البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

آحاد من يعلم. أما من جوّز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل. وقيل : ما مصدرية في قوله : (ما أَعْبُدُ). وقيل : فيها جميعها. وقال الزمخشري : المراد الصفة ، كأنه قيل : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) : أي لكم شرككم ولي توحيدي ، وهذا غاية في التبرؤ. ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه. ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ) على سبيل المهادنة ، وهي منسوخة بآية السيف. وقرأ سلام : ديني بياء وصلا ووقفا ، وحذفها القراء السبعة ، والله تعالى أعلم.

٥٦١

سورة النّصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

هذه مدنية ، نزلت منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة خيبر ، وعاش بعد نزولها سنتين. وقال ابن عمر : نزلت في أوسط أيام التشريق بمنى في حجة الوداع ، وعاش بعدها ثمانين يوما أو نحوها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولما كان في قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ) (١) موادعة ، جاء في هذه بما يدل على تخويفهم وتهديدهم ، وأنه آن مجيء نصر الله ، وفتح مكة ، واضمحلال ملة الأصنام ، وإظهار دين الله تعالى.

قال الزمخشري : (إِذا) منصوب بسبح ، وهو لما يستقبل ، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة ، انتهى. وكذا قال الحوفي ، ولا يصح إعمال (فَسَبِّحْ) في (إِذا) لأجل الفاء ، لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط ، فلا تعمل فيه ، بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح المنصور في علم العربية ، وقد استدللنا على ذلك في شرح التسهيل وغيره ، وإن كان المشهور غيره. والنصر : الإعانة والإظهار على العدو ، والفتح : فتح البلاد. ومتعلق النصر والفتح محذوف ، فالظاهر أنه

__________________

(١) سورة الكافرون : ١٠٩ / ٦.

٥٦٢

نصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على أعدائهم ، وفتح مكة وغيرها عليهم ، كالطائف ومدن الحجاز وكثير من اليمن. وقيل : نصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش وفتح مكة ، وكان فتحها لعشر مضين من رمضان ، سنة ثمان ، ومعه عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار.

وقرأ الجمهور : (يَدْخُلُونَ) مبنيا للفاعل ؛ وابن كثير في رواية : مبنيا للمفعول. (فِي دِينِ اللهِ) : في ملة الإسلام الذي لا دين له يضاف غيرها. (أَفْواجاً) أي جماعات كثيرة ، كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا بعد واحد ، واثنين اثنين.

قال الحسن : لما فتح عليه الصلاة والسلام مكة ، أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما الظفر بأهل الحرم فليس به يدان ، وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل. وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي العرب رجل كافر ، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين. منهم من قدم ، ومنهم من قدّم وافده. قال ابن عطية : والمراد ، والله أعلم ، العرب عبدة الأوثان. وأما نصارى بني ثعلب فما أراهم أسلموا قط في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن أعطوا الجزية. وقال مقاتل وعكرمة : المراد بالناس أهل اليمن ، وفد منهم سبعمائة رجل. وقال الجمهور : وفود العرب ، وكان دخولهم بين فتح مكة وموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (أَفْواجاً) : جمع فوج. قال الحوفي : وقياس جمعه أفوج ، ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدّل إلى أفواج ، كأنه يعني أنه كان ينبغي أن يكون معتل العين كالصحيح. فكما أن قياس فعل صحيحها أن يجمع على أفعل لا على أفعال ، فكذلك هذا ؛ والأمر في هذا المعتل بالعكس. القياس فيه أفعال ، كحوض وأحواض ، وشذ فيه أفعل ، كثوب وأثوب ، وهو حال. ويدخلون حال أو مفعول ثان إن كان (أَرَأَيْتَ) (١) بمعنى علمت المتعدية لاثنين. وقال الزمخشري : إما على الحال على أن أرأيت بمعنى أبصرت أو عرفت ، انتهى. ولا نعلم رأيت جاءت بمعنى عرفت ، فنحتاج في ذلك إلى استثبات.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) : أي ملتبسا بحمده على هذه النعم التي خولكها ، من نصرك على الأعداء وفتحك البلاد وإسلام الناس ؛ وأي نعمة أعظم من هذه ، إذ كل حسنة يعملها المسلمون فهي في ميزانه.

وعن عائشة : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر قبل موته أن يقول : «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك

__________________

(١) سورة الماعون : ١٠٧ / ١.

٥٦٣

وأتوب إليك». قال الزمخشري : والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته ، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس ، فهو عبادة في نفسه.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» ، انتهى. وقد علم هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه السورة دنو أجله ، وحين قرأها عليه الصلاة والسلام استبشر الصحابة وبكى العباس ، فقال : «وما يبكيك يا عم؟» قال : نعيت إليك نفسك ، فقال : «إنها لكما تقول» ، فعاش بعدها سنتين. (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : فيه ترجئة عظيمة للمستغفرين.

٥٦٤

سورة المسد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥)

الحطب معروف ، ويقال : فلان يحطب على فلان إذا وشى عليه. الجيد : العنق. المسد : الحبل من ليف ، وقال أبو الفتح : ليف المقل ، وقال ابن زيد : هو شجر باليمن يسمى المسد ، انتهى. وقد يكون من جلود الإبل ومن أوبارها. قال الراجز :

ومسد أمر من أيانق

ورجل ممسود الخلق : أي مجدوله شديده.

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ ، سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين الله تعالى ، أتبع بذكر من لم يدخل في الدين ، وخسر ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان. وتقدم الكلام على التباب في سورة غافر ، وهنا قال ابن عباس : خابت ، وقتادة : خسرت ، وابن جبير : هلكت ، وعطاء : ضلت ، ويمان بن رياب : صفرت من كل خير ، وهذه الأقوال متقاربة في المعنى. وقالوا فيما حكى إشابة : أم تابة : أي هالكة من الهرم والتعجيز. وإسناد الهلاك إلى اليدين ، لأن العمل أكثر ما يكون بهما ، وهو في الحقيقة للنفس ، كقوله : (ذلِكَ بِما

٥٦٥

قَدَّمَتْ يَداكَ) (١). وقيل : أخذ بيديه حجرا ليرمي به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسند التب إليهما. والظاهر أن التب دعاء ، وتب : إخبار بحصول ذلك ، كما قال الشاعر :

جزاني جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

ويدل عليه قراءة عبد الله : وقد تب. روي أنه لما نزل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢) ، قال : «يا صفية بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد ، لا أغني لكما من الله شيئا ، سلاني من مالي ما شئتما». ثم صعد الصفا ، فنادى بطون قريش : «يا بني فلان يا بني فلان». وروي أنه صاح بأعلى صوته : «يا صباحاه». فاجتمعوا إليه من كل وجه ، فقال لهم : «أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقي؟» قالوا : نعم ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا؟ فافترقوا عنه ، ونزلت هذه السورة. وأبو لهب اسمه عبد العزى ، ابن عم المطلب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ ابن محيصن وابن كثير : أبي لهب بسكون الهاء ، وفتحها باقي السبعة ولم يختلفوا في ذات لهب ، لأنها فاصلة ، والسكون يزيلها على حسن الفاصلة. قال الزمخشري : وهو من تغيير الأعلام ، كقولهم : شمس مالك بالضم. انتهى ، يعني : سكون الهاء في لهب وضم الشين في شمس ، ويعني في قول الشاعر :

وإني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمي الصدق شمس بن مالك

فأما في لهب ، فالمشهور في كنيته فتح الهاء ، وأما شمس بن مالك ، فلا يتعين أن يكون من تغيير الأعلام ، بل يمكن أن يكون مسمى بشمس المنقول من شمس الجمع ، كما جاء أذناب خيل شمس. قيل : وكني بأبي لهب لحسنه وإشراق وجهه ، ولم يذكره تعالى باسمه لأن اسمه عبد العزى ، فعدل عنه إلى الكنية ، أو لأن الكنية كانت أغلب عليه من الاسم ؛ أو لأن ماله إلى النار ، فوافقت حالته كنيته ، كما يقال للشرير : أبو الشر ، وللخير أبو الخير ؛ أو لأن الاسم أشرف من الكنية ، فعدل إلى الأنقص ؛ ولذلك ذكر الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم ولم يكنّ أحدا منهم.

والظاهر أن ما في (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) نفي ، أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه ، وما كسب هو بنفسه أو ماشيته ، وما كسب من نسلها ومنافعها ، أو ما كسب من أرباح ماله الذي يتجر به. ويجوز أن تكون ما استفهاما في موضع نصب ، أي : أيّ شيء يغني عنه

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٠.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٤.

٥٦٦

ماله على وجه التقرير والإنكار؟ والمعنى : أين الغنى الذي لماله ولكسبه؟ والظاهر أن ما في قوله : (وَما كَسَبَ) موصولة ، وأجيز أن تكون مصدرية. وإذا كانت ما في (ما أَغْنى) استفهاما ، فيجوز أن تكون ما في (وَما كَسَبَ) استفهاما أيضا ، أي : وأي شيء كسب؟ أي لم يكسب شيئا. وعن ابن عباس : (وَما كَسَبَ) ولده.

وفي الحديث : «ولد الرجل من كسبه». وعن الضحاك : (وَما كَسَبَ) هو عمله الخبيث في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن قتادة : وعمله الذي ظن أنه منه على شيء. وروي عنه أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا ، فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي. وقرأ عبد الله : وما اكتسب بتاء الافتعال. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم وعباس في اختياره ، وهو أيضا سيصلى بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام ، ومريئته ؛ وعنه أيضا : ومريته على التصغير فيهما بالهمز وبإبدالها ياء وإدغام ياء التصغير فيها. وقرأ أيضا : حمالة للحطب ، بالتنوين في حمالة ، وبلام الجر في الحطب. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : سيصلى بضم الياء وسكون الصاد ؛ وأبو قلابة : حاملة الحطب على وزن فاعلة مضافا ، واختلس حركة الهاء في وامرأته أبو عمر وفي رواية ؛ والحسن وزيد بن علي والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن محيصن وعاصم : حمالة بالنصب.

وقرأ الجمهور : (سَيَصْلى) بفتح الياء وسكون الصاد ، (وَامْرَأَتُهُ) على التكبير ، (حَمَّالَةَ) على وزن فعالة للمبالغة مضافا إلى الحطب مرفوعا ، والسين للاستقبال وإن تراخى الزمان ، وهو وعيد كائن إنجازه لا محالة. وارتفع (وَامْرَأَتُهُ) عطفا على الضمير المستكن في (سَيَصْلى) ، وحسنه وجود الفصل بالمفعول وصفته ، و (حَمَّالَةَ) في قراءة الجمهور خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لامرأته ، لأنه مثال ماض فيعرف بالإضافة ، وفعال أحد الأمثلة الستة وحكمها كاسم الفاعل. وفي قراءة النصب ، انتصب على الذم. وأجازوا في قراءة الرفع أن يكون (وَامْرَأَتُهُ) مبتدأ ، وحمالة ، واسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء. والظاهر أنها كانت تحمل الحطب ، أي ما فيه شوك ، لتؤذي بإلقائه في طريق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لتعقرهم ، فذمت بذلك وسميت حمالة الحطب ، قاله ابن عباس. فحمالة معرفة ، فإن كان صار لقبا لها جاز فيه حالة الرفع أن يكون عطف بيان ، وأن يكون بدلا. قيل : وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي

٥٦٧

بالنميمة ، ويقال للمشاء بها : يحمل الحطب بين الناس ، أي يوقد بينهم النائرة ويورث الشر. قال الشاعر :

من البيض لم يصطد على ظهر لامه

ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب

جعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر. وقال الراجز :

إن بني الأرزم حمالو الحطب

هم الوشاة في الرضا وفي الغضب

وقال ابن جبير : حمالة الخطايا والذنوب ، من قولهم : يحطب على ظهره. قال تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) (١). وقيل : الحطب جمع حاطب ، كحارس وحرس ، أي يحمل الجناة على الجنايات ، والظاهر أن الحبل من مسد. وقال عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان : استعارة ، والمراد سلسلة من حديد في جهنم. وقال قتادة : قلادة من ودع. وقال ابن المسيب : قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقنها على عداوة محمد. قال ابن عطية : وإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها ، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث ، انتهى. وقال الحسن : إنما كانت خرزا. وقال الزمخشري : والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال ، وأنها تحمل الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها ، كما يفعل الحطابون تحسيسا لحالها وتحقيرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب ، فقال :

ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي

أم ما تعير من حمالة الحطب

غرساء شاذخة في المجد سامية

كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب

ويحتمل أن يكون المعنى : إن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك ، فلا يزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو الضريع ، وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه ، انتهى.

ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبابكر ، وهو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣١.

٥٦٨

وبيدها فهر ، فقالت : بلغني أن صاحبك هجاني ، ولأفعلنّ وأفعلن ؛ وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فروي أن أبا بكر ، رضي الله تعالى عنه ، قال لها : هل تري معي أحدا؟ فقالت : أتهزأ بي؟ لا أرى غيرك. وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول :

مذمما أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا

فسكت أبوبكر ومضت هي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها». وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال.

٥٦٩

سورة الإخلاص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

الصمد : فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج ويستقل بها ، قال :

ألا بكر الناعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد

وقال آخر :

علوته بحسام ثم قلت له

خذها خزيت فأنت السيد الصمد

الكفو : النظير.

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

هذه السورة مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة ، مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك.

ولما تقدم فيما قبلها عداوة أقرب الناس إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو عمه أبو لهب ، وما كان يقاسي من عباد الأصنام الذين اتخذوا مع الله آلهة ، جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد ، رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من المذاهب المخالفة للتوحيد.

٥٧٠

وعن ابن عباس ، أن اليهود قالوا : يا محمد صف لنا ربك وانسبه ، فنزلت. وعن أبي العالية ، قال قادة الأحزاب : انسب لنا ربك ، فنزلت. فإن صح هذا السبب ، كان هو ضميرا عائدا على الرب ، أي (قُلْ هُوَ اللهُ) أي ربي الله ، ويكون مبتدأ وخبرا ، وأحد خبر ثان. وقال الزمخشري : وأحد بدل من قوله : (اللهُ) ، أو على هو أحد ، انتهى. وإن لم يصح السبب ، فهو ضمير الأمر ، والشان مبتدأ ، والجملة بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر هو ، وأحد بمعنى واحد ، أي فرد من جميع جهات الوحدانية ، أي في ذاته وصفاته لا يتجزأ. وهمزة أحد هذا بدل من واو ، وإبدال الهمزة مفتوحة من الواو قليل ، من ذلك امرأة إناة ، يريدون وناة ، لأنه من الوني وهو الفتور ، كما أن أحدا من الوحدة. وقال ثعلب : بين واحد وأحد فرق ، الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان ، والأحد لا يدخله. يقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ، لأن الله خصوصية له الأحد ، وزيد تكون منه حالات ، انتهى. وما ذكر من أن أحدا لا يدخله ما ذكر منقوض بالعدد. وقرأ أبان بن عثمان ، وزيد بن علي ، ونصر بن عاصم ، وابن سيرين ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو السمال ، وأبو عمرو في رواية يونس ، ومحبوب ، والأصمعي ، واللؤلؤي ، وعبيد ، وهارون عنه : (أَحَدٌ ، اللهُ) بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب وأكثر ما يوجد في الشعر نحو قوله :

ولا ذاكرا الله إلا قليلا

ونحو قوله :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

(اللهُ الصَّمَدُ) : مبتدأ وخبر ، والأفصح أن تكون هذه جملا مستقلة بالأخبار على سبيل الاستئناف ، كما تقول : زيد العالم زيد الشجاع. وقيل : الصمد صفة ، والخبر في الجملة بعده ، وتقدم شرح الصمد في المفردات. وقال الشعبي ، ويمان بن رياب : هو الذي لا يأكل ولا يشرب. وقال أبيّ بن كعب : يفسره ما بعده ، وهو قوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ). وقال الحسن : الصمد : المصمت الذي لا جوف له ، ومنه قوله :

شهاب حروب لا تزال جياده

عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

وفي كتاب التحرير أقوال غير هذه لا تساعد عليها اللغة. وقال ابن الأنباري : لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد هو السيد الذي ليس فوقه أحد ، الذي يصمد إليه الناس

٥٧١

في أمورهم وحوائجهم. قال الزمخشري : (لَمْ يَلِدْ) ، لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، ودل على هذا المعنى بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) (١). (وَلَمْ يُولَدْ) : لأن كل مولود محدث وجسم ، وهو قديم لا أول لوجوده ، وليس بجسم ولم يكافئه أحد. يقال له كفو ، بضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء ، وبضم الكاف مع ضم الفاء. وقرأ حمزة وحفص : بضم الكاف وإسكان الفاء ، وهمز حمزة ، وأبدلها حفص واوا. وباقي السبعة : بضمهما والهمز ، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع ، وفي رواية عن نافع أيضا كفا من غير همز ، نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة. وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس : كفاء بكسر الكاف وفتح الفاء والمد ، كما قال النابغة :

لا تعذقني بركن لا كفاء له

الأعلم لا كفاء له : لا مثل له. وقال مكي سيبويه : يختار أن يكون الظرف خبرا إذا قدمه ، وقد خطأه المبرد بهذه الآية ، لأنه قدم الظرف ولم يجعله خبرا ، والجواب أن سيبويه لم يمنع إلغاء الظرف إذا تقدم ، إنما أجاز أن يكون خبرا وأن لا يكون خبرا. ويجوز أن يكون حالا من النكرة وهي أحد. لما تقدم نعتها عليها نصب على الحال ، فيكون له الخبر على مذهب سيبويه واختياره ، ولا يكون للمبرد حجة على هذا القول ، انتهى. وخرجه ابن عطية أيضا على الحال.

وقال الزمخشري : فإن قلت : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه ، فما باله مقدما في أفصح الكلام وأعربه؟ قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه ، انتهى.

وهذه الجملة ليست من هذا الباب ، وذلك أن قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ليس الجار والمجرور فيه تاما ، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبرا لكان ، بل هو متعلق بكفوا وقدم عليه. فالتقدير : ولم يكن أحد كفوا له ، أي مكافئه ، فهو في معنى المفعول متعلق بكفوا. وتقدم على كفوا للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى. وتوسط الخبر ، وإن كان

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠١.

٥٧٢

الأصل التأخر ، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك. وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره أن له الخبر وكفوا حال من أحد ، لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبرا ، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه.

وسيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه إنما تكلم في هذا الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ، ويصلح أن يكون غير خبر. قال سيبويه : وتقول : ما كان فيها أحد خير منك ، وما كان أحد مثلك فيها ، وليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت فيها مستقرا ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم. أجريت الصفة على الاسم ، فإن جعلته على : فيها زيد قائم ، نصبت فتقول : ما كان فيها أحد خيرا منك ، وما كان أحد خيرا منك فيها ، إلا أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الملغى كان أحسن. وإذا أردت أن يكون مستقرا ، فكلما قدمته كان أحسن ، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير. قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). وقال الشاعر :

ما دام فيهن فصيل حيا

انتهى. وما نقلناه ملخصا. وهو بألفاظ سيبويه ، فأنت ترى كلامه وتمثيله بالظرف الذي يصلح أن يكون خبرا. ومعنى قوله : مستقرا ، أي خبرا للمبتدأ ولكان. فإن قلت : فقد مثل بالآية الكريمة. قلت : هذا الذي أوقع مكيا والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام وهو في قوله :

ما دام فيهن فصيل حيا

أجرى فضله لا خبرا. كما أن له في الآية أجرى فضلة ، فجعل الظرف القابل أن يكون خبرا كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبرا ، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله : ولم يكن له أحد ، بل لو تأخر كفوا وارتفع على الصفة وجعل له خبرا ، لم ينعقد منه كلام ، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو كفو ، وله متعلق به ، والمعنى : ولم يكن له أحد مكافئه. وقد جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة ، ومنها أنها تعدل ثلث القرآن ، وقد تكلم العلماء على ذلك ، وليس هذا موضعه ، والله الموفق.

٥٧٣

سورة الفلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥)

الفلق : فعل بمعنى مفعول ، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى. وقب الليل : أظلم ؛ والشمس : غابت ، والعذاب : حل. قال الشاعر :

وقب العذاب عليهم فكأنهم

لحقتهم نار السموم فأحصدوا

النفث : شبه النفخ دون تفل بريق ، قاله ابن عطية : وقيل : نفخ بريق معه ، قاله الزمخشري. وقال صاحب اللوامح : شبه النفخ من الفم في الرقية ولا ريق معه ، فإذا كان بريق فهو التفل. قال الشاعر :

فإن أبرأ فلم أنفث عليه

وإن يفقد فحق له الفقود

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ، وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ، وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ).

هذه السورة مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ورواية كريب عن ابن عباس مدنية ، في قول ابن عباس في رواية صالح وقتادة وجماعة. قيل : وهو الصحيح. وسبب نزول المعوّذتين قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو جف ، والجف قشر الطلع فيه مشاطة رأسه عليه الصلاة والسلام وأسنان مشطه ، ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر ، فأنزلت عليه المعوّذتان ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ،

٥٧٤

ووجد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة ، فقام فكأنما نشط من عقال. ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها ، شرح ما يستعاذ منه بالله من الشرّ الذي في العالم ومراتب مخلوقاته. والفلق : الصبح ، قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد ، وفي المثل : هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح ، وقال الشاعر :

يا ليلة لم أنمها بت مرتقبا

أرعى النجوم إلى أن قدّر الفلق

وقال الشاعر يصف الثور الوحشي :

حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق

هاديه في أخريات الليل منتصب

وقيل : الفلق : كلما يفلقه الله تعالى ، كالأرض والنبات والجبال عن العيون ، والسحاب عن المطر ، والأرحام عن الأولاد ، والحب والنوى وغير ذلك. وقال ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة والتابعين : الفلق : جب في جهنم ، ورواه أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : لما اطمأن من الأرض الفلق ، وجمعه فلقان. وقيل : واد في جهنم. وقال بعض الصحابة : بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حره.

وقرأ الجمهور : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، بإضافة شر إلى ما ، وما عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشر من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد ، كالإحراق بالنار ، والإغراق بالبحر ، والقتل بالسم. وقرأ عمرو بن فايد : من شر بالتنوين. وقال ابن عطية : وقرأ عمرو بن عبيد ، وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يخلق الشر : من شر بالتنوين ، ما خلق على النفي ، وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل ، الله خالق كل شيء ، ولهذه القراءة وجه غير النفي ، فلا ينبغي أن ترد ، وهو أن يكون (ما خَلَقَ) بدلا من (شَرِّ) على تقدير محذوف ، أي من شرّ شر ما خلق ، فحذف لدلالة شر الأول عليه ، أطلق أولا ثم عمّ ثانيا. والغاسق : الليل ، ووقب : أظلم ودخل على الناس ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد ، وزمّكه الزمخشري على عادته فقال : والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه. من قوله تعالى : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (١) ، ومنه : غسقت العين : امتلأت دمعا ، وغسقت الجراحة : امتلأت دما ، ووقوبه : دخول ظلامه في كل شيء ، انتهى. وقال الزجاج : هو الليل لأنه أبرد من النهار ، والغاسق : البارد ، أستعيذ من شره لأنه فيه تنبث الشياطين والهوام والحشرات وأهل الفتك. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٨.

٥٧٥

يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا

إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا

وقال محمد بن كعب : النهار دخل في الليل. وقال ابن شهاب : المراد بالغاسق : الشمس إذا غربت. وقال القتبي وغيره : هو القمر إذا دخل في ساهوره فخسف. وفي الحديث : «نظر صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر فقال : يا عائشة ، نعوذ بالله من هذا ، فإنه الفاسق إذا وقب». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الغاسق النجم». وقال ابن زيد عن العرب : الغاسق : الثريا إذا سقطت ، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عند ذلك. وقيل : الحية إذا لدغت ، والغاسق سم نابها لأنه يسيل منه. والنفاثات : النساء ، أو النفوس ، أو الجماعات السواحر ، يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين. وقرأ الجمهور : (النَّفَّاثاتِ) ؛ والحسن : بضم النون ، وابن عمر والحسن أيضا وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية النافثات ؛ والحسن أيضا وأبو الربيع : النفثات بغير ألف ، نحو الخدرات. والاستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله تعالى به من الشر عند فعلهن ذلك.

وسبب نزول هاتين المعوذتين ينفي ما تأوله الزمخشري من قوله : ويجوز أن يراد به النساء ذات الكيادات من قوله : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (١) ، تشبيها لكيدهن بالسحر والنفث في العقد ، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهنّ لهم ، وعرضهنّ محاسنهن ، كأنهن يسحرنهم بذلك ، انتهى.

وقال ابن عطية : وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذى بذلك ، وهذا الشأن في زماننا موجود شائع في صحراء المغرب. وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان ، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع ، انتهى.

وقيل : الغاسق والحاسد بالطرف ، لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون منسوبا إليه ، وكذا كل ما فسر به الغاسق. وكذلك الحاسد ، لا يؤثر حسده إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه. أما إذا لم يظهر الحسد ، فإنما يتأذى به هو لا المحسود ، لاغتمامه بنعمة غيره. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهار أثره ، انتهى. وعم أولا فقال : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، ثم خص هذه لخفاء شرها ، إذ يجيء من حيث لا يعلم ، وقالوا : شر العداة المراجي بكيدك من حيث لا تشعر ، ونكر غاسق وحاسد

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٨.

٥٧٦

وعرف النفاثات ، لأن كل نفاثة شريرة ، وكل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر. ورب حسد محمود ، وهو الحسد في الخيرات ، ومنه : لا حسد إلا في اثنتين ، ومنه قول أبي تمام :

وما حاسد في المكرمات بحاسد

وقال آخر :

إن الغلا حسن في مثلها الحسد

وقول المنظور إليه للحاسد ، إذا نظر الخمس على عينيك يعني به هذه السورة ، لأنها خمس آيات ، وعين الحاسد في الغالب واقعة نعوذ بالله من شرها.

٥٧٧

سورة النّاس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

تقدّم أنها نزلت مع ما قبلها. والخلاف أهي مدنية أم مكية؟ وأضيف الرب إلى الناس ، لأن الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم ، استعاذوا بربهم مالكهم وإلههم ، كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر. والظاهر أن (مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) صفتان. وقال الزمخشري : هما عطفا بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس ، ثم زيد بيانا بإله الناس لأنه قد يقال لغيره : رب الناس ، كقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١). وقد يقال : ملك الناس ، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان ، انتهى. وعطف البيان المشهور أنه يكون بالجوامد ، وظاهر قوله أنهما عطفا بيان لواحد ، ولا أنقل عن النحاة شيئا في عطف البيان ، هل يجوز أن يتكرر لمعطوف عليه واحد أم لا يجوز؟.

وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة؟ قلت : لأن عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار ، انتهى.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣١.

٥٧٨

والوسواس ، قالوا : اسم من أسماء الشيطان؟ والوسواس أيضا : ما يوسوس به شهوات النفس ، وهو الهوى المنهي عنه. والخناس : الراجع على عقبه ، المستتر أحيانا ، وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد الله تعالى تأخر. وأما الشهوات فتخنس بالإيمان وبلمة الملك وبالحياء ، فهذان المعنيان يندرجان في الوسواس ، ويكون معنى (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) : من الشياطين ونفوس الناس ، أو يكون الوسواس أريد به الشيطان ، والمغري : المزين من قرناء السوء ، فيكون (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، تبيينا لذلك الوسواس. قال تعالى : (عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (١). وقال قتادة : إن من الإنس شياطين ، ومن الجن شياطين ، فنعوذ بالله منهم. وقال أبو ذر لرجل : هل تعوذت من شياطين الإنس؟

وقال الزمخشري : (الْوَسْواسِ) اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ؛ وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال ، والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه ؛ أو أريد ذو الوسواس. وقد تكلمنا معه في دعواه أن الزلزال بالفتح اسم وبالكسر مصدر في (إِذا زُلْزِلَتِ) (٢) ، ويجوز في الذي الجر على الصفة ، والرفع والنصب على الشتم ، ومن في (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) للتبعيض ، أي كائنا من الجنة والناس ، فهي في موضع الحال أي ذلك الموسوس هو بعض الجنة وبعض الناس. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من متعلقا بيوسوس ، ومعناه ابتداء الغاية ، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنة ومن جهة الناس ، انتهى.

ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة ، أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب والملك والإله ، وإن اتحد المطلوب ، وفي الاستعاذة من ثلاث : الغاسق والنفاثات والحاسد بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا آوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ : قل هو الله أحد والمعوذتين ، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثا ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ومجد وكرّم ، وعلى آله وصحبه ذوي الكرم وسلم تسليما كثيرا.

تم والحمد لله رب العالمين

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١١٢.

(٢) سورة الزلزلة : ٩٩ / ١.

٥٧٩
٥٨٠