الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

العقل ، لكنّه ليس من الأدب لجواز أن يكون غير جائز من جهة لا نعلمها.

قال : ولا يتّحد بغيره لامتناع الاتّحاد المطلوب.

اقول : الاتّحاد يقال على معنيين : مجازىّ وحقيقىّ ، أمّا المجازى فهو صيرورة الشّيء شيئا آخر بالكون والفساد إمّا من غير اضافة شيء آخر ، كقولهم : صار الماء هواء ، ووصار الهواء ماء ، أو مع اضافة شيء آخر ، كما يقال : صار التّراب طينا بانضياف الماء إليه. وأمّا الحقيقى فهو صيرورة الشّيئين الموجودين شيئا واحدا موجودا. اذا تقرّر هذا فاعلم ، أنّ الأوّل مستحيل عليه تعالى قطعا ، لاستحالة الكون وو الفساد عليه. وأمّا الثّاني فقد قال بعض النّصارى انّه اتّحد بالمسيح ، فانّهم قالوا اتّحدت لاهوتيّة البارى مع ناسوتية عيسى (ع). وقالت النصيريّة انه اتّحد بعلى (ع). وقال المتصوّفة انّه اتّحد بالعارفين. فان عنوا غير ما ذكرناه ، فلا بد من تصوّره أوّلا ، ثم يحكم عليه ، وان عنوا ما ذكرناه ، فهو باطل قطعا ، لانّ الاتّحاد مستحيل فى نفسه ، فيستحيل إثباته لغيره. أمّا استحالته فهو انّ المتّحدين بعد اتّحادهما إن بقيا موجودين فلا اتّحاد ، لأنّهما اثنان لا واحد. وإن عدما معا ، فلا اتّحاد بل وجد ثالث. وان عدم أحدهما ، وبقى الآخر فلا اتّحاد أيضا ، لأنّ المعدوم لا يتّحد بالموجود.

قال : الثّالثة ، أنّه تعالى ليس محلا للحوادث ، لامتناع انفعاله عن غيره ، وامتناع النّقص عليه.

اقول : اعلم انّ صفاته تعالى لها اعتباران : أحدهما بالنّظر الى نفس القدرة الذّاتيّة والعلم الذّاتىّ إلى غير ذلك من الصّفات. وثانيهما بالنّظر الى تعلّق تلك الصّفات بمقتضياتها ، كتعلّق القدرة بالمقدور ، والعلم بالمعلوم ؛ فهى بهذا المعنى لا نزاع فى كونها أمورا اعتباريّة إضافيّة متغيّرة بحسب تغيّر المتعلّقات وتغايرها. وأمّا باعتبار الأوّل ، فزعمت الكرّاميّة أنها حادثة متجدّدة بحسب تجدّد المتعلّقات. قالوا انه لم يكن قادرا فى الأزل ثمّ صار قادرا ، ولم يكن عالما ثم صار عالما ، والحقّ خلافه ، فانّ

٢١

المتجدّد فيما ذكروه هو التّعلّق الاعتباريّ ، فان عنوا ذلك فمسلّم وإلّا فباطل لوجهين : الأوّل ، لو كانت صفاته حادثة متجدّدة لزم انفعاله وتغيّره ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان اللّازم من وجهين : الأوّل ، انّ صفاته ذاتيّة فتجدّدها مستلزم لتغيّر الذّات ، وانفعالها. الثّاني ، انّ حدوث الصّفة يستلزم حدوث قابليّة فى المحلّ لها ، وهو مستلزم لانفعال المحلّ وتغيّره ، لكن تغيّر ماهيّته تعالى وانفعالها محال ، فلا يكون صفاته حادثة وهو المطلوب. الثّاني ، انّ صفاته تعالى صفات كمال لاستحالة النّقص عليه ، فلو كانت حادثة متجدّدة لزم خلوّه من الكمال ، والخلوّ من الكمال نقص تعالى الله عنه.

قال : الرّابعة ، أنّه تعالى يستحيل عليه الرّؤية البصريّة ، لأنّ كلّ مرئى فهو ذو جهة ، لأنّه إمّا مقابل أو فى حكم المقابل بالضّرورة ، فيكون جسما وهو محال ، ولقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ولن النّافية للتّأبيد.

اقول : ذهب الحكماء والمعتزلة الى استحالة رؤيته بالبصر لتجرّده ، وذهب المجسّمة والكرّاميّة الى جواز رؤيته بالبصر مع المواجهة. وأمّا الأشاعرة فاعتقدوا تجرّده ، وقالوا بصحّة رؤيته ، وخالفوا جميع العقلاء. وتحذلق بعضهم وقال ليس مرادنا بالرّؤية الانطباع ، أو خروج الشّعاع ، بل الحالة التى تحصل من رؤية الشّيء بعد حصول العلم به. وقال بعضهم معنى الرّؤية هو أن ينكشف لعباده المؤمنين فى الآخرة انكشاف البدر المرئىّ. والحقّ انّهم ان عنوا بذلك الكشف التّام فهو مسلّم ، فإنّ المعارف تصير يوم القيمة ضروريّة ، والّا فلا يتصوّر منه الا الرؤية ، وهو باطل عقلا وسمعا. أمّا عقلا فلانّه لو كان مرئيا ، لكان فى جهة فيكون جسما ، وهو باطل لما تقدّم.

بيان الأوّل ، انّ كلّ مرئىّ ، فهو إمّا مقابل أو فى حكم المقابل ، كالصّورة فى المرآة ، وذلك ضرورىّ ، وكلّ مقابل أو فى حكمه فهو فى جهة ، فلو كان البارى تعالى مرئيا لكان فى

٢٢

جهة. وأمّا سمعا فلوجوه : الأوّل ، انّ موسى (ع) لمّا سئل الرؤية أجيب ب (لَنْ تَرانِي) ولن لنفي التّأبيد نقلا عن أهل اللّغة ، واذا لم يره موسى لم يره غيره بطريق أولى. الثّاني ، قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) تمدح بنفى ادراك الأبصار له ، فيكون إثباته له نقصا. الثّالث ، انّه تعالى استعظم طلب رؤيته ، ورتّب الذّم عليه والوعيد ، فقال : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِك فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) ، (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً).

قال : الخامسة ، فى نفى الشّريك عنه للسّمع وللتّمانع ، فيفسد نظام الوجود ، ولاستلزامه التّركيب لاشتراك الواجبين فى كونهما واجبى الوجود ، فلا بدّ من مائز.

اقول : اتّفق المتكلمون والحكماء على سلب الشّريك عنه تعالى لوجوه : الأوّل ، الدّلائل السّمعية الدّالة عليه وإجماع الأنبياء ، وهو حجّة هنا لعدم توقّف صدقهم على ثبوت الوحدانيّة. الثّاني ، دليل المتكلّمين ويسمّى دليل التّمانع ، وهو مأخوذ من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). وتقريره انّه لو كان معه شريك لزم فساد نظام الوجود وهو باطل. بيان ذلك انه لو تعلّقت إرادة أحدهما بإيجاد جسم متحرّك ، فلا يخلو أن يمكن للآخر إرادة سكونه أولا ، فان أمكن فلا يخلو إمّا أن يقع مرادهما ، فيلزم اجتماع المتنافيين ، أولا يقع مرادهما ، فيلزم خلوّا الجسم عن الحركة والسّكون ، أو يقع مراد احدهما ففيه فسادان : احدهما الترجيح بلا مرجّح ، وثانيهما عجز الآخر ، فإن لم يكن للآخر إرادة سكونه ، فيلزم عجزه ، اذ لا مانع الّا تعلّق إرادة ذلك الغير لكن عجز الإله والترجيح بلا مرجّح محال ، فيلزم فساد النّظام وهو محال أيضا. الثّالث ، دليل الحكماء ، وتقريره أنّه لو كان فى الوجود واجبا وجود لزم امكانهما. وبيان ذلك انهما حينئذ يشتركان فى وجوب

٢٣

الوجود ، فلا يخلو إمّا أن يتميّزا أولا ، فان لم يتميّزا لم تحصل الاثنينيّة ، وان يتميّزا لزم تركيب كلّ واحد منهما ممّا به المشاركة وممّا به الممايزة ، وكلّ مركّب ممكن ، فيكونان ممكنين ، هذا خلف.

قال : السّادسة ، فى نفى المعانى والأحوال عنه تعالى ، لأنّه لو كان قادرا بقدرة ، وعالما بعلم ، وغير ذلك ، لافتقر فى صفاته إلى ذلك المعنى ، فيكون ممكنا ، هذا خلف.

اقول : ذهب الأشاعرة إلى انّه تعالى قادر بقدرة ، وعالم بعلم ، وحىّ بحياة الى غير ذلك من الصّفات ، وهى معان قديمة زائدة على ذاته ، قائمة بها. وقالت البهشمية أنّه تعالى مساو لغيره من الذّوات ، وممتاز بحالة تسمّى الألوهيّة ، وتلك الحالة توجب له احوالا أربعة : وهى القادريّة والعالميّة والحييّة والموجوديّة. والحال عندهم صفة لموجود ولا توصف بالوجود ولا بالعدم. والبارى تعالى قادر باعتبار تلك القادريّة او عالم باعتبار تلك العالميّة ، الى غير ذلك. وبطلان تلك الدعوى ضرورىّ ، لان الشّيء إمّا موجود أو معدوم ، اذ لا واسطة بينهما. وقالت الحكماء والمحققون من المتكلّمين انه تعالى قادر لذاته ، وعالم لذاته ، الى غير ذلك من الصّفات. وما يتصوّر من الزّيادة من قولنا : ذات عالمة وقادرة فتلك أمور اعتباريّة زائدة فى الذّهن لا فى الخارج وهو الحقّ. وقولنا ، انّه لو كان قادرا بقدرة أو قادريّة ، او عالما بعلم او عالميّة ، إلى غير ذلك من الصّفات ، لزم افتقار الواجب فى صفاته إلى غيره ؛ لأنّ تلك المعانى والأحوال مغايرة لذاته قطعا ، وكلّ مفتقر إلى غيره ممكن ، فلو كانت صفاته زائدة على ذاته لكان ممكنا ، هذا خلف.

قال : السّابعة ، أنّه تعالى غنىّ ليس بمحتاج ، لأنّ وجوب

٢٤

وجوده دون غيره يقتضي استغناؤه عنه ، وافتقار غيره إليه.

اقول : من صفاته السّلبيّة كونه ليس بمحتاج إلى غيره مطلقا ، لا فى ذاته ولا فى صفاته وذلك لأنّ وجوب الوجود الثّابت له يقتضي استغنائه مطلقا عن مجموع ما عداه ، فلو كان محتاجا لزم افتقاره ، فيكون ممكنا ، تعالى الله عنه ، بل البارى جلّت عظمته مستغن عن مجموع ما عداه ، والكلّ رشحة من رشحات وجوده ، وذرّة من ذرّات فيض جوده.

قال : الفصل الرّابع فى العدل ، وفيه مباحث :

الأوّل ، العقل قاض بالضّرورة أنّ من الأفعال ما هو حسن ، كردّ الوديعة والإحسان والصّدق النّافع ، وبعضها ما هو قبيح ، كالظّلم والكذب الضّارّ ، ولهذا حكم بهما من نفى الشّرائع ، كالملاحدة وحكماء الهند ، ولأنّهما لو انتفيا عقلا لانتفيا سمعا ، لانتفاء قبح الكذب حينئذ من الشّارع.

اقول : لمّا فرغ من مباحث التّوحيد ، شرع فى مباحث العدل. والمراد بالعدل هو تنزيه البارى تعالى عن فعل القبيح ، والاخلال بالواجب. ولمّا توقف ذلك على معرفة الحسن والقبح العقليّين ، قدّم البحث فيه. واعلم ان الفعل الضّرورىّ التّصوّر ، وهو إمّا ان يكون له وصف زائد على حدوثه أولا ، والثّاني كحركة السّاهى والنّائم ، والأوّل إمّا ان ينفر العقل من ذلك الزّائد أولا ، والأوّل هو القبيح. والثّاني وهو الّذي لا ينفر العقل منه ، إمّا أن يتساوى فعله وتركه وهو المباح ، أو لا يتساوى ، فان ترجّح تركه فهو إمّا مع المنع من النقيض وهو الحرام وإلا فهو المكروه ، وان ترجّح فعله ، فإمّا مع المنع من تركه وهو الواجب ، أو مع جواز تركه وهو المندوب.

٢٥

اذا تقرّر هذا فاعلم ، انّ الحسن والقبح يقالان على ثلاثة معان : الأوّل ، كون الشّيء صفة كمال ، كقولنا العلم حسن ، او صفة نقص كقولنا الجهل قبيح. الثّاني ، كون الشّيء ملائما للطّبع كالمستلذّات او منافرا عنه كالآلام. الثّالث ، كون الحسن ما يستحقّ على فعله المدح عاجلا والثّواب آجلا والقبيح ما يستحق فاعله على فعله الذّمّ عاجلا والعقاب آجلا ، ولا خلاف فى كونهما عقليّين بالاعتبارين الأوّلين ، وأمّا باعتبار الثّالث فاختلف المتكلمون فيه ، فقالت الأشاعرة ليس فى العقل ما يدلّ على الحسن والقبح بهذا المعنى ، بل الشّرع ، فما حسّنه فهو الحسن ، وما قبّحه فهو القبيح. وقالت المعتزلة والإمامية فى العقل ما يدلّ على ذلك ، فالحسن حسن فى نفسه ، والقبيح قبيح فى نفسه ، سواء حكم الشّارع بذلك أولا. ونبّهوا على ذلك بوجوه : الأوّل ، انّا نعلم ضرورة حسن بعض الأفعال كالصّدق النّافع والإنصاف والإحسان وردّ الوديعة وانقاذ الهلكى وأمثال ذلك ، وقبح بعض كالكذب الضّار والظّلم والإساءة الغير المستحقّة وأمثال ذلك من غير مخالجة شكّ فيه. ولذلك كان هذا الحكم مركوزا فى الجبلّة الإنسان ، فانّا اذا قلنا لشخص : إن صدقت فلك دينار وإن كذبت فلك دينار ، واستوى الأمران بالنّسبة إليه ، فإنّه بمجرّد عقله يميل الى الصّدق. الثّاني ، انّه لو كان مدرك الحسن والقبيح هو الشّرع لا غيره ، لزم ان لا يتحقّقا بدونه ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. أمّا بيان اللّزوم فلامتناع تحقّق المشروط بدون شرطه ضرورة. واما بيان بطلان اللّازم ، فلانّ من لا يعتقد الشّرع ، ولا يحكم به كالملاحدة وحكماء الهند يعتقدون حسن بعض الأفعال ، وقبح بعض من غير توقّف فى ذلك.

فلو كان مما يعلم بالشّرع لما حكم به هؤلاء. الثّالث ، انّه لو انتفى الحسن والقبح العقليّان ، انتفى الحسن والقبح الشّرعيّان ، واللّازم باطل اتفاقا ، فكذا الملزوم وبيان الملازمة بانتفاء قبح الكذب حينئذ من الشّارع ، اذا العقل لم يحكم بقبحه ، وهو لم يحكم بقبح كذب نفسه ، وما اذا انتفى قبح الكذب منه انتفى الوثوق بحسن ما يخبرنا بحسنه وقبح ما يخبرنا بقبحه.

٢٦

قال : الثّاني ، إنّا فاعلون بالاختيار ، والضّرورة قاضية بذلك ، للفرق الضّرورىّ بين سقوط الإنسان من سطح ، ونزوله منه على الدّرج ، ولامتناع تكليفنا بشيء فلا عصيان ، ولقبح أن يخلق الفعل فينا ، ثمّ يعذّبنا عليه ، وللسّمع.

اقول : ذهب ابو الحسن الاشعرى ومن تابعه الى ان الأفعال كلّها واقعة بقدرة الله تعالى ، وانه لا فعل للعبد اصلا. وقال بعض الاشعريّة ان ذات الفعل من الله ، والعبد له الكسب ، وفسّروا الكسب بانه كون الفعل طاعة او معصية. وقال بعضهم معناه انّ العبد اذا صمّم العزم على الشّيء ، خلق الله تعالى الفعل عقيبه. وقالت المعتزلة والزيديّة والإماميّة ، ان الافعال الصّادرة من العبد وصفاتها ، والكسب الّذي ذكروه كلّها واقعة بقدرة العبد واختياره ، وانه ليس بمجبور على فعله ، بل له ان يفعل وله ان لا يفعل وهو الحقّ لوجوه : الأوّل ، انا نجد تفرقة ضرورة بين صدور الفعل منّا تابعا للقصد والدّاعى كالنّزول من السّطح على الدّرج ، وبين صدور الفعل لا كذلك ، كالسّقوط منه إمّا مع القاهر أو مع الغفلة ، فانا نقدر على التّرك فى الأوّل دون الثّاني ، ولو كانت الأفعال ليست منا لكانت على وتيرة واحدة من غير فرق ، لكنّ الفرق حاصل ، فيكون منّا ، وهو المطلوب. الثّاني ، لو لم يكن العبد موجدا لأفعاله ، لامتنع تكليفه وإلّا لزم التّكليف بما لا يطاق. وانما قلنا ذلك لانه حينئذ غير قادر على ما كلّف به ، فلو كلّف كان تكليفا بما لا يطاق وهو باطل بالإجماع. وإذا لم يكن مكلّفا لم يكن عاصيا بالمخالفة ، لكنّه عاص بالإجماع. الثّالث ، انّه لو لم يكن العبد قادرا موجدا لفعله لكان الله أظلم الظّالمين. وبيان ذلك أن الفعل القبيح إذا كان صادرا منه تعالى ، استحالت معاقبة العبد عليه ، لانه لم يفعله ، لكنّه تعالى يعاقبه اتّفاقا ، فيكون ظالما ، تعالى الله عنه. الرّابع ، الكتاب العزيز الّذي هو فرقان بين الحقّ والباطل مشحون بإضافة الفعل الى العبد ، وانه واقع بمشيّته كقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ

٢٧

إِلَّا الظَّنَّ) ، (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ، (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الى غير ذلك ، وكذلك آيات الوعد والوعيد والذّمّ والمدح وهى اكثر من ان تحصى.

قال : الثّالث ، فى استحالة القبح عليه تعالى ، لأنّ له صارفا عنه وهو العلم بالقبح ، ولا داعى له إليه ، لأنّه إمّا داعى الحاجة الممتنعة عليه ، أو الحكمة وهو منتف هنا ؛ ولأنّه لو جاز صدوره لامتنع إثبات النّبوّات.

اقول : يستحيل ان يكون البارى تعالى فاعلا للقبيح ، وهو مذهب المعتزلة ، وعند الأشاعرة ، هو فاعل الكلّ حسنا كان او قبيحا ، والدليل على ما قلناه وجهان : الأوّل ، ان الصّارف عنه موجود ، والدّاعى إليه معدوم ، وكلّما كان كذلك امتنع الفعل ضرورة. أمّا وجود الصّارف فهو القبح ، والله تعالى عالم به. وأمّا عدم الدّاعى فلانه إمّا داعى الحاجة إليه وهو عليه محال ، لانّه غير محتاج ، وإمّا داعى الحكمة الموجودة فيه وهو محال ، لان القبيح لا حكمه فيه. الثّاني ، انه لو جاز عليه القبيح ، امتنع اثبات النّبوّات ، واللّازم باطل اجماعا ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة ، انه حينئذ لا يقبح منه تصديق الكاذب ومع ذلك لا يمكن الجزم بصحّة النّبوّة ، وهو ظاهر.

قال : فحينئذ يستحيل عليه إرادة القبيح ، لأنّها قبيحة.

اقول : ذهب الأشاعرة إلى انّه تعالى مريد بمجموع الكائنات حسنة كانت أو قبيحة ، شرّا كان او خيرا ، إيمانا كان أو كفرا ، لانّه موجد للكلّ ، فهو مريد له. وذهبت المعتزلة الى استحالة ارادته للقبيح او الكفر ، وهو الحقّ ، لأن إرادة القبيح ، أيضا قبيحة ، لأنّا نعلم ضرورة أنّ العقلاء كما يذمّون فاعل القبيح ، فكذا مريده ، والامر به.

٢٨

فقول المصنف : فحينئذ أتى بفاء النتيجة ، أى يلزم من امتناع فعل القبيح امتناع ارادته.

قال : الرّابع ، فى أنه تعالى يفعل لغرض لدلالة القرآن عليه ، ولاستلزام نفيه العبث ، وهو قبيح.

اقول : ذهبت الأشاعرة الى أنّه تعالى لا يفعل لغرض ، وإلّا لكان ناقصا مستكملا بذلك الغرض ، وقالت المعتزلة أنّ أفعال الله معلّلة بالأغراض ، وإلّا لكان عابثا ، تعالى الله عنه ، وهو مذهب اصحابنا الامامية ، وهو الحقّ لوجهين : نقلى وعقلى ، اما النّقلى فدلالة القرآن عليه ظاهرة كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وأمّا العقلى فهو انه لو لا ذلك لزم أن يكون عابثا ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. أمّا بيان اللّزوم فظاهر ، وأمّا بطلان اللّازم ، فلان العبث قبيح ، والقبيح لا يتعاطاه الحكيم. وأمّا قولهم : لو كان فاعلا لغرض لكان مستكملا بذلك فإنّما يلزم الاستكمال ان لو كان الغرض عائدا إليه ، لكنّه ليس كذلك بل هل هو عائد إمّا إلى منفعة العبد أو لاقتضاء نظام الوجود ، وذلك لا يلزم منه الاستكمال.

قال : وليس الغرض الإضرار لقبحه ، بل النّفع.

اقول : لما ثبت أنّ فعله تعالى معلّل بالغرض ، وأنّ الغرض عائد الى غيره ، فليس الغرض حينئذ إضرار ذلك الغير ، لأنّ ذلك قبيح عند العقلاء كمن قدّم الى غيره طعاما مسموما يريد به قتله. فإذا لم يكن الغرض الإضرار ، تعيّن أن يكون النّفع وهو المطلوب.

قال : فلا بدّ من التّكليف ، وهو بعث من تجب طاعته على

٢٩

ما فيه مشقّة على جهة الابتداء بشرط الإعلام.

اقول : لما ثبت الغرض من فعله تعالى نفع العبد ، ولا نفع حقيقىّ الا الثّواب ، لأن ما عداه إمّا دفع ضرر أو جلب نفع غير مستمرّ ، فلا يحسن أن يكون ذلك غرضا لخلق العبد. ثمّ الثّواب يقبح الابتداء به كما يأتى ، فاقتضت الحكمة توسّط التّكليف والتّكليف لغة مأخوذ من الكلفة وهى المشقّة ، واصطلاحا على ما ذكره المصنّف. فالبعث على الشّيء هو الحمل عليه ، ومن تجب طاعته هو الله تعالى ، فلذلك قال : على جهة الابتداء لأنّ وجوب طاعة غير الله كالنّبى (ص) والامام (ع) والوالد والسيّد والمنعم تابع ومتفرّع على طاعة الله. وقوله : على ما فيه مشقّة احتراز عما لا مشقّة فيه ، كالبعث على النكاح المستلذّ وأكل المستلذّات من الأطعمة والأشربة. وقوله : بشرط الاعلام أى بشرط إعلام المكلّف بما كلّف به ، وهو من شرائط حسن التكليف. وشرائط حسنه ثلاثة.

الأوّل ، عائد الى التّكليف نفسه وهو أربع : الأوّل ، انتفاء المفسدة فيه لأنه قبيح. الثّاني ، تقدّمه على وقت الفعل. الثّالث ، إمكان وقوعه لأنّه يقبح التكليف بالمستحيل.

الرّابع ، ثبوت صفة زائدة على حسنة اذ لا تكليف بالمباح.

الثّاني ، عائد الى المكلّف وهو فاعل التكليف وهو اربع : الأوّل ، علمه بصفات الفعل من كونه حسنا او قبيحا. الثّاني ، علمه بقدر ما يستحقّه كلّ واحد من المكلّفين من ثواب وعقاب. الثّالث ، قدرته على إيصال المستحقّ حقّه. الرّابع ، كونه غير فاعل للقبيح.

الثّالث ، عائد الى المكلّف وهو محلّ التّكليف وهى ثلاثة : الأوّل ، قدرته على الفعل لاستحالة تكليف ما لا يطاق كتكليف الاعمى نقط المصحف والزمن بالطّيران. الثّاني ، علمه بما كلّف به او إمكان علمه به ، فالجاهل المتمكّن من العلم غير معذور.

الثّالث ، إمكان آلة الفعل.

ثم متعلّق التّكليف إمّا علم أو ظنّ أو عمل. أمّا العلم فإمّا عقلىّ كالعلم بالله و

٣٠

صفاته وعدله والنّبوّة والإمامة ، أو سمعىّ كالشّرعيّات. وأمّا الظّنّ فكما فى جهة القبلة ، وأمّا العمل فكالعبادات.

قال : وإلّا لكان مغريا بالقبيح حيث خلق الشّهوات والميل إلى القبيح والنّفور عن الحسن ، فلا بدّ من زاجر وهو التّكليف

اقول : هذا اشارة الى وجوب التّكليف فى الحكمة ، وهو مذهب المعتزلة ، وهو الحقّ خلافا للاشعرية ، فانهم لم توجبوا على الله تعالى شيئا لا تكليفا ولا غيره. والدّليل على ما قلناه أنه لو لا ذلك لكان الله فاعلا للقبيح. وبيان ذلك انه خلق فى العبد الشّهوات والميل الى القبائح والنّفرة والتّأبىّ عن الحسن ، فلو لم يقرّر عبده عقله ، ولم يكلّفه بوجوب الواجب وقبح القبيح ، ويعده ويتوعّده لكان الله تعالى مغريا له بالقبيح ، والإغراء بالقبيح قبيح.

قال : والعلم غير كاف لاستسهال الذّمّ فى قضاء الوطر.

اقول : هذا جواب عن سؤال مقدّر ، تقدير السّؤال انه لم لا يكون العلم باستحقاق المدح على الحسن داعيا إليه وحينئذ لا حاجة الى التّكليف لحصول الغرض بدونه أجاب المصنّف بان العلم غير كاف لانّه كثيرا ما يستسهل الذّم على القبيح مع قضاء الوطر منه خاصّة مع حصول الدّواعى الحسيّة الّتي هى فى الأكثر تكون قاهرة للدواعى العقليّة.

قال : وجهة حسنه التّعريض للثّواب ، اعنى النّفع المستحقّ المقارن للتّعظيم والإجلال الّذي يستحيل الابتداء به.

اقول : هذا أيضا جواب عن سؤال مقدّر ، تقدير السّؤال : أن جهة حسن التّكليف إمّا حصول العقاب وهو باطل قطعا ، أو حصول الثّواب وهو أيضا باطل لوجهين : الأوّل ، انّ الكافر الّذي يموت على كفره مكلّف مع عدم حصول الثّواب له. الثّاني ، أنّ الثّواب مقدور لله تعالى ابتداء فلا فائدة فى توسّط التكليف. أجاب عنه بأنّ جهة

٣١

حسنه هو التّعريض للثّواب لا حصول الثّواب ، والتّعريض عامّ بالنّسبة الى المؤمن والكافر ، وكون الثّواب مقدورا لله تعالى ابتداء مسلّم ، لكن يستحيل الابتداء به من غير توسّط التّكليف ، لأنّه مشتمل على التعظيم ، وتعظيم من لا يستحقّ التّعظيم قبيح عقلا. وقول المصنّف فى تعريف الثّواب : النفع المستحقّ المقارن للتعظيم فالنّفع يشتمل الثّواب والتفضّل والعوض ، فبقيد المستحقّ خرج التفضّل ، وبقيد المقارن للتّعظيم خرج العوض.

قال : الخامس ، فى أنّه تعالى يجب عليه اللّطف ، وهو ما يقرّب العبد إلى الطّاعة ويبعّده عن المعصية ، ولا حظّ له فى التّمكين ، ولا يبلغ الإلجاء لتوقّف غرض المكلّف عليه. فإنّ المريد لفعل من غيره إذا علم أنّه لا يفعله إلّا بفعل يفعله المريد من غير مشقّة لو لم يفعله لكان ناقضا لغرضه وهو قبيح عقلا.

اقول : ما يتوقّف عليه إيقاع الطّاعة وارتفاع المعصية تارة يكون التوقّف عليه لازما ، وبدونه لا يقع الفعل وذلك كالقدرة والآلة ، وتارة لا يكون كذلك بل يكون المكلّف باعتبار الطاعة المتوقّف عليه أدنى وأقرب إلى فعل الطّاعة وارتفاع المعصية وذلك هو اللّطف. بقوله : ولا حظّ له فى التمكين اشارة الى القسم الأوّل كالقدرة ، فإنّها ليست لطفا فى الفعل بل شرطا فى إمكانه. وقوله : ولا يبلغ الالجاء لأنّه لو بلغ الإلجاء لكان منافيا للتّكليف.

اذا تقرّر هذا فاعلم ، انّ اللطف تارة يكون من فعل الله فيجب عليه ، وتارة يكون من فعل المكلّف ، فيجب عليه تعالى إشعاره به وإيجابه عليه ، وتارة من فعل غيرهما فيشترط فى التّكليف العلم به وإيجاب الله ذلك الفعل على ذلك الغير وإثابته عليه. وانما قلنا بوجوب ذلك كلّه على الله ، لانّه لو لا ذلك لكان ناقضا لغرضه ، ونقض

٣٢

الغرض قبيح عقلا. وبيان ذلك انّ المريد من غيره فعلا من الأفعال ، ويعلم المريد أنّ المراد منه لا يفعل الفعل المطلوب إلّا مع فعل يفعله المريد مع المراد منه من نوع ملاطفة أو مكاتبة أو إرسال إليه أو السّعى إليه وأمثال ذلك من غير مشقّة عليه فى ذلك ، فلو لم يفعل ذلك مع تصميم إرادته لعدّه العقلاء ناقضا لغرضه وذمّوه على ذلك. وكذلك القول فى حقّ البارى تعالى مع إرادة إيقاع الطّاعة وارتفاع المعصية ، لو لم يفعل ما يتوقّفان عليه لكان ناقضا لغرضه ، ونقض الغرض قبيح ، تعالى الله عن ذلك.

قال : السّادس ، فى أنّه تعالى يجب عليه فعل عوض الآلام الصّادرة عنه ، ومعنى العوض هو النّفع المستحقّ الخالى من التّعظيم والإجلال وإلّا لكان ظالما ، تعالى الله عن ذلك. ويجب زيادته على الألم وإلّا لكان عبثا.

اقول : الا لم الحاصل للحيوان إمّا أن يعلم فيه وجه من وجوه القبح فذلك يصدر عنّا خاصّة ، أو لا يعلم فيه ذلك فيكون حسنا. وقد ذكر لحسن الألم وجوه : الأوّل ، كونه مستحقّا. الثّاني ، كونه مشتملا على النّفع الزّائد العائد الى المتالّم. الثّالث ، كونه مشتملا على وجه دفع الضّرر الزّائد عليه. الرّابع ، كونه بما جرت به العادة. الخامس ، كونه مشتملا على وجه الدّفع. وذلك الحسن قد يكون صادرا عنه تعالى وقد يكون صادرا عنّا ، فأمّا ما كان صادرا عنه تعالى على وجه النّفع فيجب فيه أمران : احدهما ، العوض عنه وإلّا لكان ظالما ، تعالى الله عنه. ويجب أن يكون زائدا على الألم إلى حدّ الرّضا عند كلّ عاقل ، لأنّه يقبح فى الشّاهد إيلام شخص لتعويضه عوض ألمه من غير زيادة لاشتماله على العبثيّة. وثانيهما اشتماله على اللّطف إمّا للمتألّم او لغيره ليخرج من العبث. وأمّا ما كان صادرا عنّا مما فيه وجه من وجوه القبح ، فيجب على الله الانتصاف للمتألّم من المولم لعدله ، ولدلالة السّمع عليه ، ويكون العوض هنا مساويا للألم ، والّا لكان ظالما.

٣٣

وهنا فوائد : الأولى ، العوض هو النّفع المستحقّ الخالى من تعظيم وإجلال ، فبقيد المستحقّ خرج التفضّل ، وبقيد الخلوّ عن التّعظيم خرج الثّواب. الثّانية ، لا يجب دوام العوض لأنّه لا يحسن فى الشّاهد ركوب الأهوال الخطيرة ومكابدة المشاقّ العظيمة لنفع منقطع قليل. الثّالثة ، العوض لا يجب حصوله فى الدّنيا لجواز أن يعلم الله المصلحة فى تأخيره بل قد يكون حاصلا فى الدّنيا وقد لا يكون. الرّابعة ، الّذي يصل إليه عوض ألمه فى الآخرة إمّا أن يكون من أهل الثّواب أو من أهل العقاب ، فإن كان من أهل الثّواب فيكفيه إيصال اعواضه إليه بان يفرّقها الله تعالى على الأوقات ، او يتفضّل عليه بمثلها. وإن كان من أهل العقاب اسقط بها جزء من عقابه بحيث لا يظهر له التّخفيف بان يفرّق القدر على الأوقات. الخامسة ، الألم الصّادر عنّا بأمره تعالى أو إباحته والصّادر عن غير العاقل كالعجماوات وكذا ما يصدر عنه من تفويت المنفعة لمصلحة الغير وإنزال الغموم الحاصلة من غير فعل العبد يجب عوض ذلك كلّه على الله تعالى لعدله وكرمه.

اقول : الفصل الخامس فى النبوة.

النّبيّ (ص) هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر.

اقول : لمّا فرغ من مباحث العدل أردف ذلك بمباحث النبوّة لتفرّعها عليه ، وعرّف النبىّ بأنّه الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر. فبقيد الإنسان يخرج الملك ، وبقيد المخبر عن الله يخرج المخبر عن غيره ، وبقيد عدم واسطة بشر يخرج الإمام والعالم فانهما مخبران عن الله تعالى بواسطة النبي.

اذا تقرّر هذا فاعلم ، انّ النّبوّة مع حسنها خلافا للبراهمة واجبة فى الحكمة خلافا للأشاعرة ، والدّليل على ذلك هو أنّه لما كان المقصود من إيجاد الخلق هو المصلحة العائدة إليهم ، كان إسعافهم بما فيه مصالحهم وردعهم عما فيه مفاسدهم واجبا فى الحكمة ، وذلك إمّا فى أحوال معاشهم أو احوال معادهم. أمّا احوال معاشهم

٣٤

فهو أنّه لمّا كانت الضرورة داعية فى حفظ النّوع الإنسانى إلى الاجتماع الّذي يحصل معه مقاومة كلّ واحد لصاحبه فيما يحتاج إليه ، استلزم ذلك الاجتماع تجاذبا وتنازعا يحصلان من محبّة كلّ واحد لنفسه وإرادة المنفعة لها دون غيرها بحيث يفضى ذلك إلى فساد النّوع واضمحلاله ، فاقتضت الحكمة وجود عدل يفرض شرعا يجرى بين النّوع بحيث ينقاد كلّ واحد الى أمره وينتهى عند زجره. ثمّ لو فرض ذلك الشّرع إليهم لحصل ما كان أوّلا ، اذ لكلّ واحد رأى يقتضيه عقله وميل يوجبه طبعه ، فلا بدّ حينئذ من شارع متميّز بآيات ودلالات تدلّ على صدقه كى يشرع ذلك الشّرع مبلغا له عن ربّه يعد فيه المطيع ، ويتوعّد العاصى ليكون ذلك ادعى إلى انقيادهم لأمره ونهيه. وأمّا فى أحول معادهم فهو انّه لما كانت السّعادة الأخرويّة لا تحصل الّا بكمال النّفس بالمعارف الحقّة والأعمال الصّالحة ، وكان التّعلّق بالأمور الدّنيويّة وانغمار العقل فى الملابس الدّنيّة البدنيّة مانعا من ادراك ذلك على الوجه الأتمّ والنهج الأصوب ، أو يحصل إدراكه لكن مع مخالجة الشّكّ ومعارضة الوهم ، فلا بدّ حينئذ من وجود شخص لم يحصل له التعلّق المانع بحيث يقرّر لهم الدلائل ويوضحها لهم ويزيل الشّبهات ويدفعها ويعضد ما اهتدت إليه عقولهم ، ويبيّن لهم ما لم يهتدوا إليه ، ويذكرهم خالقهم ومعبودهم ، ويقرّر لهم العبادات والأعمال الصّالحة ما هى؟ وكيف هى على وجه يوجب لهم الزّلفى عند ربّهم ، ويكرّرها عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير كى لا يستوى عليهم السّهو والنّسيان اللّذان هما كالطبيعة الثانية للإنسان ، وذلك الشّخص المفتقر إليه فى احوال المعاش والمعاد هو النّبيّ. والنبىّ واجب فى الحكمة وهو المطلوب.

قال : وفيه مباحث : الأوّل ، فى نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله (ص) ، لأنّه ظهر المعجزة على يده كالقرآن ، وانشقاق القمر ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل ، وتسبيح الحصى فى كفّه وهى أكثر

٣٥

من أن تحصى. وادّعى النّبوّة فيكون صادقا ، وإلّا لزم إغراء المكلّفين بالقبيح فيكون محالا.

اقول : لمّا كانت المصالح تختلف بحسب اختلاف الأزمان والأشخاص ، كالمريض الّذي يختلف أحواله فى كيفيّة المعالجة واستعمال الأدوية بحسب اختلاف مزاجه فى تنزّلاته فى المرض بحيث يعالج فى وقت بما يستحيل معالجته به فى وقت آخر ، كانت النبوّة والتّشريع مختلفين بحسب اختلاف مصالح الخلق فى أزمانهم وأشخاصهم. وذلك هو السّر فى نسخ الشّرائع بعضها ببعض الى انتهت النّبوّة والشّريعة إلى نبيّنا محمد الّذي اقتضت الحكمة كون نبوّته وشريعته ناسختين لما تقدّمهما ، باقيتين ببقاء التّكليف. والدّليل على صحّة نبوّته هو انه ادّعي النّبوّة ، وظهر المعجزة على يده ، وكلّ من كان كذلك كان نبيّا حقّا. فيحتاج الى بيان أمور ثلاثة : الأوّل ، إنّه ادّعى النّبوّة. الثّاني ، انه ظهر المعجزة على يده. الثّالث ، انه كلّ من كان كذلك فهو نبىّ حقّ. أمّا الأوّل ، فهو ثابت إجماعا من النّاس بحيث لم ينكره أحد. وأمّا الثّاني ، فلانّ المعجز هو الأمر الخارق للعادة المطابق للدّعوى المقرون بالتحدّى المعتذر على الخلق الإتيان بمثله. أمّا اعتبار خرق العادة إذ لولاه لما كان معجزا كطلوع الشمس من مشرقها ، وأمّا مطابقته الدّعوى فلدلالته على صدق ما ادّعاه ، إذ لو خالف ذلك كما فى قضية مسيلمة الكذّاب لما دلّ على الصّدق ، وأمّا التّعذّر على الخلق فلانّه لو كان أكثرىّ الوقوع لما دلّ أيضا على النّبوّة. ولا شكّ أيضا فى ظهور المعجزات على يد نبيّنا ، وذلك معلوم بالتّواتر الّذي يفيد العلم ضرورة. فمن ذلك القرآن الكريم الّذي تحدّى به الخلق ، وطلب منهم الإتيان بمثله فلم يقدروا على ذلك ، عجزت عنه مصاقع الخطباء من العرب العرباء حتّى دعاهم عجزهم الى محاربته ومسايفته الّذي حصل به ذهاب نفوسهم وأموالهم وسبى ذراريهم ونسائهم ، مع انّهم كانوا أقدر على دفع ذلك لتمكّنهم من مفردات الالفاظ وتركيبها ، مع أنهم كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة والكلام والخطب والمحاورات والأجوبة. فعدولهم عن ذلك الى المحاربة دليل على عجزهم ، إذ العاقل لا يختار الأصعب مع إنجاع الأسهل إلّا لعجزه عنه ، ومن ذلك انشقاق القمر

٣٦

ونبوع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من الطّعام القليل ، وتسبيح الحصى فى كفّه ، وكلام الذّراع المسموم ، وحنين الجذع وكلام الحيوانات الصّامتة ، والأخبار بالغائبات واستجابة دعائه وغير ذلك مما لا يحصى كثرة وذلك معلوم فى كتب المعجزات والتواريخ حتى حفظ عنه ما ينيف على الألف الّذي أعظمها وأشرفها الكتاب العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لا تملّه الطّباع ولا تمجّه الأسماع ، ولا يخلق بكثرة الرّد إليه ولا تنجلى الظّلمات الّا به. واما الثّالث ، فلأنّه لو لم يكن صادقا فى دعوى النّبوّة لكان كاذبا ، وهو باطل ، اذ يلزم منه إغراء المكلّفين باتّباع الكاذب ، وذلك قبيح لا يفعله الحكيم.

قال : الثّاني ، فى وجوب عصمته. العصمة لطف خفىّ يفعل الله تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطّاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك ، لأنّه لو لا ذلك لم يحصل الوثوق بقوله فانتفت فائدة البعثة وهو محال.

اقول : اعلم انّ المعصوم يشارك غيره فى الألطاف المقرّبة ويحصل له زائد على ذلك لأجل ملكة نفسانيّة ، لطف يفعل الله بحيث لا يختار معه ترك طاعة ولا فعل معصية مع قدرته على ذلك. وذهب بعضهم الى انّ المعصوم لا يمكنه الإتيان بالمعاصي وهو باطل ، وإلّا لما استحقّ مدحا.

اذ تقرّر هذا فاعلم ، انّ النّاس اختلفوا فى عصمة الأنبياء (ص) فجوّزت الخوارج عليهم الذّنوب ، وعندهم كلّ ذنب كفر. والحشويّة جوّزوا الإقدام على الكبائر ، ومنهم من منعها عمدا لا سهوا ، وجوّزوا تعمّد الصغائر. والأشاعرة منعوا الكبائر مطلقا وجوّزوا الصّغائر سهوا. والإمامية أوجبوا العصمة مطلقا عن كلّ معصية عمدا وسهوا وهو الحقّ لوجهين : الأوّل ما أشار إليه المصنّف وتقريره أنّه لو لم يكن الأنبياء معصومين لا نتفت فائدة البعثة ، واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة أنّه إذا جازت المعصية عليهم

٣٧

لم يحصل الوثوق بصحّة قولهم لجواز الكذب حينئذ عليهم ، وإذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الانقياد لأمرهم ونهيهم ، فينتفى فائدة بعثهم وهو محال. الثّاني ، لو صدر عنهم الذّنب لوجب اتّباعهم لدلالة النّقل على وجوب اتّباعهم ، لكنّ الامر حينئذ باتّباعهم محال لانه قبيح ، فيكون صدور الذّنب عنهم محال وهو المطلوب.

قال : الثّالث ، فى أنّه معصوم من أوّل عمره إلى آخره لعدم انقياد القلوب إلى طاعة من عهد منه فى سالف عمره أنواع المعاصى والكبائر وما تنفر النّفس عنه.

اقول : ذهب القائلون بعصمتهم فيما نقلناه عنهم الى اختصاص ذلك بما بعد الوحى.

وأمّا قبله فمنعوا عنهم الكفر والاصرار على الذّنب. وقال اصحابنا بوجوب العصمة مطلقا قبل الوحى وبعده إلى آخر العمر. والدّليل عليه ما ذكره المصنّف وهو ظاهر. وامّا ما ورد فى الكتاب العزيز والأخبار مما يتوّهم صدور الذّنب عنهم فمحمول على ترك الأولى جمعا بين ما دلّ العقل عليه وبين صحّة النّقل ، مع انّ جميع ذلك قد ذكر له وجوه ومحامل فى مواضعه ، وعليك فى ذلك بمطالعة كتاب تنزيه الأنبياء الّذي رتّبه السيد المرتضى علم الهدى الموسوى ـ رحمه الله ـ وغيره من الكتب. ولو لا خوف الإطالة لذكرنا نبذة من ذلك.

قال : الرّابع ، يجب أن يكون أفضل أهل زمانه لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا وسمعا. قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

اقول : يجب اتّصاف النّبيّ بجميع الكمالات والفضائل ، ويجب ان يكون فى ذلك أفضل وأكمل من كلّ واحد من أهل زمانه ، لانه يقبح من الحكيم الخبير أن يقدّم المفضول

٣٨

المحتاج الى التّكميل على الفاضل المكمّل عقلا وسمعا. أمّا عقلا فظاهر اذ يقبح فى الشّاهد أن يجعل مبتدئا فى الفقه مقدّما على ابن عباس وغيره من الفقهاء ، ويجعل مبتدئا فى المنطق مقدّما على ارسطو ، ومبتدئا فى النّحو مقدّما على سيبويه والخليل ، وكذا فى كل فنّ من الفنون. وامّا سمعا فما اشار إليه سبحانه فى الآية المذكورة وغيرها.

قال : الخامس ، يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات ، وعن رذائل الخلقيّة والعيوب الخلقيّة لما فى ذلك من النّقص فيسقط محلّه من القلوب ، والمطلوب خلافه.

اقول : لما كان المطلوب من الخلق هو الانقياد التّامّ للنبىّ واقبال القلوب عليه ، وجب أن يكون متّصفا بأوصاف المحامد من كمال العقل والذّكاء والفطنة وعدم السّهو وقوة الرّأى والشّهامة والنّجدة والعفو والشّجاعة والكرم والسّخاوة والجود والإيثار والغيرة والرّأفة والرّحمة والتواضع واللّين وغير ذلك ، وأن يكون منزّها عن كلّ ما يوجب التنفير عنه ، وذلك إمّا بالنّسبة إلى الخارج عنه فكما فى دناءة الآباء وعهر الأمّهات وإمّا بالنسبة إليه ، فإمّا فى أحواله فكما فى الأكل على الطّريق ومجالسة الأراذل ، وان يكون حائكا او حجّاما او زبّالا او غير ذلك من الصّنائع الرّذيلة ، وإمّا فى أخلاقه فكالحقد والجهل والخمود والحسد والفظاظة والغلظة والبخل والجبن والجنون والحرص على الدّنيا والإقبال عليها ومراعات أهلها ومعافاتهم فى أوامر الله وغير ذلك من الرّذائل. وإمّا فى طباعه فكالبرص والجذام والجنون والبكم والبله والأبنة ، لما فى ذلك كلّه من النّقص الموجب لسقوط محلّه من القلوب.

قال : الفصل السّادس : فى الامامة وفيه مباحث :

الأوّل ، الإمامة رئاسة عامّة فى أمور الدّنيا والدّين لشخص من الأشخاص نيابة عن النّبيّ. وهى واجبة عقلا ، لأنّ الإمامة لطف

٣٩

فانّا نعلم قطعا انّ النّاس إذا كان لهم رئيس مرشد مطاع ينتصف للمظلوم من الظّالم ويردع الظّالم عن ظلمه كانوا إلى الصّلاح أقرب ومن الفساد ابعد. وقد تقدّم أنّ اللّطف واجب.

اقول : هذا البحث وهو بحث الإمامة من توابع النّبوّة وفروعها. والإمامة رئاسة عامّة فى أمور الدّين والدّنيا لشخص انسانّى. فالرّياسة جنس قريب ، والجنس البعيد هو النّسبة ، وكونها عامّة فصل يفصلها عن ولاية القضاة والنّوّاب. وفى أمور الدّين والدّنيا بيان لمتعلّقها ، فانّها كما تكون فى الدّين فكذا فى الدّنيا. وكونها لشخص انسانّى فيه إشارة إلى أمرين : أحدهما ، انّ مستحقّها يكون شخصا معيّنا معهودا من الله تعالى ورسوله ، لا اىّ شخص اتّفق. وثانيهما ، انه لا يجوز ان يكون مستحقّها أكثر من واحد فى عصر واحد ، وزاد بعض الفضلاء فى التّعريف بحقّ الأصالة. وقال فى تعريفها : الإمامة رئاسة عامّة فى أمور الدّين والدّنيا لشخص انسانىّ بحقّ الأصالة واحترز بهذا عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية ، فانّ رئاسته عامّة لكن ليست بالأصالة. والحقّ ان ذلك تخرج بقيد العموم ، فانّ النّائب المذكور لا رئاسة له على إمامه فلا يكون رئاسته عامّة ومع ذلك كلّه فالتّعريف ينطبق على النّبوّة فحينئذ يزاد فيه بحقّ النّيابة عن النّبيّ (ص) أو بواسطة بشر.

اذا عرفت هذا فاعلم ، ان النّاس اختلفوا فى الإمامة هل هى واجبة أم لا. فقالت الخوارج انّها ليست بواجبة مطلقا. وقالت الأشاعرة والمعتزلة بوجوبها على الخلق ثم اختلفوا. وقالت الاشاعرة ذلك معلوم سمعا. وقالت المعتزلة عقلا. وقال اصحابنا الامامية هى واجبة عقلا على الله تعالى ، وهو الحقّ. والدليل على حقيّته هو انّ الإمامة لطف وكلّ لطف واجب على الله تعالى ، فالإمامة واجبة على الله تعالى. أمّا الكبرى فقد تقدّم بيانها. وامّا الصّغرى فهو ان اللّطف كما عرفت هو ما يقرّب العبد الى الطّاعة ويبعّده عن المعصية ، وهذه المعنى حاصل فى الإمامة. وبيان ذلك أنّ من عرف عوائد

٤٠