إلا بالله عزوجل) (٥) ومثلها غيرها.

وكذا ذهب البعض منهم الفاضل في الارشاد والشارح في المسالك توقف يمين الولد على إذن والده ، ويمين الزوج على إذن زوجها ، ويمين العبد على إذن سيده لصحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يمين للولد مع والده ، ولا ـ

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الأيمان حديث ١ و ٣ و ٤.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من كتاب الأيمان حديث ٣ و ٥.

٦٣

واعلم أن الكفارة تجب بمخالفة مقتضى الثلاثة (١) عمدا اختيارا (٢) ، فلو

______________________________________________________

ـ للملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها ، ولا نذر في معصية ولا يمين في قطيعة) (١) ومثله خبر ابن القداح (٢) وخبر أنس بن محمد (٣).

وذهب المشهور إلى أن إذنه ليس شرطا وإنما نهيه هو المانع ولذا كان له حله ، ولأن المستفاد من الأخبار أنّ الإذن إنما هو لحقوقهم ولذا يناسبه الثاني لا الأول.

والانصاف أن الظاهر من الأخبار هو نفي اليمين للثلاثة مع وجود مولاهم من الزوج والسيد والوالد ، وهو كما يحتمل نفيه

ابتداء إلا بإذنهم يحتمل نفيه استمرارا مع نهيهم ولا قرينة داخلية تعين أحدهم ، نعم لما كان وجوب الوفاء باليمين عاما يشمل اليمين ابتداء ولو من دون إذنهم فيتعين من باب الجمع بينه وبين هذه الأخبار أن تحمل هذه الأخبار على أن النهي مانع وليس الإذن شرطا ابتداء.

وهذا بخلاف النذر حيث ورد اشتراط الإذن ابتداء في المملوك والزوجة ، أمّا في المملوك فقد ورد خبر قرب الاسناد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه كان يقول : (ليس على المملوك نذر إلا أن يأذن له سيده) (٤) ، وفي الزوجة فقد ورد صحيح ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ، ولا نذر في مالها إلّا بإذن زوجها) (٥) وأما في الولد فلم يرد نص في إلحاقه بالمملوك والزوجة كما سمعت سابقا ، وعليه ففي اليمين لهم الحل وفي النذر إذنهم شرط ابتداء على خلاف المشهور حيث بحثوا في اليمين أولا وذهبوا إلى أن نهيهم مانع ثم ألحقوا النذر به كذلك ، وهو ليس في محله بعد اختلاف لحن الدليل بين اليمين والنذر ، ولم يلتفت إلى ذلك إلا صاحب الجواهر حيث قال : (هذا ولكن قد يفرّق بين المقام ـ أي النذر ـ وبين اليمين فيشترط الإذن هنا للخبرين ـ أي خبر قرب الإسناد وصحيح ابن سنان ـ في المملوك والزوجة الظاهرين في ذلك المنجبرين بعمل الأصحاب بخلاف مسألة اليمين التي قد عرفت خلو نصوصها عن الإذن أصلا ، وإنما الموجود «لا يمين لولد مع والده» إلى آخره ، وقد قلنا إنه ظاهر في المعارضة ، وإنه يقتضي أن له الحل لا أن الإذن شرط ، وبالجملة لا يخلو كلامهم هنا من تشويش ومنشأه الاجتهاد في مدرك المسألة ، وأنه نصوص اليمين بناء على شموله للنذر أو الخبران في خصوص الزوجة والمملوك ، فتأمل جيدا).

(١) من الطاعة والمباح الراجح والمتساوي.

(٢) لا اشكال في تحقق الحنث الموجب للكفارة بالمخالفة الاختيارية ولا خلاف.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من كتاب الأيمان حديث ٢ و ١ و ٣.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من كتاب النذر والعهد حديث ٢ و ١.

٦٤

خالف ناسيا ، أو مكرها ، أو جاهلا فلا حنث (١) ، لرفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، وحيث تجب الكفارة تنحل (٢) وهل تنحل في الباقي (٣) وجهان ، واستقرب المصنف في قواعده الانحلال ، لحصول المخالفة وهي لا تتكرر كما لو تعمد وإن افترقا بوجوب الكفارة وعدمها.

______________________________________________________

(١) لعموم النبوي (رفع عن أمتي تسع خصال : الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ، والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد) (١).

(٢) أي اليمين ، أي مع المخالفة العمدية الاختيارية الموجبة للكفارة تنحل اليمين لعدم تكرر المخالفة بمعنى لو حلف على عدم إيجاد طبيعة فعل ثم أوجدها في فرد فقد حنث وعليه الكفارة وتنحل اليمين لارتفاع موضوع اليمين بعد إيجاد الطبيعة في فرد ، فلو أوجدها في فرد آخر فلا حنث ولا كفارة لعدم تحقق المخالفة حينئذ.

(٣) أي في غير المخالفة الاختيارية العمدية ، وذلك عند المخالفة بسبب الجهل والنسيان والإكراه ، قال في المسالك : (هل ينحل اليمين أم لا فيه ـ في غير المخالفة العمدية ـ وجهان : أحدهما : نعم لوجود الفعل المحلوف عليه حقيقة فكان كما لو خالف عمدا وإن افترقا في الكفارة وعدمها ، فقد حصلت المخالفة وهي لا تتكرر ، فإذا خالف مقتضاها بعد ذلك لم يحنث ، وقد حكموا في الايلاء بأنه لو وطأ ساهيا أو جاهلا بطل حكم الإيلاء مع أنها يمين صريحة ـ إلى أن قال ـ ووجه العدم أن الاكراه والنسيان والجهل لم يدخل تحتها ـ أي تحت اليمين ـ فالواقع بعد ذلك هو الذي تعلقت به اليمين إلى أن قال ـ واستقرب الشهيد ره في قواعده الأول ونسبه إلى ظاهر الأصحاب).

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب جهاد النفس حديث ٣.

٦٥
٦٦

كتاب القضاء

٦٧
٦٨

(كتاب القضاء (١)

أي الحكم بين الناس (وهو) واجب ...

______________________________________________________

(١) قد ذكر أن القضاء لغة يطلق على معان :

منها : الخلق ومنه قوله تعالى : (فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ) (١).

ومنها : الاتمام ومنه قوله تعالى : (فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ) (٢).

ومنها : الأمر ومنه قوله تعالى : (وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ) (٣).

ومنها : الحكم ومنه قوله تعالى : (وَاللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) (٤).

وشرعا بأنه ولاية الحكم شرعا لمن له أصلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينين من البرية بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحقين.

ومبدأه الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا الثابتة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام المعصوم عليه‌السلام ، فلذا كان غصنا من هذه الشجرة وهو بحاجة إلى تنصيب من المعصوم ، والأصل فيه قوله تعالى : (يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ) (٥) ، وقوله تعالى : (إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ) (٦) وقوله تعالى : (فَلٰا وَرَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا ـ

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٢٣.

(٤) سورة غافر ، الآية : ٢٠.

(٥) سورة ص ، الآية : ٢٦.

(٦) سورة النساء ، الآية : ١٠٥.

٦٩

كفاية (١) في حق الصالحين له ، إلا أنه مع حضور الإمام (وظيفة الإمام عليه‌السلام (٢) ، أو نائبه) فيلزمه نصب قاض في الناحية (٣) ليقوم به ، ويجب على من عيّنه الإجابة (٤) ، ولو لم يعيّن وجبت كفاية ، فإن لم يكن أهلا إلا واحد تعينت عليه (٥) ، ولو لم يعلم به الإمام

______________________________________________________

ـ قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) وخبر سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام (اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين ، لنبيّ أو وصيّ نبيّ) (٢) وخبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (قال أمير المؤمنين لشريح : يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبيّ أو وصي نبيّ أو شقيّ) (٣).

وقد ورد التنصيب منهم عليهم‌السلام للفقيه الجامع للشرائط كما في مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (فإني قد جعلته عليكم حاكما) (٤) وخبر أبي خديجة (فإني قد جعلته عليكم قاضيا) (٥) ، وستأتي له تتمة إنشاء الله تعالى.

وغاية القضاء قطع المنازعة ، ومن خواصه عدم نقض الحكم بل يجب على غيره من القضاة تنفيذه ، إلا أن خطره عظيم إذ القاضي على شفير جهنم ففي الخبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام (القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنة ، رجل قضى بالجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة) (٦) ، ومرسل المقنعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين) (٧).

(١) لتوقف حفظ النظام الإنساني عليه ، وإلا لساد الهرج والمرج والفساد.

(٢) لما تقدم أن القضاء غصن من شجرة الرئاسة العامة في الدين والدنيا الثابتة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام ، قال الله تعالى : (فَلٰا وَرَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٨).

(٣) لتوقف حفظ النظام على ذلك ، وسياسة الأمور تقتضي ذلك أيضا.

(٤) لوجوب اطاعة أمر الإمام المعصوم عليه‌السلام.

(٥) أي تعينت الإجابة عليه للانحصار ، فإن امتنع فسق وخرج عن أهلية القضاء وإن كان لا يسقط الوجوب عنه لقدرته على تحصيل الشرط بالتوبة ، بل لو لم يعلم به الإمام المعصوم ـ

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٦٥.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٣ و ٢.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ١ و ٦.

(٦ و ٧) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٦.

(٨) سورة النساء ، الآية : ٦٥.

٧٠

لزمه الطلب ، وفي استحبابه (١) مع التعدد عينا قولان (٢) أجودهما ذلك مع الوثوق من نفسه بالقيام به (٣).

(وفي الغيبة ينفذ قضاء الفقيه (٤) الجامع لشرائط الإفتاء) وهي البلوغ

______________________________________________________

ـ وجب أن يعرفه نفسه ، لوجوب مقدمة الواجب ولكنه مبني على عدم علم المعصوم بالموضوعات الخارجية وهو مبنى ضعيف.

(١) أي استحباب الطلب ، فمن يثق من نفسه القيام بشرائط القضاء وكان واحدا فيجب عليه الاعلام بحاله لو لم يعلم الإمام بوجوده كما تقدم ، ولو كان أكثر من واحد فيجب عليهم الاعلام بحالهم كفاية ومتى قام واحد منهم على وجه اعتمد الإمام عليه سقط عن الباقين حينئذ وجوب الاعلام ، ولكن هل يستحب للباقين الاعلام بحالهم أو لا.

(٢) وهما وجهان كما في المسالك.

(٣) طلبا للأجر على تقدير السلامة ، ووجه العدم ما في التعرض من الخطر ، لما تقدم من الخطر العظيم المحتف بالقضاء ، ولما روته العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة (لا تسأل الامارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلّت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) (١).

(٤) بلا خلاف فيه للأخبار.

منها : خبر أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه) (٢) وخبره الآخر قال (بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابنا فقال : فقل لهم ، إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شي‌ء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد جعلته عليكم قاضيا ، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر) (٣) ومقبولة عمر بن حنظلة (سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟ ـ إلى أن قال ـ قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا ـ

__________________

(١) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٠٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٦.

٧١

والعقل (١) والذكورة (٢) ...

______________________________________________________

ـ حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا رد ، والرادّ علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله) (١).

ومقتضى هذه الأخبار اشتراط الاجتهاد في القاضي ، لأن معرفة الحلال والحرام والأحكام الناشئة من النظر في الأحاديث هي عين الاجتهاد ، غايته أن الاجتهاد في عصر النص وما يقرب منه كان ضعيف المئونة بحيث كان يكفيه النظر في الأحاديث بخلاف الاجتهاد في العصور المتأخرة فإنه متوقف على أصول الفقه فضلا عن الحديث.

ومقتضى الإطلاق في هذه الأخبار الشمول للمتجزئ هذا من جهة ومن جهة أخرى ما قيل من أنه يكفي في القضاء الاطلاع على جميع ما يتعلق بتلك الواقعة ولو كان بالتقليد بحيث إذا حكم بما عنده ولو من التقليد لكان حكما بالعدل والحق ، والحكم بالعدل والحق هو الغاية من القضاء قال تعالى : (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (٢) وقال تعالى : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ) (٣) ، وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ) (٤) كما في آية أو (فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ) (٥) كما في آية أخرى أو (فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ) (٦) كما في آية ثالثة.

ففيه : إن هذه الآيات مقيّدة بتلك الأخبار الدالة على الاجتهاد في القاضي على أن التفات غير المجتهد إلى جميع المزايا والدقائق والخصوصيات المتعلقة بالوقائع وما فيها من الأحكام في غاية البعد بل قريب من المحال. هذا واعلم أن القاضي والمفتي والمجتهد والفقيه ألفاظ أربعة تدل على المجتهد إلا أن الاختلاف بالاعتبار ، فالمجتهد سمي قاضيا باعتبار حكمه على الأفراد بالأحكام الشخصية المتعلقة بالموضوعات المتنازع عليها لرفع التنازع بينهم ، وسمي مفتيا باعتبار إخباره عن الحكم الشرعي الكلي ، وسمي فقيها لأنه عالم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.

(١) بلا خلاف فيه لسلب عبارة الصبي والمجنون ، ولانصراف الأخبار المتقدمة عنهما.

(٢) فلا يصح قضاء المرأة ، لانصراف الأخبار المتقدمة منها للتقييد بالرجل في خبري أبي ـ

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ١.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٥٨.

(٣) سورة النساء ، الآية : ١٣٥.

(٤ و ٥ و ٦) سورة المائدة الآية : ٤٧ و ٤٤ و ٤٥.

٧٢

والإيمان (١) والعدالة (٢) وطهارة المولد (٣) إجماعا ، والكتابة (٤) والحرية (٥)

______________________________________________________

ـ خديجة وابن حنظلة ، مضافا إلى خبر أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام قال : يا علي ليس على المرأة جمعة ولا جماعة ـ إلى أن قال ـ (لا تولّى القضاء) (١).

(١) بمعنى الاعتقاد بالإمامة فضلا عن الإسلام ، أما الكافر فلأنه ليس أهلا للأمانة ، وأما غير الشيعي فلاشتراط الأخبار أن يكون القاضي من الشيعة كما ورد في مقبوله ابن حنظلة المتقدمة (من كان منكم) وكما في خبر أبي خديجة المتقدم (إلى رجل منكم) ، فضلا عن الأخبار الكثيرة الناهية عن المرافعة إلى قضاتهم.

منها : خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق ، فدعاه إلى رجل من اخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرفعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به) (٢) فضلا عن خبري ابن حنظلة وأبي خديجة المتقدمين.

(٢) فلا يصح قضاء الفاسق لعدم قبول شهادته فلا يسمح له بالقضاء من باب أولى.

(٣) فلا يصح قضاء ولد الزنا لفحوى ما دل على المنع من إمامته وشهادته كما سيأتي.

(٤) ذهب الأكثر إلى اشتراط علمه بالكتابة لاضطراره إلى معرفة الوقائع والأحكام التي لا يتيسر ضبطها غالبا إلا بالكتابة ، وعن بعض منهم صاحب الجواهر عدم الاشتراط لإطلاق الأخبار المتقدمة المتضمنة لنصب الفقيه قاضيا في زمن الغيبة ، وأما الاستدلال عليه بأن الكتابة غير معتبرة في النبوة وهي أكمل المناصب ومنها يتفرع الأحكام والقضاء وقد كان النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميا لا يحسّن الكتابة كما دل عليه قوله تعالى : (وَمٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَلٰا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتٰابَ الْمُبْطِلُونَ) (٣) ففيه : إنه مختص بالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحفوظ بالعصمة المانعة عن السهو والغلط والنسيان ، وكذا دليل اعتبار الاشتراط ضعيف إذ يمكن وضع كاتب عنده يغنيه عن الكتابة وبه يتيسر ضبط الوقائع والأحكام.

(٥) على الأكثر لأن القضاء ولاية والعبد ليس محلا لها لاشتغاله عنها باستغراق وقته في ـ

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٢.

(٣) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٨.

٧٣

والبصر (١) على الأشهر ، والنطق (٢) وغلبه الذكر (٣) ، والاجتهاد (٤) في الأحكام الشرعية وأصولها ، ويتحقق (٥) بمعرفة المقدمات الست وهي الكلام ، والأصول (٦) ، والنحو ، والتصريف ، ولغة العرب ، وشرائط الأدلة (٧) ، والأصول الأربعة وهي الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ودليل العقل (٨).

والمعتبر من الكلام ما يعرف به الله تعالى ، وما يلزمه من صفات الجلال والإكرام وعدله وحكمته ، ونبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته وإمامة الأئمة عليه‌السلام كذلك (٩) ، ليحصل (١٠) الوثوق بخبرهم ، ويتحقق الحجة به ، والتصديق بما جاء

______________________________________________________

ـ خدمة سيده ، وعن بعضهم وهو الحق : عدم الاشتراط لاطلاق الأخبار المتضمنة تنصيب الفقيه قاضيا في زمن الغيبة.

(١) على الأشهر لافتقار القاضي إلى التمييز بين الخصوم وتعذر ذلك مع العمى ، وقيل : لا يشترط للأصل وإطلاق دليل التنصيب وهو الأقرب.

(٢) قال في الجواهر : (ولا يخفى عليك بعد ما ذكرنا من الحكم في الكثير من الشرائط المذكورة في كتب العامة التي لم يذكرها الأصحاب ، كالنطق فلا يصح قضاء الأخرس ، والسمع فلا قضاء للأصم ، وغير ذلك مما ليس في أدلتنا ما يشهد له).

(٣) وهو المعبّر عنه بالضبط ، فلو غلب عليه النسيان فلا يجوز قضاؤه ، وأشكل فيه بأن اطلاق دليل التنصيب المذكور نفيه مع تسجيل أحكامه على دفتر وتسجيل كل ما له الدخل في قضائه ، وهذا التسجيل لا محذور فيه أبدا.

(٤) اشتراط الاجتهاد في القاضي مما لا خلاف فيه وقد تقدم دليله ، وتقدم أن الاجتهاد في عصرنا متوقف على النظر في أصول الفقه والحديث.

(٥) أي الاجتهاد.

(٦) أي علم أصول الفقه.

(٧) أي البرهان.

(٨) وهذه الأربعة هي موضوع علم أصول الفقه ، والمعتبر منها الكتاب والسنة ، وأما الاجماع فموارده قليلة ، وأما العقل فموارده منحصرة في غير المستقلات العقلية من مسألة الأجزاء ومقدمة الواجب ومسألة الضد ومسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة دلالة الفساد على النهي ، وأما المستقلات العقلية المبنية على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ففي جميع مواردها قد ورد النص فيها.

(٩) أي وعصمتهم.

(١٠) تعليل لمعرفة عصمة النبي والأئمة عليهم‌السلام.

٧٤

به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحوال الدنيا والآخرة ، كل ذلك بالدليل التفصيلي (١).

ولا يشترط الزيادة على ذلك بالاطلاع على ما حققه المتكلمون من أحكام الجواهر والأعراض ، وما اشتملت عليه كتبه (٢) من الحكمة والمقدمات ، والاعتراضات ، وأجوبة الشبهات وإن وجب معرفته كفاية من جهة أخرى (٣) ، ومن ثمّ صرح جماعة من المحققين بأن الكلام ليس شرطا في التفقه ، فإن ما يتوقف عليه منه مشترك بين سائر المكلفين.

ومن الأصول (٤) ما يعرف به أدلة الأحكام من الأمر والنهي ، والعموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، والإجمال والبيان وغيرها مما اشتملت عليه مقاصده (٥) ، ومن النحو والتصريف ما يختلف المعنى باختلافه ليحصل بسببه معرفة المراد من الحطاب ، ولا يعتبر الاستقصاء فيه على الوجه التام ، بل يكفي الوسط منه فما دون (٦) ، ومن اللغة ما يحصل به فهم كلام الله ورسوله ونوابه عليه‌السلام بالحفظ ، أو الرجوع إلى أصل مصحّح يشتمل على معاني الألفاظ المتداولة في ذلك (٧).

______________________________________________________

(١) أي لا عن تقليد ، وقد قرر في محله كفاية الاعتقاد ولو بالتقليد ، مع أنه ثبت أن أدلة معرفة الله جل وعلا أدلة فطرية وأدلة النبوة الخاصة لا مئونة فيها فيكفي فيها الالتفات وكذا أدلة الإمامة الخاصة مع نبذ التعصب.

على أن الوجدان حاكم بعدم توقف الاجتهاد على علم الكلام نعم الاعتقاد الصحيح متوقف على ما ذكره الشارح وهذا أجنبي عن الاجتهاد.

(٢) كتب الكلام.

(٣) أي من جهة رد شبهات المنكرين والمضلّلين.

(٤) أي والمعتبر من الأصول.

(٥) كالصحيح والأعم والمشتق وخصّه بالأصول اللفظية لأنه سيتكلم عن حجية الخبر والتعادل والتراجيح عند البحث في السنة ، وكان عليه ذكر الأصول العملية من البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب لكن سيتكلم عن الأصول العملية عند البحث في الدليل العقلي ، باعتبار أن دليلها العقل عندهم ولم يستدل بالأخبار فيها إلا من زمن والد الشيخ البهائي. وعلم أصول الفقه من أهم ما يتوقف عليه الاجتهاد.

(٦) فمعرفة كيفية الاعلال والابدال وبعض المباحث الدقيقة مما لا يتوقف عليه الاجتهاد كما هو واضح.

(٧) كالرجوع إلى المصباح المنير للفيومي والنهاية الأثيرية ومجمع البحرين وغيرها.

٧٥

ومن شرائط الأدلة معرفة الأشكال الاقترانية ، والاستثنائية ، وما يتوقف عليه من المعاني المفردة وغيرها (١) ، ولا يشترط الاستقصاء في ذلك بل يقتصر على المجزئ منه ، وما زاد عليه فهو مجرد تضييع للعمر ، وترجئة للوقت.

والمعتبر من الكتاب الكريم معرفة ما يتعلق بالأحكام وهو نحو من خمسمائة آية ، إما بحفظها ، أو فهم مقتضاها ليرجع إليها متى شاء (٢) ، ويتوقف على معرفة الناسخ منها من المنسوخ ، ولو بالرجوع إلى أصل يشتمل عليه.

ومن السنة جميع ما اشتمل منها على الأحكام ، ولو في أصل مصحح (٣) رواه عن عدل بسند متصل إلى النبي والأئمة ، ويعرف (٤) الصحيح منها والحسن ، والموثق والضعيف ، والموقوف والمرسل ، والمتواتر والآحاد ، وغيرها من الاصطلاحات التي دوّنت في دراية الحديث ، المفتقر إليها (٥) في استنباط الأحكام ، وهي أمور اصطلاحية توقيفية ، لا مباحث علمية ، ويدخل في أصول الفقه معرفة أحوالها (٦) عند التعارض وكثير من أحكامها (٧) ، ومن الإجماع والخلاف أن يعرف أن ما يفتي به لا يخالف الإجماع (٨) ، إمّا بوجود موافق من المتقدمين ، أو بغلبة ظنه

______________________________________________________

(١) والمراد منه شرائط الحد ، ولو قال : والمعتبر منه شرائط البرهان وشرائط الحد لكان أخصر ، لكن ما له الدخل في الاجتهاد من علم المنطق هو أمر ضروري فطري في جبلة الإنسان فلا داعي لذكره.

(٢) أو الرجوع إلى كتاب يتضمنها كزبدة البيان للمقدس الأردبيلي.

(٣) بحيث لو اكتفى بالوسائل ومستدركه لأعذر في مقام البحث عن الدليل اللفظي.

(٤) إشارة إلى علم الدراية.

(٥) ومن الواضح أن الاجتهاد ليس متوقفا على معرفة هذه المصطلحات ، نعم هو متوقف على حجية الخبر ، فلو قلنا بحجية الخبر الصحيح فقط أو الأعم منه ومن الثقة ، أو الأعم منها ومن خبر موثوق الصدور فيجب عليه معرفة ذلك من الأخبار حتى يعتمد عليها في مقام الاستنباط.

(٦) أي معرفة أحوال السنة.

(٧) أي أحكام السنة ، كحجية الخبر الواحد ، والفرق بينه وبين المتواتر.

(٨) وهو اجماع المتقدمين القريبين من عصر النص ، وأما اجماع المتأخرين عند عدم النص فلا حجة فيه خصوصا عند سكوت القدماء في المسألة وعدم تعرضهم لها.

٧٦

على أنه واقعة متجددة لم يبحث عنها السابقون بحيث حصل فيها أحد الأمرين (١) ، لا معرفة كل مسألة أجمعوا عليها ، أو اختلفوا ، ودلالة العقل من الاستصحاب والبراءة الأصلية وغيرهما داخلة في الأصول ، وكذا معرفة ما يحتجّ به من القياس (٢) ، بل يشتمل كثير من مختصرات أصول الفقه كالتهذيب (٣) ومختصر الأصول لابن الحاجب على ما يحتاج إليه من شرائط الدليل المدوّن في علم الميزان ، وكثير (٤) من كتب النحو على ما يحتاج إليه من التصريف.

نعم يشترط مع ذلك كله أن يكون له قوة يتمكن بها من رد الفروع إلى أصولها واستنباطها منها. وهذه هي العمدة في هذا الباب ، وإلا فتحصيل تلك المقدمات قد صارت في زماننا سهلة لكثرة ما حققه العلماء والفقهاء فيها ، وفي بيان استعمالها ، وإنما تلك القوة بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عبادة على وفق حكمته ومراده ، ولكثرة المجاهدة والممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها ، (وَالَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَإِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٥).

وإذا تحقق المفتي بهذا الوصف وجب على الناس الترافع إليه ، وقبول قوله ، والتزام حكمه ، لأنه منصوب من الإمام عليه‌السلام على العموم بقوله : «انظروا إلى رجل منكم قد روى حديثنا ، وعرف أحكامنا فاجعلوه قاضيا فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» (٦).

______________________________________________________

(١) من الاجماع أو الخلاف.

(٢) وهو قياس منصوص العلة فقط ، وهو بالدقة تمسك بظاهر اللفظ ولا يندرج في القياس الذي تواترت الأخبار في ذمه والنهي عنه.

(٣) للعلامة.

(٤) أي ويشتمل كثير من كتب النحو كالألفية لابن مالك مع شروحها هذا والإنصاف أن العلوم العربية من المقدمات البعيدة بخلاف علم الأصول والحديث فإنها من المقدمات القريبة للاجتهاد ولذا اقتصرنا عليهما سابقا.

(٥) العنكبوت آية : ٦٩.

(٦) وهو الخبر الأول لأبي خديجة المتقدم (١) ، وقد نقله بالمعنى لاختلاف بعض ألفاظه فراجع.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٥.

٧٧

وفي بعض الأخبار (١) : «فارضوا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنما بحكم الله استخف ، وعلينا رد ، والراد علينا راد على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله عزوجل».

(فمن عدل عنه إلى قضاة الجور كان عاصيا) فاسقا لأن ذلك كبيرة عندنا ، ففي مقبول عمر بن حنظلة السابق (٢) : «من تحاكم إلى طاغوت فحكم له فإنما يأخذ

______________________________________________________

(١) وهو مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة (١) ، وأيضا قد نقله بالمعنى لاختلاف بعض ألفاظه.

(٢) ففي مقبولة عمر بن حنظلة (سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ، قلت : كيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا) (٢) إلى آخر ما تقدم نقله سابقا.

ومثلها خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من اخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به) (٣) ، ومقتضى الأخبار حرمة التحاكم إليهم إذا كانت الخصومة بين مؤمنين وإن حكموا بالعدل وكان حقه ثابتا كما هو صريح مقبولة ابن حنظلة ، وظاهرها حرمة التحاكم سواء كان الحق عينا أو دينا فما عن البعض من التفصيل بين العين والدين بجوازه في الأول دون الثاني لاحتياجه إلى إعمال من الحاكم الجائر لتشخيص الدين في مال الخصم ليس في محله ، نعم إذا كان الخصم مخالفا وأبى إلا الترافع إلى قضاة الجور عندهم جاز عند التقية لخبر عطاء بن السائب عن علي بن الحسين عليهما‌السلام (إذا كنتم في أئمة الجور فامضوا في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا ، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيرا لكم) (٤).

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي حديث ٧.

٧٨

سحتا وإن كان حقه ثابتا ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر بها». ومثله كثير.

(وتبثت ولاية القاضي) المنصوب من الإمام (بالشياع) وهو إخبار جماعة به يغلب على الظن صدقهم (١) ، (أو بشهادة عدلين) (٢) وإن لم تكن بين يدي حاكم ، بل يثبت بهما أمره عند كل من سمعهما ، ولا يثبت بالواحد (٣) ، ولا بقوله (٤) وإن شهدت له القرائن (٥) ، ولا بالخط مع أمن التزوير (٦) مع احتماله.

(ولا بد) في القاضي المنصوب من الإمام (من الكمال) (٧) بالبلوغ ، والعقل ، وطهارة المولد ، (والعدالة) ، ويدخل فيها الإيمان ، (وأهلية الإفتاء) بالعلم بالأمور المذكورة ، (والذكورة ، والكتابة) لعسر الضبط بدونها لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٨) ، (والبصر) ، لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم ، وتعذر ذلك (٩) مع العمى في حق غير النبي ، وقيل : إنهما ليسا بشرط ، لانتفاء الأول في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١٠) ، والثاني في

______________________________________________________

(١) فالشياع المذكور مما يفيد الظن الغالب الموجب لاطمئنان النفس وهو المسمى بالعلم العادي الذي يرتب عليه العرف أثار العلم العقلي الذي لا شك فيه.

(٢) لعموم حجية البينة كما سيأتي في الشهادات ، وهذا لا فرق فيه بين قيام البينة بين يدي حاكم أو لا لعدم التنازع الموجب للقضاء المستدعي لقيام البينة بين يدي الحاكم.

(٣) لأن القضاء من جملة الحقوق فلا بد فيها من البينة.

(٤) أي قول القاضي.

(٥) إلا إذا أفادت القطع فيؤخذ به لأن حجية القطع ذاتية.

(٦) لأن الخط ليس من الأدلة الشرعية كما قيل ، وفيه إن الخط مع أمن التزوير مما يفيد العلم وحجية العلم ذاتية هذا فضلا عن أن السيرة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصر أمير المؤمنين عليه‌السلام قائمة على الاكتفاء بالخط المأمون من التزوير الموجود ضمن كتاب مختوم بختم الحاكم في اثبات تنصيب الولاة والقضاة ، وهذا ظاهر من ثنايا سطور التاريخ لمن راجعه.

(٧) قد تقدم بحث الشروط المعتبرة في القاضي.

(٨) لأن عصمته مانعة من الخطأ والنسيان.

(٩) أي تعذر التمييز بين الخصوم.

(١٠) بل تقدم أن الدليل إطلاق دليل التنصيب وكذا في نفي العمى.

٧٩

شعيب عليه‌السلام ، ولإمكان الضبط بدونهما بالحفظ (١) والشهود (٢).

وبقي من الشرائط التي اعتبرها المصنف وغيره غلبة الحفظ ، وانتفاء الخرس والحرية على خلاف في الأخير (٣) ، ويمكن دخول الأول في شرط الكمال (٤) ، وعدم اعتبار الأخير (٥) هنا مع أنه قطع به في الدروس ، وليس دخول الثاني (٦) في الكمال أولى من دخول البصر والكتابة فكان اللازم ذكره ، أو إدخال الجميع في الكمال.

وهذه الشرائط كلها معتبرة في القاضي مطلقا (٧) (إلا في قاضي التحكيم) (٨)

______________________________________________________

(١) وهو يغني عن الكتابة.

(٢) للتمييز بين الخصوم.

(٣) بل تقدم الخلاف فيه وفي غلبة الحفظ وانتفاء الخرس وكذا اشتراط السمع ، وإطلاق دليل التنصيب ينفي هذا كله.

(٤) حيث ذكر المصنف هنا الكمال ولعله يريد به ما يعم غلبة الحفظ ، وفيه : إن الكمال عند الفقهاء منحصر بالبلوغ والعقل ولذا اقتصر عليهما الشارح في مقام تفسير الكمال.

(٥) أي عدم اعتبار الحرية لعدم ذكر اشتراطها في صفات القاضي هنا في اللمعة.

(٦) دفع توهم ، أمّا التوهم فحاصله أن المصنف لعله لم يذكر اشتراط النطق لأنه داخل في الكمال المذكور في عبارته ، ودفعه : أن دخول البصر والكتابة في الكمال ليس بأولى من دخول النطق فيه ومع ذلك قد ذكرهما بعد ذكر الكمال ، فلم لم يذكر النطق وإلا فلو أراد بالكمال المعنى الأعم من البلوغ والعقل لكان عليه عدم ذكر البصر والكتابة كما لم يذكر اشتراط النطق.

(٧) سواء كان منصوبا من الإمام أو نائبه ، وسواء كان في عصر الحضور أو الغيبة.

(٨) محل النزاع فيه مختص بحال حضور المعصوم عليه‌السلام بحيث لو نصّب قاضيا في بلد وهو مستجمع لشرائط القضاء فهل يجوز للمتخاصمين الرجوع إلى من هو حائز لشرائط القضاء غير أنه ليس بمنصوب للقضاء من قبل المعصوم أو لا يجوز؟

وهذا الفرع مأخوذ من العامة حيث نقل صاحب الجواهر عن كتاب الروضة للرافعي ، وهو من كتب العامة : (الخامسة : هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي؟ وهل لحكمه بينهما اعتبار؟ قولان ، أظهرهما عند الجمهور نعم ، وخالفهم الإمام والغزالي فرجحا المنع ، وقيل : القولان في الأموال فقط ، فأما النكاح واللعان والقصاص وحدّ القذف وغيرها فلا يجوز فيها التحكيم قطعا ، والمذهب طرد القولين في الجميع وبه قطع ـ

٨٠