الزبدة الفقهيّة - ج ١

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي

الزبدة الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسن ترحيني العاملي


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: كيميا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-6307-54-X
ISBN الدورة:
964-6307-53-1

الصفحات: ٣٤٩

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

ـ علم الفقه هو أشرف علم بعد علم الكلام ، به يعرف الحلال من الحرام ، وهو علم نشأ في أحضان الحديث حيث كان الفقهاء يكتفون في مقام الفتيا بعرض متن الخبر ، ثم تحرر شيئا فشيئا مع بقاء الحديث من أهم أدلته.

ـ وقد توزعت جهود العلماء في علم الفقه تارة في إبراز الفقه الشيعي مع ما يتضمن من أدلة وآراء ، وأخرى في كتابة الفقه المقارن المتضمن لعرض آراء الشيعة مع أدلتها ، وعرض رأي المخالف من العامة مع بيان ضعفه.

واستمرت هذه الكتابة بلونيها إلى زمن العلامة ، وانقطعت في عصر الشهيد الأول حيث حاول تركيز الجهود على الفقه الشيعي لإبراز الفتوى بكل ما لها من أدلة إذا كانت وفاقية بينهم ، وإبراز الخلاف الشيعي بأدلة الطرفين مع محاكمة وترجيح ، وإن كان الترجيح غالبا لقول المشهور.

ـ فالشهيد كتب اللمعة وهي من أواخر ما كتب في الفقه ، وهذا ما يجعل اللمعة تمثّل ذروة نضجه الفقهي ، كتبها مقتصرا فيها على المسائل المشهورة سواء كانت منصوصة أم لا ، وهي أساس الفقه ، فلذا أجاد في هذا الاقتصار لأن الباقي فروع يردّ إليها ويعرف حكمه منها.

ـ والشهيد الثاني قد شرح اللمعة الدمشقية ، وسماه الروضة البهية ، وهو

٥

آخر ما كتبه وهذا يمثل ذروة نضجه الفقهي أيضا ، وجعله شرحا مزجيا ، وهو أول شرح مزجي يدخل الفقه الشيعي.

وجعل الشرح آية من آيات الفصاحة والبلاغة مع إبقاء الأسلوب العلمي ، فقد جمع بين عذوبة الألفاظ وبلاغة المعاني ، وحصانة الجمل ورقة التعبير ، مع بعد عن التطويل المملّ والإيجاز المخلّ ، وقد ضمنه الكثير من تحقيقاته التي دفعت الفقه إلى طور الكمال ، فكم من مسألة فقهية لم يستطع المتأخرون أن يأتوا بجديد فيها ، وكم من ترجيح جعل الرأي المخالف لا نظير له ولا قائل.

ـ وبعد هذا وذاك فالشرح ومتنه لهما قدسية خاصة من بين الكتب الفقهية ولعل هذا من زيادة إخلاص مؤلفيها ، لهذه الأسباب المجتمعة أقرّ العلماء إلى يومنا هذا تدريس الروضة في مقام تربية الذهنية الفقهية عند المشتغلين بتحصيل العلوم الشرعية.

ـ ثم إن الشرح قليل في العبادات ، وغير واف بالكثير من الأدلة في المعاملات ، فرأيت أن أزيده ببيان مدارك الأحكام التي تعرض لها الشهيدان بما فيه نفع وتذكرة ، حتى تتوازن أطرف الشرح المذكور ، ويكون جامعا مغنيا عن غيره.

فأوردت كل الآراء الفقهية أو غالبها ، مع بيان أدلتها ، وهذا ـ غالبا ـ ما يشرح ألفاظ الروضة وجملها ، ومع ذلك تدخلت لشرح الكثير من ضمائرها ، وتوضيح الكثير مما يعتقد أنه صعب على الفهم.

وسرت فيه بحذف الإجماع المدركي ـ كما هو الغالب في المسائل ـ واقتصرت على الإجماعات التي يحتمل أن تكون تعبدية ، أو هي كذلك.

واكتفيت بالدليل اللفظي عند وجوده ، وإلا فانتقل إلى الأصل العملي ثم إلى الوظيفة العقلية أو الشرعية.

واكتفيت بالخبر والخبرين والثلاثة ، من دون داع لعرض جميع الأخبار الواردة في المسألة ـ كما هو ديدن جماعة من الفقهاء ـ لأن الأخبار قد بوّبت وجمعت في الوسائل ومستدركه ، فمن أراد استقصائها فعليه مراجعة هذين الكتابين.

٦

وكان اختيار الخبر والخبرين تبعا لصحة السند أو لكون المتن أكثر دلالة أو فائدة.

هذا من جهة ومن جهة أخرى بعد ما ثبت عندي أن الحجية لخبر موثوق الصدور كان للعمل بالخبر مجال واسع ، يعرفه كل من جاس خلال الديار ، وقد ثبت أن الترجيح للخبر المعمول به عند مشهور القدماء لوصول القرائن المحتفة بالأخبار ، وسيرة المتشرعة التي كانت تحت مسمع ومرأى المعصوم إليهم فلا محالة يكون معارضه قد صدر تقية كما هو واضح.

ومن جهة ثالثة كل خبر قد ورد في الروضة ـ وقد أوردناه في شرحنا مع تخريجه ـ فلا نخرّجه عند ذكره في المتن ، إلا الآيات فقد خرّجناها غالبا وإن ذكرت في شرحنا مع تخريجها.

هذا وقد سميته (الزبدة الفقهية في شرح الروضة البهية) ، وادعوا الله جلّ وعلا أن يعينني على إكماله ، ويجعله خالصا لوجهه بحق محمد وآله الطيبين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

السيد محمد حسن ترحيني

٧

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي شرح صدورنا بلمعة (١) من شرائع الإسلام (٢) ، كافية (٣) في بيان الخطاب (٤) ، ونوّر قلوبنا من لوامع (٥) دروس الأحكام (٦) بما فيه تذكرة (٧) وذكرى (٨) لأولي الألباب ، وكرّمنا بقبول منتهى (٩) نهاية (١٠) الإرشاد (١١) ، وغاية المراد (١٢) ،

______________________________________________________

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

(١) كتاب فقهي للشهيد الأول.

(٢) كتاب فقهي للمحقق الحلي.

(٣) كتاب فقهي لأبي الصلاح الحلبي.

(٤) كتاب فقهي لأبي الصلاح الحلبي.

(٥) كتاب فقهي لأبي الصلاح الحلبي.

(٦) الدروس كتاب فقهي للشهيد الأول.

(٧) كتاب فقهي للعلّامة الحلي.

(٨) كتاب فقهي للشهيد الأول.

(٩) كتاب فقهي للعلّامة الحلي.

(١٠) كتاب فقهي للشيخ الطوسي.

(١١) كتاب فقهي للعلّامة الحلي.

(١٢) كتاب فقهي للشهيد الأول.

٨

في المعاش والمآب والصلاة على من أرسل لتحرير (١) قواعد (٢) الدين وتهذيب (٣) مدارك (٤) الصواب ، محمد الكامل (٥) في مقام الفخار ، الجامع (٦) من سرائر (٧) الاستبصار (٨) للعجب العجاب (٩) ، وعلى آله الأئمة النجباء ، وأصحابه الأجلة الأتقياء خير آل وأصحاب ، ونسألك اللهم أن تنوّر قلوبنا بأنوار هدايتك ، وتلحظ وجودنا بعين عنايتك ، إنك أنت الوهاب.

وبعد : فهذه تعليقة لطيفة ، وفوائد خفيفة أضفتها إلى المختصر الشريف ، والمؤلّف المنيف ، المشتمل على أمهات المطالب الشرعية ، الموسوم ب «اللمعة الدمشقية» من مصنفات شيخنا وإمامنا المحقق البدل النحرير المدقق الجامع بين منقبة العلم والسعادة ، ومرتبة العمل والشهادة الإمام السعيد أبي عبد الله الشهيد محمّد بن مكي أعلى الله درجته كما شرّف خاتمته. جعلتها جارية له مجرى الشرح الفاتح لمغلقه ، والمقيّد لمطلقه ، والمتمّم لفوائده ، والمهذّب لقواعده ، ينتفع به المبتدي ، ويستمدّ منه المتوسّط والمنتهي ، تقربت بوضعه إلى ربّ الأرباب ، وأجبت به ملتمس بعض فضلاء الأصحاب أيّدهم الله تعالى بمعونته ، ووفقهم لطاعته ، اقتصرت فيه على بحت الفوائد (١٠) ، وجعلتهما ككتاب واحد ، وسميته :

______________________________________________________

(١) كتاب فقهي للعلّامة الحلي.

(٢) كتاب فقهي للعلّامة الحلي.

(٣) كتاب حديثي للشيخ الطوسي وهو شرح المقنعة للشيخ المفيد.

(٤) كتاب فقهي للعلامة الحلي (الذريعة : ٢٠ / ٢٣٩).

(٥) كتاب فقهي للقاضي ابن البراج.

(٦) كتاب فقهي ليحيى بن سعيد الحلي.

(٧) كتاب فقهي لابن إدريس الحلي.

(٨) كتاب حديثي للشيخ الطوسي يتضمن بعض آراء الشيخ الفقهية.

(٩) علّق الشارح بقوله : (هو ما جاوز حد العجيب ، وفي الصحاح : العجب : الأمر الذي يتعجب منه ، فكذا العجاب بالضم ، والعجاب بالتشديد أكثر منه ، وكذلك الأعجوبة ، وقولهم عجب عاجب كقولهم ليل لائل ، يؤكد به).

وعلّق أيضا بقوله : (اشتملت الفقرات الخمس كل واحدة على اسم أربعة كتب من كتب الفقه).

(١٠) البحت بالتاء المثناة الفوقانية بمعنى الخالص.

٩

«الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»

سائلا من الله جلّ اسمه أن يكتبه في صحائف الحسنات ، وأن يجعله وسيلة إلى رفع الدرجات ، ويقرنه برضاه ، ويجعله خالصا من شوب سواه ، فهو حسبي ونعم الوكيل.

قال المصنف قدس الله لطيفه وأجزل تشريفه :

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الباء للملابسة ، والظرف مستقر (١) حال من ضمير ابتدئ الكتاب كما في «دخلت عليه بثياب السّفر» ، أو للاستعانة والظرف لغو كما في «كتبت بالقلم» ، والأول (٢) أدخل في التعظيم ، والثاني (٣) لتمام الانقطاع ، لإشعاره بأن الفعل لا يتم بدون اسمه تعالى. وإضافته (٤) إلى الله تعالى دون باقي أسمائه لأنها معان وصفات ، وفي التبرك بالاسم أو الاستعانة به كمال التعظيم للمسمّى ، فلا يدل (٥) على اتحادهما ، بل دلّت الإضافة على تغايرهما.

و «الرّحمن» و «الرّحيم» اسمان بنيا للمبالغة من رحم ، كالغضبان من «غضب» والعليم من «علم» ، والأول (٦) أبلغ ، لأن زيادة اللفظ تدل على زيادة

______________________________________________________

(١) علّق الشارح (الظرف المستقر ـ بفتح القاف ـ ما كان متعلقه عاما ، واجب الحذف ، كالواقع خبرا أو صفة أو صلة أو حالا ، سمي بذلك لاستقرار الضمير فيه ، والأصل مستقر فيه ، حذف ـ فيه ـ تخفيفا أو لتعلقه بالاستقرار العام.

واللغو ما كان متعلقه خاصا ، سواء ذكر أم حذف ، سمي بذلك لكونه فارغا من الضمير فهو لغو ، كذا ذكره جماعة من النحاة ، وبذلك يظهر الفرق بين جعل الباء للملابسة والاستعانة ، لأن متعلق الأول عام واجب الحذف ، والثاني خاص غير معيّن للحالية كما في مقال الكتاب).

(٢) للملابسة.

(٣) للاستعانة.

(٤) أي إضافة الاسم.

(٥) التبرك أو الاستعانة.

(٦) أي الرحمن.

١٠

المعنى ، ومختص به تعالى ، لا لأنه من الصفات الغالبة ، لأنه (١) يقتضي جواز استعماله في غيره تعالى بحسب الوضع وليس كذلك ، بل لأن معناه (٢) المنعم الحقيقي ، البالغ في الرحمة غايتها. وتعقيبه (٣) بالرحيم من قبيل التتميم ، فإنه لما دلّ (٤) على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها (٥).

(الله أحمد) جمع بين التسمية والتحميد في الابتداء جريا على قضية الأمر في كل أمر ذي بال (٦) ، فإن الابتداء يعتبر في العرف ممتدا من حين الأخذ في التصنيف إلى الشروع في المقصود ، فيقارنه (٧) التسمية والتحميد ونحوهما (٨) ، ولهذا يقدّر الفعل المحذوف في أوائل التصانيف «أبتدئ» سواء اعتبر الظرف مستقرا أم لغوا ، لأن فيه (٩) امتثالا للحديث لفظا ومعنى ، وفي تقدير غيره (١٠) معنى فقط (١١).

______________________________________________________

(١) لأن الشأن والواقع.

(٢) معنى الرحمن لغة.

(٣) أي تعقيب الرحمن بالرحيم في البسملة.

(٤) من اسم الرحمن.

(٥) من النعم وهو صغيرها.

(٦) أورد العسكري في تفسيره عن آبائه عن علي عليه‌السلام حديث (إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدثني عن الله (عزوجل) أنه قال : كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر) (١). وفي الجعفريات قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كل كتاب لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع) (٢). هذا بالنسبة للتسمية وأما الابتداء بالتحميد فلم يرد من طرق أصحابنا نعم ورد في الدر المنثور للسيوطي (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) (٣).

(٧) أي فيقارن الابتداء.

(٨) كتمجيد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه وآله.

(٩) أي في الابتداء كفعل محذوف مقدّر.

(١٠) غير الابتداء.

(١١) أي امتثالا للحديث معنى.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الذكر حديث ٤.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الذكر حديث ١.

(٣) ج ١ ص ١٠ نقلا عن ميزان الحكمة باب الحمد ج ٢ ص ٥٢٢ ح ٤٣٧٧.

١١

وقدّم التسمية (١) اقتفاء لما نطق به الكتاب ، واتفق عليه أولو الألباب ، وابتدأ في اللفظ (٢) باسم الله ، لمناسبة مرتبته (٣) في الوجود العيني ، لأنه الأول فيه ، فناسب كون اللفظي ونحوه كذلك (٤) ، وقدّم ما هو الأهم وإن كان حقه التأخّر باعتبار المعمولية ، للتنبيه على إفادة الحصر على طريقة (إِيّٰاكَ نَعْبُدُ) ، ونسب الحمد إليه تعالى باعتبار لفظ «الله» لأنه اسم للذات المقدسة ، بخلاف باقي أسمائه تعالى لأنها صفات كما مر ، ولهذا يحمل عليه (٥) ، ولا يحمل على شي‌ء منها (٦). ونسبة الحمد إلى الذات باعتبار وصف ، تشعر بعلّيته (٧) ، وجعل جملة الحمد فعلية لتجدّده (٨) حالا فحالا بحسب تجدّد المحمود عليه ، وهي خبرية لفظا ، إنشائية معنى للثناء (٩) على الله تعالى بصفات كماله ، ونعوت جلاله ، وما ذكر (١٠) فرد من أفراده (١١).

ولما كان المحمود مختارا مستحقا للحمد على الإطلاق اختار الحمد على المدح والشكر(استتماما لنعته) نصب على المفعول له ، تنبيها على كونه (١٢) من غايات الحمد. والمراد (١٣) به هنا الشكر ، لأنه رأسه (١٤) وأظهر أفراده ، وهو

______________________________________________________

(١) أي بسم الله الرحمن الرحيم.

(٢) أي في لفظ الكتاب حيث قال : الله أحمد.

(٣) أي مرتبة الله جلّ جلاله.

(٤) وهو الكتبي.

(٥) فيقال : الله رحمان ورحيم.

(٦) من الأسماء الباقية.

(٧) أي تشعر النسبة بعليّة الوصف للحمد ، فيكون الحمد لأن الله جامع لجميع الصفات الكمالية.

(٨) أي لتجدد الحمد.

(٩) تعليل لإنشائية المعنى.

(١٠) من الحمد.

(١١) من أفراد الثناء.

(١٢) أي كون الاستتمام.

(١٣) بالحمد.

(١٤) لأن الحمد رأس الشكر.

١٢

ناظر (١) إلى قوله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (٢) لأن الاستتمام طلب التمام ، وهو (٣) مستلزم للزيادة ، وذلك باعث على رجاء المزيد ، وهذه اللفظة مأخوذة من كلام علي عليه‌السلام في بعض خطبه (٤).

و «النعمة» هي المنفعة الواصلة إلى الغير على جهة الإحسان إليه ، وهي موجبة للشكر المستلزم للمزيد ، ووحّدها (٥) للتنبيه على أن نعم الله تعالى أعظم من أن تستتمّ على عبد ، فإن فيضه غير متناه كما ولا كيفا ، وفيها (٦) يتصور طلب تمام النعمة التي تصل إلى القوابل بحسب استعدادهم.

(والحمد فضله) أشار إلى العجز عن القيام بحق النعمة ، لأن الحمد إذا كان من جملة فضله فيستحقّ عليه حمدا وشكرا فلا ينقضي ما يستحقه من المحامد ، لعدم تناهي نعمه. واللام في «الحمد» يجوز كونه للعهد الذكري وهو المحمود به أولا (٧) ، وللذهني الصادر عنه ، أو عن جميع الحامدين ، وللاستغراق لانتهائه (٨) مطلقا إليه بواسطة أو بدونها (٩) فتكون كل قطرة من قطرات بحار

______________________________________________________

(١) أي قول المصنف : الله أحمد.

(٢) إبراهيم الآية : ٧.

(٣) أي الشكر.

(٤) حيث قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (أحمده استتماما لنعمته ، واستسلاما لعزته ، واستعصاما من معصيته) (١).

(٥) أي المصنف حيث قال : لنعمته ، ولم يقل : لنعمه.

(٦) قال الشارح : «أي في توحيد النعمة وهي جعلها واحدة».

(٧) في قوله : الله أحمد.

(٨) أي انتهاء الحمد.

(٩) علّق الشارح بقوله : «اعلم أن العهد الخارجي على ثلاثة أقسام ، الأول : الذكري وهو الذي يتقدم لمصحوبها ذكر ، نحو قوله تعالى : (كَمٰا أَرْسَلْنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، الثاني : العلمي وهو أن يتقدم بمضمونها علم ، نحو بالوادي المقدس طوى ، وتحت الشجرة ، لأن ذلك معلوم عندهم ، الثالث : الحضوري وهو أن يكون مصحوبها حاضرا ، نحو اليوم أكملت لكم دينكم ، والمراد من العهد الذهني هنا الثاني».

__________________

(١) نهج البلاغة رقم الخطبة ٢.

١٣

فضله ، ولمحة من لمحات جوده ، والجنس وهو راجع إلى السابق باعتبار (١).

(وإيّاه أشكر) على سبيل ما تقدّم من التركيب المفيد لانحصار الشكر فيه ، لرجوع النّعم كلّها إليه ، وإن قيل للعبد فعل اختياري ، لأن آلاته وأسبابه التي يقتدر بها على الفعل لا بد أن ينتهي إليه ، فهو الحقيق بجميع أفراد الشكر ، وأردف الحمد بالشكر مع أنه لامح له أولا (٢) للتنبيه عليه (٣) بالخصوصية ، ولمح تمام الآية(استسلاما) أي انقيادا (لعزّته) وهي غاية أخرى للشكر كما مر ، فإن العبد يستعد بكمال الشكر لمعرفة المشكور ، وهي مستلزمة للانقياد لعزته ، والخضوع لعظمته ، وهو (٤) ناظر إلى قوله تعالى : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ) (٥) ، ولما تشتمل عليه الآية من التخويف ، المانع من مقابلة نعمة الله بالكفران ، فقد جمع صدرها وعجزها بين رتبتي الخوف والرجاء ، وقدّم الرجاء لأنه سوط النفس الناطقة المحرّك لها نحو الطماح ، والخوف زمامها العاطف بها عن الجماح.

(والشكر طوله) أي من جملة فضله الواسع ، ومنّه السابغ ، فإن كل ما نتعاطاه من أفعالنا مستند إلى جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وسائر أسباب حركاتنا ، وهي بأسرها مستندة إلى جوده ، ومستفادة من نعمه ، وكذلك ما يصدر عنا من الشكر ، وسائر

______________________________________________________

(١) علّق الشارح بقوله : «ووجه رجوعه إليه باعتبار أن جنس الحمد إذا كان محكوما عليه بكونه فضله اقتضى كون جميع أفراده كذلك ، لأن الجنس ـ وإن تم في ضمن فرد واحد ـ إلا أن فردا من أفراد الحمد هنا لو وجد مع غيره وجد الجنس معه أيضا ، فلا يكون مختصا به.

وقد تقدم في كلامه ما يدل على اختصاصه به وانحصاره فيه فيكون الجنس مفيدا هاهنا فائدة الاستغراق بمعونة الكلام السابق المقتضي للاختصاص ، وإن احتاج إلى دليل خارج وهو أن حصر حمده في الله يقتضي حصر حمد غيره لاشتراكهما في المعنى الموجب للحصر».

(٢) أي مع أن المصنف ألمح إليه أولا بقوله : الله أحمد.

(٣) على الشكر.

(٤) أي المصنف.

(٥) إبراهيم الآية : ٧.

١٤

العبادات نعمة منه ، فكيف تقابل نعمته بنعمة ، وقد روي أن هذا الخاطر (١) خطر لداود عليه‌السلام ، وكذا لموسى عليه‌السلام فقال : «يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع

______________________________________________________

(١) قال الغزالي في الإحياء قريب هذه العبارة (١) ، ونقلها الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء (٢) ، وهذا دليل على أن هذه الأخبار قد وردت من طرق العامة.

نعم ورد في جامع السعادات قوله : «ويشهد بذلك ما روي أن الله (عزوجل) أوحى إلى موسى عليه‌السلام : يا موسى ، اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب ، كيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال : يا موسى ، الآن شكرتني حيث علمت أن ذلك مني ، وكذلك أوحى ذلك إلى داود فقال : يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك ، وفي لفظ آخر : وشكري لك نعمة أخرى منك ، ويوجب عليّ الشكر لك ، فقال : إذا عرفت هذا فقد شكرتني ، وفي خبر آخر : إذا عرفت أن النعم مني رضيت عنك بذلك شكرا» (٣).

وقد ورد في أصول الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (أوحى الله (عزوجل) إلى موسى عليه‌السلام : يا موسى اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب فكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به عليّ ، قال : يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني) (٤).

وفي مشكاة الأنوار عن الباقر عليه‌السلام : (قال الله (عزوجل) لموسى بن عمران : يا موسى اشكرني حق شكري ، قال : يا رب كيف أشكرك حق شكرك والنعمة منك ، والشكر عليها نعمة منك؟ فقال الله تبارك وتعالى : إذا عرفت أن ذلك منّي فقد شكرتني حق شكري) (٥).

وفي إرشاد القلوب للديلمي : (وأوحى الله إلى داود عليه‌السلام : أشكرني حق شكري ، قال : إلهي كيف أشكرك حق شكرك وشكري إياك نعمة منك ، فقال الآن شكرتني حق شكري) (٦) وفيه أيضا (وقال داود عليه‌السلام : يا رب وكيف كان آدم يشكرك حق شكرك

__________________

(١) إحياء العلوم للغزالي ج ٤ ص ٨٥ طبع دار المعرفة بيروت لبنان.

(٢) المحجة البيضاء للفيض الكاشاني ج ٧ ص ١٥١ طبع مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرسين.

(٣) جامع السعادات للنراقي ج ٣ ص ٢٤٢ الطبعة الرابعة منشورات دار النعمان.

(٤) أصول الكافي ج ٢ ص ٩٨.

(٥) نقلا عن بحار الأنوار ج ٦٨ ص ٥٥.

(٦) نقلا عن بحار الأنوار ج ١٤ ص ٤٠.

١٥

أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟» وفي رواية أخرى : «وشكري لك نعمة أخرى توجب عليّ الشكر لك» ، فأوحى الله تعالى إليه «إذا عرفت هذا فقد شكرتني» وفي خبر آخر : «إذا عرفت أن النعم مني فقد رضيت بذلك منك شكرا».

(حمدا وشكرا كثيرا كما هو أهله) ، يمكن كون الكاف في هذا التركيب زائدة مثلها في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ) (١) ، لأن الغرض حمده بما هو أهله ، لا بحمد يشابه الحمد الذي هو أهله ، و «ما» موصولة ، و «هو أهله» صلتها وعائدها ، والتقدير : الحمد والشكر الذي هو أهله. مع منافرة تنكيرهما لجعل الموصول صفة لهما ، أو نكرة موصوفة بدلا من «حمدا وشكرا» لئلا يلزم التكرار وقد تجعل «ما» أيضا زائدة ، والتقدير : حمدا وشكرا هو أهله.

ويمكن كون الكاف حرف تشبيه ، اعتبارا بأن الحمد الذي هو أهله لا يقدر عليه هذا الحامد ولا غيره ، بل لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، كما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢) ، وفي التشبيه حينئذ سؤال أن يلحقه الله تعالى بذلك الفرد الكامل من الحمد ، تفضلا منه تعالى ، مثله في قولهم : «حمدا وشكرا مل‌ء السّماوات والأرض ، وحمدا يفوق حمد الحامدين» ، ونحو ذلك.

واختار الحمد بهذه الكلمة لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قال : الحمد لله كما هو أهله شغل كتّاب السماء فيقولون : اللهم إنا لا نعلم الغيب ، فيقول تعالى : اكتبوها كما قالها عبدي وعليّ ثوابها» (٣).

(وأسأله تسهيل ما) أي الشي‌ء ، وهو العلم الذي (يلزم حمله وتعليم ما لا)

______________________________________________________

وقد جعلته أبا أنبيائك وصفوتك وأسجدت له ملائكتك؟ فقال : إنه عرف أن ذلك من عندي فكان اعترافه بذلك حق شكري) (٤).

(١) الشورى الآية : ١١.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الذكر حديث ٢.

(٣) خبر زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الذكر حديث١.

__________________

(٣) نقلا عن بحار الأنوار ج ١٤ ص ٤٠.

١٦

(يسع) أي لا يجوز(جهله) وهو العلم الشرعي الواجب.

(وأستعينه على القيام بما يبقى أجره) على الدوام ، لأن ثوابه في الجنة (أُكُلُهٰا دٰائِمٌ وَظِلُّهٰا) (١) ، (ويحسن في الملأ الأعلى ذكره). أصل الملأ : الأشراف والرؤساء الذين يرجع إلى قولهم ، ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ) (٢) ، قيل لهم ذلك لأنهم ملاء بالرأي والغنى ، أو أنهم يملئون العين والقلب ، والمراد بالملإ الأعلى الملائكة ، (وترجى مثوبته وذخره) ، وفي كلّ ذلك إشارة إلى الترغيب فيما هو بصدده من تصنيف العلم الشرعي وتحقيقه ، وبذل الجهد في تعليمه.

(وأشهد أن لا إله إلّا الله) تصريح بما قد دلّ عليه الحمد السابق ، بالالتزام من التوحيد ، وخصّ هذه الكلمة ، لأنها أعلى كلمة (٣) ، وأشرف لفظة نطق بها في التوحيد ، منطبقة على جميع مراتبه ، و «لا» فيها هي النافية للجنس ، و «إله» اسمها ، قيل والخبر محذوف تقديره «موجود» ، ويضعّف بأنه لا ينفي إمكان إله معبود بالحق غيره تعالى ، لأن الإمكان أعمّ من الوجود وقيل : «ممكن» ، وفيه أنه لا يقتضي وجوده بالفعل وقيل : «مستحق للعبادة» وفيه أنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا.

وذهب المحققون إلى عدم الاحتياج إلى الخبر وأنّ «إلّا الله» مبتدأ وخبره «لا إله» ، إذ كان الأصل «الله إله» ، فلما أريد الحصر زيد «لا وإلّا» ومعناه «الله إله ، ومعبود بالحق لا غيره» ، أو أنها نقلت شرعا إلى نفي الإمكان والوجود عن إله سوى الله ، مع الدلالة على وجوده تعالى وإن لم تدل عليه لغة(وحده لا شريك له) تأكيد لما قد استفيد من التوحيد الخالص ، حسن ذكره في هذا المقام لمزيد الاهتمام.

(وأشهد أنّ محمدا نبيّ أرسله) ، قرن الشهادة بالرسالة بشهادة التوحيد ،

______________________________________________________

(١) الرعد الآية : ٣٥.

(٢) البقرة الآية : ٢٤٦.

(٣) قال الشارح «لأن المعترف بوحدانيته إذا اعترف بهذه الكلمة عند الموت وجبت له الجنة لحديث من كان آخر كلامه لا إله إلا الله فله الجنة».

١٧

لأنها بمنزلة الباب لها ، وقد شرّف الله نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه لا يذكر إلا ويذكر معه ، وذكر الشهادتين في الخطبة لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أن «كلّ خطبة ليس فيها تشهّد فهي كاليد الجذماء» (١).

و «محمد» علم منقول من اسم مفعول المضعّف ، وسمي به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلهاما من الله تعالى ، وتفاؤلا بأنه يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة. وقد قيل لجده عبد المطلب ـ وقد سمّاه في يوم سابع ولادته لموت أبيه (٢) قبلها. : لم سمّيت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك فقال : «رجوت أن يحمد في السماء والأرض» (٣) وقد حقّق الله رجاءه.

و «النبي‌ء» بالهمز من النبأ وهو الخبر ، لأن النبي مخبر عن الله تعالى ، وبلا همز وهو الأكثر إمّا تخفيفا من المهموز بقلب همزته ياء ، أو أن أصله من النّبوة بفتح النون وسكون الباء أي الرفعة ، لأن النبي مرفوع الرتبة على غيره من الخلق ، ونبّه بقوله : «أرسله» على جمعه بين النبوة والرسالة والأول أعم مطلقا ، لأنه إنسان أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه ، فإن أمر بذلك فرسول أيضا ، أو أمر بتبليغه وإن لم يكن له كتاب أو نسخ لبعض شرع من قبله كيوشع عليه‌السلام ، فإن كان له ذلك فرسول أيضا.

وقيل هما بمعنى واحد ، وهو معنى الرسول على الأول (على العالمين) جمع «العالم» ، وهو اسم لما يعلم به كالخاتم ، والقالب غلّب فيما يعلم به الصانع ، وهو كلّ ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثّر واجب لذاته تدلّ على وجوده ، وجمعه ليشمل ما تحته من الأجناس

______________________________________________________

(١) صرح سيد المدارك وصاحب مفتاح الكرامة في شرائط صلاة الجمعة بالنسبة لأجزاء الخطبة «لم أقف على مصرّح بوجوب الشهادة بالتوحيد» ، وهذا كاشف عن أن الخبر من مرويات العامة.

(٢) تعليل لتسمية جده له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) ففي السيرة النبوية من تاريخ ابن عساكر «أنه لما كان اليوم السابع من ولادته ذبح عنه ودعا قريشا ، فما أكلوا قالوا : يا عبد المطلب أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته؟ قال : سميته محمدا ، قالوا : فلم رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال : أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض».

١٨

المختلفة ، وغلّب العقلاء منهم ، فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم.

وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع. وقيل : المراد به الناس هاهنا ، فإن كلّ واحد منهم «عالم أصغر» ، من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في «العالم الأكبر» ، من الجواهر والأعراض التي يعلم بها الصانع ، كما يعلم بما أبدعه في العالم الأكبر(اصطفاه) أي اختاره (وفضّله) عليهم أجمعين.

(صلّى الله عليه) من الصلاة المأمور بها في قوله تعالى : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) ، وأصلها الدعاء ، لكنها منه تعالى مجاز في الرحمة (٢). وغاية السؤال بها عائد إلى المصلي ، لأن الله تعالى قد أعطى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنزلة والزلفى لديه ما لا تؤثّر فيه صلاة مصلّ ، كما نطقت به الأخبار ، وصرح به العلماء الأخيار (٣). وكان ينبغي اتباعها بالسلام عملا بظاهر الأمر (٤) ، وإنما تركه للتنبيه على عدم تحتمإرادته من الآية ، لجواز كون المراد به الانقياد ، بخلاف الصلاة.

(وعلى آله) وهم عندنا «عليّ وفاطمة والحسنان» ، ويطلق تغليبا على باقي

______________________________________________________

(١) الأحزاب الآية : ٥٦.

(٢) قال الشارح «وإنما عدل عن التعريف المشهور بأنها من الله الرحمة ، ومن غيره طلبها ، ومن الملائكة استغفار ومن المؤمنين الدعاء ، لاستلزامه الاشتراك ، والمجاز خير منه كما حقق في الأصول.

ويرد عليهما معا قوله تعالى : (أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ، فإن عطفها على الصلاة يشعر بمغايرتهما ، حتى جعل بعضهم بمعنى الرضوان لذلك.

والأمر على ما ذكرناه أسهل ، لأن التصريح بالحقيقة بعد إرادة المجاز يفيد تقوية المقصود ، مع أن العطف لا يدل على المغايرة مطلقا ، فإن من أقسامه عطف الشي‌ء على مرادفه ، وقد ذكر بعضهم منه الآية ، وقوله تعالى :(إِنَّمٰا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّٰهِ) ، وقوله تعالى : (لٰا تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَلٰا أَمْتاً) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ليلبّني منكم ذوو الأحلام والنهى).

(٣)

(٤) في الآية المتقدمة.

١٩

الأئمة ، ونبّه على اختصاصهم عليه‌السلام بهذا الاسم بقوله : (الذين حفظوا ما حمله) ـ بالتخفيف ـ من أحكام الدين ، (وعقلوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عن جبريل عقله) ، ولا يتوهم مساواتهم له بذلك في الفضيلة ، لاختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم بمزايا أخر تصير بها نسبتهم إليه كنسبة غيرهم عليه‌السلام من الرعية إليهم ، لأنهم عليه‌السلام في وقته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جملة رعيته.

ثم نبّه على ما أوجب فضيلتهم ، وتخصيصهم بالذكر بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (حتى قرن) الظاهر عود الضمير المستكن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه قرن(بينهم وبين محكم الكتاب) في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (١) الحديث.

ويمكن عوده إلى الله تعالى ، لأن إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك مستند إلى الوحي الإلهي ، لأنه (مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ) (٢) ، وهو الظاهر من قوله : (وجعلهم قدوة لأولي الألباب) فإن الجاعل ذلك هو الله تعالى ، مع جواز أن يراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، و «الألباب» العقول ، وخصّ ذويهم لأنهم المنتفعون بالعبر ، المقتفون لسديد الأثر(صلاة دائمة بدوام الأحقاب) جمع «حقب» بضم الحاء والقاف ، وهو الدهر ، ومنه قوله تعالى : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) (٣) أي دائمة بدوام الدهور. وأما «الحقب» بضم الحاء وسكون القاف ـ وهو ثمانون سنة ـ فجمعه «حقاب» بالكسر ، مثل قفّ وقفاف نص عليه الجوهري.

(أما بعد) الحمد والصلاة ، و «أما» كلمة فيها معنى الشرط ، ولهذا كانت الفاء لازمة في جوابها ، والتقدير «مهما يكن من شي‌ء بعد الحمد والصلاة فهو كذا» فوقعت كلمة «أما» موقع اسم هو المبتدأ ، وفعل هو الشرط ، وتضمنت معناهما (٤) فلزمها لصوق الاسم اللازم للمبتدإ للأول إبقاء له بحسب الإمكان ،

______________________________________________________

(١) حديث الثقلين متواتر بين الفريقين راجع هامش إحقاق الحق ج ٩ ص ٣١٠ ، فقد ذكر الكثير من روايات العامة.

(٢) آل عمران الآية : ٥٣.

(٣) الكهف الآية : ٦١.

(٤) معنى الابتداء والشرطية.

٢٠