الباب الحادي عشر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

الباب الحادي عشر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الدكتور مهدي محقّق
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر في الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي دلّ على وجوب وجوده افتقار الممكنات ، وعلى قدرته وعلمه إحكام المصنوعات ، المتعالي عن مشابهة الجسمانيّات ، المنزّه بجلال قدسه عن مناسبة النّاقصات. نحمده حمدا يملأ أقطار الأرض والسّماوات ، ونشكره شكرا على نعمه المتظاهرات المتواترات ، ونستعينه على دفع البأساء وكشف الضّرّاء فى جميع الحالات.

والصّلاة على نبيّه محمّد صاحب الآيات والبيّنات ، المكمّل بطريقته وشريعته سائر الكمالات ، وعلى آله الهادين من الشّبه والضّلالات ، الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم من الزّلات ، صلاة تتعاقب عليهم كتعاقب الآنات.

أمّا بعد ، فانّ الله تعالى لم يخلق العالم عبثا ، فيكون من اللّاعبين ، بل لغاية وحكمة متحقّقة للنّاظرين ، وقد نصّ على تلك الغاية بالتّعيين فقال : وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون فوجب على كلّ من هو فى زمرة العاقلين إجابة ربّ ـ العالمين ، ولما كان ذلك متعذّرا بدون معرفته باليقين ، وجب على كلّ عارف مكلّف تنبيه الغافلين ، وإرشاد الضّالّين بتقرير مقدّمات ذوات إفهام وتبيين. فمن تلك المقدّمات المقدّمة الموسومة ب الباب الحادى عشر من تصانيف شيخنا وإمامنا ، الإمام العالم الأعلم الأفضل الأكمل سلطان أرباب التّحقيق ، أستاذ اولى التنقيح والتّدقيق ، مقرّر المباحث العقليّة ، مهذّب الدّلائل الشّرعيّة ، آية الله فى العالمين ، وارث علوم الأنبياء والمرسلين ، جمال الملّة والدّين ابى منصور الحسن بن يوسف بن على بن المطهّر الحلّي ـ قدّس الله روحه ونوّر ضريحه ـ فإنّها مع وجازة لفظها كثيرة العلم ، ومع اختصار تقريرها كبيرة الغنم.

١

وكان قد سلف منّى فى سالف الزّمان أن أكتب شيئا يعين على حلّها بتقرير الدّلائل والبرهان ، إجابة لالتماس بعض الإخوان ، ثم عاقنى عن إتمامه عوائق الحدثان ، ومصادمات الدّهر الخوّان ، اذ كان صادّا للمرء عن بلوغ إرادته وحائلا بينه وبين طلبته. ثم اتّفق الاجتماع والمذاكرة في بعض الأسفار مع تراكم الأشغال ، وتشويش الأفكار ، فالتمس منّى بعض السّادات الأجلّاء أن أعيد النّظر والتّذكّر لما كنت قد كتبت أوّلا ، والمراجعة إلى ما كنت قد جمعت ، فأجبت ملتمسه ، إذ قد أوجب الله تعالى عليّ إجابته ، هذا مع قلّة البضاعة ، وكثرة الشّواغل المنافية للاستطاعة ، وها أنا أشرع فى ذلك مستمدّا من الله تعالى المعونة عليه ، ومتقرّبا به إليه. وسمّيته النافع يوم الحشر فى شرح باب الحادى عشر وما توفيقى الا بالله عليه توكّلت وإليه انيب.

قال ـ قدّس الله روحه ـ : الباب الحادى عشر فيما يجب على عامّة المكلّفين من معرفة أصول الدّين.

اقول : انما سمّى هذا الباب الحادى عشر لان المصنّف اختصر مصباح المتهجد الّذي وضعه الشيخ ابو جعفر الطّوسى ـ رحمه الله ـ فى العبادات والأدعية ، ورتّب ذلك المختصر على عشرة ابواب ، وسمّاه كتاب منهاج الصلاح فى مختصر المصباح. ولمّا كان ذلك الكتاب فى فنّ العمل والعبادات والدّعاء ، استدعى ذلك الى معرفة المعبود والمدعوّ ، فاضاف إليه هذا الباب. قوله : فيما يجب على عامّة المكلّفين الوجوب في اللّغة الثبوت والسّقوط ، ومنه قوله تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها). واصطلاحا ، الواجب هو ما يذم تاركه على بعض الوجوه ، وهو على قسمين : واجب عينا ، وهو ما لا يسقط عن البعض بقيام البعض الآخر به ، وواجب كفاية ، وهو بخلافه. والمعرفة من القسم الاوّل ، فلذلك قال : يجب على عامّة المكلّفين والمكلّف هو الانسان الحىّ البالغ العاقل ، فالميّت والصّبىّ والمجنون ليسوا بمكلّفين. والأصول جمع الأصل ، وهو ما يبتنى عليه غيره. والدّين لغة ، الجزاء ، منه قول النبىّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : كما تدين تدان واصطلاحا ، هو الطّريقة والشّريعة ، وهو المراد هنا. وسمّى

٢

هذا القن اصول الدّين ، لأنّ سائر العلوم الدّينية من الحديث والفقه والتّفسير مبنيّة عليه ، فانّها متوقّفة على صدق الرّسول ، وصدق الرّسول متوقّف على ثبوت المرسل وصفاته وعدله وامتناع القبح عليه. وعلم الأصول وهو ما يبحث فيه عن وحدانيّة الله تعالى وصفاته وعدله ، ونبوّة الأنبياء والاقرار بما جاء به النّبيّ ، وإمامة الأئمّة والمعاد.

قال : أجمع العلماء كافّة على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته الثّبوتيّة والسّلبيّة ، وما يصحّ عليه وما يمتنع عنه ، والنّبوّة والإمامة والمعاد.

اقول : اتّفق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على وجوب هذه المعارف ، وإجماعهم حجّة اتّفاقا أما عندنا فلدخول المعصوم فيهم ، وأما عند الغير ، فلقوله (ص) : لا تجتمع أمّتى على خطأ والدليل على وجوب المعرفة سندا للاجماع على وجهين : عقلىّ وسمعيّ.

أمّا الأوّل فلوجهين : الاوّل ، انّها دافعة للخوف الحاصل للانسان من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب ، لانّه ألم نفسانىّ يمكن دفعه ، فيحكم العقل بوجوب دفعه ، فيجب دفعه. الثانى ، انّ شكر المنعم واجب ، ولا يتمّ الا بالمعرفة ، أما انّه واجب ، فلاستحقاق الذّمّ عند العقلاء بتركه ، وأما انه لا يتمّ الا بالمعرفة ، فلان الشّكر انّما يكون بما يناسب حال المشكور ، فهو مسبوق بمعرفته ، والّا لم يكن شكرا. والبارى تعالى منعم ، فيجب شكره ، فيجب معرفته ، ولمّا كان التكليف واجبا فى الحكمة كما سيأتي ، وجب معرفة مبلّغه ، وهو النّبيّ (ص) ، وحافظه والامام ، ومعرفة المعاد لاستلزام التكليف وجوب الجزاء.

وامّا الدليل السّمعى فلوجهين : الاوّل ، قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) والامر للوجوب. والثانى ، لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قال النبىّ : ويل لمن لاكها

٣

بين لحييه ثمّ لم يتدبّرها رتّب الذّم على تقدير عدم تدبّرها ، اى عدم الاستدلال بما تضمّنه الآية عن ذكر الاجرام السّماوية والأرضيّة ، بما فيها من آثار الصّنع والقدرة والعلم بذلك الدّالة على وجود صانعها ، وقدرته وعلمه ، فيكون النّظر والاستدلال واجبا وهو المطلوب.

قال : بالدّليل لا بالتّقليد.

اقول : الدّليل لغة ، هو المرشد والدّال ، واصطلاحا هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، ولمّا وجبت المعرفة وجب ان تكون بالنّظر والاستدلال ، لانّها ليست ضروريّة ، لانّ المعلوم ضرورة هو الّذي لا يختلف فيه العقلاء ، بل يحصل العلم بادنى سبب من توجّه العقل إليه ، والاحساس به ، كالحكم بانّ الواحد نصف الاثنين ، وانّ النّار حارّة والشّمس مضيئة ، وانّ لنا خوفا وغضبا وقوة وضعفا وغير ذلك. والمعرفة ليست كذلك لوقوع الاختلاف فيها ، ولعدم حصولها بمجرّد توجّه العقل إليها ، ولعدم كونها حسيّة. فتعيّن الاوّل لانحصار العلم فى الضّرورى والنّظرى ، فيكون النّظر والاستدلال واجبا ، لان ما لا يتمّ الواجب المطلق الّا به ، وكان مقدورا عليه ، فهو واجب لانه اذا لم يجب ما يتوقّف عليه الواجب المطلق فإمّا أن يبقى الواجب على وجوبه أولا ، فمن الأوّل يلزم تكليف ما لا يطاق ، وهو محال كما سيأتى ، ومن الثّاني يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، وهو محال أيضا.

والنّظر هو ترتيب امور معلومة للتادّى الى امر آخر وبيان ذلك هو انّ النّفس يتصوّر المطلوب أوّلا ، ثم يحصّل المقدّمات الصّالحة للاستدلال عليه ، ثمّ يرتّبها ترتيبا يؤدّى الى العلم به.

ولا يجوز معرفة الله بالتّقليد. والتّقليد هو قبول قول الغير من غير دليل. وانّما قلنا ذلك لوجهين : الاوّل ، انّه اذا تساوى النّاس فى العلم ، واختلفوا فى المعتقدات ، فإمّا أن يعتقد المكلّف جميع ما يعتقدونه ، فيلزم اجتماع المتنافيات ، أو البعض دون بعض ، فاما أن يكون لمرجّح أولا ، فإن كان الاوّل ، فالمرجّح هو الدليل. وان كان الثّاني ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو محال. الثانى ، انه تعالى ذمّ التّقليد بقوله :

٤

(قَالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهتَدُونَ) ، وحثّ على النّظر والاستدلال قوله تعالى (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

قال : فلا بدّ من ذكر ما لا يمكن جهله على أحد من المسلمين ، ومن جهل شيئا من ذلك خرج عن ربقة المؤمنين ، واستحقّ العقاب الدّائم.

اقول : لمّا وجبت المعارف المذكورة بالدّليل السّابق ، اقتضى ذلك وجوبها على كلّ مسلم ، أى مقرّ بالشّهادتين ، ليصير بالمعرفة مؤمنا لقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) نفى عنهم الايمان مع كونهم مقرّين بالالهيّة والرّسالة لعدم كون ذلك بالنّظر والاستدلال ، وحيث أنّ الثّواب مشروط بالايمان ، كان الجاهل بهذه المعارف مستحقا للعقاب الدّائم ، لانّ كلّ من لا يستحقّ الثّواب أصلا مع اتّصافه بشرائط التّكليف ، فهو مستحقّ للعقاب بالاجماع.

والرّبقة ـ بكسر الرّاء وسكون الباء ـ حبل مستطيل فيه عرى تربط فيها البهم ، واستعاره المصنّف هنا للحكم الجامع للمؤمنين ، وهو استحقاق الثّواب الدّائم والتّعظيم.

قال : وقد رتّبت هذا الباب على فصول :

الفصل الأول فى إثبات واجب الوجود لذاته تعالى.

فنقول كلّ معقول إمّا أن يكون واجب الوجود فى الخارج لذاته ، وإمّا ممكن الوجود لذاته ، وإمّا ممتنع الوجود لذاته.

اقول : المطلب الاقصى والعمدة العليا فى هذا الفنّ هو اثبات الصّانع تعالى ، فلذلك ابتدأ به ، وقدّم لبيانه مقدّمة فى تقسيم المعقول ، لتوقّف الدّليل الآتى على بيانها وتقريرها ، أنّ كلّ معقول ، وهو الصّورة الحاصلة فى العقل ، اذا نسبنا إليه الوجود

٥

الخارجى ، فإمّا أن يصحّ اتّصافه به أولا ، فإن لم يصحّ اتّصافه به لذاته ، ممتنع الوجود لذاته ، كشريك البارى. وان صحّ اتصافه به فإما ان يجب اتّصافه به لذاته أولا ، والاوّل هو الواجب الوجود لذاته ، وهو الله تعالى لا غير. والثّاني ، هو ممكن الوجود لذاته ، وهو ما عدا الواجب من الموجودات. وانّما قيّدنا الواجب بكونه لذاته ، احترازا من الواجب لغيره ، كوجوب وجود المعلول عند حصول علّته التّامة ، فانّه يجب وجوده ، لكن لا لذاته ، بل لوجود علّته التّامة. وقيّدنا الممتنع أيضا بكونه لذاته احترازا من الممتنع لغيره ، كامتناع وجود المعلول عند عدم علّته. وهذان القسمان داخلان فى قسم الممكن. وأمّا الممكن فلا يكون وجوده لغيره ، فلا فائدة فى قيده لذاته الّا لبيان أنّه لا يكون الا كذلك لا للاحتراز عن غيره.

ولنتمّ هذا البحث بذكر فائدتين يتوقّف عليهما المباحث الآتية :

الاولى ، فى خواصّ الواجب لذاته ، وهى خمسة : الأولى ، انه لا يكون وجوده واجبا لذاته ولغيره معا ، والّا لكان وجوده مرتفعا عند ارتفاع وجود ذلك الغير ، فلا يكون واجبا لذاته ، هذا خلف. الثانية ، انه لا يكون وجوده ووجوبه زائدين عليه ، والّا لافتقر إليهما فيكون ممكنا. الثالثة ، انه لا يكون صادقا عليه التركيب ، لان المركّب مفتقر الى اجزائه المغايرة له ، فيكون ممكنا ، والممكن لا يكون واجبا لذاته. الرابعة ، انه لا يكون جزء من غيره ، والا لكان منفصلا عن ذلك الغير ، فيكون ممكنا. الخامسة نه لا يكون صادقا على اثنين كما يأتى فى دلائل التوحيد.

الثانية ، فى خواصّ الممكن ، وهى ثلاثة : الأولى ، انّه لا يكون أحد الطرفين اعنى الوجود والعدم أولى به من الآخر ، بل هما معا متساويان بالنّسبة إليه ككفّتى الميزان ، فان ترجّح أحدهما فإنّه انما يكون بالسّبب الخارجى عن ذاته ؛ لانّه لو كان أحدهما اولى به من الآخر ، فإمّا ان يمكن وقوع الآخر أولا ، فان كان الاوّل ، لم يكن الأولويّة كافية ، وان كان الثّاني كان المفروض الاولى به واجبا له ، فيصير الممكن إمّا واجبا أو ممتنعا وهو محال. الثّاني ، انّ الممكن محتاج الى المؤثّر ، لانّه لمّا استوى

٦

الطرفان ، أعنى الوجود والعدم بالنّسبة الى ذاته ، استحال ترجيح أحدهما على الآخر الا لمرجّح ، والعلم به بديهىّ. الثالث ، انّ الممكن الباقى محتاج الى المؤثّر ، وانما قلنا ذلك لانّ الامكان لازم لماهيّة الممكن ، ويستحيل رفعه عنه ، والّا لزم انقلابه من الإمكان الى الوجوب والامتناع ، وقد ثبت انّ الاحتياج لازم للإمكان ، والإمكان لازم لماهيّة الممكن ، ولازم اللّازم لازم ، فيكون الاحتياج لازما لماهيّة الممكن ، وهو المطلوب.

قال : ولا شكّ فى أنّ هنا موجودا بالضّرورة ، فإن كان واجب الوجود لذاته ، فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد يوجده بالضّرورة ، فإن كان الموجد واجبا لذاته فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد آخر ، فإن كان الأوّل دار وهو باطل بالضّرورة ، وإن كان ممكنا آخر تسلسل وهو باطل أيضا ، لأنّ جميع آحاد تلك السّلسلة الجامعة لجميع الممكنات تكون ممكنة بالضّرورة ، فتشترك فى إمكان الوجود لذاتها ، فلا بدّلها من موجد خارج عنها بالضّرورة ، فيكون واجبا بالضّرورة وهو المطلوب.

اقول : للعلماء كافّة فى اثبات الصّانع طريقان : الاوّل ، هو الاستدلال بآثاره المحوجة الى السّبب على وجوده ، كما اشار إليه فى كتابه العزيز بقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) وهو طريق ابراهيم الخليل ، فانه استدلّ بالأفول الّذي هو الغيبة المستلزمة للحركة المستلزمة للحدوث

٧

المستلزم للصّانع تعالى. والثانى ، هو أن ينظر فى الوجود نفسه ، ويقسّمه الى الواجب والممكن حتى يشهد القسمة بوجود واجب صدر عنه جميع ما عداه من الممكنات ، وإليه الاشارة فى التنزيل بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). والمصنّف ذكر فى هذا الباب الطّريقين معا. فأشار الى الاوّل عند اثبات كونه قادرا وسيأتى بيانه ، واما الثّاني فهو المذكور هنا. وتقريره ان نقول لو لم يكن الواجب تعالى موجودا ، لزم إمّا الدّور أو التّسلسل ، واللّازم بقسميه باطل ، فالملزوم وهو عدم الواجب مثله فى البطلان. فيحتاج هنا الى بيان أمرين : أحدهما بيان لزوم الدّور والتّسلسل ، وثانيهما بيان بطلانهما. اما بيان الامر الاوّل ، فهو انّ هاهنا ماهيّات متّصفة بالوجود الخارجى بالضّرورة ، فانّ كان الواجب موجودا معها فهو المطلوب ، وان لم يكن موجودا يلزم اشتراكها بجملتها فى الامكان ، اذ لا واسطة بينهما ، فلا بدّ لها من مؤثّر حينئذ بالضّرورة ، فمؤثّرها إن كان واجبا فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر الى مؤثّر ، فمؤثّره إن كان ما فرضناه أوّلا لزم الدّور ، وإن كان ممكنا آخر غيره ننقل الكلام إليه ونقول كما قلناه أوّلا ويلزم التّسلسل ، فقد بان لزومها. وأما بيان الأمر الثّاني ، وهو بيان بطلانهما ، فنقول أمّا الدّور فهو عبارة عن توقّف الشّيء على ما يتوقّف عليه كما يتوقّف (ا) على (ب) و (ب) على (ا) وهو باطل بالضّرورة ، اذ يلزم منه أن يكون الشيء الواحد موجودا ومعدوما معا ، وهو محال. وذلك لانه اذا توقّف (ا) على (ب) كان الألف متوقّفا على (ب) وعلى جميع ما يتوقّف عليه (ب) ومن جملة ما يتوقّف عليه (ب) هو الألف نفسه ، فيلزم توقّفه على نفسه ، والموقوف عليه متقدّم على الموقوف فيلزم تقدّمه على نفسه ، والمتقدّم على نفسه من حيث انه متقدّم يكون موجودا قبل المتأخّر ، فيكون الألف حينئذ موجودا قبل نفسه ، فيكون موجودا ومعدوما معا ، وهو محال. وأما التّسلسل فهو ترتّب علل ومعلولات بحيث يكون السّابق علّة فى وجود لاحقه وهكذا ، وهو أيضا باطل ، لان جميع آحاد تلك السّلسلة الجامعة لجميع الممكنات تكون ممكنة لاتّصافها بالاحتياج ، فتشترك بجملتها فى الامكان ،

٨

فتفتقر الى المؤثّر ، فمؤثّرها إمّا نفسها أو جزئها أو الخارج عنها ، والاقسام كلّها باطلة قطعا. أمّا الأوّل فلاستحالة تاثير الشّيء فى نفسه ، والّا لزم تقدّمه على نفسه ، وهو باطل كما تقدّم. وأمّا الثانى فلأنه لو كان المؤثّر فيها جزئها ، لزم ان يكون الشّيء مؤثّرا فى نفسه ، لانه من جملتها وفى علّته أيضا ، فيلزم تقدّمه على نفسه وعلله ، وهو أيضا باطل. وأمّا الثّالث فلوجهين : الاوّل ، أنه يلزم ان يكون الخارج عنها واجبا ، اذ الفرض اجتماع جملة الممكنات فى تلك السّلسلة ، فلا تكون موجودا خارجا عنها الّا الواجب إذ لا واسطة بين الواجب والممكن ، فيلزم مطلوبنا. الثانى ، انه لو كان المؤثّر فى كلّ واحد واحد من آحاد تلك السّلسلة أمرا خارجا عنها ، لزم اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد شخصى ؛ وذلك باطل ، لانّ الفرض ان كلّ واحد من آحاد تلك السّلسلة مؤثّر فى لاحقه ، وقد فرض تاثير الخارج فى كلّ واحد منها ، فيلزم اجتماع علّتين على على معلول واحد شخصى وهو محال ، والّا لزم استغنائه عنهما حال احتياجه إليهما ، فيجتمع النقيضان وهو محال ، فبطل التّسلسل المطلوب ، وقد بان بطلان الدّور والتّسلسل فيلزم مطلوبنا ، وهو وجود الواجب تعالى.

قال : الفصل الثّاني فى صفاته الثّبوتية وهى ثمانية :

الأولى ، أنّه تعالى قادر مختار لأنّ العالم محدث لانّه جسم ، وكلّ جسم لا ينفكّ عن الحوادث ، أعنى الحركة والسّكون ، وهما حادثان لاستدعائهما المسبوقيّة بالغير ، وما لا ينفكّ عن الحوادث فهو محدث بالضّرورة ، فيكون المؤثّر فيه ، وهو الله تعالى قادرا مختارا ، لأنّه لو كان موجبا ، لم يتخلّف أثره عنه بالضّرورة ، فيلزم من ذلك إمّا قدم العالم أو حدوث الله تعالى ، وهما باطلان.

٩

اقول : لما فرغ من اثبات الذّات ، شرع فى اثبات الصّفات ، وقدّم الصّفات الثّبوتية لانّها وجوديّة ، والسّلبيّة عدميّة ، والوجود أشرف من العدم ، والأشرف مقدّم على غيره ، وابتدأ بكونه قادرا لاستدعاء الصّنع القدرة. ولنذكر هنا مقدّمة تشتمل على تصوّر ذكر مفردات هذا البحث ؛ فنقول :

القادر المختار هو الّذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإن شاء أن يترك ترك ، مع وجود قصد وإرادة ، والموجب بخلافه ، والفرق بينهما من وجوه : الاوّل ، انّ المختار يمكنه الفعل والترك معا بالنّسبة الى شيء واحد ، والموجب بخلافه. الثانى ، انّ فعل المختار مسبوق بالعلم والقصد والإرادة بخلاف الموجب. الثالث ، انّ فعل المختار يجوز تاخيره عنه وفعل الموجب لا ينفكّ عنه كالشّمس فى إشراقها ، والنّار فى إحراقها.

والعالم كلّ موجود سوى الله تعالى.

والمحدث هو الّذي وجوده مسبوق بالغير أو بالعدم ، والقديم بخلافه.

والجسم هو المتحيّز الّذي يقبل القسمة فى الجهات الثلث.

والحيّز والمكان شيء واحد ، وهو الفراغ المتوهّم الذي يشغله الأجسام بالحصول فيه.

والحركة هى حصول الجسم فى مكان بعد مكان آخر. والسّكون حصول ثان فى مكان واحد.

اذا تقرّر هذا فنقول ، كلّما كان العالم محدثا ، كان المؤثّر فيه وهو الله تعالى قادرا مختارا ، فهنا دعويان : الأولى انّ العالم محدث ، والثانية انه يلزمه اختيار الصّانع. أما بيان الدعوى الاولى ، فلانّ المراد بالعالم عند المتكلّمين هو السّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما. وذلك إمّا أجسام أو أعراض ، وكلاهما حادثان. أمّا الأجسام فلانّها لا يخلو من الحركة والسّكون الحادثين ، وكلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ، أما انّها لا يخلو من الحركة والسّكون ، فلان كلّ جسم لا بدّ له من مكان ضرورة ، وحينئذ إمّا ان يكون لابثا فيه فهو السّاكن ، او منتقلا عنه ، وهو المتحرّك ، اذ لا واسطة بينهما

١٠

بالضّرورة ، وأما انّهما حادثان ، فلانهما مسبوقان بالغير ، ولا شيء من القديم مسبوق بالغير ، فلا شيء من الحركة والسكون بقديم ، فيكونان حادثين ، اذ لا واسطة بين القديم والحادث ، امّا انّهما مسبوقان بالغير ، فلانّ الحركة عبارة عن الحصول الأوّل فى المكان الثانى ، فيكون مسبوقا بالمكان الأوّل ضرورة. والسّكون عبارة عن الحصول الثانى فى المكان الأوّل ، فيكون مسبوقا بالحصول الأوّل بالضّرورة ، وأما انّ كلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ، فلانه لو لم يكن حادثا لكان قديما وحينئذ إما ان يكون معه فى القدم شيء من تلك الحوادث اللّازمة له او لا يكون ؛ فان كان الأوّل لزم اجتماع القدم والحدوث معا فى شيء واحد ، وهو محال ، وإن كان الثّاني ، يلزم بطلان ما علم بالضّرورة ، وهو امتناع انفكاك الحوادث عنه وهو محال. أمّا الأعراض ، فلانّها محتاجة فى وجودها الى الأجسام ، والمحتاج الى المحدث أولى بالحدوث. وأمّا بيان الدّعوى الثّانية ، فهو انّ المحدث لما اتّصف ماهيّته بالعدم تارة ، وبالوجود أخرى كان ممكنا ، فيفتقر الى المؤثّر ، فان كان مختارا فهو المطلوب ، وإن كان موجبا ، لم يتخلّف أثره عنه فيلزم قدم أثره لكن ثبت حدوثه ، فيلزم حدوث مؤثّره للتّلازم وكلا الامرين محال. فقد بان انه لو كان الله تعالى موجبا ، لزم إما قدم العالم أو حدوث الله تعالى ، وهما باطلان ، فثبت انّه تعالى قادر ومختار ، وهو المطلوب.

قال : وقدرته يتعلّق بجميع المقدورات ، لأنّ العلّة المحوجة إليه هى الإمكان ، ونسبة ذاته إلى الجميع بالسّويّة ، فيكون قدرته عامّة.

اقول : لما ثبت كونه قادرا فى الجملة ، شرع فى بيان عموم قدرته ، وقد نازع فيه الحكماء حيث قالوا انّه واحد لا يصدر عنه الّا الواحد والثنويّة حيث زعموا انه لا يقدر على الشرّ. والنّظّام حيث اعتقد أنه لا يقدر على القبيح. والبلخى حيث منع قدرته على مثل مقدورنا والجبائيان حيث أحالا قدرته على عين مقدورنا والحقّ خلاف ذلك كلّه. والدليل على ما ادّعيناه انّه قد انتفى المانع بالنّسبة الى ذاته وبالنسبة إلى المقدور ،

١١

فيجب التّعلّق العامّ. وأمّا بيان الاوّل ، فهو انّ المقتضى لكونه تعالى قادرا هو ذاته ، ونسبتها الى الجميع متساوية لتجرّدها ، فيكون مقتضاها أيضا متساوية النّسبة ، وهو المطلوب. وأمّا الثّاني فلانّ المقتضى لكون الشّيء مقدورا هو إمكانه ، والإمكان مشترك بين الكلّ ، فيكون صفة المقدوريّة أيضا مشتركا بين الممكنات ، وهو المطلوب. واذا انتفى المانع بالنّسبة الى القادر وبالنّسبة الى المقدور ، وجب التّعلّق العامّ ، وهو المطلوب. واعلم انه لا يلزم من التّعلّق الوقوع ، بل الواقع بقدرته تعالى هو البعض ، وإن كان قادرا على الكلّ. والأشاعرة اتّفقوا فى عموم التّعلّق ، وادّعوا معه الوقوع كما سيأتي بيان ذلك ان شاء الله تعالى.

قال : الثّانية ، أنّه تعالى عالم لأنّه فعل الأفعال المحكمة المتقنة ، وكلّ من فعل ذلك فهو عالم بالضّرورة.

اقول : من جملة الصّفات الثّبوتيّة كونه تعالى عالما. والعالم هو المتبيّن له الأشياء ، بحيث تكون حاضرة عنده ، غير غائبة عنه والفعل المحكم المتقن هو المشتمل على أمور غريبة عجيبة والمستجمع لخواصّ كثيرة والدّليل على كونه عالما وجهان : الأوّل أنّه مختار ، وكلّ مختار عالم. امّا الصّغرى فقد مرّ بيانها. وامّا الكبرى فلأنّ فعل المختار تابع لقصده ، ويستحيل قصد شيء من دون العلم به. الثّاني انه فعل الأفعال المحكمة والمتقنة ، وكلّ من كان فعله كذلك فهو عالم بالضّرورة. أمّا انّه فعل ذلك فظاهر لمن تدبّر مخلوقاته. اما السّمائية فيما يترتّب على حركاتها من خواصّ فصول الأربعة وكيفيّة نضد تلك الحركات وأوضاعها ، وهو مبيّن فى فنّه. وامّا الأرضية فممّا يظهر من حكمة المركّبات الثّلث ، والأمور الغريبة الحاصلة فيها ، والخواصّ العجيبة المشتملة عليها ، ولو لم يكن الّا فى خلق الإنسان ، لكفى الحكمة المودعة فى انشائه وترتيب خلقه وحواسّه وما يترتّب عليها من المنافع كما أشار إليه بقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) فإنّ من العجائب المودعة فى بنية

١٢

الإنسان انّ كلّ عضو من أعضائه له قوى أربعة : جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة. أمّا الجاذبة فحكمتها أنّ البدن لما كان دائما فى التحليل ، افتقر الى جاذبة يجذب بدل ما يتحلّل منه. وأمّا الماسكة فلانّ الغذاء المجذوب لزج ، والعضو أيضا لزج ، فلا بدّ له من ماسكة حتى تفعل فيه الهاضمة ، وأمّا الهاضمة فلانّها تغيّر الغذاء إلى ما يصلح أن يكون جزء للمتغذّى ، وأمّا الدّافعة فهى التى تدفع الغذاء الفاضل مما فعلته الهاضمة المهيأ لعضو آخر إليه. وأمّا انّ كلّ من فعل الأفعال المحكمة المتقنة فعالم فهو بديهىّ لمن زاول الأمور وتدبّرها.

قال : وعلمه يتعلّق بكلّ معلوم لتساوى نسبة جميع المعلومات إليه ، لأنه حىّ وكلّ حىّ يصحّ أن يعلم كلّ معلوم ، فيجب له ذلك لاستحالة افتقاره إلى غيره.

اقول : البارى تعالى عالم بكل ما يصحّ أن يكون معلوما ، واجبا كان او ممكنا ، قديما كان او حادثا ، خلافا للحكماء حيث منعوا من علمه بالجزئيّات على وجه جزئى ، لتغيّرها المستلزم لتغيّر العلم الذّاتىّ. قلنا المتغيّر هو التعلّق الاعتباري لا العلم الذّاتىّ. والدّليل على ما قلناه أنّه يصح أن يعلم كلّ معلوم ، فيجب له ذلك. أمّا انه يصحّ ان يعلم كلّ معلوم ، فلانّه حىّ وكلّ حىّ يصحّ منه أن يعلم ، ونسبة هذه الصّحة إلى جميع ما عداه نسبة متساوية ، فيتساوى نسبة جميع المعلومات إليه أيضا. وأمّا انّه اذا صحّ له تعالى شيء وجب له ، فلأنّ صفاته تعالى ذاتيّة ، والصّفة الذّاتيّة متى صحّت وجبت ، والّا لافتقر اتّصاف الذّات بها إلى الغير ، فيكون البارى تعالى مفتقرا فى علمه الى غيره ، وهو محال.

قال : الثّالثة ، أنّه تعالى حىّ لأنّه قادر عالم فيكون حيّا بالضّرورة.

اقول : من صفاته الثّبوتية كونه تعالى حيّا ، فقال الحكماء وابو الحسين البصرىّ

١٣

حياته عبارة عن صحّة اتّصافه بالقدرة والعلم. وقال الاشاعرة هى صفة زايدة على ذاته مغايرة لهذه الصّحة ، والحق هو الأول اذ الأصل عدم الزّائد. والبارى تعالى قد ثبت انه قادر عالم ، فيكون حيا بالضّرورة ، وهو المطلوب.

قال : الرّابعة ، أنّه تعالى مريد وكاره ، لانّ تخصيص الأفعال بايجادها فى وقت دون آخر ، لا بدّ له من مخصّص وهو الإرادة ، ولأنّه تعالى أمر ونهى ، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة بالضّرورة.

اقول : اتّفق المسلمون على وصفه بالإرادة ، واختلفوا فى معناها. فقال ابو الحسين البصرى هى عبارة عن علمه تعالى بما فى الفعل من المصلحة الدّاعى الى إيجاده وقال الجبائى معناها أنّه غير مغلوب ولا مكروه ، فمعناها إذن سلبى ، لكن هذا القائل أخذ لازم الشّيء فى مكانه وقال البلخى هى فى أفعاله عبارة عن علمه بها ، وفى أفعال غيره امره بها ، فإن أراد العلم المطلق فليس بإرادة كما سيأتي وإن اراد المقيّد بالمصلحة ، فهو كما قال ابو الحسين البصرى. واما الأمر فهو مستلزم للإرادة لا نفسها. وقالت الاشاعرة والكرّامية وجماعة من المعتزلة انّها صفة زائدة مغايرة للقدرة والعلم مخصّصه للفعل. ثم اختلفوا ، فقالت الاشاعرة ذلك الزائد معنى قديم ، وقالت المعتزلة والكرامية هو معنى حادث. فالكرامية قالوا هو قائم بذاته تعالى ، والمعتزلة قالوا لا فى محلّ ، وسيأتي بطلان الزيادة ، فإذن الحقّ ما قاله ابو الحسين البصرى. والدّليل على ثبوت الإرادة من وجهين الأوّل ، انّ تخصيص الأفعال بالإيجاد فى وقت دون وقت آخر ، وعلى وجه دون آخر ، مع تساوى الأوقات والأحوال بالنّسبة الى الفاعل والقابل ، لا بدّ له من مخصّص. فذلك المخصّص إمّا القدرة الذّاتيّة ، فهى متساوية النّسبة ، فليست صالحة للتخصيص ، ولانّ من شأنها التأثير والإيجاد من غير ترجيح ، وإما العلم المطلق فذلك تابع لتعيين الممكن

١٤

وتقدير صدوره ، فليس مخصّصا والا لكان متبوعا. وأمّا باقى الصّفات فظاهر انها ليست صالحة للتخصيص. فإذن المخصّص هو علم خاصّ مقتضى لتعيين الممكن ووجوب صدوره عنه ، وهو العلم باشتماله على مصلحة لا تحصل الا فى ذلك الوقت او على ذلك الوجه ، وذلك المخصّص هو الإرادة. الثانى : أنّه تعالى أمر بقوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ونهى بقوله (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) فالامر بالشّيء يستلزم إرادته ضرورة والنّهى عن الشّيء يستلزم كراهته ضرورة ، فالبارى تعالى مريد وكاره وهو المطلوب. وهاهنا فائدتان : الأولى ، كراهته تعالى هى علمه باشتمال الفعل على المفسدة الصّارفة عن إيجاده كما انّ ارادته هى علمه باشتماله على المصلحة الدّاعية إلى إيجاده. الثّانية ، انّ إرادته ليست زائدة على ما ذكرناه ، وإلّا لكانت إمّا معنا قديما كما قالت الأشاعرة ، فيلزم تعدّد القدماء ، او حادثا ، فإما فى ذاته كما قالت الكرامية فيكون محلّا للحوادث ، وهو باطل كما سيأتى ، وإمّا فى غيره ، فيلزم رجوع حكمه الى الغير لا إليه ، وإمّا لا فى محل كما تقول المعتزلة. ففيه فسادان : الاول ، يلزم منه التّسلسل ، لأن الحادث مسبوق بإرادة المحدث ، فهى اذن حادثة ، فننقل الكلام إليه ويتسلسل. الثانى استحالة وجود صفة لا فى محل.

قال : الخامسة ، أنّه تعالى مدرك لأنّه حىّ ، فيصحّ أن يدرك. وقد ورد القرآن بثبوته له ، فيجب إثباته له.

اقول : قد دلّت الدلائل النّقلية على اتّصافه تعالى بالإدراك ، وهو زائد على العلم ، فإنا نجد تفرقة ضرورة بين علمنا بالسّواد والبياض ، والصّوت الهائل والحسن وبين ادركنا لها ، وتلك الزّيادة راجعة الى تأثّر الحاسّة ، لكن قد دلّت الدلائل العقليّة على استحالة الحواسّ والآلات عليه تعالى ، فيستحيل ذلك الزّائد عليه. فادراكه هو علمه حينئذ بالمدركات. والدليل على صحّة اتّصافه به هو ما دلّ على كونه عالما بكلّ المعلومات من كونه حيا ، فيصحّ أن يدرك. وقد ورد القرآن بثبوته له ، فيجب إثباته له.

١٥

فإدراكه هو علمه بالمدركات ، وذلك هو المطلوب.

قال : السّادسة ، أنّه تعالى قديم أزليّ باق أبدى ، لأنّه واجب الوجود ، فيستحيل العدم السّابق واللّاحق عليه.

اقول : هذه الصّفات الأربعة لازمة لوجوب وجوده. فالقديم والأزليّ هو المصاحب بمجموع الأزمنة المحقّقة والمقدّرة بالنّسبة الى جانب الماضى. والباقى هو المستمرّ الوجود المصاحب لجميع الأزمنة. والأبدىّ هو المصاحب بجميع الأزمنة محقّقة كانت او مقدّرة بالنّسبة الى الجانب المستقبل. والسّرمديّ يعمّ الجميع. والدليل على ذلك هو انه قد ثبت انه واجب الوجود ، فيستحيل عليه العدم مطلقا ، سواء كان سابقا على تقدير ان لا يكون قديما ازليا ، أو لاحقا على تقدير ان لا يكون باقيا ابديّا. واذا استحال العدم المطلق عليه ، ثبت قدمه وازليّته وبقاؤه وابديّته ، وهو المطلوب.

قال : السّابعة أنّه تعالى متكلّم بالإجماع والمراد بالكلام الحروف والأصوات المسموعة المنتظمة. ومعنى أنّه تعالى متكلّم أنّه يوجد الكلام فى جسم من الأجسام. وتفسير الأشاعرة غير معقول.

اقول : من جملة صفاته تعالى كونه متكلّما ، وقد اجمع المسلمون على ذلك. واختلفوا بعد ذلك فى مقامات أربع : الأوّل ، فى الطّريق الى ثبوت هذه الصّفة.

وقالت الأشاعرة هو العقل. وقالت المعتزلة هو السّمع. وهو قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) وهو الحقّ لعدم الدليل العقلىّ ، وما ذكروه دليلا فليس بتامّ. وقد اجمع الأنبياء على ذلك ، وثبوت نبوّتهم غير موقوف عليه لجواز تصديقهم بغير الكلام ، بل موقوف على المعجزات ، ولا يلزم الدّور ، فيجب اثباته. الثّاني فى ماهيّة كلامه ، فزعم الأشاعرة أنّه معنى قديم قائم بذاته ، يعبّر عنه بالعبارات المختلفة المتغيّرة المغايرة للعلم والقدرة ، فليس بحرف ولا صوت ولا أمر ولا نهى ولا خبر ولا استخبار وغير ذلك

١٦

من أساليب الكلام. وقالت المعتزلة والكرّاميّة والحنابلة هو الحروف والأصوات المركّبة تركيبا مفهما. والحقّ الأخير لوجهين : الأوّل ، انّ المتبادر إلى أفهام العقلاء هو ما ذكرناه ، ولذلك لا يصفون بالكلام من لم يتّصف بذلك كالسّاكت والأخرس. الثّاني ، انّ ما ذكروه غير متصوّر ، فان المتصوّر إمّا القدرة الذّاتيّة التى تصدر عنها الحروف والأصوات ، وقد قالوا هو غيرها ، أو العلم وقد قالوا هو غيره ، وباقى الصّفات ليست صالحة لمصدريّة ما قالوه ، واذا لم يكن متصوّرا لم يصحّ إثباته اذا التّصديق مسبوق بالتصوّر. الثّالث ، فيما تقوم به تلك الصّفة امّا الأشاعرة فلقولهم بالمعنى قالوا انّه قائم بذاته تعالى. وأمّا القائلون بالحروف والصّوت ، فقد اختلفوا فقالت الحنابلة والكرّاميّة انّه قائم بذاته تعالى ، فعندهم هو المتكلّم بالحروف والصّوت. وقالت المعتزلة والاماميّة وهو الحقّ انّه قائم بغيره لا بذاته ، كما أوجد الكلام فى الشّجرة فسمعه موسى (ع) ، ومعنى انه متكلّم انّه فعل الكلام لا قام به الكلام. والدليل على ذلك انه أمر ممكن ، والله تعالى قادر على كلّ الممكنات. وأمّا ما ذكروه فممنوع ، وسند المنع من وجهين : الأوّل ، انّه لو كان المتكلّم من قام به الكلام لكان الهواء الّذي يقوم به الحرف والصّوت متكلّما ، وهو باطل ؛ لانّ اهل اللغة لا يسمّون المتكلّم إلّا من فعل الكلام ، لا من قام به الكلام ، ولهذا كان الصّدى غير متكلّم. وقالوا : تكلّم الجنّىّ على لسان المصروع لاعتقادهم انّ الكلام المسموع من المصروع فاعله الجنّىّ. الثّاني ، انّ الكلام إمّا المعنى وقد بان بطلانه ، أو الحرف والصّوت ، ولا يجوز قيامهما بذاته وإلّا لكان ذا حاسّة لتوقّف وجودهما على وجود آلتيهما ضرورة ؛ فيكون البارى تعالى ذا حاسّة ، وهو باطل. الرّابع ، فى قدمه أو فى حدوثه ، فقالت الأشاعرة بقدم المعنى ، والحنابلة بقدم الحروف ، وقالت المعتزلة بالحدوث ، وهو الحقّ لوجوه : الأوّل ، أنّه لو كان قديما لزم تعدّد القدماء وهو باطل ، لإن القول بقدم غير الله كفر بالإجماع. ولهذا كفرت النّصارى لاثباتهم قدم الأقنوم. الثّاني ، انه مركّب من الحروف والأصوات الّذي يعدم السّابق منها بوجود لاحقه ، والقديم لا يجوز عليه العدم. الثّالث ،

١٧

انّه لو كان قديما لزم الكذب عليه واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة انه اخبر بإرسال نوح فى الأزل بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ولم يرسله إذ لا سابق على الازل ، فيكون كذبا. الرّابع ، انه يلزم منه العبث فى قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) إذ لا مكلّف فى الأزل ، والعبث قبيح ، فيمتنع عليه تعالى. الخامس ، قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) والذّكر هو القرآن ، لقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وصفه بالحدوث فلا يكون قديما. فقول المصنّف ـ رحمه الله ـ وتفسير الأشاعرة غير معقول اشارة الى ما ذكرناه فى هذه المقدّمات.

قال : الثّامنة ، انّه تعالى صادق ، لأنّ الكذب قبيح بالضّرورة ، والله تعالى منزّه عن القبيح لاستحالة النّقص عليه.

اقول : من صفاته الثّبوتية كونه صادقا ، والصّدق هو الاخبار المطابق. والكذب هو الاخبار الغير المطابق ، لأنّه لو لم يكن صادقا لكان كاذبا ، وهو باطل ، لانّ الكذب قبيح ضرورة ، فيلزم اتّصاف البارى بالقبيح ، وهو باطل لما يأتى. وأيضا الكذب نقص ، والبارى تعالى منزّه عن النّقص.

قال : الفصل الثالث فى صفاته السّلبيّة ، وهى سبع :

الأولى ، أنّه تعالى ليس بمركّب ، وإلّا لكان مفتقرا إلى أجزائه ، والمفتقر ممكن.

اقول : لمّا فرغ من الثّبوتية شرع فى السّلبية ؛ وتسمّى الأولى صفات الكمال ، والثّانية صفات الجلال ، وإن شئت كان مجموع صفاته صفات جلال. فإنّ اثبات قدرته باعتبار سلب العجز عنه ، وإثبات العلم باعتبار سلب الجهل عنه ، وكذا باقى الصّفات. وفى الحقيقة المعقول لنا من صفاته ليس الا السّلوب والإضافات. وأمّا كنه ذاته ، و

١٨

صفاته ، فمحجوب عن نظر العقول ، ولا يعلم ما هو الّا هو. وقد ذكر المصنّف سبعا : الأولى ، انه ليس بمركّب. والمركّب هو ماله جزء ، ونقيضه البسيط ، وهو ما لا جزء له. ثمّ التّركيب قد يكون خارجيّا كتركيب الأجسام من الجواهر الأفراد. وقد يكون ذهنيا كتركيب الماهيّات والحدود من الأجناس والفصول. والمركّب بكلا المعنيين مفتقر الى جزئه ، لامتناع تحقّقه وتشخّصه خارجا وذهنا بدون جزئه وجزئه غيره ؛ لانّه يسلب عنه ، فيقال الجزء ليس بكلّ ، وما يسلب عنه الشّيء فهو مغاير له فيكون مركّبا مفتقرا الى الغير ، فيكون ممكنا. فلو كان البارى جلّت عظمته مركّبا ، لكان ممكنا وهو محال.

قال : الثّانية ، أنّه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ، وإلّا لافتقر إلى المكان ، ولامتنع انفكاكه من الحوادث ، فيكون حادثا وهو محال.

اقول : البارى تعالى ليس بجسم خلافا للمجسمة. والجسم هو ماله طول وعرض وعمق. والعرض هو الحالّ فى الجسم ، ولا وجود له بدونه. والدّليل على كونه ليس بجسم ولا عرض وجهان : الأوّل ، انّه لو كان أحدهما ، لكان ممكنا ؛ واللّازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة ، انّا نعلم بالضّرورة أنّ كلّ جسم فهو مفتقر الى المكان ، وكلّ عرض مفتقر الى المحلّ والمكان والمحلّ غيرهما ، والمفتقر الى غيره ممكن. فلو كان البارى تعالى جسما أو عرضا ، لكان ممكنا. الثّاني ، أنّه لو كان جسما لكان حادثا وهو محال. بيان الملازمة ، ان كلّ جسم فهو لا يخلو من الحوادث ، وكلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وقد تقدّم بيانه فلو كان جسما لكان حادثا ، لكنّه قديم فيجتمع النقيضان.

قال : ولا يجوز أن يكون فى محلّ ، وإلّا لافتقر إليه ؛ ولا فى جهة ، وإلّا لافتقر إليها.

اقول : هذان وصفان سلبيّان : الأوّل ، انّه ليس فى محلّ خلافا للنصارى وجمع

١٩

من المتصوّفة والمعقول من الحلول هو قيام موجود بموجود على سبيل التّبعيّة ، فإن أرادوا هذا المعنى ، فهو باطل ، وإلّا لزم افتقار الواجب ، وهو محال. وإن أرادوا غيره ، فلا بدّ من تصوّره أوّلا ، ثم الحكم عليه بالنّفى والإثبات : الثّاني انّه تعالى ليس فى جهة ، والجهة مقصد المتحرّك ومتعلّق الإشارة. وزعمت الكرّاميّة انه تعالى فى الجهة الفوقيّة لما تصوّروه من الظّواهر النّقليّة ، وهو باطل : لانّه لو كان فى الجهة ، لكان إمّا مع استغنائه عنها ، فلا يحلّ فيها ، أو مع افتقاره إليها ، فيكون ممكنا. والظّواهر النّقليّة لها تاويلات ومحامل مذكورة فى مواضعها. لانّه لمّا دلّت الدلائل العقليّة على امتناع الجسميّة ولواحقها عليه ، وجب تأويل غيرها لاستحالة العمل بهما ، والّا لاجتمع النقيضان أو الترك لهما ، وإلّا لارتفع النقيضان ، أو العمل بالنّقل واطّراح العقل ، والّا لزم اطّراح النّقل أيضا ، لاطّراح أصله ، فيبقى الأمر الرّابع ، وهو العمل بالعقل وتأويل النقل.

قال : ولا يصحّ عليه اللّذة والألم لامتناع المزاج عليه تعالى.

اقول : الألم واللّذة أمران وجدانيّان ، فلا يفتقران الى تعريف ، وقد يقال فيهما : اللّذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافى من حيث هو المنافى ، وهما قد يكونان حسيّين ، وقد يكونان عقليّين ، فإنّ الإدراك اذا كان حسيّا فهما حسيّان ، والّا فعقليّان.

اذا تقرّر هذا فنقول ، أمّا الألم فهو مستحيل عليه إجماعا من العقلاء اذ لا منافى له تعالى. وامّا اللّذة فان كانت حسيّة ، فكذلك ، لانّها من توابع المزاج ، والمزاج يستحيل عليه تعالى ، وإلا لكان جسما. وإن كانت عقليّة ، فقد أثبتها الحكماء له تعالى وصاحب الياقوت منّا ، لان البارى تعالى متّصف بكماله اللّائق به ، لاستحالة النّقص عليه ، ومع ذلك فهو مدرك لذاته وكماله. فيكون أجلّ مدرك لأعظم مدرك باتمّ ادراك. ولا نعنى باللّذة إلّا ذلك. وامّا المتكلمون فقد أطلقوا القول بنفى اللّذة ، إمّا لاعتقادهم نفى اللّذات العقليّة ، أو لعدم ورود ذلك فى الشّرع فإنّ صفاته تعالى وأسماؤه توقيفية ، لا يجوز لغيره التهجّم بها الا باذن منه ، لانّه وان كان ذلك جائزا فى نظر

٢٠