الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

ويمكن توجيه الجواب بأن حاصله انّ التّقسيم المذكور مبنىّ على ما يبدو فى بادى الرأى من أنّ الموجود سواء كان واجبا او ممكنا ما كان وجوده زائدا على ذاته ثم يحقّق فى ثانى الحال أنّ الواجب الّذي ثبت وجوده بالبرهان وفرّع عليه خواصّه وجوده عين ذاته ، وما كان وجوده مقتضى ذاته ممتنع الوجود فى الخارج ، فكأنّهم تسامحوا فى أوّل الأمر إلى أن تبيّن حقيقة الحال فى المآل ، وأمثال ذلك كثيرة فى كلام الحكماء كما لا يخفى على من تتّبع كلامهم.

وربّما يجاب عن اصل السؤال بأنّ المراد من اقتضاء الذّات للوجود اقتضاؤه لحمل الوجود المطلق عليه مواطاة أو اشتقاقا ، وكذا المراد من اقتضاء الذات للعدم اقتضاؤه لحمل العدم المطلق عليه كذلك.

وأورد عليه انّه يلزم على هذا أن يكون الوجودات الخاصّة للممكنات واجبة لذواتها ، ضرورة انّها تقتضى حمل الوجود المطلق عليها مواطاة.

أقول : فيه نظر ، لانّ المراد من الاقتضاء التّامّ الضّرورىّ كما هو المتبادر ، ومن البيّن انّ تلك الوجودات الخاصّة لا تقتضى حمل الوجود المطلق عليها اقتضاء تامّا ضروريّا ، لانّ افتقارها الى عللها يستلزم افتقاره الى تلك العلل ، فلا يكون اقتضاؤها له تامّا ضروريّا ، على أنّ أصل الاقتضاء أيضا فى معرض المنع فلا تغفل.

ويمكن أن يجاب من أصل الاشكال بانّ حاصل التّقسيم انّ الشيء إمّا ان يكون موجودا لا باقتضاء الغير وهو الواجب لذاته ، وإمّا أن يكون معدوما باقتضاء الغير وهو الممتنع لذاته ، وإمّا ان يكون موجودا ومعدوما باقتضاء الغير وهو ممكن لذاته على نحو ما قالوا إنّ الجوهر قائم بذاته بمعنى أنّه غير قائم بغيره. وعلى هذا لا غبار عليه ، الا انه لا يخلوا عن شوب تكلّف.

البحث الثانى فى انّ ذلك التّقسيم غير حاصر ، لجواز أن يكون الذّات مقتضيا للوجود والعدم معا ، فالاقسام أربعة لا ثلاثة.

وأجيب عنه بانّ هذا الاحتمال مضمحلّ بادنى التفات من بديهة العقل ، ضرورة

٨١

انّ الشيء لو كان ذاته مقتضيا للوجود والعدم معا يلزم اجتماع النّقيضين قطعا ، ومثل هذا الاحتمال لا يخرج التّقسيم عن كونه حصرا عقليّا يجزم العقل فيه بالانحصار بمجرّد ملاحظة مفهومه.

أقول : فيه نظر ، لانّ الحصر العقلىّ سواء كان بمعنى الحصر الدّائر بين النفى والاثبات ، او بمعنى ما يجزم العقل بالانحصار بمجرّد ملاحظة مفهوم القسمة لا بدّ أن يكون بديهيّا أوّليّا صرفا كما حقّق فى محلّه ، ومن البيّن انّ مثل ذلك الاحتمال يخرجه عن هذا لانّ بطلانه موقوف على استدلال او بيّنة كما لا يخفى. نعم ، يمكن أن يجاب بأنّ هذه القسمة لا يلزم ان يكون عقليّة بل يجوز أن يكون قطعيّة او استقرائيّة ، والاحتمال المذكور لا يخرجها عن ذلك.

ولقائل أن يقول : هذه القسمة ليست بحسب نفس الأمر وإلّا لخرج عن المقسم الممتنع لذاته ، ضرورة انّه غير متحقّق فى نفس الأمر ، بل إنّما هى بحسب الاحتمال العقلى فى بادى الرأى ، وحينئذ الاحتمال المذكور يخرجها عن الحصر مطلقا ، إلا ان يقال تلك القسمة إنّما باعتبار الوجود الخارجى والعدم الخارجى ، ولا شكّ انّ الممتنع الوجود فى الخارج وإن لم يكن متحقّقا فى الخارج لكنّه متحقّق فى نفس الأمر ، فلو اعتبرت القسمة بحسب نفس الأمر يخرج الممتنع لذاته بخلاف الاحتمال المذكور. نعم لو اعتبرت القسمة بالقياس الى الوجود المطلق والعدم المطلق كما يدلّ عليه تمثيلهم للممتنع لذاته باجتماع النّقيضين وشريك البارى لا يستقيم الحصر مطلقا.

ثمّ نقول لا يبعدان يقال ليس المراد من اقتضاء الذّات للوجود اقتضائها له فقط. وكذا ليس المراد من اقتضاء الذات للعدم اقتضائها له فقط ، فالاحتمال المذكور مندرج فى قسمى الواجب والممتنع. نعم ، يلزم احتمال التّداخل بين الأقسام فى بادى النّظر وهذا لا يقدح فى الحصر العقلى الّذي هو منع الخلوّ بل فى منع الجمع ، وإنّما القادح فيه احتمال الواسطة فلا اشكال.

واعلم انّ قوله ذاته فى القسم الأوّل للاحتراز عن الواجب لغيره وهو الممكن

٨٢

الوجود ، وفى القسم الثّالث للاحتراز عن الممتنع لغيره وهو الممكن المعدوم ، وأمّا فى القسم الثانى فلبيان الواقع رعاية لموافقه قسميه لما تحقّق من انّه لا امكان بالغير.

ثم اعلم انهم اختلفوا فى علّة احتياج الممكن الى المؤثّر فذهب الحكماء الى انّها الامكان وحده وبعض المتكلّمين إلى انّها الحدوث وحده وبعضهم الى انها الامكان مع الحدوث شطرا ، وبعضهم الى انّها الامكان مع الحدوث شرطا. ومن هاهنا ترى الحكماء يستدلّون على ثبوت الواجب المؤثر فى العالم بإمكان الأثر ، وترى المتكلّمين يستدلّون على ذلك بحدوث الأمر إمّا بحدوث الجوهر أو بامكانها مع الحدوث كما هو طريقة الخليل ـ عليه السّلام ـ حيث قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وإمّا بحدوث الأعراض أو إمكانها معه كما هو طريقة الكليم حيث قال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) على ما قيل. والأثر على كلّ تقدير إمّا آفاقىّ أو أنفسى ، كما أشير إليه فى قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ). فطريقة الخليل آفاقيّة ، وطريقة الكليم جامعة لقسمين ، وقول امير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : من عرف نفسه فقد عرف ربّه اشارة الى الطريقة النفسية الانفسية كما لا يخفى.

ولما كان الحق المختار عند المحققين مذهب الحكماء اختاره المصنّف واستدلّ بالإمكان على ثبوت الواجب فلذا قال : ولا شكّ فى أنّ هاهنا ، أى فى الخارج موجودا ، يعنى انّ ثبوت موجود ما فى الخارج بديهىّ أوّلىّ لا يشكّ فيه عاقل ولا ينازعه إلا السّوفسطائية الّذين لا اعتداء بهم. ومن البيّن انّ الموجود فى الخارج منحصر فى الواجب الوجود لذاته والممكن الوجود لذاته ، ضرورة انّ الموجود لا يمكن أن يكون ممتنع الوجود لذاته ، فإن كان ذلك الموجود واجبا لذاته فالمطلوب وهو ثبوت واجب الوجود لذاته ثابت وإن كان ذلك الموجود ممكنا افتقر فى وجوده الخارجى إلى موجد موجود يوجده اى يوجد هذا الموجود ذلك الموجود الممكن بالضّرورة يعنى ان افتقار الممكن الى علّة موجدة له بديهىّ لا يفتقر الى دليل ، وذلك لأنّ الحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر من

٨٣

غير مرجّح ضرورىّ يجزم به البله والصّبيان ، بل هو مذكور فى طبائع البهائم. وإنّما قيّدنا الموجد بالموجود إذ لو جاز كونه معدوما لم يلزم التّسلسل الّذي هو فى الامور الموجودة ، بل لم يلزم دور ولا تسلسل اصلا ، لجواز ان يكون الموجد المعدوم ممتنعا لذاته لا واجبا ولا ممكنا حتى يلزم إمّا ثبوت المطلوب وإمّا الدّور أو التسلسل فإن كان ذلك الموجد الموجود واجبا لذاته فالمطلوب ثابت أيضا وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد موجود آخر اى مغاير للموجود الاول.

فإن كان ذلك الموجد الثانى هو الممكن الأوّل دار ، أى لزم الدّور ـ من قبيل نسبة الفعل الى المصدر ـ وهو توقّف الشّيء على ما يتوقّف عليه بمرتبة او بمراتب ، وإن كان ممكنا آخر غير الممكن الاول تسلسل ، اى لزم التّسلسل على تقدير عدم الانتهاء إلى الواجب لذاته وعدم العود اصلا ، وهو ترتّب أمور غير متناهية إمّا وضعا كما فى عدم تناهى الأبعاد ، وإمّا عقلا بطريق التّصاعد من المعلول إلى العلّة وهو التّسلسل من جانب العلّة كما فيما نحن فيه ، او بطريق التّنازل من العلّة إلى المعلول وهو التّسلسل من جانب المعلول ، هذا على رأى الحكماء ، وأمّا على رأى المتكلمين فهو وجود امور غير متناهية سواء كانت مترتّبة أولا على ما سيجيء تحقيقه. وكان عليه ان يقول بعد الترديد الثّاني فإمّا أن ينتهى الى الواجب لذاته او يعود فى مرتبة من المراتب الى ما سبق او يذهب الى غير النهاية ، فان كان الاول فالمطلوب ، وان كان الثّاني دار ، وان كان الثّالث تسلسل.

وهاهنا بحث من وجوه :

الأوّل ، انّ الممكن عند التحقيق ما لا يكون ذاته مقتضيا للوجود ولا العدم اقتضاء تامّا ضروريّا ، وحينئذ يجوز ان يكون ذاته مقتضيا لاحدهما بشرط عدمىّ ، فلا يقتضى موجدا مغايرا حتى يلزم الدّور أو التّسلسل او الانتهاء إلى الواجب لذاته.

الثّاني ، انّ الممكن يجوز أن يكون أحد الطّرفين راجحا لذاته رجحانا غير واصل الى حدّ الوجوب ، ويقع ذلك الطّرف الرّاجح بهذا الرّجحان الذاتى من غير حاجة الى مرجّح مغاير ، لانه لا يلزم من ترجّح أحد المتساويين من غير مرجّح بل يترجّح ، الرّاجح

٨٤

ولا فساد فيه. فعلى هذا أيضا لا حاجة للممكن الموجود إلى موجد مغاير فلا يلزم شيء من الأمور الثلاثة. وقد تصدّى المحقّقون لا بطال هذا الاحتمال ، لكن ما ذكروه من المقال لا يخلو عن ضعف واشكال ، فلم نتعرّض له مخافة الإطناب والاملال.

الثّالث ، أنّا لو سلّمنا انّ الممكن يحتاج إلى موجد مغاير له فلا نسلّم أنّه يحتاج إلى موجد موجود ، لجواز ان يكون وجوده لازما لماهيّة ممكن آخر ومترتبا عليها من حيث هى هى من غير أن يكون لوجودها مدخل فيه ، وما اتّفقوا عليه من أنّ الشّيء ما لم يوجد لم يوجد ممنوع وإن ادّعوا البداهة فيه ، لجواز ان يقتضي ذات الشيء من حيث هى هى وجود ممكن كما يقول المتكلّمون فى الواجب لذاته من أنّ وجوده زائد على ذاته ، وذاته من حيث هى هى تقتضى وجوده اقتضانا تامّا ضروريّا ، والفرق بين اقتضاء الذّات وجودها واقتضائها وجود غيرها بأن الثّاني فرع وجودها بخلاف الأوّل تحكّم بحت لا بدّ له من دليل ولا يخفى انّ هذه المنوع الثلاثة واردة على جميع براهين إثبات الواجب لذاته ، فإثباته بالدليل العقلى أمر مشكل جدّا كما اشار إليه بعض العارفين.

الرابع ، انّ اللّازم على تقدير انتفاء الواجب احد الأمور الثلاثة توقّف الشيء على نفسه او الدّور أو التسلسل. فالأولى عدم الاقتصار على الأخيرين ، إلّا أن يقال ترك ذلك الاحتمال لظهور فساده ، حتى انّ فساد الدّور مبيّن بفساد تقدّم الشيء على نفسه كما سيجيء وهو باطل الظّاهر انّ الضمير راجع الى التّسلسل وكان التّصريح بدعوى البطلان فى التّسلسل وترك التّصريح بها فى الدّور مع انّه لا بدّ من دعوى البطلان فيهما معا حتى يتمّ الدّليل اشارة الى أنّ بطلان بالدّور بديهىّ لا يحتاج الى بيان كما ذهب إليه الرّازى ، واختاره المحقق الطوسى ، حتّى كانّه لا حاجة فيه إلى دعوى البطلان أيضا بخلاف التّسلسل.

ويؤيّد تلك الإشارة ما وقع فى بعض النّسخ من قوله بعد هذا الكلام لان جميع آحاد تلك السلسلة ... بدون الواو على ان يكون دليلا على بطلان التّسلسل ، أو اشارة الى انّ بطلان التّسلسل يستلزم بطلان الدّور لاستلزام الدّور التّسلسل على ما قيل. ويحتمل أن يكون الضمير راجعا الى كلّ واحد من الدّور والتّسلسل ، أو الى أحدهما باعتبار انّ

٨٥

اللّازم فى الحقيقة أحد الأمرين لا كلاهما ، ومن البيّن انّ إبطال أحد الأمرين يستلزم إبطال كلّ واحد منهما ، ضرورة أنّ أحد الأمرين أعمّ من كلّ واحد ، وإبطال الأعمّ يستلزم إبطال الاخصّ ، فكانّه قال : واللازم بجميع اقسامه باطل فافهم.

أمّا وجه بطلان الدور والتنبيه عليه فهو أن يقال إذا توقّف اعلى ب بمرتبة أو بمراتب ، وتوقّف ب على ا بمرتبة أو بمراتب ، يلزم تقدّم كلّ منهما على نفسه بمراتب.

وتأخّر كلّ منهما عن نفسه بمراتب ، وكلاهما ضرورىّ البطلان لاستلزامهما اجتماع النقيضين وارتفاعهما معا. ولمّا جعل هذا الوجه تنبيها على بطلان الدّور لا دليلا عليه ، اندفع ما أوردوا عليه من الاعتراضات والشّبه ، اذ المناقشة فى التنبيهات مما لا يجدى كثير نفع.

وأمّا وجه بطلان التّسلسل والدّليل عليه فكثير. أقواها وأشملها برهان التّطبيق الّذي هو العمدة فى إبطال التّسلسل لجريانه فى كلّ ما يدّعى عدم تناهيه. وتقريره انّه لو تسلسلت أمور إلى غير النّهاية فحصلت هناك جملتان : إحداهما مجموع تلك الأمور الغير المتناهية بحيث لا يشذّ عنها شيء والأخرى ما سوى قدر متناه من تلك الجملة من جانب المبدأ ، فينطبق الجملتين من مبدأيهما بان تفرض الأوّل من الثّانية بإزاء الأوّل من الأولى والثانى بإزاء الثانى ، وهلم جرّا. فان كان بإزاء كلّ جزء من الأولى جزء من الثانية يلزم تساوى الكلّ والجزء ، وإن لم يكن كذلك فقد وجد فى الأولى جزء لا يوجد بإزائه جزء فى الثّانية ، وهذا يستلزم تناهى الثانية ويلزم منه تناهى الأولى لانّ زيادتها عليها بقدر متناه هو القدر المحذوف من الأولى لتحصيل الثّانية ، والزّائد على المتناهى بقدر متناه متناه بالضّرورة ، فيلزم انقطاع السلسلتين معا وقد فرضناهما غير متناهيين. وكلا اللّازمين محال قطعا فالملزوم مثله.

وهذا الدّليل على رأى المتكلّمين يجرى فى الأمور الغير المتناهية الموجودة مطلقا ، سواء كانت متعاقبة فى الوجود كالحركات الفلكيّة ، أو مجتمعة فيه سواء كانت بينها ترتب عقلىّ كالعلل والمعلولات ، أو وضعى كالأبعاد ، أو لم يكن بينها ترتب أصلا كالنّفوس النّاطقة المفارقة : فعندهم لا يشترط فى بطلان التّسلسل إلا الوجود.

وأمّا على رأى الحكماء فلا يجرى إلّا فى الأمور المترتّبة المجتمعة فى الوجود فيشرط

٨٦

عندهم فى بطلان التّسلسل التّرتّب والاجتماع فى الوجود أيضا ، فلهذا قالوا بقدم تناهى الحركات الفلكيّة ، والحوادث اليوميّة ، والنفوس النّاطقة.

وقد أورد على الفريقين انّ الدّليل جار فى مراتب الأعداد ، فيلزم تناهيها مع انّها غير متناهيّة اتّفاقا وبديهة. وأجيب عنه بأنّ التطبيق انّما يجرى فيما دخل تحت الوجود دون ما هو وهمىّ محض ، فإنّه ينقطع بانقطاع التّوهّم. وحاصله أنّ التّطبيق فرع الوجود ولو ذهنا ، وليس الموجود من الأعداد إلّا قدرا متناهيا. وما يقال من أنّها غير متناهية معناه أنّها لا تنتهى إلى حدّ لا يكون فوقه آخر فلا اشكال. وكذا الكلام فى معلومات الله تعالى ومقدوراته سؤالا وجوابا. وردّ بأنّ مراتب العدد وان لم تكن بتفاصيلها موجودة فى الأذهان القاصرة ، لكنّها موجودة بتفاصيلها فى المبادى العالية ، وإلّا يلزم النّقص فى الواجب ، والحالة المنتظرة فى كلّها ، وكلاهما محال عندهم. وأيضا انّ كلّ واحدة من تلك المراتب متّصفة بصفة ثبوتيّة فى نفس الأمر مثل كونها فوق ما بعدها وتحت ما فوقها ، فلا بدّ أن تكون موجودة فى نفس الأمر ، ضرورة انّ ثبوت شيء لشيء فى نفس الأمر يستلزم ثبوت المثبت له فيها ، ولا خفاء فى انّ التّطبيق على الوجه المذكور لا يتوقّف على الوجود فى الخارج ، بل يكفى فيه الوجود فى نفس الأمر سواء كان فى الخارج أو فى الذّهن. اللهم الا ان يقال انّ اكثر المتكلّمين لا يقولون بالوجود الذّهنى.

أقول : فيه نظر ، أما أوّلا فلانّا لا نسلّم انّه لو لم يكن علم المبادى العالية محيطا بجميع مراتب العدد تفصيلا يلزم النّقص فى الواجب والحالة المنتظرة فى المبادى العالية لجواز أن يكون الإحاطة بجميعها تفصيلا ممتنعا وحينئذ لا يلزم النّقص فى الواجب ، ولا الحالة المنتظرة فى تلك المبادى. ويؤيّد ذلك ما قيل انّ معنى عدم تناهى معلومات الله تعالى انّها لا تنتهى إلى حدّ لا يتصوّر فوقه آخر ، لا بمعنى انّ ما لا نهاية له داخل تحت علم الشّامل على انّ استلزام علم المبادى العالية للوجود الذهنى ممنوع.

وأمّا ثانيا فلانّ اتصاف جميع مراتب العدد بالصّفات الثّبوتيّة غير بيّن ولا مبيّن. ولو سلّم فيكفى فى ذلك كونها موجودة فى الذّهن إجمالا ، لانّ ثبوت شيء لشيء فى نفس

٨٧

الأمر انّما يستلزم ثبوت المثبت له فى نفس الأمر مطلقا ، سواء كان فى الخارج أو فى الذّهن تفصيلا أو اجمالا وثبوتها فى الذّهن إجمالا لا يكفى فى التّطبيق على ما يخفى.

وأمّا ثالثا فلانّ الاعتذار المذكور لو تمّ لتمّ من جانب اكثر المتكلّمين المنكرين للوجود الذّهنى مع انّ الإشكال مشترك الورود بين جميع المتكلّمين والحكماء.

ثمّ أورد على الحكماء انّ الدّليل جار فى الحركات الفلكيّة والنّفوس النّاطقة البشريّة والحوادث اليوميّة مع أنّها غير متناهية عندهم.

فأجابوا عن الأوّل ، بأنّ ما لا يجتمع فى الوجود معدوم قطعا فلا يجرى فيه التّطبيق كما فى مراتب العدد.

وفيه انّه يكفى فى التّطبيق وجود الأجزاء فى الجملة ولو متعاقبة كما لا يخفى. ولهم فى التّفصّى عن الثّاني جواب يفضى ايراده إلى إطناب لا يليق بشرح هذا الكتاب. وانت تعلم انّ خلاصته وهى اشتراط التّرتّب جارية فى دفع النّقض بمراتب العدد ، إذ لا ترتّب فيها أيضا فلا تغفل.

واعلم انّه يتّجه على ذلك الدّليل انّا لا نسلّم انه لو لم يوجد بإزاء كلّ جزء من الأولى جزء من الثّانية يلزم تناهى النّاقصة ، لجواز أن يكون إحدى الجملتين أنقص من الأخرى مع كون كلّ منهما غير متناهية لا بدّ لنفى ذلك من دليل ، ودعوى البداهة غير مسموعة.

ثم أقول بعد لزوم تناهى النّاقصة لا حاجة الى اثبات تناهى الزائدة بالمقدّمات المذكورة. لأنّه إنّما يحتاج إلى ذلك لو كانت الجملة الثّانية خارجة عن الأولى ، وأما اذا كانت داخلة فيها من جانب عدم التّناهى كما فيما نحن فيه فتناهى النّاقصة هو تناهى الزّائدة بعينه ، فلا حاجة إلى ذلك على ما لا يخفى.

لا يقال : إذا كان الاجتماع فى الوجود شرطا فى بطلان التّسلسل عند الحكماء لم يتمّ دعوى بطلانه فيما نحن فيه على رأيهم ، لجواز أن يكون الممكنات المتسلسلة متعاقبة فى الوجود لا مجتمعة ، مع انّ هذا الدّليل واقع على رأيهم. لانّا نقول : اتّفق الحكماء على انّ علّة الحدوث علة البقاء وهو الحقّ المختار عند المحقّقين ، وحينئذ لا بد أن يكون تلك

٨٨

الممكنات المتسلسلة مجتمعة فى الوجود قطعا. ولأنّ عطف على ما يفهم من فحوى الكلام كانّه قال واجب الوجود موجود لانّه لا شك فى انّ هاهنا موجودا الخ ، ولأنّ جميع آحاد تلك السّلسلة الخ. وإنّما أورد دليلين على ثبوت الواجب الوجود لذاته تنبيها على ان ادلّة إثبات الواجب على قسمين : أحدهما ما يتوقّف على إبطال الدّور ، وثانيهما ما لا يتوقّف على ذلك بل يدلّ على ثبوت الواجب أوّلا ثم ينتقل منه الى بطلان التسلسل كما سيرد عليك. وفى بعض النّسخ لانّ بدون الواو على ان يكون دليلا على بطلان التّسلسل. وفيه انّه يأبى عنه قوله فى آخر الكلام فيكون واجبا فهو المطلوب كما لا يخفى. جميع آحاد تلك السّلسلة الجامعة لجميع الممكنات ، أى لو لم يوجد واجب لذاته لكان كلّ موجود ممكنا مستند إلى ممكن آخر فيتحقّق هناك سلسلة مركّبة من ممكنات غير متناهية ، فمجموع تلك السّلسلة الجامعة لجميع الممكنات بحيث لا يشذّ عنها شيء منها موجودة ممكنة. أمّا كونها موجودة فلانّ أجزائها بأسرها موجوده قطعا ، وما يوجد جميع اجزائه فهو موجود ضرورة ، وأمّا كونها ممكنة فلانّها موجودة محتاجة الى كلّ واحد من الممكنات الّتي هى أجزائها ، والموجود المحتاج وخصوصا الى الممكن ممكن قطعا ، كذا قالوا.

ويمكن أن يقال الكلام مبنىّ على فرض انتفاء الواجب لذاته فلا بدّ أن يكون مجموع تلك السّلسلة ممكنة وإلّا لزم خلاف الفرض ، ضرورة انّ الموجود منحصر فى الواجب لذاته والممكن.

وهاهنا بحث من وجهين :

الأوّل ، انّا لا نسلّم انّ مجموع تلك السّلسلة موجود لانّ ما يوجد جميع أجزائه انّما يكون موجودا اذا لم تكن عينيّة الأجزاء للكلّ مشروطة بشرط. وأمّا اذا كانت عينيّتها له مشروطة بشرط فلا يلزم من وجودها وجوده لجواز انتفاء ذلك الشّرط كما فى القضيّة وأجزائها الأربعة المشروطة عينيّتها لها بتعلّق الإيقاع أو الانتزاع بالجزء الرّابع الّذي هو الوقوع او اللاوقوع.

٨٩

وجوابه : انّ وجود الكلّ عين موجودات أجزائه مطلقا بالضّرورة فلا وجه لوجود الأجزاء بدون وجود الكلّ قطعا ، ومنع ذلك مكابرة غير مسموعة. وأمّا حديث القضيّة وأجزائها فمردود بأنّ الجزء الرّابع منها هو الوقوع أو اللاوقوع بشرط الإيقاع أو الانتزاع لا ذات الوقوع أو اللّاوقوع ، إلّا انّ الذّات والتّقييد لما أدّيا فى القضيّة بعبارة واحدة عدّ مجموعهما جزءا واحدا وجعل الأجزاء أربعة لا خمسة.

الثّاني ، انّ ذلك المجموع إنّما يكون موجودا إذا كانت أجزائها مجتمعة فى الوجود ، وأمّا اذا كانت متعاقبة فيه فلا نسلّم كون المجموع موجودا ولا ممكنا ، واجتماع الأجزاء فيما نحن فيه ممنوع لجواز أن لا يكون علّة الحدوث علّة البقاء كما ذهب إليه بعضهم.

وجوابه : انّ المراد بوجود ذلك المجموع وإمكانه اعمّ من أن يكون موجودا بوجودات مجتمعة أو متعاقبة ، وأن يكون ممكنا باعتبار الوجودات المجتمعة او المتعاقبة ، ويكفى هذا فى إثبات المرام إذ لا خفاء فى انّ الموجود المركّب يحتاج إلى المؤثّر باعتبار مجموع وجودات أجزائه ، سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة. على أنّه يجوز أن يكون هذا الاستدلال على رأى الحكماء القائلين بأنّ علّة الحدوث علّة البقاء كما هو الحقّ. واذا كان مجموع آحاد تلك السّلسلة ممكنة.

فتشترك أى تشارك تلك الجميع مع كلّ واحد من آحادها. ويحتمل ان يكون الضّمير راجعا إلى مجموع الجميع والآحاد وحينئذ يكون الاشتراك على ظاهره أى يشترك جميع الآحاد. وكلّ واحد منهما فى امتناع الوجود بذاتها إذ لو كانت موجودة بذاتها لكانت واجبة لذاتها ، هذا خلف. ويتّجه على الملازمة بعض المنوع السّابقة فتذكر. فلا بدّ لها من موجد أى موجد موجود ليتفرّع عليه قوله فيكون واجبا بالضّرورة. وهذا مبنىّ على أنّ كلّ ممكن محتاج إلى موجد موجود. وقد عرفت ما فيه فلا تغفل. خارج عنها بالضّرورة وذلك لأنّ موجد المجموع لو لم يكن خارجا عنه لكان إمّا نفسه او جزء منه ، وكلاهما باطل ، فتعيّن ان يكون خارجا عنه.

أمّا بطلان الأوّل ، فلانّ موجد الكلّ لو كان نفسه من حيث هو هو يلزم أن يكون

٩٠

واجبا لذاته ، وقد ثبت انّه ممكن ، هذا خلف ، مع انّه مستلزم للمطلوب ، ولو كان نفسه من حيث انّه موجود يلزم إمّا تقدم الشيء على نفسه وإما كون الشيء موجودا بوجودين فصاعدا. ضرورة تقدّم العلّة من حيث الوجود على المعلول بالوجود. وهذا توضيح ما قيل : انّ العلّة التّامة للشىء لو كانت نفسه لكان واجبا لذاته لا ممكنا.

وأمّا بطلان الثّاني ، فلان موجدا لكلّ موجد لكلّ جزء من اجزائه وإلّا لم يكن موجدا للكلّ بل للبعض ، فيلزم كون ذلك الجزء علّة لنفسه ولعلله.

وهاهنا أبحاث :

الأوّل ، انه إن أريد بالموجد الفاعل مطلقا فلا نسلّم انّ موجد الكلّ موجد لكلّ جزء منه لجواز أن يكون الفاعل فى إيجاده محتاجا الى شيء لا يستند إليه ، وإن اريد الفاعل المستقلّ فى التأثير بمعنى ما لا يستند المعلول إلّا إليه أو إلى ما صدر عنه فلا نسلّم انّ الممكن لا بدّ له من فاعل مستقلّ فى التّأثير بهذا المعنى.

أقول : يمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد هو مطلق الفاعل كما هو الظّاهر. ولا بدّ أن يكون فاعل الكلّ فاعلا لكلّ جزء منه ، بناء على انّ وجود الكلّ عين وجودات الأجزاء ، فلو لم يكن مفيد وجود الكلّ مفيدا لجميع وجودات الأجزاء لم يكن مفيدا لوجود الكلّ ضرورة انّ مفيد الشيء مفيد لما هو عينه ، إلّا انّ فيه ما ستعرف عن قريب.

الثّاني ، انّه إن أريد بكون موجد الكلّ موجدا لكلّ جزء منه بعينه ، منعناه لجواز أن يكون موجد الكلّ مجموع موجدات الأجزاء لا موجدا لشيء منها اصلا ، كما اذا كان موجد بعض الأجزاء غير موجدا للبعض الآخر كما فيما نحن فيه. وإن أريد انّ موجد الكلّ إمّا عين موجد كلّ جزء منه أو مشتمل عليه فلا نسلّم انّ موجد الكلّ لو كان جزئه يلزم كون ذلك الجزء علّة لنفسه ، ولعدّه لجواز أن يكون موجد الكلّ مجموع موجدات الأجزاء على سبيل التوزيع وهو هاهنا ما قبل المعلول الأخير. ولا محذور فيه ، لانّه لما كان وجود الكلّ عين وجودات الأجزاء قطعا ، ولا فرق بين الكلّ والأجزاء إلّا باعتبار انّ ما لوحظ فى الثّاني بدفعات لوحظ فى الأوّل دفعة واحدة ، كان موجدات الأجزاء

٩١

كافية فى وجود الكلّ ولا حاجة له إلى موجد آخر ضرورة.

وأمّا ما قيل انّ لكلّ واحد من تلك الأجزاء موجدا متقدّما على ما قبل المعلول الأخير ، فهو أولى بأن يكون موجدا للكلّ. ففساده ظاهر ، لأنّ ما قبل المعلول الأخير أولى بان يكون موجدا للكلّ لانّه الموجد لجميع اجزائه توزيعا مع أنّه أكثر اشتمالا على علل الأجزاء ، وكذا الكلام فيما قبل المعلول الأخير ، وهكذا.

الثّالث : انّ ذلك الدّليل لو تمّ بجميع مقدّماته يلزم تعدّد الواجب بل عدم تناهيه ، لانّ المجموع المركّب من جميع الممكنات الموجودة والواجب موجود ممكن لا بدّ له من موجد ، وموجده لا يكون نفسه ولا جزئه لما ذكر بعينه فلا بدّ أن يكون خارجا ، والموجود الخارج عن جميع الممكنات والواجب واجب آخر وهكذا. وكذا الكلام فى المركّب من الواجب ومعلوله الأوّل كالعقل الأوّل ، فإنّ موجده ليس نفسه ولا جزئه ولا ممكنا آخر ، فتعيّن أن يكون واجبا آخر ، وهكذا.

لا يقال : امكان المركبات المذكورة إنّما هو باعتبار أجزائها الممكنة ، وأمّا الأجزاء الواجبة فلا دخل لها فى إمكان تلك المركّبات ، فالممكن بالحقيقة هو تلك الأجزاء الممكنة وموجدها الأجزاء الواجبة فلا محذور ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ اجزاء السّلسلة المفروضة ممكنات صرفة.

لانّا نقول. المركّب من حيث هو مركّب ممكن ، سواء كان مركّبا من الممكن أولا حتّى انّ المركّب من الواجبين ممكن ، وكذا المركّب من الممتنعين ، إذ التّحقيق أنّ التّركيب مطلقا يستلزم الإمكان الذّاتي ولهذا حكموا بان البساطة من لوازم الوجوب الذاتى.

نعم ، يمكن أن يجاب بأنّ المركّب من الواجب والممكن وإن كان ممكنا لكن لا يحتاج إلى موجد يفيد الوجود لنفسه ، بل يكفيه ما يفيد الوجود لجزئه الممكن ، بخلاف الممكن المركّب من الممكنات الصّرفة اذ لا بدّ من موجد يفيد الوجود لنفسه بالضّرورة.

الرّابع : انّهم جعلوا هذا الدّليل من الأدلّة الغير المفتقرة الى ابطال الدّور والتّسلسل.

٩٢

وما ذكر فيه من انّ موجد الكلّ لو كان جزئه يلزم كون ذلك الجزء علّة لنفسه ولعلّه يتضمّن إبطال الدّور قطعا.

وأجيب عنه بانّه يكفى فى بطلان كون الجزء موجدا للكلّ لزوم كونه علّة لنفسه ، وأمّا لزوم كونه علة لعلله فانّما ذكر تبرّعا ، لا لتوقّف المطلوب عليه.

اقول : يمكن أن يجاب عنه بانّ المراد من عدم افتقار هذا الدّليل إلى إبطال الدّور والتّسلسل عدم افتقاره على كلّ منهما على معنى رفع الإيجاب الكلّى لا عدم افتقاره إلى ابطال شيء منهما على معنى السّلب الكلّى ، إذ القسيم المقابل هو الدّليل المفتقر إلى كلّ منهما. وأيضا يجوز أن يكون المراد ببطلان كون الجزء علّة لعلله بطلانه لا من حيث انه دور يستلزم تقدم الشيء على نفسه ، بل من حيث انّه يستلزم توارد العلّتين المستقلّتين على كلّ واحد من الأجزاء الغير المتناهية ، ضرورة انّ لكلّ واحدة من علله علّة مستقلّة أخرى على ما فرض ، على أنّه فرق بين الدّور وكون الشيء علّة لعلله ولو بالاعتبار فليتامّل.

وإذا كان موجدا لجميع خارجا عنه فيكون واجبا بالضّرورة ، إذ الموجود الخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته.

واعترض عليه بانّه إن اريد بتلك السّلسلة الجامعة لجميع الممكنات بحيث لا يشذ عنها ممكن اصلا فهى غير لازمة من الكلام السّابق ، وإن اريد بها السّلسلة الجامعة لجميع الممكنات المتسلسلة المذكورة فالموجود الخارج عنها لا يلزم ان يكون واجبا لذاته بل يجوز أن يكون ممكنا آخر.

وأجيب عنه بأنّا ننقل الكلام الى ذلك الممكن ، فيحصل هناك سلسلة أخرى موجدها إمّا واجب لذاته أو ممكن آخر ، وننقل الكلام إليه وهكذا ، فإمّا أن ينتهى إلى الواجب لذاته أو يحصل هناك سلاسل غير متناهية ، فمجموع السّلسلة المشتملة على تلك السّلاسل الغير المتناهية جامعة لجميع الممكنات بحيث لا يشذّ عنها ممكن أصلا والخارج عنها لا بدّ أن يكون واجبا لذاته وهى المراد بتلك السّلسلة الجامعة لجميع تلك الممكنات ، إذ الكلام بالأخرة ينجرّ إليه.

٩٣

أقول : لا يلزم أن يكون تلك السّلسلة المشتملة على جميع تلك السّلاسل المترتّبة الغير المتناهية أيضا جامعة لجميع الممكنات بحيث لا يشذّ عنها ممكن أصلا ، لجواز ان يكون الخارج عنها ممكنا آخر أيضا ، ولو نقل الكلام آخرا الى مجموع المركبات الموجودة الغير المتناهية بحيث لا يشذّ عنها ممكن أصلا فلا يلزم أن يكون بين جميع أجزائها ترتّب لجواز أن يكون بعض أجزائها غير مستند إلى بعض آخر أصلا ، فلا يكون هناك تسلسل باطل على رأى الحكماء ، ولا يدلّ هذا الدليل على بطلان التّسلسل اصلا ، ولهذا اخذوا الترتّب بين أجزاء تلك السّلسلة ولم يردّدوا من أوّل الأمر فى مجموع الممكنات الموجودة بحيث لا يشذّ عنها ممكن آخر موجود. إلّا أن يقال انّما ننقل الكلام آخرا الى السّلسلة المشتملة على جميع السّلاسل المرتبة الغير المتناهية ، والموجود الخارج عنها وإن جاز ان يكون ممكنا آخر لكن لا يجوز ان يكون الموجود الخارج عنها الموجد لها ممكنا آخر والّا لحصل هناك سلسلة أخرى غير متناهية فتكون داخلة فى تلك السّلسلة المفروضة ضرورة ، أنّها فرضت مشتملة على جميع السّلاسل المترتّبة الغير المتناهية ، فحينئذ لا بدّ أن يكون موجد تلك السّلسلة المفروضة واجبا لذاته. لكن على هذا يكون المراد بقولهم الموجود الخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته ، انّ الموجود الخارج عن جميع الممكنات الموجد لها واجب لذاته بقرينة انّ الكلام فى موجدها فلا اشكال.

نعم لو قالوا : الموجود الخارج عن جميع الممكنات واجب لذاته أو مستلزم له لكان أولى ، لجواز أن يكون موجد تلك السّلسلة ممكنا آخر مستندا إلى الواجب ابتداء أو بواسطة او مركّبا من الواجب وممكن آخر أو ممكنا آخر مستندا الى هذا المركّب كما لا يخفى ، وهو المطلوب.

أورد عليه انّ ثبوت الواجب على تقدير عدم ثبوته يكون خلفا لانّها على تقدير نقيض المطلوب لا مطلوبا ، كانّه قيل عدم ثبوت الواجب يستلزم ثبوته فيكون محالا ، ضرورة انّ ما كان مستلزما لنقيضه كان محالا فيكون ثبوت الواجب حقّا.

وأجيب عنه بأنّ الحال كما ذكر ، لكن الخلف اللّازم قد يكون عين المطلوب

٩٤

ولذلك يقال : هذا خلف ، ومع ذلك هو مطلوبنا.

أقول : ذلك الإشكال إنّما يتّجه لو قرّر الدّليل بطريق الخلف ، ويمكن تقريره بطريق القياس الاستثنائي مع وضع المقدّم بأن يقال إذا كان هاهنا موجود فالواجب ثابت ، لكن هاهنا موجود ، فالواجب ثابت. أمّا وضع المقدّم فظاهر ، وأمّا الملازمة فلانّه إذا كان هاهنا موجود يلزم إمّا كونه واجبا وإمّا استناده إليه بواسطة أو بغير واسطة ، وإمّا الدّور او التّسلسل ، وعلى كلّ تقدير يلزم ثبوت الواجب. أمّا على التقدير الأوّل فظاهر وأمّا على التّقديرين الأخيرين فلانّهما يستلزمان وجود سلسلة غير متناهية مشتملة على جميع الممكنات قطعا ، وتلك السّلسلة ممكن موجود لا بدّ لها من موجد موجود خارج عنها وهو الواجب ، فيلزم ثبوت الواجب على كلّ تقدير ، وهو المطلوب.

وعلى هذا الإشكال على انّه يمكن أن يقال المراد بقوله هو المطلوب انّه المطلوب الّذي فرض نقيضه باطلا فيكون المطلوب حقّا فتفطّن. هذا تقرير الكلام على تقدير كونه دليلا برأسه على ثبوت الواجب لذاته كما هو المطلوب ، وامّا تقرير الكلام على تقدير كونه دليلا على بطلان التّسلسل فبأن يقال التّسلسل اللّازم هاهنا باطل ، لانّ كون الواجب لذاته موجدا لتلك السّلسلة يستلزم انقطاعها ، قطعا إذ الواجب الموجد لها ان لم يوجد بعض آحادها لم يكن موجدا لها ، ضرورة انّ موجد الكلّ لا بد أن يكون موجدا لبعض أجزائه وإن كان موجدا لبعض آحادها فلا بدّ أن ينقطع السّلسلة عنده وإلّا لزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد.

وأورد عليه انّ هذا إنّما يلزم إذا كان لكلّ واحد من آحاد السّلسلة علّة مستقلّة فى تلك السّلسلة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا يلزم ذلك لجواز أن يكون موجد كلّ واحد من آحادها هو الواجب مع ما فوقه من العلل ، فلا يلزم بطلان التّسلسل مطلقا.

ويمكن أن يجاب منه بأنّ المفروض فى تلك السّلسلة أن يكون لكلّ واحد من آحادها موجدا فيها ، فلو كان الواجب موجدا لشيء منها يلزم توارد العلّتين الفاعلتين على معلول واحد ، ولا شكّ انّه يستلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد ،

٩٥

إلّا انّ هذا الدّليل إنّما يدلّ على بطلان التسلسل فى العلل الفاعليّة أو المستقلّة دون العلل مطلقا ولا محذور فيه ، لانّه كما لا يبطل التّسلسل فى المعلولات يجوز أن لا يبطل التّسلسل فى العلل مطلقا بناء على انّ المقصود هاهنا ابطال التّسلسل فى الجملة. وأمّا ابطاله مطلقا فانّما هو بادلّة أخرى.

وقد يجاب بأنّ المفروض فى السّلسلة المذكورة أن يكون لكلّ من واحد آحادها علّة مستقلّة فيها ، فعلى هذا يلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد قطعا.

وفيه نظر ، لانّ العلّة المستقلّة لا يجب أن تكون موجودة ، فلو كان الكلام السّابق فى العلّة المستقلّة للممكن لم يحصل هناك سلسلة فضلا عن سلسلة غير متناهية موجودة ، فليتأمّل.

فان قلت ، الحكم ببطلان التّسلسل فيما سبق كان مقدّمة لدليل إثبات الواجب ، فلو كان قوله لأنّ جميع آحاد تلك السّلسلة الخ ، دليلا على هذه المقدّمة ومن مقدّماته إثبات الواجب حيث قال فيكون واجبا بالضّرورة يلزم الدّور والمصادرة على المطلوب.

قلت ، يمكن تقرير هذا الدّليل بأنّ التّسلسل مستلزم لوجود سلسلة جامعة لجميع الممكنات ووجود تلك السلسلة مستلزم لوجود الواجب المؤثّر فيها ، ووجود الواجب المؤثّر فيها مستلزم لانقطاع السلسلة على ما عرفت بيانه ، فيكون وقوع التّسلسل مستلزما لانتفائه ، ضرورة انّ المستلزم للمستلزم للشىء مستلزم لذلك الشيء ، وما كان وقوعه مستلزما لانتفائه له يكون باطلا قطعا. وعلى هذا لا يستدعى قوله فيكون واجبا بالضّرورة أن يكون إثبات الواجب من مقدّمات دليل إبطال التسلسل حتّى يستلزم المصادرة على المطلوب. نعم لو اكتفى فى موجد تلك السّلسلة بكونه موجدا خارجا عنها ، ولم يتعرّض يكونه واجبا لكفى إبطال التّسلسل وسلّم عن توهّم الدّور. وهذا أيضا يؤيّد أن يكون قوله ولأنّ بالواو العاطفة دليلا آخر على إثبات الواجب على وفق ما اشتهر فيما بينهم ، على ما لا يخفى.

أقول : يمكن أن يستدلّ على بطلان التّسلسل المذكور بأن يقال جميع آحاد تلك

٩٦

السلسلة الجامعة ممكن موجود لا بدّ له من موجد ، وموجدها لا يجوز أن يكون نفسها ولا جزئها لما بيّنا سابقا ولا خارجا عنها ، وإلّا يلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد قطعا ، فيكون التّسلسل المستلزم لوجود تلك السّلسلة الجامعة باطلا بالضّرورة.

أو يقال لا يجوز أن يكون لتلك السّلسلة موجدا اصلا ، والّا يلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد ، سواء كان ذلك الموجد نفسها أو جزء منها أو خارجا عنها ، لما تقرّر أن موجد الكلّ لا بد ان يكون موجدا لكلّ جزء منه فيكون التّسلسل المستلزم لوجود تلك السّلسلة باطلا قطعا.

أو يقال لو كان لتلك السّلسلة موجد سواء كان نفسها أو جزء منها أو خارجا عنها يلزم انقطاعها قطعا ، لأنّ ذلك الموجد لا بدّ أن يكون موجدا لكلّ جزء منها ، فلا محالة يكون موجدا لبعض آحادها بحيث يلزم الانقطاع عنده لما عرفت آنفا.

وأيضا يمكن أن يستدلّ على ثبوت الواجب بأنّ مجموع الممكنات الموجودة معا أو فى الجملة ممكن موجود قطعا ، فلا بدّ من موجد. وذلك الموجد لا يمكن أن يكون نفس ذلك المجموع ولا اجزائه فلا بدّ أن يكون خارجا عنه ، والموجود الخارج عن جميع الممكنات الموجودة واجب لذاته ، كما لا يخفى.

٩٧

الفصل الثّاني

من الفصول السبعة

فى

إثبات صفاته الثّبوتيّة

وهى صفات ثمان : القدرة والعلم والحياة والإرادة مع الكراهة والإدراك والسّرمديّة والكلام والصدق.

وقد زاد صاحب التّجريد على هذه الصّفات صفات ثبوتية أخرى مثل : الجود والملك والحكمة والقيّوميّة ونحوها. والحقّ أنّه إن أريد أصول الصّفات الثبوتية فهى منحصرة فى القدرة والعلم والحياة بحسب المفهوم. وأما الإرادة والكراهة والإدراك والصّدق فهى من فروع العلم وراجعة إليه ، والكلام من فروع القدرة وراجع إليها ، والسّرمديّة راجعة إلى الوجود ، وإن كان الكلّ بحسب الذّات راجعا إلى الذّات ومتّحدا معه بالذّات. وإن أريد مطلق الصّفات سواء كانت أصولا أو فروعا فهى غير منحصرة فيما ذكره المصنّف بل فيما ذكره صاحب التجريد أيضا ، إلا ان يقال المقصود بيان الاصول وإنّما ذكر بعض الفروع لزيادة اعتنائه بشأنه لما فيه من الاختلاف فى الجملة. فالمراد من الصّفات الثّبوتيّة هاهنا الصّفات الثّبوتيّة الّتي لها زيادة اهتمام بشأنها ، كذا الكلام فى الصّفات السّلبيّة فليتأمّل.

٩٨

الصّفة الأولى أنّه تعالى قادر مختار ، القدرة والاختيار لفظان مترادفان ومشتركان بين معنيين :

أحدهما كون الفاعل بحيث يصحّ منه الفعل والتّرك بمعنى انّه لا يلزمه أحدهما إلا بشرط الإرادة ، ويقابله الإيجاب وهو كونه بحيث يلزمه أحد الطّرفين بلا اشتراط الإرادة.

وثانيهما كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، والمراد هاهنا المعنى الأوّل لانّه المختلف فيه بين المتكلّمين والحكماء القائلين بالإيجاب. وأمّا كونه تعالى مختارا بالمعنى الثّاني فمتّفق عليه بين الفريقين إلا انّ الحكماء ذهبوا الى أنّ المشيّة من لوازم ذاته من حيث هى هى يمتنع انفكاكها عنه ، فمقدّم الشّرطيّة الأولى واجب الصّدق ومقدّم الثّانية واجب الكذب ، وكلتا الشّرطيّتين صادقتان فى حقّه تعالى ، فهذا المعنى لا ينافى الإيجاب ، ضرورة أن الفعل إذا كان لازما للمشيّة وهى لازمة للذّات من حيث هى هى كان الفعل لازمان للذّات من حيث هى هى وهو الإيجاب ، بخلاف المعنى الأولى فإنّه يقتضي أن لا يكون الإرادة لازمة للذّات من حيث هى هى ، فلا يكون فعل اللّازم للإرادة لازما للذّات من حيث هى هى فيكون منافيا للإيجاب قطعا. وبهذا التّحقيق اندفع ما توهّم أنّ المعنى الأوّل أيضا لا ينافى الإيجاب لأنّ أحد الطّرفين لا يلزم الذّات بدون الإرادة اتّفاقا ويلزمها مع الإرادة اتّفاقا فلا تغفل.

وإنّما قدّم صفة القدرة على صفة العلم مع أنّ العلم أعمّ من القدرة لشمولها الممكنات والممتنعات واختصاص القدرة بالممكنات ، وتقديم الأعمّ أولى كما لا يخفى ، لأنّ القدرة بالمعنى المقصود مختلف فيها بين الحكماء والمتكلّمين بخلاف العلم ، اذ لم ينكره إلا شرذمة قليلة من قدماء الحكماء ففيها زيادة اهتمام يقتضي تقديمها.

وأمّا ما قيل من أنّ تقديم القدرة على العلم لكونها اصلا بالنّسبة إليه متضمّنة له فانّ القدرة مشتملة على الدّاعى وهو العلم بالمصلحة. وما قيل انّ تقديم القدرة لاستدعاء القدرة الصّنع ففيها ما لا يخفى ، لانّ العالم هو ما سوى الله من أجناس الموجودات كما يقال : الإنسان عالم والحيوان عالم والنّبات عالم وربّما يطلق على الكلّ وهو المراد

٩٩

هاهنا ، أى جميع ما سوى الله من الموجودات محدث ، أى موجود مسبوق وجوده بعدمه سبقة زمانيّة. والمراد أنّ مجموع العالم محدث بجميع أجزائه خلافا لجمهور الحكماء فان من عدا افلاطون وجالينوس منهم ذهبوا إلى أنّ العالم قديم فى الجملة.

أمّا الفلكيّات فبموادّها وصورها الجسميّة والنوعيّة وأعراضها غير الحركات والأوضاع الشّخصيّة ، وأمّا العنصريّات فبموادّها وصورها الجسميّة المطلقة بذواتها وصورها النّوعية إمّا بجنسها أو بنوعها. وأمّا الحدوث والقدم الذّاتيّان وهما الاحتياج فى الوجود إلى الغير وعدم الاحتياج فيه إليه فهو من مصطلحات الفلاسفة ولا خلاف فى كون العالم حادثا بهذا المعنى. والدّليل على كون العالم محدثا بجميع أجزائه أن العالم إمّا أجسام وإمّا أجزائها سواء كانت هيوليات وصورا أو جواهر فردة أو ما فى حكمها من الخطوط والسّطوح الجوهريّة ، وإما أعراض قائمة بها ، وكلّ واحد من اقسام الثّلاثة محدث ، فالعالم بجميع أجزائه محدث. أمّا حدوث القسمين الأوّلين فظاهر ، لأنّ كلّ جسم فلكيّا كان أو عنصريّا وكذا أجزائه فإنّه لا ينفكّ عن الحوادث ، أى كلّ جسم يوجد فانه لا ينفكّ عن شيء من الحوادث ، ولذا صحّ دخول الفاء فى خبر أنّ على القول المختار ، والحوادث جمع حادث وهو بمعنى المحدث ، كالكواهل جمع كاهل أعنى الحركة والسّكون وذلك لأنّ الجسم وأجزائه لا ينفكّ عن التحيّز ، وما لا ينفكّ عن التحيّز لا ينفكّ عن الحركة والسّكون.

أمّا الصّغرى فلانّ كلّ واحد من الجسم وأجزائه جوهر وهو عبارة عمّا قام بذاته ، ومعنى القيام بالذّات عند المتكلّمين هو التحيّز بالذّات. وأمّا الكبرى فلأنّ التحيّز هو الكون فى الحيّز ، وهو إن كان كونا أوّلا فى حيّزان فهو حركة ، وإن كان كونا ثانيا فى حيّز أوّل فهو سكون وهو المراد بقول بعضهم : انّ الحركة كون الأوّل فى مكان ثان والسّكون كون ثان فى مكان أوّل حيث أراد بالمكان الحيّز وإلّا فهو أخصّ من الحيّز ، لانه بعد موجود أو موهوم ينفذ فيه بعد الجسم ، والحيّز بعد يشغله شيء ممتدّا أو غير ممتد ، وهو المراد حتى يشتمل الجواهر الفردة وما فى حكمها. فمن قال المراد بالمكان بعد الجسم

١٠٠