البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

اللفظ عاما ، لأن الله سبحانه وتعالى تابع في أوصافه والخبر عنه حتى فهم أنه يشير إلى شخص بعينه ، وكذلك قوله في سورة ن : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (١). تابع في الصفات حتى علم أنه يريد إنسانا بعينه. وتقدم الكلام في الهمزة في سورة ن ، وفي اللمز في سورة براءة ، وفعله من أبنية المبالغة ، كنومة وعيبة وسحرة وضحكة ، وقال زياد الأعجم :

تدلى بودّي إذا لاقيتني كذبا

وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه

وقرأ الجمهور : بفتح الميم فيهما ؛ والباقون : بسكونها ، وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك منه ، ويشتم ويهمز ويلمز. (الَّذِي) : بدل ، أو نصب على الذم. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والأخوان : جمع مشدد الميم ؛ وباقي السبعة : بالتخفيف ، والجمهور : (وَعَدَّدَهُ) بشد الدال الأولى : أي أحصاه وحافظ عليه. وقيل : جعله عدة لطوارق الدهر ؛ والحسن والكلبي : بتخفيفهما ، أي جمع المال وضبط عدده. وقيل : وعددا من عشيرته. وقيل : وعدده على ترك الإدغام ، كقوله :

إني أجود لأقوام وإن ضننوا

(أَخْلَدَهُ) : أي أبقاه حيا ، إذ به قوام حياته وحفظه مدّة عمره. قال الزمخشري : أي طوّل المال أمله ومناه الأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالدا في الدنيا لا يموت. قيل : وكان للأخنس أربعة آلاف دينار. وقيل : عشرة آلاف دينار. (كَلَّا) ردع له عن حسبانه. وقرأ الجمهور : (لَيُنْبَذَنَ) فيه ضمير الواحد ؛ وعليّ والحسن : بخلاف عنه ؛ وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو : لينبذان ، بألف ضمير اثنين : الهمزة وماله. وعن الحسن أيضا : لينبذن بضم الذال ، أي هو وأنصاره. وعن أبي عمرو : لينبذنه. وقرأ الجمهور : (فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) ؛ وزيد بن عليّ : في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة ، وهي النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. قال الضحاك : الحطمة : الدرك الرابع من النار. وقال الكلبي : الطبقة السادسة من جهنم ؛ وحكى عنه القشيري أنها الدركة الثانية ؛ وعنه أيضا : الباب الثاني. وقال الواحدي : باب من أبواب جهنم ، انتهى.

و (نارُ اللهِ) : أي هي ، أي الحطمة. (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) : ذكرت الأفئدة لأنها ألطف ما في البدن وأشدّه تألما بأدنى شيء من الأذى ؛ واطلاع النار عليها هو أنها تعلوها

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ١.

٥٤١

وتشتمل عليها ، وهي تعلو الكفار في جميع أبدانهم ، لكن نبه على الأشرف لأنها مقر العقائد. وقرأ الأخوان وأبو بكر : في عمد بضمتين جمع عمود ؛ وهارون عن أبي عمرو : بضم العين وسكون الميم ؛ وباقي السبعة : بفتحها ، وهو اسم جمع ، الواحد عمود. وقال الفرّاء : جمع عمود ، كما قالوا : أديم وأدم. وقال أبو عبيدة : جمع عماد. قال ابن زيد : في عمد حديد مغلولين بها. وقال أبو صالح : هذه النار هي قبورهم ، والظاهر أنها نار الآخرة ، إذ يئسوا من الخروج بإطباق الأبواب عليهم وتمدد العمد ، كل ذلك إيذانا بالخلود إلى غير نهاية. وقال قتادة : كنا نحدّث أنها عمد يعذبون بها في النار. وقال أبو صالح : هي القيود ، والله تعالى أعلم.

٥٤٢

سورة الفيل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)

الفيل أكبر ما رأيناه من وحوش البر يجلب إلى ملك مصر ، ولم تره بالأندلس بلادنا ، ويجمع في القلة على أفيال ، وفي الكثرة على فيول وفيلة. الأبابيل : الجماعات تجيء شيئا بعد شيء. قال الشاعر :

كادت تهد من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

وقال الأعشى :

طريق وخبار رواء أصوله

عليه أبابيل من الطير تنعب

قال أبو عبيدة والفراء : لا واحد له من لفظه ، فيكون مثل عبابيد وبيادير. وقيل : واحده أبول مثل عجول ، وقيل : إبيل مثل سكين ، وقيل : أبال ، وذكر الرقاشي ، وكان ثقة ، أنه سمع في واحده إبالة ؛ وحكى الفراء : أبالة مخففا.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة ، أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا. والظاهر أن الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يذكر نعمته عليه ، إذ كان صرف

٥٤٣

ذلك العدوّ العظيم عام مولده السعيد عليه‌السلام ، وإرهاصا بنبوّته ، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول ، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومعنى (أَلَمْ تَرَ) : ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك؟ إذ هو أمر منقول نقل التواتر ، فكأنه قيل : قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه ، ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل.

وقصة الفيل ذكرها أهل السير والتفسير مطولة ومختصرة ، وتطالع في كتبهم. وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده. والظاهر أنه فيل واحد ، وهو قول الأكثرين. وقال الضحاك : ثمانية فيلة ، وقيل : اثنا عشر فيلا ، وقيل : ألف فيل ، وهذه أقوال متكاذبة. وكان العسكر ستين ألفا ، لم يرجع أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريبا منها فيبرك ، ويوجهونه نحو اليمن والشام فيسرع. وقال الواقدي : أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ السلمي : ألم تر بسكون ، وهو جزم بعد جزم. ونقل عن صاحب اللوامح ترأ بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل ، وهي لغة لتيم ، وتر معلقة ، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به ؛ وكيف معمول لفعل. وفي خطابه تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَعَلَ رَبُّكَ) تشريف له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشادة من ذكره ، كأنه قال : ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش أساف ونائلة وغيرهما.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) وإبطال ، يقال : ضلل كيدهم ، إذا جعله ضالا ضائعا. وقيل لامرىء القيس الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أي ضيعه. وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه ، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيرا جاءت من جهة البحر ، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء. وقيل : خضراء على قدر الخطاف. وقرأ الجمهور : (تَرْمِيهِمْ) بالتاء ، والطير اسم جمع بهذه القراءة ، وقوله :

كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد

وتذكر كقراءة أبي حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحة في رواية عنه : يرميهم. وقيل : الضمير عائد على (رَبُّكَ). (بِحِجارَةٍ) ؛ كان كل طائر في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص ، مكتوب في كل حجر اسم مرميه ، ينزل على رأسه ويخرج من دبره. ومرض أبرهة ، فتقطع أنملة أنملة ، وما مات حتى

٥٤٤

انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت أبو مكسوم وزيره ، وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي وأخبره بما جرى للقوم ، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك. وتقدم شرح سجيل في سورة هود ، والعصف في سورة الرحمن. شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل ، أي وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود والتبن الذي أكلته الدواب وراثته. وجاء على آداب القرآن نحو قوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) (١) ، أو الذي أكل حبه فبقي فارغا ، فنسبه أنه أكل مجاز ، إذ المأكول حبه لا هو. وقرأ الجمهور : (مَأْكُولٍ) : بسكون الهمزة وهو الأصل ، لأن صيغة مفعول من فعل. وقرأ أبو الدرداء ، فيما نقل ابن خالويه : بفتح الهمزة اتباعا لحركة الميم وهو شاذ ، وهذا كما اتبعوه في قولهم : محموم بفتح الحاء لحركة الميم. قال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن مكة ، عظمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم ، فكان ذلك نعمة من الله تعالى عليهم. وقيل : هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٧٥.

٥٤٥

سورة قريش

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)

قريش : علم اسم قبيلة ، وهم بنو النضر بن كنانة ، فمن كان من بني النضر فهو من قريش دون بني كنانة. وقيل : هم بنو فهر بن مالك بن النضر ، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي. قال القرطبي : والقول الأول أصح وأثبت ، وسموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق ، والتقريش : التجمع والالئتام ، ومنه قول الشاعر :

إخوة قرشوا الذنوب علينا

في حديث من دهرهم وقديم

كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكنا ، ومنه قوله :

أبونا قصي كان يدعى مجمعا

به جمع الله القبائل من فهر

وقال الفراء : التقرش : التكسب ، وقد قرش يقرش قرشا ، إذا كسب وجمع ، ومنه سميت قريش. وقيل : كانوا يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها ، والقرش : التفتيش ، ومنه قول الشاعر :

أيها الناطق المقرش عنا

عند عمرو وهل لذاك بقاء

وسأل معاوية ابن عباس : بم سميت قريش قريشا؟ فقال : بدابة في البحر أقوى دوابه يقال لها القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، ومنه قول تبع :

٥٤٦

وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حيّ قريش

يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي

يكثر القتل فيهم والخموشا

وفي الكشاف : دابة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار. فإن كان قريش من مزيد فيه فهو تصغير ترخيم ، وإن كان من ثلاثي مجرد فهو تصغير على أصل التصغير. الشتاء والصيف فصلان معروفان من فصول السنة الأربعة ، وهمزة الشتاء مبدلة من واو ، قالوا : شتا يشتو ، وقالوا : شتوة ، والشتاء مفرد وليس بجمع شتوة.

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول الضحاك وابن السائب. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، ولا سيما أن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم ، وهو قول الأخفش ، أو بإضمار فعلنا ذلك لإيلاف قريش ، وهو مروي عن الأخفش حتى تطمئن في بلدها. فذكر ذلك للامتنان عليهم ، إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في البلاد والأقاليم ، ولم تجتمع لهم كلمة. قال الزمخشري : وهذا بمنزلة التضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبي سورة واحدة بلا فصل. وعن عمر : أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب ، وقرأ في الأوليين : والتين ، والمعنى أنه أهلك أهل الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك ، فيتهيبوهم زيادة تهيب ، ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم ، انتهى.

قال الحوفي : ورد هذا القول جماعة ، وقالوا : لو كان كذا لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر ؛ وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على غير ما قال ، يعني الأخفش والكسائي والفراء ، تتعلق بأعجبوا مضمرة ، أي اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله هو الذي أطعمهم وآمنهم لا آسفهم ، أي فليعبدوا الذي أطعمهم بدعوة أبيهم حيث قال : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) (١) ، وآمنهم بدعوته حيث قال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (٢) ، ولا تشتغلوا

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٥.

٥٤٧

بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض دنيا. وقال الخليل بن أحمد : تتعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) ، والمعنى لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة. (فَلْيَعْبُدُوا) : أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة. قال الزمخشري : فإن قلت : فلم دخلت الفاء؟ قلت : لما في الكلام من معنى الشرط ، لأن المعنى : إما لا فليعبدوا لإيلافهم على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه ، فليعبدوه لهذه النعمة الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، انتهى. وقرأ الجمهور : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، مصدر آلف رباعيا ؛ وابن عامر : لالاف على وزن فعال ، مصدر ألف ثلاثيا. يقال : ألف الرجل الأمر إلفا وإلافا ، وآلفه غيره إياه إيلافا ، وقد يأتي ألف متعديا لواحد كإلف ، قال الشاعر :

من المؤلفات الرمل أدماء حرة

شعاع الضحى في متنها يتوضح

ولم يختلف القراء السبعة في قراءة إيلافهم مصدرا للرباعي. وروي عن أبي بكر ، عن عاصم أنه قرأ بهمزتين ، فيهما الثانية ساكنة ، وهذا شاذ ، وإن كان الأصل أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين ، ولم يبدلوا في نحو يؤلف على جهة اللزوم لزوال الاستثقال بحذف الهمزة فيه ، وهذا المروي عن عاصم هو من طريق الشمني عن الأعشى عن أبي بكر. وروى محمد بن داود النقار عن عاصم : إإيلافهم بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبع كسرتها ، والصحيح رجوع عاصم عن الهمزة الثانية ، وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري : لإلف قريش ؛ وقرأ فيما حكى ابن عطية الفهم. قال الشاعر :

زعمتم أن إخوتكم قريشا

لهم إلف وليس لكم إلاف

جمع بين مصدري ألف الثلاثي. وعن أبي جعفر وابن عامر : الافهم على وزن فعال. وعن أبي جعفر وابن كثير : إلفهم على وزن فعل ، وبذلك قرأ عكرمة. وعن أبي جعفر أيضا : ليلاف بياء ساكنة بعد اللام اتبع ، لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفا على غير قياس. وعن عكرمة : ليألف قريش ؛ وعنه أيضا : لتألف قريش على الأمر ، وعنه وعن هلال بن فتيان : بفتح لام الأمر ، وأجمعوا هنا على صرف قريش ، راعوا فيه معنى الحي ، ويجوز منع صرفه ملحوظا فيه معنى القبيلة للتأنيث والعلمية. قال الشاعر : وكفى قريش المعضلات وسادها جعله اسما للقبيلة سيبويه في نحو معد وقريش وثقيف ، وكينونة هذه للإحياء أكثر ،

٥٤٨

وإن جعلتها اسما للقبائل فجائز حسن. وقرأ الجمهور : (رِحْلَةَ) بكسر الراء ؛ وأبو السمال : بضمها ، فبالكسر مصدر ، وبالضم الجهة التي يرحل إليها ، والجمهور على أنهما رحلتان. فقيل : إلى الشام في التجارة ونيل الأرباح ، ومنه قول الشاعر :

سفرين بينهما له ولغيره

سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقال ابن عباس : رحلة إلى اليمن ، ورحلة إلى بصرى. وقال : يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم.

وقال الزمخشري : وأراد رحلتي الشتاء والصيف ، فأفرد لأمن الإلباس ، كقوله :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

انتهى ، وهذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة ، ومثله :

حمامة بطن الواديين ترنمي

يريد : بطني الواديين ، أنشده أصحابنا على الضرورة. وقال النقاش : كانت لهم أربع رحل. قال ابن عطية : وهذا قول مردود. انتهى ، ولا ينبغي أن يرد ، فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم : بنو عبد مناف هاشم ، كان يؤلف ملك الشام ، أخذ منه خيلا ، فأمن به في تجارته إلى الشام ، وعبد شمس يؤلف إلى الحبشة ؛ والمطلب إلى اليمن ؛ ونوفل إلى فارس. فكان هؤلاء يسمون المجيرين ، فتختلف تجر قريش إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم. قال الأزهري : الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة ، فإذا كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع ، باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجار في خفارة هؤلاء الأربعة فيها ، وفيهم يقول الشاعر يمدحهم :

يا أيها الرجل المحول رحله

هلا نزلت بآل عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها

والراحلون لرحلة الإيلاف

والرائشون وليس يوجد رائش

والقائلون هلمّ للأضياف

والخالطون غنيهم لفقيرهم

حتى يصير فقيرهم كالكاف

فتكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد ولأكثر ، وإيلافهم بدل من (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، أطلق المبدل منه وقيد البدل بالمفعول به ، وهو رحلة ، أي لأن ألفوا رحلة تفخيما لأمر الإيلاف وتذكيرا بعظيم النعمة فيه. (هذَا الْبَيْتِ) : هو الكعبة ، وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها ، ومن هنا للتعليل ، أي لأجل الجوع. كانوا قطانا ببلد

٥٤٩

غير ذي زرع عرضة للجوع والخوف لولا لطف الله تعالى بهم ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه‌السلام. قال تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١). (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) : فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا ، فيقال : هؤلاء قطان بيت الله ، فلا يتعرض إليهم أحد ، وغيرهم خائفون. وقال ابن عباس والضحاك : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) : معناه من الجذام ، فلا ترى بمكة مجذوما. قال الزمخشري : والتنكير في جوع وخوف لشدتهما ، يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم ، وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم. وقرأ الجمهور : (مِنْ خَوْفٍ) ، بإظهار النون عند الخاء ، والمسيبي عن نافع : بإخفائها ، وكذلك مع العين ، نحو من على ، وهي لغة حكاها سيبويه. وقال ابن الأسلت يخاطب قريشا :

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا

بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء ومصدق

غداة أبي مكسوم هادي الكتائب

كثيبة بالسهل تمشي ورحلة

على العادقات في رؤوس المناقب

فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم

جنود المليك بين ساق وحاجب

فولوا سراعا هاربين ولم يؤب

إلى أهله ملجيش غير عصائب

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥٧.

٥٥٠

سورة الماعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)

سها عن كذا يسهو سهوا : لها عنه وتركه عن غفلة. الماعون : فاعول من المعن ، وهو الشيء القليل. تقول العرب : ما له معن ، أي شيء قليل ، وقاله قطرب. وقيل : أصله معونة والألف عوض من الهاء ، فوزنه مفعل في الأصل على مكرم ، فتكون الميم زائدة ، ووزنه بعد زيادة الألف عوضا ما فعل. وقيل : هو اسم مفعول من أعان يعين ، جاء على زنة مفعول ، قلب فصارت عينه مكان الفاء فصار موعون ، ثم قلبت الواو ألفا ، كما قالوا في بوب باب فصار ماعون ، فوزنه على هذا مفعول. وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد : الماعون في الجاهلية : كل ما فيه منفعة حتى الفاس والدلو والقدر والقداحة ، وكل ما فيه منفعة من قليل أو كثير ، وأنشدوا بيت الأعشى :

بأجود منه بماعونه

إذا ما سماءهم لم تغم

وقالوا : المراد به في الإسلام الطاعة ، وتأتي أقوال أهل التفسير فيه إن شاء الله تعالى عزوجل.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ، فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ

٥٥١

الْمِسْكِينِ ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ، الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ).

هذه السورة مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول ابن عباس وقتادة. قال هبة الله المفسر الضرير : نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ، ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق. ولما عدد تعالى نعمه على قريش ، وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، اتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه. ونزلت في أبي جهل ، أو الوليد بن المغيرة ، أو العاصي بن وائل ، أو عمر بن عائذ ، أو رجلين من المنافقين ، أو أبي سفيان بن حرب ، كان ينحر في كل أسبوع جزورا ، فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصا ، أقوال آخرها لابن جريج.

والظاهر أن (أَرَأَيْتَ) هي التي بمعنى أخبرني ، فتتعدى لاثنين ، أحدهما الذي ، والآخر محذوف ، فقدره الحوفي : أليس مستحقا عذاب الله ، وقدره الزمخشري : من هو ، ويدل على أنها بمعنى أخبرني. قراءة عبد الله أرأيتك بكاف الخطاب ، لأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية. قال الحوفي : ويجوز أن تكون من رؤية البصر ، فلا يكون في الكلام حذف ، وهمزة الاستفهام تدل على التقرير والتفهيم ليتذكر السامع من يعرفه بهذه الصفة. والدين : الجزاء بالثواب والعقاب. وقال الزمخشري : والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء؟ هو الذي (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) : أي يدفعه دفعا عنيفا بجفوة أو أذى ، (وَلا يَحُضُ) : أي ولا يبعث أهله على بذل الطعام للمسكين. جعل علم التكذيب بالجزاء ، منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف ، انتهى. وقرأ الجمهور : (يَدُعُ) بضم الدال وشد العين ؛ وعليّ والحسن وأبو رجاء واليماني : بفتح الدال وخف العين ، أي يتركه بمعنى لا يحسن إليه ويجفوه. وقرأ الجمهور : (وَلا يَحُضُ) مضارع حض ؛ وزيد بن علي : يحاض مضارع حاضضت. وقال ابن عباس : (بِالدِّينِ) : بحكم الله. وقال مجاهد : بالحساب ، وقيل : بالجزاء ، وقيل : بالقرآن. وقال إبراهيم ابن عرفة : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) : يدفعه عن حقه. وقال مجاهد : يدفعه عن حقه ولا يطعمه ، وفي قوله : (وَلا يَحُضُ) إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدر ، وهذا من باب الأولى ، لأنه إذا لم يحض غيره بخلا ، فلان يترك هو ذلك فعلا أولى وأحرى ، وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه يستحقه.

ولما ذكر أولا عمود الكفر ، وهو التكذيب بالدين ، ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق ، وهو عبادته بالصلاة ، فقال : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ). والظاهر أن المصلين هم غير

٥٥٢

المذكور. وقيل : هو داع اليتيم غير الحاض ، وأن كلا من الأوصاف الذميمة ناشىء عن التكذيب بالدين ، فالمصلون هنا ، والله أعلم ، هم المنافقون ، أثبت لهم الصلاة ، وهي الهيئات التي يفعلونها. ثم قال : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، نظرا إلى أنهم لا يوقعونها ، كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى. وفي الحديث عن صلاتهم ساهون : «يؤخرونها عن وقتها تهاونا بها». قال مجاهد : تأخير ترك وإهمال. وقال إبراهيم : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا ملتفتا. وقال قتادة : هو الترك لها ، أو هم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم أصلى أم لم يصل. وقال قطرب : هو الذي لا يقر ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس : المنافقون يتركون الصلاة سرا ويفعلونها علانية ، (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) (١) الآية ، ويدل على أنها في المنافقين قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) ، وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم لكانت في المؤمنين. وقال عطاء : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ولم يقل في صلاتهم.

وقال الزمخشري : بعد أن قدم فيما نقلناه من كلامه ما يدل على أن (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُ) في موضع رفع ، قال : وطريقة أخرى أن يكون (فَذلِكَ) عطفا على (الَّذِي يُكَذِّبُ) ، إما عطف ذات على ذات ، أو عطف صفة على صفة ، ويكون جواب (أَرَأَيْتَ) محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قال : أخبرني وما تقول فيمن يكذب بالجزاء ، وفيمن يؤذي اليتيم ولا يطعم المسكين ، أنعم ما يصنع؟ ثم قال : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) : أي إذا علم أنه مسيء ، (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم لأنهم كانوا مع التكذيب ، وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم. فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائما مقام ضمير (الَّذِي يُكَذِّبُ) ، وهو واحد؟ قلت : معناه الجمع ، لأن المراد به الجنس ، انتهى. فجعل فذلك في موضع نصب عطفا على المفعول ، وهو تركيب غريب ، كقولك : أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا ، فالمتبادر إلى الذهن أن فذلك مرفوع بالابتداء ، وعلى تقدير النصب يكون التقدير : أكرمت الذي يزورنا فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا. فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكن تمكن ما هو فصيح ، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى الذي يزورنا ، بل الفصيح أكرمت الذي يزورنا فالذي يحسن إلينا ، أو أكرمت الذي يزورنا فيحسن إلينا. وأما قوله : إما عطف ذات

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٢.

٥٥٣

على ذات فلا يصح ، لأن فذلك إشارة إلى الذي يكذب ، فليسا بذاتين ، لأن المشار إليه بقوله : (فَذلِكَ) هو واحد. وأما قوله : ويكون جواب (أَرَأَيْتَ) محذوفا ، فلا يسمى جوابا ، بل هو في موضع المفعول الثاني لأرأيت. وأما قوله : أنعم ما يصنع ، فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على نعم ولا بئس ، لأنهما إنشاء ، والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر. وأما وضعه المصلين موضع الضمير ، وأن المصلين جمع ، لأن ضمير الذي يكذب معناه الجمع ، فتكلف واضح ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلا على ما اقتضاه ظاهر التركيب ، وهكذا عادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة. وتقدّم الكلام في الرياء في سورة البقرة.

وقرأ الجمهور : يراءون مضارع راأى ، على وزن فاعل ؛ وابن أبي إسحاق والأشهب : مهموزة مقصورة مشدّدة الهمزة ؛ وعن ابن أبي إسحاق : بغير شد في الهمزة. فتوجيه الأولى إلى أنه ضعف الهمزة تعدية ، كما عدوا بالهمزة فقالوا في رأى : أرى ، فقالوا : راأى ، فجاء المضارع بأرى كيصلى ، وجاء الجمع يروّون كيصلون ، وتوجيه الثانية أنه استثقل التضعيف في الهمزة فخففها ، أو حذف الألف من يراءون حذفا لا لسبب. (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) ، قال ابن المسيب وابن شهاب : الماعون ، بلغة قريش : المال. وقال الفرّاء عن بعض العرب : الماعون : الماء. وقال ابن مسعود وابن عباس وابن الحنفية والحسن والضحاك وابن زيد : ما يتعاطاه الناس بينهم ، كالفأس والدلو والآنية. وفي الحديث : «سئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشيء الذي لا يحل منعه فقال : الماء والملح والنار». وفي بعض الطرق : الإبرة والخمير. وقال عليّ وابن عمر وابن عباس أيضا : الماعون : الزكاة ، ومنه قول الراعي :

أخليفة الرحمن إنا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

عرب نرى لله من أموالنا

حق الزكاة منزلا تنزيلا

قوم على الإسلام لما يمنعوا

ماعونهم ويضيعوا التهليلا

يعني بالماعون : الزكاة ، وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن ، وهو الشيء القليل ، فسميت الزكاة ماعونا لأنها قليل من كثير ، وكذلك الصدقة غيرها. وقال ابن عباس : هو العارية. وقال محمد بن كعب والكلبي : هو المعروف كله. وقال عبد الله بن عمر : منع الحق. وقيل : الماء والكلأ.

٥٥٤

سورة الكوثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)

انحر : أمر من النحر ، وهو ضرب النحر للإبل بما يفيت الروح من محدود. الأبتر : الذي لا عقب له ، والبتر : القطع ، بترت الشيء : قطعته ، وبتر بالكسر فهو أبتر : انقطع ذنبه. وخطب زياد خطبته البتراء ، لأنه لم يحمد فيها الله تعالى ، ولا صلى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجل أباتر ، بضم الهمزة : الذي يقطع رحمه ، ومنه قول الشاعر :

لئيم بدت في أنفه خنزوانة

على قطع ذي القربى أجذ أباتر

والبترية : قوم من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد ولقبه الأبتر ، والله تعالى أعلم.

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

هذه السورة مكية في المشهور ، وقول الجمهور : مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة. ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة ، قابل في هذه السورة البخل ب (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، والسهو في الصلاة بقوله : (فَصَلِ) ، والرياء بقوله : (لِرَبِّكَ) ، ومنع الزكاة بقوله : (وَانْحَرْ) ، أراد به التصدّق بلحم الأضاحي ، فقابل أربعا بأربع. ونزلت في العاصي بن وائل ، كان يسمي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأبتر ، وكان يقول : دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه.

وقرأ الجمهور : (أَعْطَيْناكَ) بالعين ؛ والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني :

٥٥٥

أنطيناك بالنون ، وهي قراءة مروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال التبريزي : هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش. ومن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليد العلياء المنطية واليد السفلى المنطاة». ومن كلامه أيضا ، عليه الصلاة والسلام : «وأنطوا النيحة». وقال الأعشى :

جيادك خير جياد الملوك

تصان الحلال وتنطى السعيرا

قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبرزي : أبدل من العين نونا ؛ فإن عنيا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن ، وإن عنيا البدل الصناعي فليس كذلك ، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرّف من كل واحدة ، فلا يقول الأصل العين ، ثم أبدلت النون منها.

وذكر في التحرير : في الكوثر ستة وعشرين قولا ، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، ترتبه أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج». قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم ، واقتطعنا منه ، قال : «أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم» انتهى. قال ذلك عليه الصلاة والسلام عند ما نزلت هذه السورة وقرأها.

وقال ابن عباس : الكوثر : الخير الكثير. وقيل لابن جبير : إن ناسا يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير. وقال الحسن : الكوثر : القرآن. وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب : كثرة الأصحاب والأتباع. وقال هلال بن يساف : هو التوحيد. وقال جعفر الصادق : نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه. وقال عكرمة : النبوّة. وقال الحسن بن الفضل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقال ابن كيسان : الإيثار. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل ، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها. والكوثر فوعل من الكثرة ، وهو المفرط الكثرة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر. وقال الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : الظاهر أن فصل أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل. والنحر : نحر الهدي والنسك والضحايا ، قاله الجمهور ؛ ولم يكن في ذلك الوقت جهاد فأمر

٥٥٦

بهذين. قال أنس : كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقاله قتادة. وقال ابن جبير : نزلت وقت صلح الحديبية. قيل له : صل وانحر الهدي ، فعلى هذا الآية من المدني. وفي قوله : (لِرَبِّكَ) ، تنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية ، ونحرهم للأصنام. وعن علي ، رضي الله تعالى عنه : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة. وقيل : ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك. وعن عطية وعكرمة : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر بمنى. وقال الضحاك : استو بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحرك. وقال أبو الأحوص : استقبل القبلة بنحرك.

(إِنَّ شانِئَكَ) : أي مبغضك ، تقدم أنه العاصي بن وائل. وقيل : أبو جهل. وقال ابن عباس : لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). وقال شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط. وقال قتادة : الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل. وقرأ الجمهور : (شانِئَكَ) بالألف ؛ وابن عباس : شينك بغير ألف. فقيل : مقصور من شاني ، كما قالوا : برر وبر في بارر وبار. ويجوز أن يكون بناء على فعل ، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال ؛ وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين. وقد قالوا : حذر أمورا ومزقون عرضي ، فلا يستوحش من كونه مضافا للمفعول ، وهو مبتدأ ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلا ، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به ، لا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فجميع المؤمنين أولاده ، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر ، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر. يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وشرف وكرم.

٥٥٧

سورة الكافرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

هذه مكية في قول الجمهور. وروي عن قتادة أنها مدنية. وذكروا من أسباب نزولها أنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام : دع ما أنت فيه ونحن نموّلك ونزوجك من شئت من كرائمنا ، ونملكك علينا ؛ وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا ونحن نعبد إلهك حتى نشترك ، فحيث كان الخير نلناه جميعا. ولما كان أكثر شانئه قريشا ، وطلبوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة ، أنزل الله تعالى هذه السورة تبريا منهم وإخبارا لا شك فيه أن ذلك لا يكون. وفي قوله : (قُلْ) دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله ، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم ، ومكان بسطة أيديهم مع ما في هذا الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم. والكافرون ناس مخصوصون ، وهم الذين قالوا له تلك المقالة : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، وأبو جهل ، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم ، ووافى على الكفر تصديقا للإخبار في قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). وللمفسرين في هذه الجمل أقوال :

٥٥٨

أحدها : أنها للتوكيد. فقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) توكيد لقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ، وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ثانيا تأكيد لقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أولا. والتوكيد في لسان العرب كثير جدا ، وحكوا من ذلك نظما ونثرا ما لا يكاد يحصر. وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار ، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبدا.

والثاني : أنه ليس للتوكيد ، واختلفوا. فقال الأخفش : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ، فزال التوكيد ، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير.

وقال أبو مسلم : ما في الأوليين بمعنى الذي ، والمقصود المعبود. وما في الأخريين مصدرية ، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين. وقال ابن عطية : لما كان قوله : (لا أَعْبُدُ) محتملا أن يراد به الآن ، ويبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه ، جاء البيان بقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أبدا وما حييت. ثم جاء قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدا ، كالذي كشف الغيب. فهذا كما قيل لنوح عليه‌السلام : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (١). أما أن هذا في معينين ، وقوم نوح عموا بذلك ، فهذا معنى الترديد الذي في السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته ، انتهى.

وقال الزمخشري : (لا أَعْبُدُ) ، أريدت به العبادة فيما يستقبل ، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال ، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : أي وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام؟ (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. فإن قلت : فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث ، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت ، انتهى. أما حصره في قوله : لأن لا لا تدخل ، وفي قوله : ما لا تدخل ،

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣٦.

٥٥٩

فليس بصحيح ، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم. وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال ، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو ؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال : وتكون لا نفيا لقوله يفعل ولم يقع الفعل. وقال : وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل ، فذكر الغالب فيهما.

وأما قوله : في قوله (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : أي وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن عابدا اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال ؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضيا.

وأما قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ، فعابدون قد أعمله فيما أعبد ، فلا يفسر بالماضي. وأما قوله ، وهو لم يكن إلى آخره ، فسوء أدب منه على منصب النبوة ، وهو أيضا غير صحيح ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل موحدا لله عزوجل منزها له عن كل ما لا يليق بجلاله ، مجتنبا لأصنامهم بحج بيت الله ، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهذه عبادة لله تعالى ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم! والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١). قال المفسرون : معناه ليعرفون. فسمى الله تعالى المعرفة به عباده.

والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولا : نفى عبادته في المستقبل ، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل ، قيل : ثم عطف عليه (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفيا للمستقبل على سبيل المقابلة ؛ ثم قال : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) نفيا للحال ، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال ؛ ثم عطف عليه (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفيا للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعبد ما يعبدون ، لا حالا ولا مستقبلا ، وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر. ولما قال : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ، فأطلق ما على الأصنام ، قابل الكلام بما في قوله : (ما أَعْبُدُ) ، وإن كانت يراد بها الله تعالى ، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد ، وهذا على مذهب من يقول : إن ما لا تقع على

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.

٥٦٠