البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

بعضه ببعض ، وهو فهم أعجمي. وقرأ أبي وعبد الله : وحورا عينا بنصبهما ، قالوا : على معنى ويعطون هذا كله وحورا عينا. وقرأ قتادة : وحور عين بالرفع مضافا إلى عين ؛ وابن مقسم : بالنصب مضافا إلى عين ؛ وعكرمة : وحوراء عيناء على التوحيد اسم جنس ، وبفتح الهمزة فيهما ؛ فاحتمل أن يكون مجرورا عطفا على المجرور السابق ؛ واحتمل أن يكون منصوبا ؛ كقراءة أبي وعبد الله : وحورا عينا. ووصف اللؤلؤ بالمكنون ، لأنه أصفى وأبعد من التغير. وفي الحديث : «صفاؤهنّ كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي». وقال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (١) ، وقال الشاعر ، يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال ، فشبهها بالدرة المكنونة في صدفتها فقال :

قامت ترا أي بين سجفي كلة

كالشمس يوم طلوعها بالأسعد

أو درّة صدفية غواصها

بهج متى يرها يهل ويسجد

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : روي أن المنازل والقسم في الجنة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله لا بعمل عامل ، وفيه النص الصحيح الصريح : لا يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني بفضل منه ورحمة». (لَغْواً) : سقط القول وفحشه ، (وَلا تَأْثِيماً) : ما يؤثم أحدا : والظاهر أن (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) استثناء منقطع ، لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم ، ويبعد قول من قال استثناء متصل. وسلاما ، قال الزجاج : هو مصدر نصبه (قِيلاً) ، أي يقول بعضهم لبعض (سَلاماً سَلاماً). وقيل : نصب بفعل محذوف ، وهو معمول قيلا ، أي قيلا اسلموا سلاما. وقيل : (سَلاماً) بدل من (قِيلاً). وقيل : نعت لقيلا بالمصدر ، كأنه قيل : إلا قيلا سالما من هذه العيوب. (فِي سِدْرٍ) : في الجنة شجر على خلقة ، له ثمر كقلال هجر طيب الطعم والريح. (مَخْضُودٍ) : عار من الشوك. وقال مجاهد : المخضود : الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا أثناه. وقرأ الجمهور : (وَطَلْحٍ) بالحاء ؛ وعليّ وجعفر بن محمد وعبد الله : بالعين ، قرأها على المنبر. وقال عليّ وابن عباس وعطاء ومجاهد : الطلح : الموز. وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب. وقيل : شجر أم غيلان ، وله نوّار كثير طيب الرائحة. وقال السدّي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل. والمنضود : الذي نضد من أسفله إلى أعلاه ، فليست له ساق

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٤٩.

٨١

تظهر. (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) : لا يتقلص. بل منبسط لا ينسخه شيء. قال مجاهد : هذا الظل من سدرها وطلحها. (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) ، قال سفيان وغيره : جار في أخاديد. وقيل : منساب لا يتعب فيه بساقية ولا رشاء.

(لا مَقْطُوعَةٍ) : أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات ، كفاكهة الدنيا ، (وَلا مَمْنُوعَةٍ) : أي لا يمنع من تناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا. وقرىء : وفاكهة كثيرة برفعهما ، أي وهناك فاكهة ، وفرش : جمع فراش. وقرأ الجمهور : بضم الراء ؛ وأبو حيوة : بسكونها مرفوعة ، نضدت حتى ارتفعت ، أو رفعت على الأسرة. والظاهر أن الفراش هو ما يفترش للجلوس عليه والنوم. وقال أبو عبيدة وغيره : المراد بالفرش النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش ، ورفعهن في الأقدار والمنازل. والضمير في (أَنْشَأْناهُنَ) عائد على الفرش في قول أبي عبيدة ، إذ هنّ النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها ، أي ابتدأنا خلقهن ابتدأ جديدا من غير ولادة. والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ، ويكون ذلك مخصوصا بالحور اللاتي لسن من نسل آدم ، ويحتمل أن يريد إنشاء الإعادة ، فيكون ذلك لبنات آدم. (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ، عُرُباً) : والعرب ، قال ابن عباس : العروب المتحببة إلى زوجها ، وقاله الحسن ، وعبر ابن عباس أيضا عنهن بالعواشق ، ومنه قول لبيد :

وفي الخدور عروب غير فاحشة

ريا الروادف يغشى دونها البصر

وقال ابن زيد : العروب : المحسنة للكلام. وقرأ حمزة ، وناس منهم شجاع وعباس والأصمعي ، عن أبي عمرو ، وناس منهم خارجة وكردم وأبو حليد عن نافع ، وناس منهم أبو بكر وحماد وأبان عن عاصم : بسكون الراء ، وهي لغة تميم ؛ وباقي السبعة : بضمها. (أَتْراباً) في الشكل والقد ، وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في (أَنْشَأْناهُنَ) عائد على الحور العين المذكورة قبل ، لأن تلك قصة قد انقطعت ، وهي قصة السابقين ، وهذه قصة أصحاب اليمين. واللام في (لِأَصْحابِ) متعلقة بأنشأناهن. (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) : أي من الأمم الماضية ، (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : أي من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تنافي بين قوله : (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقوله قبل : (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ، لأن قوله : (مِنَ الْآخِرِينَ) هو في السابقين ، وقوله (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هو في أصحاب اليمين.

٨٢

وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠)

٨٣

فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)

اليحموم : الأسود البهيم. الحنث ، قال الخطابي : هو في كلام العرب العدل الثقيل شبه الإثم به. الهيم : جمع أهيم وهيماء ، والهيام داء معطش يصيب الإبل فتشرب حتى تموت ، أو تسقم سقما شديدا ، قال :

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد

صداها ولا يقضي عليها هيامها

والهيم جمع هيام : وهو الرمل بفتح الهاء ، وهو المشهور. وقال ثعلب : بضمها ، قال : هو الرمل الذي لا يتماسك ، فبالفتح كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أهيم من قلب ضمته كسرة لتصح الياء ، أو بالضم يكون قد جمع على فعل ، كقراد وقرد ، ثم سكنت ضمة الراء فصار فعلا ، ثم فعل به ما فعل ببيض. أمنى الرجل النطفة ومناها : قذفها من إحليله. المزن : السحاب. قال الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل أبقالها

أوريت النار من الزناد : قدحتها ، ووري الزند نفسه ، والزناد حجرين أو من حجر وحديدة ، ومن شجر ، لا سيما في الشجر الرخو كالمرخ والعفار والكلح ، والعرب تقدح بعودين ، تحك أحدهما بالآخر ، ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة ، شبهوهما بالعجل والطروقة. أقوى الرجل : دخل في الأرض ، القوا ، وهي. القفر ، كأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى من أقام أياما لم يأكل شيئا ، وأقوت الدار : صارت قفراء. قال الشاعر :

يا دارمية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

أدهن : لاين وهاود فيما لا يحمل عند المدهن ، وقال الشاعر :

الحزم والقوة خير من السادهان والفهه والمهاع

الحلقوم : مجرى الطعام. الروح : الاستراحة. الريحان : تقدم في سورة الرحمن.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ، وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ، وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ، قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، لَآكِلُونَ

٨٤

مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ، هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ، نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ، أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ، أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

لما ذكر حال السابقين ، وأتبعهم بأصحاب الميمنة ، ذكر حال أصحاب المشئمة فقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) ، وتقدّم إعراب نظير هذه الجملة ، وفي هذا الاستفهام تعظيم مصابهم. (فِي سَمُومٍ) : في أشدّ حر ، (وَحَمِيمٍ) : ماء شديد السخونة. (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد والجمهور : دخان. وقال ابن عباس أيضا : هو سرادق النار المحيط بأهلها ، يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم. وقال ابن كيسان : اليحموم من أسماء جهنم. وقال ابن زيد أيضا وابن بريدة : هو جبل في النار أسود ، يفزع أهل النار إلى ذراه ، فيجدونه أشد شيء وأمر. (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) : صفتان للظل نفيتا ، سمي ظلا وإن كان ليس كالظلال ، ونفي عنه برد الظل ونفعه لمن يأوي إليه. (وَلا كَرِيمٍ) : تتميم لنفي صفة المدح فيه ، وتمحيق لما يتوهم في الظل من الاسترواح إليه عند شدّة الحر ، أو نفي لكرامة من يستروح إليه. ونسب إليه مجازا ، والمراد هم ، أي يستظلون إليه وهم مهانون. وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة ، وبدىء أولا بالوصف الأصلي الذي هو الظل ، وهو كونه من يحموم ، فهو بعض اليحموم. ثم نفى عنه الوصف الذي يبغي له الظل ، وهو كونه لا باردا ولا كريما. وقد يجوز أن يكون (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) صفة ليحموم ، ويلزم منه أن يكون الظل موصوفا بذلك. وقرأ الجمهور : (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) بجرهما ؛ وابن عبلة : برفعهما : أي لا هو بارد ولا كريم ، على حد قوله :

فأبيت لا حرج ولا محروم

أي لا أنا حرج. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) : أي في الدنيا ، (مُتْرَفِينَ) : فيه ذم الترف والتنعم في الدنيا ، والترف طريق إلى البطالة وترك التفكر في العاقبة. (وَكانُوا يُصِرُّونَ) :

٨٥

أي يداومون ويواظبون ، (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) ، قال قتادة والضحاك وابن زيد : الشرك ، وهو الظاهر. وقيل : ما تضمنه قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (١) الآية من التكذيب بالبعث. ويبعده : (وَكانُوا يَقُولُونَ) ، فإنه معطوف على ما قبله ، والعطف يقتضي التغاير ، فالحنث العظيم : الشرك. فقولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) : تقدم الكلام عليه في : والصافات ، وكرر الزمخشري هنا وهمه فقال : فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في (لَمَبْعُوثُونَ) من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٢) ، لفصل لا المؤكدة للنفي. انتهى. ورددنا عليه هنا وهناك إلى مذهب الجماعة في أنهم لا يقدرون بين همزة الاستفهام وحرف العطف فعلا في نحو : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) (٣) ، ولا اسما في نحو : (أَوَآباؤُنَا) ، بل الواو والفاء لعطف ما بعدهما على ما قبلهما ، والهمزة في التقدير متأخرة عن حرف العطف. لكنه لما كان الاستفهام له صدر الكلام قدمت.

ولما ذكر تعالى استفهامهم عن البعث على طريق الاستبعاد والإنكار ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبرهم ببعث العالم ، أولهم وآخرهم ، للحساب ، وبما يصل إليه المكذبون للبعث من العذاب. والميقات : ما وقت به الشيء ، أي حد ، أي إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى من ، كخاتم حديد. (ثُمَّ إِنَّكُمْ) : خطاب لكفار قريش ، (أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن الهدى ، (الْمُكَذِّبُونَ) للبعث. وخطاب أيضا لمن جرى مجراهم في ذلك. (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) : من الأولى لابتداء الغاية أو للتبعيض ؛ والثانية ، إن كان من زقوم بدلا ، فمن تحتمل الوجهين ، وإن لم تكن بدلا ، فهي لبيان الجنس ، أي من شجر الذي هو زقوم. وقرأ الجمهور : من شجر ؛ وعبد الله : من شجرة. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا) : الضمير في منها عائد على شجر ، إذ هو اسم جنس يؤنث ويذكر ، وعلى قراءة عبد الله ، فهو واضح.

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) ، قال الزمخشري : ذكر على لفظ الشجر ، كما أنث على المعنى في منها. قال : ومن قرأ : من شجرة من زقوم ، فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم لأنه يفسرها ، وهي في معناه. وقال ابن عطية : والضمير في عليه عائد على المأكول ، أو على الأكل. انتهى. فلم يجعله عائدا على شجر. وقرأ نافع

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٩ ، وسورة النحل : ١٦ / ٣٨ ، وسورة النور : ٢٤ / ٥٣ ، وسورة فاطر : ٣٥ / ٤٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٤٨.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٩ ، وسورة الحج : ٢٢ / ٤٦ ، وسورة غافر : ٤٠ / ٤٢ ، وسورة محمد : ٤٧ / ١٠.

٨٦

وعاصم وحمزة : (شُرْبَ) بضم الشين ، وهو مصدر. وقيل : اسم لما يشرب ؛ ومجاهد وأبو عثمان النهدي : بكسرها ، وهو بمعنى المشروب ، اسم لا مصدر ، كالطحن والرعي ؛ والأعرج وابن المسيب وسبيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج وباقي السبعة : بفتحها ، وهو مصدر مقيس. والهيم ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك : جمع أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام ، وقد فسرناه في المفردات. وقيل : جمع هيماء. وقيل : جمع هائم وهائمة ، وجمع فاعل على فعل شاذ ، كباذل وبذل ، وعائد وعوذ ؛ والهائم أيضا من الهيام. ألا ترى أن الجمل أذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب؟ وقال ابن عباس وسفيان : لهيم : الرمال التي لا تروى من الماء ، وتقدم الخلاف في مفرده ، أهو الهيام بفتح الهاء ، أم بالضم؟ والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل ، فإذا ملأوا منه البطون ، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم ، فيشربونه شرب الهيم ، قاله الزمخشري.

وقال أيضا : فإن قلت : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان ، فكان عطفا للشيء على نفسه؟ قلت : ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك ، كما تشرب الهيم الماء ، أمر عجيب أيضا ؛ فكانتا صفتين مختلفتين. انتهى. والفاء تقتضي التعقيب في الشربين ، وأنهم أولا لما عطشوا شربوا من الحميم ظنا أنه يسكن عطشهم ، فازداد العطش بحرارة الحميم ، فشربوا بعده شربا لا يقع به ريّ أبدا ، وهو مثل شرب الهيم ، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد ، اختلفت صفتاه فعطف ، والمقصود الصفة. والمشروب منه في (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) محذوف لفهم المعنى تقديره : فشاربون منه شرب الهيم. وقرأ الجمهور : (نُزُلُهُمْ) بضم الزاي. وقرأ ابن محيصن وخارجة ، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس ، كلهم عن أبي عمرو : بالسكون ، وهو أول ما يأكله الضيف ، وفيه تهكم بالكفار ، وقال الشاعر :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

(يَوْمَ الدِّينِ) : أي يوم الجزاء. (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بالإعادة وتقرون بها ، كما أقررتم بالنشأة الأولى ، وهي خلقهم. ثم قال : (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) بالإعادة وتقرون

٨٧

بها كما أقررتم ، فهو حض على التصديق. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) ، أو : (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) به ، ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق ، وكان كافرا ، قال : ولم أصدق؟ فقيل له : أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به؟ فقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) ، وهو المني الذي يخرج من الإنسان ، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة. وقال الزمخشري : يخلقونه : تقدرونه وتصورونه. انتهى ، فحمل الخلق على التقدير والتصوير ، لا على الإنشاء. ويجوز في (أَأَنْتُمْ) أن يكون مبتدأ ، وخبره (تَخْلُقُونَهُ) ، والأولى أن يكون فاعلا بفعل محذوف ، كأنه قال : أتخلقونه؟ فلما حذف الفعل ، انفصل الضمير وجاء (أَفَرَأَيْتُمْ) هنا مصرحا بمفعولها الأول. ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها ، إذا كانت بمعنى أخبرني. وجاء بعد أم جملة فقيل : أم منقطعة ، وليست المعادلة للهمزة ، وذلك في أربعة مواضع هنا ، ليكون ذلك على استفهامين ، فجواب الأول لا ، وجواب الثاني نعم ، فتقدر أم على هذا ، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم. وقال قوم من النحاة : أم هنا معادلة للهمزة ، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد ، إذ لو قال : أم نحن ، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر. ونظير ذلك جواب من قال : من في الدار؟ زيد في الدار ، أو زيد فيها ، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به. وقرأ الجمهور : (ما تُمْنُونَ) بضم التاء ؛ وابن عباس وأبو السمال : بفتحها. والجمهور : (قَدَّرْنا) ، بشد الدال ؛ وابن كثير : يخفها ، أي قضينا وأثبتنا ، أو رتبنا في التقدم والتأخر ، فليس موت العالم دفعة واحدة ، بل بترتيب لا يتعدى.

ويقال : سبقته على الشيء : أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، والمعنى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) : أي نحن قادرون على ذلك ، لا تغلبوننا عليه ، إن أردنا ذلك. وقال الطبري : المعنى نحن قادرون ، (قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) ، (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) : أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة ، هكذا قرنا بعد قرن. انتهى. فعلى أن نبدل متعلق بقوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا) ، وعلى القول الأول متعلق (بِمَسْبُوقِينَ) ، أي لا نسبق. (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) ، وأمثالكم جمع مثل ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصفات : أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم ، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم. وقال الحسن : من كونكم قردة وخنازير ، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٧.

٨٨

الوعيد. ويجوز أن يكون (أَمْثالَكُمْ) جمع مثل بمعنى الصفة ، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقا وخلقا ، (وَنُنْشِئَكُمْ) في صفات لا تعلمونها.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) : أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم ، أولا أنشأنا إنسانا. وقيل : نشأة آدم ، وأنه خلق من طين ، ولا ينكرها أحد من ولده. (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) : حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة. وقرأ الجمهور : تذكرون بشد الذال ؛ وطلحة يخفها وضم الكاف ، قالوا : وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه. انتهى ، ولا تدل إلا على قياس الأولى ، لا على جميع أنواع القياس. (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) : ما تذرونه في الأرض وتبذرونه ، (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) : أي زرعا يتم وينبت حتى ينتفع به ، والحطام : اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تعجبون. وقال عكرمة : تلاومون. وقال الحسن : تندمون. وقال ابن زيد : تنفجعون ، وهذا كله تفسير باللازم. ومعنى تفكهون : تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة ، ورجل فكه : منبسط النفس غير مكترث بشيء ، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب. وقرأ الجمهور : (فَظَلْتُمْ) ، بفتح الظاء ولام واحدة ؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه : بكسرها. كما قالوا : مست بفتح الميم وكسرها ، وحكاها الثوري عن ابن مسعود ، وجاءت عن الأعمش. وقرأ عبد الله والجحدري : فظللتم على الأصل ، بكسر اللام. وقرأ الجحدري أيضا : بفتحها ، والمشهور ظللت بالكسر. وقرأ الجمهور : (تَفَكَّهُونَ) ؛ وأبو حرام : بالنون بدل الهاء. قال ابن خالويه : تفكه : تعجب ، وتفكن : تندم. (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ، قبله محذوف : أي يقولون. وقرأ الجمهور : إنا ؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر : أإنا بهمزتين ، (لَمُغْرَمُونَ) : أي معذبون من الغرام ، وهو أشد العذاب ، قال :

إن يعذب يكن غراما وإن

يعط جزيلا فإنه لا يبالي

أو لمحملون الغرم في النفقة ، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته. (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) : محدودون ، لا حظ لنا في الخير. (الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ). هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب. ألا ترى مقابله ، وهو الأجاج؟ ودخلت اللام في (لَجَعَلْناهُ حُطاماً) ، وسقطت في قوله : (جَعَلْناهُ أُجاجاً) ، وكلاهما فصيح. وطول الزمخشري في مسوغ ذلك ، وملخصه : أن الحرف إذا كان في مكان ، وعرف واشتهر في ذلك المكان ، جاز حذفه لشهرة أمره. فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى ، فجاز حذفه استغناء

٨٩

بمعرفة السامع. وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول ، وليس كما ذكر ، إنما هذا قول ضعفاء المعربين. والذي ذكره سيبويه : أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول. ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم : لو كان إنسانا لكان حيوانا ، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية. ثم قال : ويجوز أن يقال : إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب. والظاهر أن (شَجَرَتَها) ، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار. وقيل : المراد بالشجرة نفس النار ، كأنه يقول : نوعها أو جنسها ، فاستعار الشجرة لذلك ، وهذا قول متكلف.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : أي لنار جهنم ، (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) : أي النازلين الأرض القوا ، وهي القفر. وقيل : للمسافرين ، وهو قريب مما قبله ؛ وقول ابن زيد : الجائعين ، ضعيف جدا. وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم ، ثم أتبعه بفائدتها في الدنيا. وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها ، من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب. والنار من أعظم الدلائل على البعث ، وفيها انتقال من شيء إلى شيء ، وإحداث شيء من شيء ، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون. ووصف تعالى نفسه بالعظيم ، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء.

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ، فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ، فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ، تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

قرأ الجمهور : (فَلا أُقْسِمُ) ، فقيل : لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ

٩٠

الْكِتابِ) (١) ، والمعنى : فاقسم. وقيل : المنفي المحذوف ، أي فلا صحة لما يقول الكفار. ثم ابتدأ أقسم ، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة ؛ ولا يجوز ، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها ، وليس جوابا لسائل سأل ، فيحتمل ذلك ، نحو قوله لا لمن قال : هل من رجل في الدار؟ وقيل : توكيد مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم ، إلا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومنه.

فلا وأبي أعدائها لا أخونها

والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها ، فتولدت منها ألف ، كقوله :

أعوذ بالله من العقراب

وهذا وإن كان قليلا ، فقد جاء نظيره في قوله : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) (٢) بياء بعد الهمزة ، وذلك في قراءة هشام ، فالمعنى : فلأقسم ، كقراءة الحسن وعيسى ، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف ، أي فلأنا أقسم ، وتبعه على ذلك الزمخشري. وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال ، وفي القسم عليه خلاف. فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه ، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبرا لمبتدأ محذوف ، فتصير الجملة اسمية ، فيقسم عليها. وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال ، وهذا الذي اختاره فتقول : والله ليخرج زيد ، وعليه قول الشاعر :

ليعلم ربي أن بيتي واسع

وقال الزمخشري : في قراءة الحسن ، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح ؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال. انتهى. أما الأمر الأول ففيه خلاف ، فالذي قاله قول البصريين ، وأما الكوفيون فيختارون ذلك ، ولكن يجيزون تعاقبهما ، فيجيزون لأضربن زيدا ، واضربن عمرا. وأما الثاني فصحيح ، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم ، وأقسم فعل حال ، والقسم قد يكون جوابا للقسم ؛ كما قال تعالى : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) (٣). فاللام في

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٩.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ١٠٧.

٩١

(وَلَيَحْلِفُنَ) جواب قسم ، وهو قسم ، لكنه لما لم يكن حلفهم حالا ، بل مستقبلا ، لزمت النون ، وهي مخلصة المضارع للاستقبال. وقرأ الجمهور : (بِمَواقِعِ) جمعا ؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي : بموقع مفردا ، مرادا به الجمع. قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيد هذا القول قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ) ، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ، أي نجوم القرآن. وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها. قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها. وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء. وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة. وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري ، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب ، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام ، كقوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١).

وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن ، وقد أعظم ذلك تعالى فقال : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ). والجملة المقسم عليها قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ، وفصل بين القسم وجوابه ؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما ، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ). وقال ابن عطية : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهمم به ، وإنما الاعتراض قوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ). انتهى. وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به. وقال الزمخشري : (كَرِيمٌ) : حسن مرضي في جنسه من الكتب ، أو نفاع جم المنافع ، أو كريم على الله تعالى. (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) : أي مصون. قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء. وقال عكرمة : التوراة والإنجيل ، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة. وقيل : (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير ، ولم تكن إذ ذاك مصاحف ، فهو إخبار بغيب.

والظاهر أن قوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وصف لقرآن كريم ، فالمطهرون هم الملائكة. وقيل : (لا يَمَسُّهُ) صفة لكتاب مكنون ، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء ، فالمطهرون هم الملائكة أيضا : أي لا يطلع عليه من سواهم ، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة ، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف ، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٣٢.

٩٢

على طهارة من الناس. وإذا كان (الْمُطَهَّرُونَ) هم الملائكة ، و (لا يَمَسُّهُ) نفي ، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله. وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة ، فاحتمل أن يكون نفيا محضا ، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون ، وإن كان يمسه غير المطهر ، كما جاء : لا يعضد شجرها ، أي الحكم هذا ، وإن كان قد يقع العضد. واحتمل أن يكون نفيا أريد به النهي ، فالضمة في السين إعراب. واحتمل أن يكون نهيا فلو فك ظهر الجزم ، ولكنه لما أدغم كان مجزوما في التقدير ، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء ، كما جاء في الحديث : «إنا لم نرده عليك» ، إلا إنا جزم ، وهو مجزوم ، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم. قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي ، قول فيه ضعف ، وذلك أنه إذا كان خبرا ، فهو في موضع الصفة. وقوله بعد ذلك (تَنْزِيلٌ) صفة ، فإذا جعلناه نهيا ، جاء معناه أجنبيا معترضا بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره. وفي حرف ابن مسعود ما يمسه ، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر. انتهى.

ولا يتعين أن يكون (تَنْزِيلٌ) صفة ، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فيحسن إذ ذاك أن يكون (لا يَمَسُّهُ) نهيا. وذكروا هنا حكم مس المصحف ، وذلك مذكور في الفقه ، وليس في الآية دليل على منع ذلك. وقرأ الجمهور : (الْمُطَهَّرُونَ) اسم مفعول من طهر مشدّدا ؛ وعيسى : كذلك مخففا من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو. وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون ، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر ، أي المطهرين أنفسهم ؛ وعنه أيضا المطهرون بشدهما ، أصله المتطهرون ، فأدغم التاء في الطاء ، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف. وقرىء : المتطهرون. وقرىء : تنزيلا بالنصب ، أي نزل تنزيلا ، والإشارة في : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) للقرآن ، و (أَنْتُمْ) : خطاب للكفار ، (مُدْهِنُونَ) ، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل. وقال أيضا : مكذبون. (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به ، أي تضعون مكان الشكر التكذيب ، ومن هذا المعنى قول الراجز :

مكان شكر القوم عند المنن

كي الصحيحات وفقء الأعين

وقرأ عليّ وابن عباس : وتجعلون شكركم ، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد. وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلانا ، بمعنى : ما شكره. قيل : نزلت في الأنواء ، ونسبة السقيا إليها ، والرزق : المطر ، فالمعنى : ما يرزقكم الله من

٩٣

الغيب. وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر ، هذا بنوء كذا وكذا ، وهذا بنوء الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء ، وغير ذلك. وقرأ الجمهور : (تُكَذِّبُونَ) من التكذيب ؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب ، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله ، أي القرآن أو المطر ، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم. ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء ، وفي المطر من الأنواء.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) ، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، فلو لا الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ترجعونها للنفس. وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء. (وَأَنْتُمْ) : إشارة إلى جميع البشر ، (حِينَئِذٍ) : حين إذ بلغت الحلقوم ، (تَنْظُرُونَ) : أي إلى النازع في الموت. وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) بالعلم والقدرة ، (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) : من البصيرة بالقلب ، أو (أَقْرَبُ) : أي ملائكتنا ورسلنا ، (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) : من البصر بالعين. ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص. والمدين : المملوك. قال الأخطل :

ربت ورباني في حجرها ابن مدينة

قيل : ابن مملوكة يصف عبدا ابن أمة ، وآخر البيت :

تراه على مسحانة يتوكل

والمعنى : فلو لا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد ، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء ، وأن ما نزل من المطر هو بنوء ، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له. وقال ابن عطية : وقوله (تَرْجِعُونَها) سد مسد جوابها ، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات ، وإذا من قوله : (فَلَوْ لا إِذا) ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضا إيجازا واقتصارا. انتهى. وتقول : (إِذا) ليست شرطية ، فتسد (تَرْجِعُونَها) مسد جوابها ، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلو لا ، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني عليه ، فجاء التخصيص الأول مقيدا بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التخصيص الثاني معلقا على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة ، فهم مقهورون لا قدرة لهم.

٩٤

(فَأَمَّا إِنْ كانَ) : أي المتوفى ، (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : وهم السابقون. وقرأ الجمهور ؛ (فَرَوْحٌ) ، بفتح الراء ؛ وعائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ونوح القارئ ، والضحاك ، والأشهب ، وشعيب بن الحبحاب ، وسليمان التيمي ، والربيع بن خيثم ، ومحمد بن عليّ ، وأبو عمران الجوني ، والكلبي ، وفياض ، وعبيد ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب بن صيان ، وزيد ، ورويس عنه : بضمها. قال الحسن : الروح : الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم. وقال أيضا : روحه تخرج في ريحان. وقيل : الروح : البقاء ، أي فهذان له معا ، وهو الخلود مع الرزق. وقال مجاهد : الريحان : الرزق. وقال الضحاك : الاستراحة. وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضا : الريحان ، هذا الشجر المعروف في الدنيا ، يلقى المقرب ريحانا من الجنة. وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الحسن والحسين ، رضي الله تعالى عنهما : «هما ريحانتاي من الدنيا».

وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس ، (فَرَوْحٌ) : فسلام ، فنزل الفاء جواب أما تقدم. أما وهي في تقدير الشرط ، وإن كان من المقربين ، وإن كان من أصحاب اليمين ، وإن كان من المكذبين الضالين شرط ؛ وإذا اجتمع شرطان ، كان الجواب للسابق منهما. وجواب الثاني محذوف ، ولذلك كان فعل الشرط ماضي اللفظ ، أو مصحوبا بلم ، وأغنى عنه جواب أما ، هذا مذهب سيبويه. وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن ، وجواب أما محذوف ، وله قول موافق لمذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا ، والشرط معا ، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والخطاب في ذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب. ثم لكل معتبر من أمّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل لمن يخاطبه : (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ). فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين. وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين. وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك ، كقوله : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة ، أصحاب الشمال. وقرأ الجمهور : وتصلية رفعا ، عطفا على (فَنُزُلٌ) ؛ وأحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بجر التاء عطفا على (مِنْ حَمِيمٍ). ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم ، أكد ذلك بقوله : (إِنَّ هذا) : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) ، فقيل :

٩٥

هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة ، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب ، بمعنى أنها نهاية في ذلك ، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة. وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مباينا لليقين ، أي الثابت المتيقن.

ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهبا الكلام فيهم ، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات. ولما أعاد التقسيم موجزا الكلام فيه ، أمره أيضا بتنزيهه وتسبيحه ، والإقبال على عبادة ربه ، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء. ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه ، كقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) ، ويسبحوه ؛ وتارة بحرف الجر ، كقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم ، ويجوز أن يكون صفة لربك.

__________________

(١) سورة الأعلى : ٨٧ / ١.

٩٦

سورة الحديد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

٩٧

وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)

٩٨

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

قال النقاش وغيره : هذه السورة مدنية بإجماع من المفسرين. وقال غيره ، كالزمخشري : هي مكية. وقال ابن عطية : لا خلاف ، إن فيها قرآنا مدنيا ، لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا.

٩٩

ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه تعالى أمر بالتسبيح ، ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السموات والأرض ، وأتى سبح بلفظ الماضي ، ويسبح بلفظ المضارع ، وكله يدل على الديمومة والاستمرار ، وإن ذلك ديدن من في السموات والأرض. والتسبيح هنا عند الأكثرين بمعنى التنزيه المعروف في قولهم : سبحان الله ، فقيل : هو حقيقة في الجميع ، وقيل : فيمن يمكن التسبيح منهم ، وقيل : مجاز ، بمعنى : أن أثر الصنعة فيها ينبه الرائي على التسبيح. وقيل : التسبيح هنا الصلاة ، ففي الجماد بعيد ، وفي الكافر سجود ظله صلاته ، وفي المؤمن ذلك سائغ ، واللام في (لِلَّهِ) ، إما أن تكون بمنزلة اللام في : نصحت لزيد ، يقال : سبح الله ، كما يقال ؛ نصحت زيدا ، فجيء باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول ؛ وإما أن تكون لام التعليل ، أي أحدث التسبيح لأجل الله ، أي لوجهه خالصا.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) : جملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب لقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما أخبر بأنه له الملك ، أخبر عن ذاته بهذين الوصفين العظيمين اللذين بهما تمام التصرف في الملك ، وهو إيجاد ما شاء وإعدام ما شاء ، ولذلك أعقب بالقدرة التي بها الإحياء والإماتة. وجوز أن يكون خبر مبتدأ ، أي هو يحيي ويميت. وأن يكون حالا ، وذو الحال الضمير في له ، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور. (هُوَ الْأَوَّلُ) : الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ، (وَالْآخِرُ) : أي الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. وقيل : الأول الذي كان قبل كل شيء ، والآخر الذي يبقى بعد هلاك كل شيء. (وَالظَّاهِرُ) بالأدلة ونظر العقول في صفته ، (وَالْباطِنُ) لكونه غير مدرك بالحواس. وقال أبو بكر الورّاق : الأول بالأزلية ، والآخر بالأبدية. وقيل : (الظَّاهِرُ) العالي على كل شيء ، الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ؛ (وَالْباطِنُ) : الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه. وقال الزمخشري ؛ فإن قلت : فما معنى الواو؟ قلت : الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ؛ والثانية على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ؛ وأما الوسطى فعل أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين. فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن. جامع الظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس ؛ وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من المطر والأموات وغير ذلك ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من

١٠٠