الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

الدّهماء ، وجرّب قواعد السياسة ، علم ضرورة انّ النّاس اذا كان لهم رئيس مطاع مرشد فيما بينهم يردع الظّالم عن ظلمه ، والباغي عن بغيه ، وينتصف المظلوم من ظالمه ، ومع ذلك يحملهم على القواعد العقليّة والوظائف الدينيّة ، ويردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النّظام فى أمور معاشهم وعن القبائح الموجبة للوبال فى معادهم ، بحيث يخاف كلّ واحد من مؤاخذته على ذلك ، كانوا مع ذلك الى الصّلاح أقرب ومن الفساد ابعد. ولا نعنى باللّطف الّا ذلك ويكون الإمامة لطفا وهو المطلوب.

واعلم انّ كل ما دلّ على وجوب النّبوّة فهو دالّ على وجوب الإمامة إذ الإمامة خلافة عن النّبوّة قائمة مقامها الا فى تلقّى الوحى الالهى بلا واسطة ، وكما ان تلك واجبة على الله تعالى فى الحكمة ، فكذا هذه. وأمّا الّذين قالوا بوجوبها على الخلق ، فقالوا يجب عليهم نصب الرّئيس لدفع الضّرر من أنفسهم ، ودفع الضّرر واجب. قلنا لا نزاع فى كونها دافعة للضّرر وكونها واجبة ، وانّما النّزاع فى تفويض ذلك الى الخلق لما فى ذلك من الاختلاف الواقع فى تعيين الأئمّة فيؤدّي الى الضّرر المطلوب زواله. وأيضا اشتراط العصمة ووجوب النّص يدفع ذلك كلّه.

قال : الثّاني يجب أن يكون الإمام معصوما ، وإلّا تسلسل ، لأنّ الحاجة الدّاعية إلى الإمام هى ردع الظّالم عن ظلمه والانتصاف للمظلوم منه ، فلو جاز أن يكون غير معصوم لافتقر إلى إمام اخر ويتسلسل وهو محال. ولأنّه لو فعل المعصية ، فإن وجب الإنكار عليه سقط محلّه من القلوب وانتفت فائدة نصبه ، وإن لم يجب سقط وجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وهو محال ، ولانّه حافظ للشّرع فلا بدّ من عصمته ليؤمن من

٤١

الزّيادة والنّقصان. وقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

اقول : لما ثبت وجوب الإمامة شرع فى تبيين الصّفات التى هى شرط فى صحّة الإمامة. فمنها العصمة وقد عرفت معناها ، واختلف فى اشتراطها فى الإمام. فاشترطها اصحابنا الاثنى عشرية والاسماعيليّة خلافا لباقى الفرق. واستدلّ المصنّف على مذهب اصحابنا بوجوه : الأوّل ، انّه لو لم يكن الإمام معصوما ، لزم عدم تناهى الأئمّة ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة أنا قد بينا انّ العلة المحوجة إلى الإمام هى ردع الظّالم عن ظلمه ، والانتصاف للمظلوم منه ، وحمل الرّعية على ما فيه مصالحهم وردعهم عما فيه مفاسدهم. فلو كان هو غير معصوم ، افتقر إلى إمام آخر يردعه عن خطائه ، وينقل الكلام الى الآخر ، ويلزم عدم تناهى الأئمّة وهو باطل. الثّاني ، لو لم يكن معصوما لجازت المعصية عليه ، ولنفرض وقوعها وحينئذ يلزم إمّا انتفاء فائدة نصبه أو سقوط الامر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، واللّازم بقسميه باطل ، فكذا الملزوم. وبيان للّزوم انّه إذا وقعت المعصية عنه ، فإمّا أن يجب الإنكار عليه أولا ، فمن الأوّل يلزم سقوط محلّه من القلوب ، وأن يكون مأمورا بعد ان كان آمرا ، أو منهيّا عنه بعد ان كان ناهيا ، وحينئذ تنتفى الفائدة المطلوبة من نصبه ، وهى تعظيم محلّه فى القلوب والانقياد لأمره ونهيه. ومن الثّاني ، يلزم عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وهو باطل اجماعا. الثّالث ، انه حافظ للشّرع ، وكلّ من كان كذلك وجب أن يكون معصوما. اما الأوّل فلانّ الحافظ للشّرع إمّا الكتاب أو السنّة المتواترة او الإجماع أو البراءة الأصلية أو القياس أو خبر الواحد أو الاستصحاب. فكلّ واحد من هذه غير صالح للمحافظة. أمّا الكتاب والسّنة فلكونهما غير وافيين بكلّ الأحكام ، مع انّ لله تعالى فى كلّ واقعة حكما يجب تحصيله. وأمّا الإجماع فلوجهين : الأوّل ، تعذّره فى أكثر الوقائع مع انّ لله فيها حكما. الثّاني ، انه على تقدير عدم المعصوم لا يكون فى الإجماع حجّيّة ، فيكون الإجماع غير مفيد لجواز الخطاء على كل واحد منهم وكذا على الكلّ. ولجواز الخطاء على الكلّ اشار تعالى بقوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ

٤٢

عَلى أَعْقابِكُمْ) وقال (ص) : ألا لا ترجعوا بعدى كفّارا فانّ هذا الخطاب لا يتوجّه إلّا الى من يجوز عليه الخطاء قطعا. اذ لا يقال للانسان : لا تطر إلى السّماء لعدم جواز ذلك عليه. وأمّا البراءة الاصليّة فلانه يلزم منه ارتفاع أكثر الأحكام الشّرعيّة إذ يقال الاصل براءة الذّمّة من وجوب أو حرمة. وأمّا الثلاثة الباقية فتشترك فى إفادتها الظّنّ ، و (الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) خصوصا والدّليل قائم فى منع القياس ، وذلك لان مبنى شرعنا على اختلاف المتّفقات كوجوب صوم آخر شهر رمضان وتحريمه أوّل شوّال ، واتّفاق المختلفات كوجوب الوضوء من البول والغائط ، واتّفاق القتل خطاء والظهار فى الكفّارة ، هذا مع أنّ الشّارع قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير ، وجلد بقذف الزنا وأوجب فيه أربع شهادات دون الكفر. وذلك كلّه ينافى القياس وقد قال رسول الله (ص) : تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب وبرهة بالسّنّة وبرهة بالقياس ، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا وأضلّوا فلم يبق ان يكون الحافظ للشّرع إلا الإمام وذلك هو المطلوب. وقد اشار البارى تعالى بقوله (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). وأمّا الثّاني فلانه إذا كان حافظا للشّرع ولم يكن معصوما لما آمن فى الشّرع من الزّيادة والنّقصان والتّغيير والتبديل. والرّابع ، انّ غير المعصوم ظالم ولا شيء من الظالم بصالح للإمامة ، فلا شيء من غير المعصوم بصالح للامامة. أما الصغرى ، فلان الظالم واضع للشىء فى غير موضعه ، وغير المعصوم كذلك. واما الكبرى ، فلقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) والمراد بالعهد عهد الامامة لدلالة الآية على ذلك.

قال : الثّالث ، الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه ، لأنّ العصمة من الأمور الباطنة الّتي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فلا بدّ من نصّ من يعلم عصمته عليه أو ظهور معجزة على يده تدلّ على صدقه.

اقول : هذه إشارة إلى طريق تعيين الإمام ، وقد حصل الإجماع على أن التّنصيص

٤٣

من الله ورسوله او إمام سابق سبب مستقلّ فى تعيين الإمام. وانّما الخلاف فى انّه هل يحصل تعيينه بسبب غير النّصّ أم لا. فمنع اصحابنا الامامية من ذلك ، وقالوا لا طريق إلّا النّصّ لأنا قد بيّنا أن العصمة شرط فى الإمامة ، والعصمة أمر خفىّ لا اطلاع عليه لأحد إلا الله ، فلا يحصل حينئذ العلم بها فى أىّ شخص هى إلّا بإعلام عالم الغيب. وذلك يحصل بأمرين : أحدهما ، إعلامه بمعصوم كالنّبىّ فيخبرنا بعصمة الإمام وتعيينه. وثانيهما ، إظهار المعجزة على يده الدّالة على صدقه فى ادّعائه الإمامة. وقال اهل السّنة اذا بايعت الأمّة شخصا غلب عندهم استعداده لها ، واستولى بشوكته على خطط الإسلام ، صار إماما. وقالت الزّيديّة كلّ فاطمىّ عالم زاهد خرج بالسّيف وادّعى الإمامة فهو إمام. والحق خلاف ذلك من وجهين : الأوّل أنّ الإمامة خلافة عن الله ورسوله فلا يحصل إلا بقولهما. والثّاني ، انّ إثبات الإمامة بالبيعة والدّعوى يفضى إلى الفتنة لاحتمال أن يبايع كلّ فرقة شخصا ، أو يدّعى كلّ فاطمىّ عالم الإمامة فيقع التحارب والتجاذب.

قال : الرّابع ، الإمام يجب أن يكون أفضل الرّعيّة لما تقدّم فى النّبيّ.

اقول : يجب أن يكون الإمام أفضل اهل زمانه لانّه مقدّم على الكلّ ، فلو كان فيهم من هو أفضل منه لزم تقدّم المفضول على الفاضل ، وهو قبيح عقلا وسمعا ، وقد تقدّم بيانه فى النّبوّة.

قال : الخامس ، الإمام بعد رسول الله (ص) عليّ بن أبى طالب (ع) للنّصّ المتواتر من النّبيّ (ص) ولأنّه أفضل اهل زمانه لقوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) ومساوى الأفضل أفضل ، ولاحتياج النّبيّ إليه فى المباهلة ، ولأنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، ولا أحد من غيره ممن ادّعى له الإمامة بمعصوم إجماعا ، فيكون هو الإمام. ولأنّه

٤٤

أعلم لرجوع الصّحابة فى وقائعهم إليه ، ولم يرجع هو إلى أحد منهم ، ولقوله (ص) : أقضاكم عليّ. والقضاء يستدعى العلم ، ولأنّه أزهد من غيره حتّى طلّق الدّنيا ثلاثا.

اقول : لما فرغ من شرائط الإمامة ، شرع فى تعيين الإمام. وقد اختلف النّاس فى ذلك ، فقال قوم إنّ الإمام بعد رسول الله العبّاس بن عبد المطلب بارثه. وقال جمهور المسلمين هو أبو بكر بن ابن أبى قحافة باختيار النّاس له. وقالت الشّيعة هو عليّ بن أبى طالب (ع) بالنّصّ عليه من الله ورسوله ، وذلك هو الحقّ. وقد استدلّ المصنّف على حقيّته بوجوه :

الأوّل ، ما نقلته الشّيعة نقلا متواترا بحيث أفاد العلم يقينا من قول النّبيّ (ص) فى حقّه : سلّموا عليه بامرة المؤمنين وأنت الخليفة من بعدى وأنت ولىّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدى وغير ذلك من الفاظ الدّالة على المقصود ، فيكون هو الإمام ، وذلك هو المطلوب.

الثّاني ، انّه أفضل النّاس بعد رسول الله (ص) فيكون هو الإمام لقبح المفضول على الفاضل. أمّا انه افضل فلوجهين :

الأوّل ، انه مساو للنبىّ (ص) والنبىّ أفضل فكذا مساويه ، وإلا لم يكن مساويا. أمّا انه مساوله فلقوله تعالى فى آية المباهلة : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) والمراد بانفسنا هو على بن ابى طالب (ع) لما ثبت بالنّقل الصحيح ، ولا شكّ انه ليس المراد به انّ نفسه هى نفسه لبطلان الاتّحاد ، فيكون المراد انّه مثله ومساويه ، كما يقال : زيد الاسد أى مثله فى الشّجاعة ، واذا كان مساويا له كان أفضل وهو المطلوب. الثّاني ، ان النّبي (ص) احتاج إليه فى المباهلة فى دعائه دون غيره من الصّحابة والأنساب ، والمحتاج إليه أفضل من غيره خصوصا فى هذه الواقعة العظيمة الّتي هى من قواعد النّبوّة ومؤسّساتها. الثّالث ، انّ الامام يجب أن يكون معصوما ولا شيء من غير عليّ (ع) ممّن ادّعيت له الإمامة بمعصوم ، فلا شيء من غيره بإمام. أما الصّغرى فقد تقدّم بيانها ، واما الكبرى

٤٥

فللإجماع على عدم عصمة العبّاس وابى بكر ، فيكون على (ع) هو المعصوم ، فيكون هو الإمام ، وإلّا لزم إمّا خرق الإجماع لو اثبتناها لغيره ، أو خلوّ الزّمان من إمام معصوم ، وكلاهما باطلان.

الرّابع ، انّه أعلم النّاس بعد رسول الله فيكون هو الإمام. أمّا الأوّل فلوجوه : الأوّل ، انّه كان شديد الحدس والذّكاء والحرص على التعلّم ودائم المصاحبة للرّسول الّذي هو الكامل المطلق بعد الله ، وكان شديد المحبّة له والحرص على تعليمه. وإذا اتّفق هذا الشّخص وجب أن يكون أعلم من كلّ أحد بعد ذلك المعلّم وهو ظاهر. الثّاني ، انّ اكابر العلماء من الصّحابة والتّابعين كانوا يرجعون إليه فى الوقائع الّتي تعرض لهم ويأخذون بقوله ويرجعون عن اجتهادهم وذلك بيّن فى كتب التواريخ والسّير. والثّالث ، انّ أرباب الفنون فى العلوم كلّها يرجعون إليه فانّ أصحاب التّفسير يأخذون بقول ابن عباس ، وهو كان أحد تلامذته ، حتى قال : انه شرح لى فى باء بسم الله الرّحمن الرّحيم من أوّل الليل الى آخره وأرباب الكلام يرجعون إليه. أمّا المعتزلة فيرجعون إلى أبى على الجبائى ، وهو يرجع فى العلم الى ابى هاشم بن محمد بن الحنفية وهو يرجع إلى أبيه (ع). وامّا الأشاعرة فلانّهم يرجعون الى أبى الحسن الأشعرى ، وهو تلميذ أبى على الجبائى. وأمّا الامامية فرجوعهم إليه ظاهر ، ولو لم يكن إلّا كلامه فى نهج البلاغة وغيره الّذي قرّر فيه المباحث الالهيّة فى التّوحيد والعدل والقضاء والقدر وكيفيّة السّلوك ومراتب المعارف الحقيّة وقواعد الخطابيّة وقوانين الفصاحة والبلاغة وغير ذلك من الفنون ، لكان فيه غنية للمعتبر وعبرة للمتفكّر. وأمّا ارباب الفقه فرجوع رؤساء المجتهدين من الفرق الى تلامذته مشهور ، وفتاويه العجيبة فى الفقه مذكورة فى مواضعها ، كحكمه فى قضية الحالف انه لا يحلّ قيد عبده حتى يتصدّق بوزنه فضّة ، وحكمه فى قضية صاحب الأرغفة وغير ذلك. الرّابع ، قول النبىّ (ص) فى حقه أقضاكم عليّ ومعلوم انّ القضاء يحتاج فيه الى العلوم الكثيرة فيكون محيطا بها. الخامس قوله (ص) : لو ثنّيت لى الوسادة فجلست عليها لحكمت

٤٦

بين أهل التّورية بتوراتهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزّبور بزبورهم. والله ما من آية نزلت فى ليل أو نهار أو سهل أو جبل إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت وفى أىّ شيء نزلت وذلك يدلّ على إحاطته بمجموع العلوم الإلهية ، وإذا كان أعلم كان متعيّنا للإمامة وهو المطلوب.

الخامس ، انه أزهد النّاس بعد رسول الله (ص) ، فيكون هو الإمام ، لأن الأزهد أفضل. أمّا انّه أزهد فناهيك فى ذلك تصفّح كلامه فى الزّهد والمواعظ والأوامر والزّواجر والاعراض عن الدّنيا ، وظهرت آثار ذلك عنه حتى طلّق الدّنيا ثلثا ، وأعرض عن مستلذّاتها فى المأكل والملبس ولم يعرف له احد ورطة فى فعل دنيوى حتّى انه كان يختم اوعية خبزه فقيل له فى ذلك فقال : أخاف أن يضع لى فيه أحد ولدى اداما. ويكفيك بزهده أنّه اثر بقوته وقوت عياله المسكين واليتيم والأسير ، حتى نزل فى ذلك قران دلّ على افضليّته وعصمة.

قال : والأدلّة فى ذلك لا تحصى كثرة

اقول ، الدّلائل على إمامة على (ع) أكثر من أن تحصى ، حتّى انّ المصنّف وضع كتابا فى الإمامة وسمّاه كتاب الالفين وذكر فيه الفى دليل على إمامته ، وصنّف فى هذه الفنّ جماعة من العلماء مصنّفات كثيرة لا يمكن حصرها ، ونذكرها جملة من ذلك تشريفا وتيمّنا بذكر فضائله وهو من وجوه :

الأوّل ، قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) وذلك يتوقّف على وجوه : الأوّل ، إنّما للحصر بالنّقل عن أهل اللغة. قال الشّاعر :

انا الذّائد الحامى الذّمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى

فلو لم يكن للحصر لم يتمّ افتخاره. الثّاني ، انّ المراد بالولىّ إمّا الأولى بالتّصرّف

٤٧

أو النّاصر ، اذ غير ذلك من معانيه غير صالح هنا قطعا ، لكن الثّاني باطل لعدم اختصاص النّصرة بالمذكور فتعيّن المعنى الأوّل. الثّالث ، ان الخطاب للمؤمنين لان قبله بلا فاصل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) ، الآية ثم قال (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) فيكون الضمير عائدا إليهم حقيقة. الرابع ، ان المراد بالّذين آمنوا فى الآية هو بعض المؤمنين لوجهين : الأوّل ، انه لو لا ذلك لكان كلّ واحد وليا لنفسه بالمعنى المذكور وهو باطل. الثّاني ، انه وصفهم بوصف غير حاصل لكلّهم ، وهو ايتاء الزّكاة حال الرّكوع اذا الجملة هنا حالية. الخامس ، ان المراد بذلك البعض وهو على بن ابى طالب (ع) خاصّة للنقل الصّحيح ، واتّفاق اكثر المفسّرين على أنه كان يصلّى ، فسأله سائل فاعطاه خاتمه راكعا. واذا كان (ع) أولى بالتّصرّف فينا ، تعيّن أن يكون هو الامام لأنّا لا نعنى بالإمام الا ذلك.

الثّاني ، انه نقل نقلا متواترا انّ النّبيّ (ص) لما رجع من حجّة الوداع أمر بالنّزول بغدير خم وقت الظهر ووضعت له الأحمال شبه المنبر وخطب النّاس واستدعى عليا ورفع بيده وقال : أيّها النّاس ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى يا رسول الله. قال : فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه كيف ما دار يكرّر ذلك عليهم. والمراد بالمولى هو الأولى ، لانّ أوّل الخبر يدلّ على ذلك وهو قوله (ص) : ألست أولى بكم ولقوله تعالى فى حقّ الكفار : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) اى أولى بكم. وأيضا فان غير ذلك من معانيه غير جائز هنا ، كالجار والمعتق والحليف وابن العمّ ، لاستحالة ان يقوم النبىّ فى ذلك الوقت الشّديد الحرّ ويدعوا النّاس ويخبرهم بأشياء لا مزيد فائدة فيها بأن يقول من كنت جاره او معتقه او ابن عمّه ، فعلىّ كذلك. واذا كان عليّ هو الأولى بنا ، فيكون هو الإمام.

الثّالث ، ورد متواترا انّه (ص) قال لعلىّ : أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبىّ بعدى أثبت له جميع مراتب هارون من موسى ،

٤٨

واستثنى النّبوّة. ومن جملة منازل هارون من موسى انّه كان خليفة له لكنّه توفّى قبله ، وعليّ عاش بعد رسول الله فيكون خلافته ثابتة ، إذ لا موجب لزوالها.

الرّابع قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فالمراد بأولى الأمر إمّا من علمت عصمته أو لا ، والثّاني باطل لاستحالة أن يأمر الله بالطّاعة المطلقة لمن يجوز عليه الخطاء ، فتعين الأوّل ، فيكون هو عليّ ابن أبى طالب اذ لم تدّع العصمة الّا فيه وفى أولاده فيكونوا هم المقصودين ، وهو المطلوب. وهذا الاستدلال بعينه جار فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

الخامس ، أنه ادّعى الامامة ، وظهر المعجزة على يده ، وكلّ من كان كذلك فهو صادق فى دعواه. أمّا انّه ادّعى الإمامة فظاهر فى كتب السّير والتواريخ حكاية اقواله وشكايته ومخاصمته ، حتى أنّه لما راى تخاذلهم عنه قعد فى بيته واشتغل بجمع كتاب ربّه ، وطلبوه للبيعة فامتنع فاضرموا فى بيته النّار وأخرجوه قهرا. ويكفيك فى الوقوف على شكايته فى هذا المعنى خطبته الموسومة بالشقشقية فى نهج البلاغة. وأمّا ظهور المعجزة فكثيرة ، منها قلع باب خيبر ، ومنها : مخاطبة الثّعبان على منبر الكوفة ، ومنها : رفع الصّخرة العظيمة عن فم القليب لما عجز العسكر قلعها ، ومنها ردّ الشّمس حتى عادت الى موضعها فى الفلك وغير ذلك مما لا يحصى. وأمّا انّ كلّ من كان كذلك فهو صادق ، فلما تقدّم فى النّبوة.

السّادس ، ان النبي (ص) امّا ان يكون قد نصّ على إمام أولا ، الثّاني باطل لوجهين : الأوّل ، انّ النّص على إمام واجب تكميلا للدّين وتعيينا لحافظه ، فلو أخلّ به رسول الله لزم اخلاله بالواجب. الثّاني ، انه لما كان شفقته ورأفته للمكلّفين ورعايته لمصالحهم بحيث علّمهم مواقع الاستنجاء والجنابة وغير ذلك ممّا لا نسبة له فى المصلحة الى الإمامة ، فيستحيل فى حكمته وعصمته أن لا يعين لهم من يرجعون إليه فى وقائعهم وسدّ عوراتهم ولمّ شعثهم ، فتعيّن الأوّل. ولم يدّع النّص لغير على وابى بكر اجماعا فبقى ان يكون المنصوص عليه إمّا عليا (ع) او أبا بكر ، الثّاني باطل ، فتعين الأوّل. وأمّا

٤٩

بطلان الثّاني فلوجوه : الأوّل ، انّه لو كان منصوصا عليه لكان توقيف الأمر على البيعة معصية قادحة فى إمامته. الثّاني ، انّه لو كان منصوصا عليه لذكر ذلك وادّعاه فى حال بيعته او بعدها او قبلها ، اذ لا عطر بعد عرس ، لكنّه لم يدّع ذلك فلم يكن منصوصا عليه. الثّالث ، انّه لو كان منصوصا عليه لكان استقالته من الخلافة فى قوله : أقيلونى فلست بخيركم وعليّ فيكم من اعظم المعاصى اذ هو ردّ على الله ورسوله فيكون قادحا فى إمامته. الرّابع ، انه لو كان منصوصا عليه لما شكّ عند موته فى استحقاقه الخلافة لكنه شكّ حيث قال : يا ليتنى كنت سألت رسول الله (ص) هل للأنصار فى هذا الأمر حق أم لا. الخامس ، انّه لو كان منصوصا عليه لما أمره رسول الله بالخروج مع جيش اسامة ، لانه كان عليلا وقد نعيت إليه نفسه حتى قال : نعيت إلى نفسى ويوشك أن أقبض لأنّه كان جبرئيل يعارضنى بالقرآن كلّ سنة مرّة وانّه عارضنى به السّنة مرّتين فلو كان والحال هذه والامام هو ابو بكر لما أمر بالتخلّف عنه ، لكنّه حثّ على خروج الكلّ ، ولعن المتخلّف ، وانكر عليه لما تخلّف عنهم. السّادس ، انّه لا واحد من غير عليّ من الجماعة الّذين ادّعيت لهم الإمامة يصلح لها فتعيّن هو (ع). أمّا الأوّل فلانّهم كانوا ظلمة لتقدّم كفرهم ، فلا ينالهم عهد الإمامة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

قال : ثمّ من بعده ولده الحسن (ع) ثمّ الحسين ثمّ عليّ بن الحسين (ع) ثمّ محمّد بن عليّ الباقر (ع) ثمّ جعفر بن محمّد الصّادق (ع) ثمّ موسى بن جعفر الكاظم (ع) ثم عليّ بن موسى الرّضا (ع) ثمّ محمّد بن عليّ الجواد (ع) ثمّ عليّ بن محمّد الهادى (ع) ثم الحسن بن عليّ العسكرىّ (ع) ثم محمّد بن الحسن صاحب الزّمان صلوات الله عليهم بنصّ كلّ سابق منهم على

٥٠

لاحقه ، وبالأدلّة السّابقة.

اقول : لما فرغ من اثبات إمامة على (ع) ، شرع فى اثبات إمامة الأئمة القائمين بالأمر بعده ، والدّليل على ذلك من وجوه :

الأوّل ، النّصّ من النّبي صلّى الله عليه. فمن ذلك قوله للحسين (ع) : هذا ولدى الحسين إمام ابن امام أخو إمام أبو ائمّة تسعة تاسعهم قائمهم افضلهم.

ومن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله الأنصارى قال لمّا قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قلت يا رسول الله عرفنا الله فأطعناه ، وعرفناك فأطعناك ، فمن أولى الأمر الّذي أمرنا الله تعالى بطاعتهم؟. قال : هم خلفائى يا جابر وأولياء الأمر بعدى أوّلهم أخى عليّ ثمّ من بعده الحسن ولده ، ثمّ الحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين ، ثمّ محمّد بن على ، وستدركه يا جابر فإذا أدركته فأقرئ منّى السّلام ، ثمّ جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ عليّ بن موسى الرّضا ، ثمّ محمّد بن على ، ثمّ عليّ بن محمّد ، ثمّ الحسن بن عليّ ، ثمّ محمّد بن الحسن يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

ومن ذلك ما روى عنه (ص) انه قال : انّ الله اختار من الأيّام يوم الجمعة ، ومن الشّهور شهر رمضان ، ومن اللّيالى ليلة القدر ، واختار من النّاس الأنبياء. واختار من الأنبياء الرّسل ، واختارنى من الرّسل ، واختار منى عليّا ، واختارا من عليّ الحسن والحسين ، واختار من الحسين الأوصياء وهم تسعة من ولده يمنعون عن هذا الدّين تحريف الضّالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.

الثّاني ، النص المتواتر من كلّ واحد منهم على لاحقه وذلك كثير لا يحصى نقلته الإمامية على اختلاف طبقاتهم.

الثّالث ، انّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، ولا شيء من غيرهم ، بمعصوم ، فلا شيء من غيرهم بإمام. أمّا الأوّل فقد مرّ بيانه ، وأمّا الثانى فبالإجماع انّه لم يدّع العصمة فى أحد إلا فيهم فى زمان كلّ واحد منهم ، فيكونوا هم الأئمة ، وبيانه كما تقدّم.

٥١

الرّابع ، انّهم كانوا افضل من كلّ واحد من أهل زمانهم ، وذلك معلوم فى كتب السّير والتّواريخ فيكونوا أئمة لقبح تقديم المفضول على الفاضل.

الخامس ، أن كلّ واحد منهم ادّعى الإمامة وظهر المعجز على يده فيكون إماما. وبيان ذلك قد تقدّم ومعجزاتهم قد نقلتها الإمامية فى كتبهم فعليك فى ذلك بكتاب خرائج الجرائح للراوندى وغيره من الكتب فى هذا الفنّ.

فائدة : الإمام الثّاني عشر (ع) حىّ موجود من حين ولادته ، وهى سنة ستّ وخمسين ومأتين إلى آخر زمان التّكليف ، لأنّ كلّ زمان لا بدّ فيه من إمام معصوم لعموم الأدلّة ، وغيره ليس بمعصوم ، فيكون هو الإمام. وأمّا الاستبعاد ببقاء مثله فباطل ، لأنّ ذلك ممكن ، خصوصا وقد وقع فى الأزمنة السّالفة فى حقّ السّعداء والأشقياء ما هو أزيد من عمره (ع). وأمّا سبب خفائه ، فإمّا لمصلحة استاثر الله بعلمها ، أو لكثرة العدوّ وقلّة الناصر ، لأنّ حكمته تعالى وعصمته (ع) لا يجوز معهما منع اللّطف فيكون من الغير المعادى ، وذلك هو المطلوب ـ اللهم عجّل فرجه وأرنا فلجه ، واجعلنا من أعوانه وأتباعه ، وارزقنا طاعته ورضاه ، واعصمنا مخالفته وسخطه بحقّ الحقّ والقائل بالصّدق.

قال : الفصل السّابع فى المعاد.

اتّفق المسلمون كافّة على وجوب المعاد البدنىّ ، ولأنّه لولاه لقبح التّكليف ، ولأنه ممكن ، والصّادق قد أخبر بثبوته فيكون حقّا ، والآيات الدّالة عليه والإنكار على جاحده.

اقول : المعاد زمان العود ومكانه ، والمراد به هنا هو الوجود الثّاني للاجسام وإعادتها بعد موتها وتفرّقها ، وهو حقّ واقع خلافا للحكماء. والدّليل على ذلك من وجوه :

الأوّل ، إجماع المسلمين على ذلك من غير نكير بينهم فيه ، وإجماعهم حجّة.

الثّاني ، انه لو لم يكن المعاد حقا لقبح التكليف ، والتّالى باطل ، فالمقدّم مثله.

٥٢

بيان الشّرطيّة أنّ التّكليف مشقّة مستلزمة للتعويض عنها ، فانّ المشقّة من غير عوض ظلم ، وذلك العوض ليس بحاصل فى زمان التّكليف ، فلا بدّ حينئذ من دار أخرى يحصل فيها الجزاء على الأعمال ، وإلّا لكان التّكليف ظلما وهو قبيح ، تعالى الله عنه.

الثّالث ، أنّ حشر الأجسام ممكن ، والصّادق أخبر بوقوعه ، فيكون حقّا. وأمّا إمكانه فلانّ أجزاء الميّت قابلة للجمع ، وإفاضة الحياة عليها ، وإلّا لما اتّصف بها من قبل ، والله تعالى عالم بأجزاء كلّ شخص لما تقدّم من أنّه عالم بكلّ المعلومات ، وقادر على جمعها لأنّ ذلك ممكن. والله تعالى قادر على كلّ الممكنات ، فثبت أنّ إحياء الأجسام ممكن. وأمّا انّ الصّادق أخبر بوقوع ذلك ، فلانّه ثبت بالتواتر انّ النبىّ (ص) كان يثبت المعاد البدنىّ ويقول به فيكون حقّا وهو المطلوب.

الرابع ، دلالة القرآن على ثبوته والإنكار على جاحدة فيكون حقّا. أمّا الأوّل فالآيات الدّالة عليه كثيرة نحو قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيم قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) وغير ذلك من الآيات.

قال : وكلّ من له عوض أو عليه يجب بعثه عفلا وغيره يجب إعادته سمعا.

اقول : الّذي يجب اعادته على قسمين : أحدهما ، يجب إعادته عقلا وسمعا ، وهو كلّ من له حقّ من ثواب أو عوض ليصل حقّه إليه ، وكلّ من عليه حقّ من عقاب أو عوض لاخذ الحقّ منه. وثانيهما من ليس له حقّ ولا عليه حقّ من باقى الأشخاص إنسانيّة كان أو غيرها من الحيوانات الإنسيّة والوحشيّة ، وذلك يجب إعادتها سمعا لدلالة القرآن والأخبار المتواترة عليه.

قال : ويجب الإقرار بكلّ ما جاء به النّبيّ (ص) فمن ذلك الصّراط والميزان وإنطاق الجوارح وتطاير الكتب لإمكانها ، وقد أخبر الصّادق بها فيجب الاعتراف بها.

٥٣

اقول : لما ثبت نبوة نبيّنا (ص) وعصمته ثبت أنّه صادق فى كل ما أخبر بوقوعه ، سواء كان سابقا على زمانه كإخباره عن الأنبياء السّالفين وأممهم والقرون الماضية وغيرها ، أو فى زمانه كإخباره بوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات وندب المندوبات والنّص على الأئمة وغير ذلك من الأخبار ، أو بعد زمانه فإمّا فى دار التّكليف كقوله (ص) لعلى : ستقاتل بعدى النّاكثين والقاسطين والمارقين أو بعد التّكيف كأحوال الموت وما بعده ، فمن ذلك عذاب القبر والصّراط والميزان والحساب وانطاق الجوارح وتطاير الكتب وأحوال القيمة وكيفيّة حشر الأجسام وأحوال المكلّفين فى البعث. ويجب الاقرار بذلك اجمع والتصديق به ، لان ذلك كلّه امر ممكن لا استحالة فيه وقد أخبر الصّادق بوقوعه فيكون حقا.

قال : ومن ذلك الثّواب والعقاب وتفصيلهما المنقولة من جهة الشّرع صلوات الله على الصّادع به.

اقول : انّ من جملة ما جاء به النبىّ (ص) الثّواب والعقاب ، وقد اختلف فى انّهما معلومان عقلا أمّ سمعا. أمّا الأشاعرة فقالوا سمعا ، وأمّا المعتزلة فقال بعضهم بانّ الثّواب سمعىّ اذ لا يناسب الطّاعات ولا يكافى ما صدر عنه من النّعم العظيمة فلا يستحقّ عليه شيء فى مقابلتها وهو مذهب البلخى. وقال معتزلة البصرة انّه عقلى لاقتضاء التكليف ذلك ، ولقوله : جزاء بما كانوا يعملون. وأوجبت المعتزلة العقاب للكافر وصاحب الكبيرة حتما. وقد تقدّم لك من مذهبنا ما يدلّ على وجوب الثّواب عقلا. وأمّا العقاب فهو وان اشتمل على اللطفيّة ، لكن لا يجزم بوقوعه فى غير الكافر الّذي لا يموت على كفره ، وهنا فوائد :

الأوّل ، يستحقّ الثّواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضدّ القبيح أو الإخلال به بشرط أن يفعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك. وكذا فعل ضدّ القبيح أو الاخلال به لقبحه لا لأمر آخر غير ذلك ، ويستحقّ العقاب والذّم بفعل القبيح والاخلال بالواجب.

٥٤

الثّاني ، يجب دوام الثّواب والعقاب للمستحقّ مطلقا ، كما فى حقّ من يموت على إيمانه ومن يموت على كفره ، لدوام المدح والذّم على ما يستحقّان به ، ويحصل نقيض كلّ واحد منهما لو لم يكن دائما إذ لا واسطة بينهما ، ويجب أن يكونا خالصين من مخالطة الضّد وإلّا لم يحصل مفهومهما ، ويجب اقتران الثّواب بالتّعظيم والعقاب بالإهانة ، لأنّ فاعل الطّاعة مستحقّ للتّعظيم مطلقا وفاعل المعصية مستحقّ للإهانة مطلقا.

الثّالث ، استحقاق الثّواب يجوز توقّفه على شرط إذ لو لا ذلك لكان العارف بالله تعالى مع جهله بالنبى (ص) مستحقّا له وهو باطل ، فإذن هو مشروط بالموافاة لقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ولقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ).

الرّابع ، الّذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم أولئك يستحقّون الثّواب الدّائم مطلقا ، والّذين كفروا وماتوا وهم كفّار اولئك يستحقّون العقاب الدّائم مطلقا ، والّذي آمن وخلط عملا صالحا وآخر سيّئا ، فإن كان السيّئ صغيرا فذلك يقع مغفورا إجماعا ، وإن كان كبيرا فإمّا أن يوافى بالتّوبة فهو من أهل الثّواب مطلقا اجماعا ، وإن لم يواف بها فإمّا أن يستحقّ ثواب إيمانه أولا ، والثّاني باطل لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) فتعيّن الأوّل. فأمّا ان يثاب ثمّ يعاقب وهو باطل للإجماع ، على انّ من دخل الجنّة لا يخرج منها فحينئذ يلزم بطلان العقاب ، أو يعاقب ثمّ يثاب وهو المطلوب. ولقوله (ص) فى حق هؤلاء : يخرجون من النّار وهم كالحمم أو كالفحم فيراهم أهل الجنّة فيقولون هؤلاء جهنّميّون فيؤمر بهم فيغمسون فى عين الحيوان فيخرجون ووجوههم كالبدر فى ليلة تمامة.

وأمّا الآيات الدّالّة على عقاب العصاة وخلودهم فى النّار ، فالمراد بالخلود هو المكث الطويل ، واستعماله بهذا المعنى كثير. والمراد بالفجّار والعصاة الكاملون فى فجورهم

٥٥

وعصيانهم وهم الكفّار ، بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) توفيقا بينه وبين الآيات الدّالّة على اختصاص العقاب بالكفّار نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) وغير ذلك من الآيات.

ثمّ اعلم ، إنّ صاحب الكبيرة إنّما يعاقب إذا لم يحصل له أحد الامرين : الأوّل ، عفو الله ، فانّ عفوه مرجو متوقّع خصوصا وقد وعد به فى قوله : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ). وخلف الوعد غير مستحسن من الجواد المطلق ، ولتمدّحه بأنّه غفور رحيم ، وليس ذلك متوجّها إلى الصّغائر ولا إلى الكبائر بعد التوبة للإجماع على سقوط العقاب فيهما فلا فائدة فى العفو حينئذ ، فتعيّن أن يكون الكبائر قبل التّوبة وذلك هو المطلوب. الثّاني ، شفاعة نبينا رسول الله (ص) فان شفاعته متوقّعة بل واقعة لقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وصاحب الكبيرة مؤمن لتصديقه بالله ورسوله وإقراره بما جاء به النبىّ ، وذلك هو الإيمان ، إذ الايمان فى اللّغة هو التّصديق وهو هنا كذلك. وليست الأعمال الصّالحة جزء منه لعطفها على الفعل المقتضى لمغايرتها له ، وإذا أمر بالاستغفار لم يتركه لعصمته ، واستغفاره مقبول لأمّته تحصيلا لمرضاته لقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) هذا مع قوله (ص) : ادّخرت شفاعتى لأهل الكبائر من أمّتى.

واعلم إنّ مذهبنا أنّ الائمة (ع) لهم الشّفاعة فى عصاة شيعتهم ، كما هو لرسول الله (ص) من غير فرق ، لأخبارهم (ع) بذلك ، مع عصمتهم النّافية للكذب عنهم.

الخامس ، يجب الاقرار والتّصديق بأحوال القيمة وأوضاعها وكيفيّة الحساب وخروج النّاس من قبورهم عراة ، وكون كلّ نفس معها سائق وشهيد ، وأحوال النّاس فى الجنّة وتباين طبقاتهم وكيفيّة نعيمها من المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك ممّا لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وكذا أحوال النّار وكيفيّة

٥٦

العقاب فيها ، وأنواع آلامها ، على ما وردت بذلك الآيات والأخبار الصحيحة. وأجمع عليه المسلمون ، لأنّ ذلك جميعه أخبر به الصّادق (ع) مع عدم استحالته فى العقل ، فيكون حقّا وهو المطلوب.

قال : ووجوب التّوبة.

اقول : التّوبة هى النّدم على القبيح فى الماضى ، والتّرك له فى الحال والعزم على عدم المعاودة إليه فى استقبال ، وهى واجبة لوجوب النّدم إجماعا على كلّ قبيح أو إخلال بواجب ، ولدلالة السّمع على وجوبها ، ولكونها دافعة للضّرر ، ودفع الضّرر وإن كان مظنونا واجب ، فيندم على القبيح لكونه قبيحا ، لا لخوف النّار ولا لدفع الضّرر عن نفسه وإلّا لم تكن توبة.

ثمّ اعلم ، انّ الذّنب إمّا فى حقّه تعالى أو فى حقّ آدميّ فإن كان فى حقّه تعالى ، فإمّا من فعل قبيح فيكفى فيه النّدم والعزم على عدم المعاودة ، أو من إخلال بواجب ، فإمّا أن يكون وقته باقيا فياتى به ، وذلك هو التّوبة منه ، أو خرج وقته ، فإمّا أن يسقط بخروج وقته كصلاة العيدين فيكفى النّدم والعزم ، أو لا يسقط فيجب قضاؤه. وإن كان فى حقّ آدميّ ، فإمّا أن يكون إضلالا فى دين بفتوى مخطية ، فالتّوبة إرشاده وإعلامه بالخطاء ، أو ظلما لحقّ من الحقوق ، فالتّوبة منه إيصاله إليه أو إلى وارثه أو الاتّهاب ، وان تعذّر عليه ذلك فيجب العزم عليه.

قال : والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر بشرط أن يعلم الآمر ، والنّاهى كون المعروف معروفا والمنكر منكرا ، وأن يكون مما سيقعان ، فإنّ الأمر بالماضى والنّهى عنه عبث ، وتجويز التّأثير والأمن من الضّرر.

اقول : الأمر طلب الفعل من الغير على جهة الاستعلاء ، والنّهى طلب التّرك على

٥٧

جهة الاستعلاء أيضا. والمعروف كلّ فعل حسن اختصّ بوصف زائد على حسنه. والمنكر هو القبيح. اذا تقرّر هذا فهنا بحثان :

الأوّل ، اتّفق العلماء على وجوب الأمر بالمعروف الواجب والنّهى عن المنكر ، واختلفوا من بعد ذلك فى مقامين :

الأوّل ، هل الوجوب عقلىّ أو سمعىّ؟ فقال الشيخ الطوسى ـ رحمه الله ـ بالأوّل ، والسيّد المرتضى ـ رحمه الله ـ بالثّانى ، واختاره المصنّف. واحتجّ الشيخ بانّهما لطفان فى فعل الواجب وترك القبيح ، فيجبان عقلا. قيل عليه انّ الوجوب العقلىّ غير مختصّ باحد فحينئذ يجب عليه تعالى ، وهو باطل ، لانه ان فعلهما لزم أن يرتفع كلّ قبيح ، ويقع كلّ واجب. إذا الامر هو الحمل على الشّيء ، والنّهى هو المنع منه ، لكنّ الواقع خلافه ، وإن لم يفعلهما لزم إخلاله بالواجب ، لكنّه حكيم. وفى هذا الايراد نظر. وأمّا الدّليل السّمعية على وجوبهما فكثيرة ، المقام الثّاني ، هما واجبان على الأعيان أو الكفاية؟ فقال الشيخ بالأوّل ، والسيّد بالثّانى. احتجّ الشيخ بعموم الوجوب من غير اختصاص بقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). احتجّ السيّد بانّ المقصود وقوع الواجب وارتفاع القبيح ، فمن قام به كفى عن الآخر فى الامتثال ، ولقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

البحث الثّاني فى شرائط وجوبهما ، وذكر المصنّف هنا أربعة : الأوّل ، علم الآمر والنّاهى بكون المعروف معروفا والمنكر منكرا ، اذ لو لا ذلك لأمر بما ليس بمعروف ، ونهى عمّا ليس بمنكر. الثّاني ، كونهما ممّا يتوقّعان فى المستقبل ، فان الأمر بالماضى والنّهى عنه عبث والعبث قبيح. الثّالث ، أن يجوز الآمر والنّاهى تأثير أمره أو نهيه ، فانّه اذا تحقّق عنده أو غلب على ظنّه عدم ذلك ارتفع الوجوب. الرّابع ، أمن الآمر والنّاهى من الضّرر الحاصل بسبب الأمر او النّهى امّا إليهما أو لأحد من المسلمين. فان غلب

٥٨

عندهما حصول ذلك ارتفع الوجوب أيضا ، ويجبان بالقلب واللّسان واليد ولا ينتقل الى الأصعب مع إنجاع الأسهل.

فهذا ما تهيّا لى تتميمه وكتابته ، واتّفق لى جمعه وترتيبه ، مع ضعف باعى ، وقصر ذراعى ، هذا مع حصول الأسفار ، وتشويش الأفكار ، لكنّ المرجوّ من كرمه تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله ، وأن يجعله خالصا لوجهه ، إنّه سميع مجيب ، والله خير موفّق ومعين.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين.

٥٩

فهرست نام هاى خاصّ وفرقه ها وگروه ها

ابراهيم الخليل ٧ / ١٨

ابن عبّاس ٣٩ / ٢ ، ٤٦ / ١١

ابو بكر ، ابو بكر بن ابى قحافة ٤٥ / ٦ ، ٤٦ / ١ ، ٤٩ / ٢٢ و ٢٣ ، ٥٠ / ١٢

ابو جعفر الطّوسى الطوسى

ابو الحسن الاشعرى ٢٧ / ٥ ، ٤٦ / ١٤

ابو الحسين البصرى ١٣ / ٢٢ ، ١٤ / ٩ و ١٣ و ١٧

ابو على الجبائى ٤٦ / ١٣ و ١٥

ابو منصور الحسن بن يوسف الحلّى

ابو هاشم ٤٦ / ١٣

ارباب الفقه ٤٦ / ١٩

ارسطو ٣٩ / ٣

اسامة ٥٠ / ٩

الإسماعيلية ٤٢ / ٤

الاشاعرة ، الاشعرية ١٢ / ٧ ، ١٤ / ١ و ١٣ ، و ١٥ ، ١٥ / ٩ ، ١٦ / ١٣ و

١٦ و ٢٠ ، ١٧ / ٧ و ١٩ ، ١٨ / ٧ ، ٢٢ / ١٣ ، ٢٤ / ٧ ، ٢٦ / ٦ ، ٢٧ / ٦ ، ٢٨ / ٩ و ١٧ ، ٢٩ / ٥ ، ٣١ / ٦ ، ٣٤ / ٢٠ ، ٣٧ / ١٩ ، ٤٠ / ١٧ و ١٨ ، ٤٦ / ١٤

اصحابنا ، اصحابنا الاثنا عشريّة ، اصحابنا ـ الاماميّة ٢٩ / ٧ ، ٣٨ / ٩ ، ٤٠ / ١٨ ، ٤٢ / ٤ و ٥ ، ٤٤ / ٢

اصحاب التفسير ٤٦ / ١٠

الاماميّة ١٧ / ١٠ ، ٢٦ / ٨ ، ٢٧ / ٩ ، ٣٧ / ٢٠ ، ٥١ / ٢٠

اهل الإنجيل ٤٧ / ١

اهل التورية ٤٧ / ١

اهل الحلّ والعقد ٣ / ٨

اهل الزّبور ٤٧ / ٢

اهل السّنة ٤٤ / ١

اهل الفرقان ٤٧ / ١

٦٠