البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

سورة الزّلزلة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)

الذرّة : النملة صغيرة حمراء رقيقة ، ويقال : إنها أصغر ما تكون إذا مضى لها حول. وقال امرؤ القيس :

ومن القاصرات الطرف لودب محول

من الذّر فوق الأتب منها لأثرا

وقيل : الذّر : ما يرى في شعاع الشمس من الهباء.

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها ، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

هذه السورة مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء ، مدنية في قول قتادة ومقاتل ، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة. ولما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار ، وجزاء المؤمنين ، فكأن قائلا قال : متى ذلك؟ فقال : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها). قيل : والعامل فيها مضمر ، يدل عليه مضمون الجمل الآتية تقديره : تحشرون. وقيل : اذكر. وقال الزمخشري : تحدث ، انتهى. وأضيف الزلزال إلى الأرض ، إذ المعنى زلزالها

٥٢١

الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمها ، ولو لم يضف لصدق على كل قدر من الزلزال وإن قل ؛ والفرق بين أكرمت زيدا كرامة وكرامته واضح. وقرأ الجمهور : (زِلْزالَها) بكسر الزاي ؛ والجحدري وعيسى : بفتحها. قال ابن عطية : وهو مصدر كالوسواس. وقال الزمخشري : المكسور مصدر ، والمفتوح اسم ، وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف ، انتهى. أما قوله : والمفتوح اسم ، فجعله غيره مصدرا جاء على فعلال بالفتح. ثم قيل : قد يجيء بمعنى اسم الفاعل ، فتقول : فضفاض في معنى مفضفض ، وصلصال : في معنى مصلصل. وأما قوله : وليس في الأبنية إلخ ؛ فقد وجد فيها فعلال بالفتح من غير المضاعف ، قالوا : ناقة بها خزعان بفتح الخاء وليس بمضاعف.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) : جعل ما في بطنها أثقالا. وقال النقاش والزجاج والقاضي منذر بن سعيد : أثقالها : كنوزها وموتاها. ورد بأن الكنوز إنما تخرج وقت الدجال ، لا يوم القيامة ، وقائل ذلك يقول : هو الزلزال يكون في الدنيا ، وهو من أشراط الساعة ، وزلزال : يوم القيامة ، كقوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (١) ، فلا يرد عليه بذلك ، إذ قد أخذ الزلزال عاما باعتبار وقتيه. ففي الأول أخرجت كنوزها ، وفي الثاني أخرجت موتاها ، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها. وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله تلقى الأرض افلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة. وقال ابن عباس : موتاها ، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية ، فهو زلزال يوم القيامة ، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) : يعني معنى التعجب لما يرى من الهول ، والظاهر عموم الإنسان. وقيل : ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة ، والمؤمن ، وإن كان مؤمنا بالبعث ، فإنه استهول المرأى. وفي الحديث : «ليس الخبر كالعيان». قال الجمهور : الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن. (يَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث ، ويومئذ بدل من إذا ، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه ، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل. (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) : الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكا ، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد ، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما. ويشهد له ما جاء في الحديث : «بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة» ، وما جاء في الترمذي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ هذه الآية ثم قال : «أتدرون ما

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ٦ ـ ٧.

٥٢٢

أخبارها»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : «إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا ، قال فهذه أخبارها». هذا حديث حسن صحيح غريب.

قال الطبري : وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان ، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال ، فيعلم لم زلزلت ، ولم لفظت الأموات ، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه. وقال يحيى بن سلام : تحدث بما أخرجت من أثقالها ، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة. وفي سنن ابن ماجه حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة : يا رب هذا ما استودعتني». وعن ابن مسعود : تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها ، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك جوابا لهم عند سؤالهم. وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين ، والأول محذوف ، أي تحدث الناس ، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) : أي بسبب إيحاء الله ، فالباء متعلقة بتحدث. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بأخبارها ، كما تقول : نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين. انتهى ، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه. وقال أيضا : ويجوز أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ) بدلا من (أَخْبارَها) ، كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها ، لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا ، انتهى.

وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر ، وتارة يتعدى بنفسه ، وحرف الجر ليس بزائد ، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب. فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم ، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب ، ولا اخترت زيدا الرجال الكرام ، بنصب الرجال وخفض الكرام. وكذلك لا يجوز أن تقول : استغفرت من الذنب العظيم ، بجر الذنب ونصب العظيم ، وكذلك في اخترت. فلو كان حرف الجر زائدا ، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو ، تقول : ما رأيت من رجل عاقلا ، لأن من زائدة ، ومن رجل عاقل على اللفظ. ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من ، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر. وعدى أوحى باللام لا بإلى ، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل. قال العجاج يصف الأرض :

٥٢٣

أوحى لها القرار فاستقرت

وشدها بالراسيات الثبت

فعداها باللام. وقيل : الموحى إليه محذوف ، أي أوحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال. واللام في لها للسبب ، أي من أجلها ومن حيث الأفعال فيها. وإذا كان الإيحاء إليها ، احتمل أن يكون وحي إلهام ، واحتمل أن يكون برسول من الملائكة. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) : انتصب يومئذ بيصدر ، والصدر يكون عن ورد. وقال الجمهور : هو كونهم في الأرض مدفونين ، والصدر قيامهم للبعث ، و (أَشْتاتاً) : جمع شت ، أي فرقا مؤمن وكافر وعاص سائرون إلى العرض ، (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ). وقال النقاش : الصدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ، ووردهم هو ورد المحشر. فعلى الأول المعنى : ليرى عمله ويقف عليه ، وعلى قول النقاش : ليرى جزاء عمله وهو الجنة والنار. والظاهر تعلق (لِيُرَوْا) بقوله (يَصْدُرُ). وقيل : بأوحى لها وما بينهما اعتراض. وقال ابن عباس : أشتاتا : متفرقين على قدر أعمالهم ، أهل الأيمان على حدة ، وأهل كل دين على حدة. وقال الزمخشري : أشتاتا : بيض الوجوه آمنين ، وسود الوجوه فزعين ، انتهى. ويحتمل أن يكون أشتاتا ، أي كل واحد وحده ، لا ناصر له ولا عاضد ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) (١).

وقرأ الجمهور : (لِيُرَوْا) بضم الياء ؛ والحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية : بفتحها ، والظاهر تخصيص العامل ، أي (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً) من السعداء ، لأن الكافر لا يرى خيرا في الآخرة ، وتعميم (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا) من الفريقين ، لأنه تقسيم جاء بعد قوله : (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ). وقال ابن عباس : قال هذه الأعمال في الآخرة ، فيرى الخير كله من كان مؤمنا ، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا لأن خيره قد عجل له في دنياه ، والمؤمن تعجل له سيآته الصغائر في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها ، وما عمل من شر أو خير راه. ونبه بقوله : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) على أن ما فوق الذرة يراه قليلا كان أو كثيرا ، وهذا يسمى مفهوم الخطاب ، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد ، بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم ، كقوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢). والظاهر انتصاب خيرا وشرا على التمييز ، لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل : بدل من مثقال. وقرأ الجمهور : بفتح الياء

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٤.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٣.

٥٢٤

فيهما ، أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب. وقرأ الحسين بن علي وابن عباس وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي والكلبي وأبو حيوة وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه : بضمها ؛ وهشام وأبو بكر : بسكون الهاء فيهما ؛ وأبو عمرو : بضمهما مشبعتين ؛ وباقي السبعة : بإشباع الأولى وسكون الثانية ، والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه ، وحكاها الكسائي أيضا عن بني كلاب وبني عقيل ، وهذه الرؤية رؤية بصر. وقال النقاش : ليست برؤية بصر ، وإنما المعنى يصيبه ويناله. وقرأ عكرمة : يراه بالألف فيهما ، وذلك على لغة من يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة في حروف العلة ، حكاها الأخفش ؛ أو على توهم أن من موصولة لا شرطية ، كما قيل في أنه من يتقي ويصبر في قراءة من أثبت ياء يتقي وجزم يصبر ، توهم أن من شرطية لا موصولة ، فجزم ويصبر عطفا على التوهم ، والله تعالى أعلم.

٥٢٥

سورة العاديات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)

العاديات : الجاريات بسرعة ، وهو وصف ، ويأتي في التفسير الخلاف في الموصوف ، الضبح : تصويت جهير عند العدو الشديد ، ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح ، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح. وعن ابن عباس : ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب. قيل : ولا يصح عن ابن عباس ، لأن الإبل تضبح ، والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب والقوس ، كما استعملت العرب لها الضبح. أنشد أبو حنيفة في صفة قوس :

حنانة من نشم أو تألب

تضبح في الكف ضباح الثعلب

وقال أهل اللغة : أصله للثعلب ، فاستعير للخيل ، وهو من ضبحته النار : غيرت لونه ولم تبالغ فيه ، وانضبح لونه : تغير إلى السواد قليلا. وقال أبو عبيدة : الضبح والضبع بمعنى العدو الشديد ، وكذا قال المبرد : الضبح من إضباعها في السير. القدح : الصك ، وقيل : الاستخراج ، ومنه قدحت العين : أخرجت منها الفاسد ، والقداح والقداحة والمقدحة : ما تورى به النار. أغار على العدو : قصده لنهب أو قتل أو أسر. النقع : الغبار. قال الشاعر :

٥٢٦

يخرجن من مستطار النقع دامية

كأن آذانها أطراق أقلام

وقال ابن رواحة :

عدمت بنيتي إن لم تروها

تثير النقع من كنفي كداء

وقال أبو عبيدة : النقع : رفع الصوت ، ومنه قول لبيد :

فمتى ينقع صراخ صادق

تحلبوها ذات حرس وزجل

الكنود : الكفور للنعمة ، قال الشاعر :

كنود لنعماء الرجال ومن يكن

كنودا لنعماء الرجال يبعد

وعن ابن عباس : الكنود ، بلسان كندة وحضر موت : العاصي ؛ وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ؛ وبلسان كنانة : البخيل السيّء الملكة ، وقاله مقاتل. وقال الكلبي مثله إلا أنه قال : وبلسان بني مالك : البخيل ، ولم يذكر وحضر موت ، ويقال : كند النعمة كنودا. وقال أبو زبيد في البخيل :

إن تفتني فلم أطب عنك نفسا

غير أني أمني بدهر كنود

حصل الشيء : جمعه ، وقيل : ميزه من غيره ، ومنه قيل للمنحل : المحصل ، وحصل الشيء : ظهر واستبان.

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ).

هذه السورة مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء ، مدنية في قول ابن عباس وأنس وقتادة. لما ذكر فيما قبلها ما يقتضي تهديدا ووعيدا بيوم القيامة ، بتعنيف لمن لا يستعد لذلك اليوم ، ومن آثر أمر دنياه على أمر آخرته. والجمهور من أهل التفسير واللغة على أن العاديات هنا الخيل ، تعدو في سبيل الله وتضبح حالة عدوها ، وقال عنترة :

والخيل تكدح حين تضبح

في حياض الموت ضبحا

وقال أبو عبد الله وعلي وإبراهيم والسدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير : العاديات : الإبل. أقسم بها حين تعدو من عرفة ومن المزدلفة إذا دفع الحاج. وبأهل غزوة بدر لم يكن فيها غير فرسين ، فرس للزبير وفرس للمقداد ، وبهذا حج عليّ رضي‌الله‌عنه

٥٢٧

ابن عباس حين تماريا ، فرجع ابن عباس إلى قول علي رضي الله تعالى عنهما. وقالت صفية بنت عبد المطلب :

فلا والعاديات غداة جمع

بأيديها إذا سطع الغبار

وانتصب ضبحا على إضمار فعل ، أي يضبحن ضبحا ؛ أو على أنه في موضع الحال ، أي ضابحات ؛ أو على المصدر على قول أبي عبيدة أن معناه العدو الشديد ، فهو منصوب بالعاديات. وقال الزمخشري : أو بالعاديات كأنه قيل : والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو ، انتهى. وإذا كان الضبح مع العدو ، فلا يكون معنى (وَالْعادِياتِ) معنى الضابحات ، فلا ينبغي أن يفسر به. (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) ، والإيراء : إخراج النار ، أي تقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة بعضا. ويقال : قدح فأورى ، وقدح فأصلد. وتسمى تلك النار التي تقدحها الحوافر من الخيل أو الإبل : نار الحباحب. قال الشاعر :

تقدّ السلو في المضاعف نسجه

وتوقد بالصفاح نار الحباحب

وقيل : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) مجاز ، أو استعارة في الخيل تشعل الحرب ، قاله قتادة. وقال تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (١). ويقال : حمي الوطيس إذا اشتدّ الحرب. وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم : الموريات : الجماعة التي تمكر في الحرب ، والعرب تقوله إذا أرادت المكر بالرجل : والله لا يكون ذلك ، ولأورين لك. وعن ابن عباس أيضا : التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها. وعنه أيضا : جماعة الغزاة تكثر النار إرهابا. وقال عكرمة : ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ، وتظهر من الحجج والدلائل ، وإظهار الحق وإبطال الباطل. (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) : أي تغير على العدو في الصبح ، ومن قال هي الإبل ، قال العرب تقول : أغار إذا عدى جريا ، أي من مزدلفة إلى منى ، أو في بدر ؛ وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة ، لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب. والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار ، ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر ، وإن لم يكن فيها إلا فرسان ، لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر ، ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله ، بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥١ / ٦٤.

٥٢٨

(فَأَثَرْنَ) : معطوف على اسم الفاعل الذي هو صلة أل ، لأنه في معنى الفعل ، إذ تقديره : فاللاتي عدون فأغرن فأثرن. وقال الزمخشري : معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، انتهى. وتقول أصحابنا : هو معطوف على الاسم ، لأنه في معنى الفعل. وقرأ الجمهور : (فَأَثَرْنَ) ، (فَوَسَطْنَ) ، بتخفيف الثاء والسين ؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بشدّهما ؛ وعليّ وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى : بشدّ السين. وقال الزمخشري : وقرأ أبو حيوة : فأثرن بالتشديد ، بمعنى : فأظهرن به غبارا ، لأن التأثير فيه معنى الإظهار ، أو قلب ثورن إلى وثرن ، وقلب الواو همزة. وقرىء : فوسطن بالتشديد للتعدية ، والباء مزيدة للتوكيد ، كقوله : (فَأْتُوا بِهِ) (١) ، وهي مبالغة في وسطن ، انتهى. أما قوله : أو قلب ، فتمحل بارد. وأما أن التشديد للتعدية ، فقد نقلوا أن وسط مخففا ومثقلا بمعنى واحد ، وأنهما لغتان ، والضمير في به عائد في الأول على الصبح ، أي هيجن في ذلك الوقت غبارا ، وفي به الثاني على الصبح. قيل : أو على النقع ، أي وسطن النقع الجمع ، فيكون وسطه بمعنى توسطه. وقال علي وعبد الله : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) : أي الإبل ، وجمعا اسم للمزدلفة ، وليس بجمع من الناس. وقال بشر بن أبي حازم :

فوسطن جمعهم وأفلت حاجب

تحت العجاجة في الغبار الأقتم

وقيل : الضمير في به معا يعود على العدو الدال عليه (وَالْعادِياتِ) أيضا. وقيل : يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى ، وإن لم يجر له ذكر ، لدلالة والعاديات وما بعدها عليه. وقيل : المراد بالنقع هنا الصياح ، والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات ، وليست أل فيه للعهد ، والمقسم عليه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). وفي الحديث : «الكنود يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده». وقال ابن عباس والحسن : هو الجحود لنعمة الله تعالى. وعن الحسن أيضا : هو اللائم لربه ، يعد السيئات وينسى الحسنات. وقال الفضيل : هو الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ، ويعامل الله على عقد عوض. وقال عطاء : هو الذي لا يعطى في النائبات مع قومه. وقيل : البخيل. وقال ابن قتيبة : أرض كنود : لا تنبت شيئا. والظاهر عود الضمير في (وَإِنَّهُ) على ذلك (لَشَهِيدٌ) ، أي يشهد على كنوده ، ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره ، وقاله الحسن ومحمد بن كعب. وقال ابن عباس وقتادة : هو عائد على الله تعالى ، أي وربه شاهد عليه ، وهو على سبيل الوعيد. وقال التبريزي : هو عائد على الله تعالى ، وربه شاهد عليه هو الأصح ، لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين ، ويكون

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦١.

٥٢٩

ذلك كالوعيد والزجر عن المعاصي ، انتهى. ولا يترجح بالقرب إلا إذا تساويا من حيث المعنى. والإنسان هنا هو المحدث عنه والمسند إليه الكنود. وأيضا فتناسق الضمائر لواحد مع صحة المعنى أولى من جعلهما لمختلفين ، ولا سيما إذا توسط الضمير بين ضميرين عائدين على واحد. (وَإِنَّهُ) : أي وإن الإنسان ، (لِحُبِّ الْخَيْرِ) : أي المال ، (لَشَدِيدٌ) : أي قوي في حبه. وقيل : لبخيل بالمال ضابط له ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدد. وقال طرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

وقال قتادة : الخير من حيث وقع في القرآن هو المال. قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد هذا الخير الدنيوي من مال وصحة وجاءه عند الملوك ونحوه ، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك. فأما المحب في خير الآخرة فممدوح مرجوله الفوز. وقال الفراء : نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير. فلما تقدم الحب قال لشديد ، وحذف من آخره ذكر الحب لأنه قد جرى ذكره ، ولرءوس الآي كقوله تعالى : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (١) ، والعصوف : للريح لا للأيام ، كأنه قال : في يوم عاصف الريح ، انتهى. وقال غيره ما معناه : لأنه ليس أصله ذلك التركيب ، بل اللام في (لِحُبِ) لام العلة ، أي وإنه لأجل حب المال لبخيل ؛ أو وإنه لحب المال وإيثاره قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف متقاعس. تقول : هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا. قال الزمخشري : أو أراد : وإنه لحب الخيرات غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض.

(أَفَلا يَعْلَمُ) : توقيف إلى ما يؤول إليه الإنسان ، ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف ، أي أفلا يعلم ما آله؟ (إِذا بُعْثِرَ) ، وقال الحوفي : إذا ظرف مضاف إلى بعثر والعامل فيه يعلم. انتهى ، وليس بمتضح لأن المعنى : أفلا يعلم الآن؟ وقرأ الجمهور : بعثر بالعين مبنيا للمفعول. وقرأ عبد الله : بالحاء. وقرأ الأسود بن زيد : بحث. وقرأ نضر بن عاصم : بحثر على بنائه للفاعل. وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي سعدان : وحصل مبنيا للفاعل ؛ والجمهور : مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر أيضا ونصر بن عاصم أيضا : وحصل مبنيا للفاعل خفيف الصاد ، والمعنى جمع ما في المصحف ، أي أظهر محصلا مجموعا. وقيل : ميز وكشف ليقع الجزاء عليه. وقرأ الجمهور : (إِنَ) بكسر

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٨.

٥٣٠

الهمزة ، (لَخَبِيرٌ) باللام : هو استئناف إخبار ، والعامل في (بِهِمْ) ، وفي (يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) ، وهو تعالى خبير دائما لكنه ضمن خبير معنى مجاز لهم في ذلك اليوم. وقرأ أبو السمال والحجاج : بفتح الهمزة وإسقاط اللام. ويظهر في هذه القراءة تسلط يعلم على إن ، لكنه لا يمكن إعمال خبير في إذا لكونه في صلة أن المصدرية ، لكنه لا يمكن أن يقدر له عامل فيه من معنى الكلام ، فإنه قال : يجزيهم إذا بعثر ، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون يعلم معلقة عن العمل في قراءة الجمهور ، وسدت مسد المعمول في إن ، وفي خبرها اللام ظاهر ، إذ هي في موضع نصب بيعلم. وإذا العامل فيها من معنى مضمون الجملة تقديره : كما قلنا يجزيهم إذا بعثر.

٥٣١

سورة القارعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)

الفراش ، قال الفراء : هو الهمج الطائر من بعوض وغيره ، ومنه الجراد. ويقال : هو أطيش من فراشة. قال : وقد كان أقوام رددت قلوبهم عليهم ، وكانوا كالفراش من الجهل. وقيل : فراشة الحلم نفشت الصوف والقطن : فرقت ما كان ملبدا من أجزائه.

(الْقارِعَةُ ، مَا الْقارِعَةُ ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ ، نارٌ حامِيَةٌ).

هذه السورة مكية. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر وقت بعثرت القبور ، وذلك هو وقت الساعة. وقال الجمهور : (الْقارِعَةُ) : القيامة نفسها ، لأنها تقرع القلوب بهولها. وقيل : صيحة النفخة في الصور ، لأنها تقرع الأسماع وفي ضمن ذلك القلوب. وقال الضحاك : هي النار ذات التغيظ والزفير. وقرأ الجمهور : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) بالرفع ، فما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ ، والقارعة خبره ، وتقدم تقرير ذلك في

٥٣٢

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (١). وقيل ذلك في قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٢). وقال الزجاج : هو تحذير ، والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب ، قال الشاعر :

أخو النجدة السلاح السلاح

وقرأ عيسى : بالنصب ، وتخريجه على أنه منصوب بإضمار فعل ، أي اذكروا القارعة ، وما زائدة للتوكيد ؛ والقارعة تأكيد لفظي للأولى. وقرأ الجمهور : (يَوْمَ) بالنصب ، وهو ظرف ، العامل فيه ، قال ابن عطية : القارعة. فإن كان عنى بالقارعة اللفظ الأول ، فلا يجوز للفصل بين العامل ، وهو في صلة أل ، والمعمول بالخبر ؛ وكذا لو صار القارعة علما للقيامة لا يجوز أيضا ، وإن كان عنى اللفظ الثاني أو الثالث ، فلا يلتئم معنى الظرف معه. وقال الزمخشري : الظرف نصب بمضمر دل عليه القارعة ، أي تقرع يوم يكون الناس. وقال الحوفي : تأتي يوم يكون. وقيل : اذكر يوم. وقرأ زيد بن عليّ : يوم يكون مرفوع الميم ، أي وقتها. (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) ، قال قتادة : هو الطير الذي يتساقط في النار. وقال الفراء : غوغاء الجراد ، وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض يركب بعضه بعضا من الهول. وقيل : الفراش طير دقيق يقصد النار ، ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق. شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام ، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حتى تدعوهم إلى ناحية المحشر ، كالفراش المتطاير إلى النار. قال جرير :

إن الفرزدق ما علمت وقومه

مثل الفراش عشين نار المصطلى

وقرن بين الناس والجبال تنبيها على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالعهن المنفوش ؛ فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها؟ وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في الأعراف ، وعيشة راضية في الحاقة. (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) : الهاوية دركة من دركات النار ، وأمه معناه مأواه ، كما قيل للأرض أم الناس لأنها تؤويهم ، وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب : فنحن بنوها وهي أمنا. وقال قتادة وأبو صالح وغيره : فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا. وقيل : هو تفاؤل بشر ، وإذا دعوا بالهلكة قالوا هوت أمه ، لأنه إذا هوى ، أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ١ ـ ٢.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨.

٥٣٣

هوت أمه ما نبعث الصبح غاديا

وماذا يرد الليل حين يؤون

وقرأ الجمهور : (فَأُمُّهُ) بضم الهمزة ، وطلحة بكسرها. قال ابن خالويه : وحكى ابن دريد أنها لغة. وأما النحويون فإنهم يقولون : لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء ، انتهى. (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) : هي ضمير يعود على هاوية إن كانت كما قيل دركة من دركات النار معروفة بهذا الاسم ، وإن كانت غير ذلك مما قيل فهي ضمير الداهية التي دل عليها قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ، والهاء فيما هيه هاء السكت ، وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة ، وأثبتها الجمهور : (نارٌ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي نار ، أعاذنا الله منها بمنه وكرمه.

٥٣٤

سورة التّكاثر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.

هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين. وقال البخاري : مدنية. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة. وسبب نزولها أنه فيما روى الكلبي ومقاتل : كان بين بني سهم وبين بني عبد مناف لحاء ، فتعادّوا الأشراف الأحياء أيهم أكثر ، فكثرهم بنو عبد مناف. ثم تعادوا الأموات ، فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية. وقال قتادة : نزلت في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان. وقال ابن زيد : نزلت في بطن من الأنصار.

(أَلْهاكُمُ) : شغلكم فعلى ما روى الكلبي ومقاتل يكون المعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم ، وهذا معنى ينبو عنه لفظ زرتم. قيل : (حَتَّى زُرْتُمُ) : أي متم وزرتم بأجسادكم مقابرها ، أي قطعتم بالتكاثر والمفاخرة بالأموال والأولاد

٥٣٥

والعدد أعماركم حتى متم. وسمع بعض الأعراب (حَتَّى زُرْتُمُ) فقال : بعث القوم للقيامة ، ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم. وعن عمر بن عبد العزيز نحو من قول الأعرابي. وقيل : هذا تأنيث على الإكثار من زيارة تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن زيارة القبور ، ثم قال : «فزوروها أمر إباحة للاتعاظ بها لا لمعنى المباهاة والتفاخر». قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام ، وتلوينها شرفا ، وبيان النواويس عليه. وابن عطية لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما تباهي به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى ، والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك ، وما يضيع فيها من الأموال ، ولتعجب من ذلك ، ولرأى ما لم يخطر ببال؟

وأما التباهي بالزيارة ، ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوف أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور. زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلانا بكذا ، والشيخ فلانا بكذا ؛ فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد ، وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ بحيث لو كتبت لجاءت أسفارا ، وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه ، وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل أموالهم لهم. وأما من شذا منهم لأن يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون هذا فتح هذا من العلم اللدني علم الخضر ، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيرا من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد ؛ ونحن نسأل الله عزوجل أن يوفقنا لطاعته.

وقرأ الجمهور : ألهاكم على الخبر ؛ وابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة : بالمد على الاستفهام ، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب ، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية : أألهاكم بهمزتين ، ومعنى الاستفهام : التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم ؛ والجمهور : على أن التكرير توكيد. قال الزمخشري : والتكرير تأكيد للردع والإنذار ؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد ، كما تقول للمنصوح : أقول لك ثم أقول لك لا تفعل ، والمعنى : سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبور ، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في البعث : غاير بينهما بحسب التعلق ، وتبقى ثم على بابها من المهلة

٥٣٦

في الزمان. وقال الضحاك : الزجر الأول ووعيده للكافرين ، والثاني للمؤمنين. (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ) : أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه ، (عِلْمَ الْيَقِينِ) : أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين ، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ). وقيل : اليقين هنا الموت. وقال قتادة : البعث ، لأنه إذا جاء زال الشك. ثم قال : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) : والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) ، ولا تكون رؤية عند الدخول ، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) : تأكيد للجملة التي قبلها ، وزاد التوكيد بقوله : (عَيْنَ الْيَقِينِ) نفيا لتوهم المجاز في الرؤية الأولى. وعن ابن عباس : هو خطاب للمشركين ، فالرؤية دخول. وقرأ ابن عامر والكسائي : لترون بضم التاء ؛ وباقي السبعة : بالفتح ، وعليّ وابن كثير في رواية ، وعاصم في رواية : بفتحها في (لَتَرَوُنَ) ، وضمها في (لَتَرَوُنَّها) ، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة : بضمهما. وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت ، وكان القياس أن لا تهمز ، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها. لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا ، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة ، فهمز هذه أولى.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) : الظاهر العموم في النعيم ، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب ، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف ، والكافر سؤال توبيخ وتقريع. وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد : هو الأمن والصحة. وعن ابن عباس : البدن والحواس فيم استعملها. وعن ابن جبير : كل ما يتلذذ به. وفي الحديث : «بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم».

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٧١.

٥٣٧

سورة العصر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)

(وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ).

هذه السورة مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور ، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل. لما قال فيما قبلها : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) ، ووقع التهديد بتكرار (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٢) بين حال المؤمن والكافر.

(وَالْعَصْرِ) ، قال ابن عباس : هو الدهر ، يقال فيه عصر وعصر وعصر ؛ أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب. وقال قتادة : العصر : العشي ، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة. وقيل : العصر : اليوم والليلة ، ومنه قول حميد بن ثور :

ولن يلبث العصران يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقيل : العصر بكرة ، والعصر عشية ، وهما الأبردان ، فعلى هذا والقول قبله يكون القسم بواحد منهما غير معين. وقال مقاتل : العصر : الصلاة الوسطى ، أقسم بها. وبهذا القول بدأ الزمخشري قال : لفضلها بدليل قوله تعالى (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٣) ، صلاة

__________________

(١) سورة ألهاكم : ١٠٢ / ١.

(٢) سورة ألهاكم : ١٠٢ / ٣ ـ ٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٨.

٥٣٨

العصر ، في مصحف حفصة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» ، لأن التنكيف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم وتحاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ، انتهى. وقرأ سلام : والعصر بكسر الصاد ، والصبر بكسر الباء. قال ابن عطية : وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة. وروي عن أبي عمرو : بالصبر بكسر الباء إشماما ، وهذا أيضا لا يكون إلا في الوقف ، انتهى. وفي الكامل للهزلي : والعصر ، والصبر ، والفجر ، والوتر ، بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها هارون وابن موسى عن أبي عمرو ؛ والباقون : بالإسكان كالجماعة ، انتهى. وقال ابن خالويه : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) ، بنقل الحركة عن أبي عمرو. وقال صاحب اللوامح عيسى : البصرة بالصبر ، بنقل حركة الهاء إلى الياء لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف ، ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين ، وذلك لغة شائعة ، وليست شاذة بل مستفيضة ، وذلك دلالة على الإعراب ، وانفصال عن التقاء الساكنين ، ومادته حق الموقوف عليه من السكون ، انتهى. وقد أنشدنا في الدلالة على هذا في شرح التسهيل عدّة أبيات ، كقول الراجز :

أنا جرير كنيتي أبو عمر

أضرب بالسيف وسعد في العصر

يريد : أبو عمر. والعصر والإنسان اسم جنس يعم ، ولذلك صح الاستثناء منه ، والخسر : الخسران ، كالكفر والكفران ، وأي خسران أعظم ممن خسر الدنيا والآخرة؟ وقرأ ابن هرمز وزيد بن عليّ وهارون عن أبي بكر عن عاصم : خسر بضم السين ، والجمهور بالسكون. ومن باع آخرته بدنياه فهو في غاية الخسران ، بخلاف المؤمن ، فإنه اشترى الآخرة بالدنيا ، فربح وسعد. (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) : أي بالأمر الثابت من الذين عملوا به وتواصوا به ، (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) في طاعة الله تعالى ، وعن المعاصي.

٥٣٩

سورة الهمزة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩)

الحطمة : أصله الوصف من قولهم رجل حطمة : أي أكول. قال الراجز :

قد لفها الليل بسوّاق الحطم

وقال آخر :

إنا حطمناه بالقضيب مصعبا

يوم كسرنا أنفه ليغضبا

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ، الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ، نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ).

هذه السورة مكية. لما قال فيما قبلها : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (١) ، بين حال الخاسر فقال : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) ، ونزلت في الأحسن بن شريق ، أو العاصي بن وائل ، أو جميل بن معمر ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف ، أقوال. ويمكن أن تكون نزلت في الجميع ، وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف. وقال السهيلي : هو أمية بن خلف الجمحي ، كان يهمز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعينه ذكره ابن إسحاق. وإنما ذكرته ، وإن كان

__________________

(١) سورة العصر : ١٠٣ / ٢.

٥٤٠